القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية نبض قلبي لاجلك من الفصل السادس عشر حتي العشرون علي النجم المتوهج

 


الفصل السادس عشر

فى شقة ريان بالقاهرة....

استيقظت سيرين من إغمائتها فى صباح اليوم التالى و هى ممسكة برأسها من شدة الصداع، و تأِن بألم و هى مازالت تائهة لا تتذكر ماذا حدث، ظلت تعتصر رأسها إلى أن تذكرت أخيرا أحداث الأمس، و بدأت كلمات ريان بطلاقها و زواجه من سلمى تتردد بأذنيها، فهبت من الفراش بعصبية و انخرطت فى نوبة جديدة من الصراخ الهيستيرى و هى تركل كل ما يصادفها فى طريقها و تقذف أدوات التجميل و زجاجات العطر الخاصة بها فى كل مكان، حتى اصطدمت بالمرآة و تهشمت و أصبحت الغرفة عبارة عن فوضى...

عندما لم تجد ما تقذفه و تُنفث فيه غضبها المستشيط، ألقت بجسدها بإهمال على الفراش و هى تلهث من فرط الإنفعال، إلى أن هدأت قليلا، ثم لم تجد لها بداً من الاتصال بـ فدوة علها تساعدها أو تخفف عنها قليلا.

نهضت و بحثت عن هاتفها إلى أن وجدته و اتصلت بها سريعا قائلة بجزع و لهاث:

ــ ألو...فدوة..الحقينى يا فدوة..ريان عرف كل حاجة و اللى بابى عمله فى الزفتة اللى اسمها سلمى و طلقنى و لم هدومه و سابلى الشقة و مشى...

ثم انهارت فى البكاء و هى تتحدث، فأجابتها فدوة بمواساة:

ــ اهدى بس يا سيرين و كل حاجة هتتحل..

ردت بعويل:

ــ هتتحل ازاى؟!..بقولك طلقني.

ردت فدوة بهدوء:

ــ طيب بصى أنا هجيلك الشقة و نفكر براحتنا لأن الكلام مش هينفع فى التليفون.

هزت رأسها بموافقة قائلة:

ــ أوكى هستناكى متتأخريش.

فدوة:

ــ مسافة السكة يا قلبى سلام.

أغلقت سيرين الخط و ظلت تجوب الشقة كلها بجزع و عصبية مفرطة إلى أن أتت لها فدوة بعد نصف ساعة من الإنتظار...

جلسا سويا بغرفة الصالون و قصت عليها سيرين ما حدث بالتفصيل و بعدما انتهت سكتت فدوة لوهلة ثم قالت بهدوء و رزانة:

ــ اسمعى يا سيرين...ريان كدا خلاص مفيش فيه أمل و استحالة هيرجعلك تانى...أصلا علاقتكم كانت متوترة و مش مستقرة، و بالنسبة للولاد كويس إنها جات منه و أخدهم، هو هيعرف يربيهم أحسن منك، و أنا من رأييى تخليكى فى ضهر أونكل مجدى علشان تحافظى على الشركات و الفلوس بدل ما تضيع من ايديكى و مش هتلاقى حد يصرف عليكى بعد كدا...

وقفت سيرين و هى تنظر لنقطة ما بشرود زائغة العينين بتفكير، إلى أن قالت:

ــ انتى صح يا فدوة...أصلا ريان عمره ما حبنى و مكنتش مرتاحة فى السجن اللى كان معيشنى فيه، ألبس واسع و أغطى شعرى، لا عارفة أدخن براحتى و لا عارفة أخرج و لا أتفسح و حاجة آخر خنقة..

وقفت فدوة بمحاذاتها قائلة باستنكار:

ــ أنا مش عارفة ايه اللى كان مصبرك على الخنقة دى.

ردت سيرين بغيظ:

ــ كنت مغفلة و مبهورة بشكله و كاريزمته و ضحيت بكل حاجة عشان حبيته...بس من النهاردة أنا خلاص فوقت و هرجع لحياتى القديمة تانى و هخرج و هتفسح و هرقص و هعمل كل اللى حرمنى منه.

اتسعت ابتسامة فدوة بحماس و هى تقول بسعادة:

ــ أيوة بقى هى دى سوسو حبيبتى اللى أعرفها...دا احنا هنخربها يا بيبى.

حانت منها نصف ابتسامة لكن سرعان ما انكمشت ملامحها بغضب قائلة:

ــ بس أنا هسيبه كدا يتهنى معاها و لا كأنه عمل حاجة..

هزت فدوة رأسها بضيق و هى تقول:

ــ يا بنتى هو اللى انتوا عملتوه فى خطيبته دا شوية؟!..و بعدين أديلك عيشتى معاه يومين حلوين و أخدتى اللى كان نفسك فيه، سيبيهولها بقى تشبع بيه...هما الاتنين أصلا خنقة و زى بعض...

هزت رأسها بشر و هى تفكر هل تقتنع بكلام صديقتها أم تفكر فى خطة للإنتقام، و لكن الذى تعرفه الآن أنها عليها أن تعوض سنوات الحرمان التى عاشتها فى كنفه، و تنطلق إلى ملذاتها و تحرُرها الذى افتقدتهما كثيرا....


عودة مرة أخرى لمدينة المنصورة..

أخبر ريان والديه بجريمة حماه و زوجته التى اكتشفها مؤخرا بمحض الصدفة، كما أخبرهم بأنه طلق سيرين و أنه سيكتفى بذلك من أجل مصلحة ولديه، و أنه ينوى الزواج من سلمى و لكن بعدما تمر تلك المحنة على خير...

أحلت بهما صدمة مفجعة، فحقا كان ذلك الأمر آخر شيئ يمكن أن يخطر ببال أحدهم، بل كان من المستحيل أن يَرِد على خواطرهم من الأساس، و أيّداه فى رأيه الزواج منها، فها قد حان وقت العودة للطريق الصحيح و إن طال الإعوجاج، و ها هو عوض الله يأتى لها من حيث لا تدرى.


مر يومان هادئان لم يحدث بهما شيئاً يذكر، إلى أن حان موعد سفر ملك و والدها، الأمر الذى تكتّما عليه، حيث طلب اسماعيل من شقيقه ألا يخبر سفيان حتى لا يلحق بهما فى المطار و يُثنى عزيمتهم على السفر، فأمر العودة هو الأفضل لجميع الأطراف.

تجلس ملك بصحبة أبيها فى سيارة جارهم سالم فى طريقهم إلى المطار، عيناها لم تكفان عن ذرف العبرات الساخنة، و لكنها تجلس بصمت تحاول الصمود و التصبر، و أبوها يراقبها و يرى دموعها، فانفطر قلبه لأجلها و لكنه تركها تفيض بما يحويه صدرها من هموم و أحزان لعلها تكون فترة عصيبة تمر و تنقضى على الجميع، و يأتى بعدها الاستقرار و الاستسلام للأمر الواقع.

و بعد ثلاث ساعات من السفر وصلوا المطار سالمين، و دلف معهما سالم و أبى أن يتركهما إلا حينما يستقلان الطائرة، و جلسوا جميعا بمقاعد الانتظار...

بدأت شهقات ملك تعلو و تزداد كلما ورد بخاطرها عدم رؤيتها له مرة أخرى، و أن الفراق هذه المرة بكامل إرادتها و اختيارها، يا لها من قاسية...و لأن قلبها حقا ليس بقاسى و متعلق به بشدة؛ لم يتحمل فكرة الفراق بعدما اطمئن بقرب مالكه حتى و إن كان القرب ظاهرى، و عيناها لم تتحمل فقدان النظر له، و جوارحها تأبى فراقه بعدما سكنت برؤيته و العثور عليه بعد رحلة بحث طويلة، لذلك...آلمها قلبها بقسوة، فوضعت يدها على موضع قلبها بتلقائية و بدأت تأِن من الألم بخفوت حتى لا يشعر بها أبوها، و لكن الألم فاق احتمالها، فأصدرت تأوها عاليا و هى تقول بأنين:

ــ ااااه...بابا...قلبى بيوجعنى أوى يا بابا...اااه مش قادرة...

ثم انفلتت منها صرخة مدوية و سقطت بعدها مغشيا عليها...

فزع أبوها و أخذ يستنجد بالناس من حوله و ينادى على الإسعاف إلى أن أسرع الطاقم الطبى الخاص بالمطار بحملها و نقلها لغرفة الكشف..

بعد الكشف عليها تبين أنها تعرضت لهبوط حاد فى الدورة الدموية بسبب ضغط عصبى شديد لم يتحمله القلب، و تم توصيل محاليل وريدية بذراعها إلى أن بدأت تعود لوعيها رويدا رويدا...

عندما استفاقت تماماً جلس أبوها بجوارها و جذبها إلى حضنه و هو يشعر بأن قلبه كاد أن يتوقف من فرط الهلع و الخوف عليها، فنطقت ملك أخيرا بعد فترة من الصمت و التفكير قائلة بصوت خافت متحشرج:

ــ بابا..أنا مش هسافر..خلينا نرجع تانى..أنا مش هقدر أعيش بعيد عنه...حاسة إنى هموت من غيره يا بابا...

قالت عبارتها الأخيرة ثم أجهشت فى بكاء مرير و أبوها يستمع إليها و لم يقوى على الرد من الحيرة و التردد، فأردفت ببكاء:

ــ مش مهم نتجوز يا بابا...بس كفاية إنه قدام عينى...كفاية إنه قريب منى..بس خلينى جنبه و أنا أوعدك إنى مش هوافق على الجواز منه، بس نبقى قريبين من بعض و أنا هخليه ينسى فكرة جوازنا دى و يكمل مع مراته و يربى بنته، لحد ما تيجى من عند ربنا و نبقى زى الاخوات و الحب اللى بينا يبقى حب أخوى...خلينا نجرب يا بابا يمكن اللى بقولك عليه يحصل..

ربت على ظهرها عدة مرات بحنان، ثم اعتصر جفنيه بحيرة و تفكير و قال باستسلام:

ــ ماشى يا ملك...أهم حاجة عندى راحتك يا بنتى...بس أنا مش هسيبك رابطة نفسك بيه و لو جالك عريس مناسب هوافق عليه و ساعتها حاولى تدى نفسك فرصة تقربى من غيره يمكن يكون آن الأوان..

أومأت عدة مرات و هى تجفف وجنتيها و تقول بأمل:

ــ حاضر يا بابا..حاضر..بس بلاش سفر و بعد تانى..

هز رأسه باستسلام و نيران القلق و الخوف من القادم ناشبة بصدره، و لكن ما باليد حيلة أخرى، و عادا فى سيارة سالم إلى المنصورة مجدداً...


بينما على الجهة الأخرى عندما نزل سفيان إلى محل الأقمشة، وجد منزل عمه بوابته مغلقة بقفل كبير، فهوى قلبه بين قدميه و شك فى سفرهما دون علمه، فعاد أدراجه سريعا إلى أبيه و طرق الباب طرقات متتالية سريعة إلى أن فتحت له أمه باستغراب من دقاته المتتالية، فدخل باندفاع و هو ينادى على أبيه، فخرج من غرفته بقلق قائلا بعتاب:

ــ فيه ايه يا سفيان...هى الدنيا اتهدت علشان تخبط كل الخبط دا؟!

سأله بجمود:

ــ عمى و ملك فين؟!..بوابة البيت مقفولة بقفل و جنزير ليه؟!

ازدرد ابراهيم ريقه بتوتر قائلا بارتباك:

ــ ايـ..ايـ..سافروا ألمانيا تانى..

اتسعت عيناه على آخرها بصدمة ثم ما لبث أن أصابته حالة من الهياج و راح يقول بصياح

ــ سافروا ازاااى...و لييه..سافروا تانى؟!..يعنى مش هشوف ملك تانى؟!..

ربتت أمه على ظهره بقلب منفطر و هى تقول:

ــ استهدى بالله يابنى و اخذى الشيطان..محدش يقدر يمنعهم من السفر و هما شايفين راحتهم هناك مش هنا..

احتدت نبرته بانفعال صارخا:

ــ لا...ملك بتهرب منى علشان طلبتها للجواز...بتهرب علشان متكونش السبب فى طلاق داليا...اختارت أصعب حل...ليه كدا يا ملك...انتى عايزة تموتينى..

هتف به والده بعصبية عله يعيده لرشده:

ــ ملك عملت الصح يا سفيان و منقدرش نلومها، بالعكس المفروض نشكرها انها عايزة تحافظ على بيتك و متكونش السبب فى خراب بيتك..فوق بقى لمراتك و بنتك و عيش حياتك زى الناس و راعى مصالحك و انساها بقى.

اغرورقت عيناه بالعبرات و هو يطالع أباه بحسرة قائلا بصوت متحشرج:

ــ طاب ترجع يا بابا و أنا هبعد عنها و مش هفاتحها فى موضوع الجواز تانى...ترجع و تكون قدام عينى بس مش عايز أكتر من كدا...أنا تعبت من الفراق...الفراق دا أصعب احساس بيمر على البنى آدم..خلاص قلبى مش هيتحمل بُعدها تانى...كفاية بقى ارحمونى...ارحمونى..محدش حاسس بالنار اللى فى قلبى..قولها ترجع و أنا هبعد عن طريقها صدقنى يا بابا..

قال عبارته الأخيرة برجاء يُدمى القلب و يُبكى العين، حتى أن عفاف لم تتحمل هيئته المثيرة للشفقة و بكت حزنا على حاله و قلبه الذى يتمزق بين أضلعه و كأنه كُتب عليه العذاب للأبد، إلا أن أباه هز رأسه بأسى قائلا بحزن:

ــ معادش ينفع يابنى...زمانهم ركبوا الطيارة دلوقتي..

جحظت عيناه أكثر صارخا بعصبية:

ــ يعنى اييييه!!...خلاص كدا مش هشوفها تانى!!...أنا مش مسامحكم...مش هسامح حد فيكم أبدا...انتوا السبب فى كل اللى بيحصلى..فى قلبى اللى اتكسر، فى سنين الحسرة اللى عيشتها...انتوا السبب فى جوازى من داليا...و جايين دلوقتي بتلومونى على خراب بيتى؟!..مش هسامحكم أبدا..

ألقى بكلماته بحدة و انفعال و خرج من الشقة صافعا الباب خلفه، ثم خرج من المنزل بأكمله يهيم على وجهه فى الشوارع لا يدرى ماذا يفعل و لا إلى أين يذهب لكى يسترد حبيبته الراحلة.


أثناء عودتهم من المطار اتصل اسماعيل بشقيقه أخبره بإلغاء السفر بسبب تعب ملك أثناء انتظارهم موعد الإقلاع خوفا من أن تسوء حالتها أكثر أثناء السفر بالطائرة، فأسرع اسماعيل بالإتصال بـ سفيان حتى يخبره لعله يهدأ قليلا، فقد أشفق عليه من شدة الصدمات المتتالية التى تضربه من كل جانب، فأحس سفيان ببعض الارتياح و عاد إلى المنزل مرة أخرى ينتظرهم هناك.

بعد قرابة الثلاث ساعات وصل اسماعيل و ابنته للمنزل فوجدوا سفيان ينتظرهم أمام البوابة، و ما إن ترجلت ملك من السيارة حتى لاحظ شحوب بشرتها و إعياء ملامحها، الشيئ الذى زاد قلقه عليها أكثر فقال لها بعتاب:

ــ كدا بردو يا ملك؟!..أنا مش حذرتك قبل كدا من إنك تسيبينا و تسافرى..

أطرقت رأسها بحزن و لم تجيبه، فجذبها أبوها من يدها و هو يقول:

ــ معليش يا سفيان نبقى نتعاتب بعدين أصلها تعبانة و عايزة ترتاح..

أومأ بتفهم ثم قال:

ــ طيب اطلعوا انتوا و أنا هجيب الشنط و أحصلكم.

بعد عدة دقائق كانوا جميعا جالسين بغرفة الصالون و قد لحق بهم ابراهيم و زوجته..

بعدما اطمئنوا على حالتها الصحية سألهم سفيان بترقب:

ــ انت لغيت السفر نهائي يا عمى؟!

طالعه بحيرة ثم قال بتردد:

ــ اه.. لأ.. احنا.. احنا هنأجل السفر شوية لحد ما ملك تبقى كويسة.

هز رأسه برفض قاطع و هو يقول بحدة:

ــ لا يا عمى...بلاش تسافروا تانى أرجوك..

رد عمه بملامح جادة:

ــ لا يا سفيان... سفرنا مصلحة للكل.. أنا مستحيل هجوز بنتى على ضرة، و انت مبتهمدش و لا بتبعد عنها.

أطرق سفيان رأسه بخذى، فاسترسل اسماعيل بنبرة أكثر حدة:

ــ لولا ملك تعبت فى المطار كان زمانا سافرنا و مستحيل كنا هنرجع تاني أبدا...احنا فى غنى عن المناهدة قصاد بعض.. و انت بتصرفاتك الطايشة دى خلتنى ندمت إنى جبتها و رجعت تانى.

نظر سفيان لـ ملك برجاء و كأنه يستنجد بها ضد هجوم أبيها عليه، و لكنها فقط تتابع فى صمت، فهى تحاول الإلتزام بوعدها لأبيها، بعدما وضعت نفسها بإختبار صعب عليها تخطيه بنجاح و إلا حُرمت حتى من مجرد رؤيته للأبد، فأردف سفيان باعتذار:

ــ أنا آسف يا عمى...أنا عارف إن أنا زودتها شوية، بس صدقنى غصب عنى، كان نفسي نكون لبعض لآخر العمر..

هب اسماعيل قائلا بحدة:

ــ و ربنا مش رايد يا أخى.. ايه؟!..هتعترض على إرادة ربنا؟!..

كتم سفيان غيظه من عمه الذى هو أساس أحزانه و همومه، و استغفر ربه بخفوت حتى لا يندفع و ينفعل عليه، فهو لا يريد إغضابه خوفا من أن يأخذ ملك و يسافر مرة أخرى و قال بغضب مكبوت:

ــ قولتلك خلاص يا عمى أنا آسف..

تدخل ابراهيم فى الحوار ملطفا الأجواء بعدما لاحظ انتفاخ أوداج ولده من كبت الغضب و قال:

ــ صلوا على النبى يا جماعة...احنا مهما كان أهل و عيلة واحدة و عايزين نعيش فى هدوء و محدش يسمع حسنا.

تفوهوا جميعا بالصلاة على الرسول صلى الله عليه و سلم ثم قال اسماعيل بنبرة يشوبها بعض التهديد:

ــ خلاص يا أبو ريان... عايزنا نعيش سوا فى هدوء يبقى ابنك يبعد عن بنتى و ميفتحش معايا و لا معاها موضوع الجواز دا تانى.. أمين؟!

تنهد سفيان بعمق قائلا باستسلام و هو مطرق الرأس:

ــ حاضر يا عمى...اللى تشوفو صح هعمله...بس بلاش سفر.

تنهد اسماعيل بارتياح و لاحت منه ابتسامة بسيطة كناية عن اطمئنانه و فرحه بما وصل إليه مع سفيان.


على الناحية الأخرى، قام ريان بزيارة سلمى و ما إن فتحت له باب الشقة حتى ركض إليه الصغيران بسعادة غامرة و هما يهتفان بإسمه:

ــ بابى...بابي..بابى..

تعلق الصغيران برجليه فانحنى إليهما و حملهما و هو يضحك بسعادة و يقبلهما بحب و حنان قائلا:

ــ حبايب قلب بابي..وحشتوني موت..

ثم احتضنهما بحب بالغ و عاطفة جياشة و أنزلهما من على ذراعيه، ثم استخرج من جيب سترته قطعتين كبيرتين من الشيكولاتة قائلا:

ــ يلا خدوا الشيكولا دى و روحوا العبوا جوا مع تيتة فاطمة...

ردت چود ببراءة:

ــ فين سيكولا(شيكولا) بتاعت لوكا؟!..انت مس(مش) عالف(عارف) انها هنا و لا إيه؟!

ضرب جبهته بكف يده و هو يقول:

ــ أوبس...أنا نسيت خالص إنها هنا..

ضحكت سلمى بصخب ثم قالت:

ــ خلاص يا چوچو اديها من بتاعتك لحد ما بابى يشتريلها واحدة زيكم...أوكى؟!

زمت شفتيها بضيق ثم قالت باستسلام طفولى:

ــ ماسى..أملى(أمرى) لله.

ضحك الاثنان من شقاوة تلك الصغيرة و برائتها الخالصة، ثم أمسكت چود بكف شقيقها و سحبته خلفها إلى غرفة جدتها فاطمة..

لاحظ ريان تعلق ناظرى سلمى بالطفلين و مراقبتها لهما بشغف و حب فياض، الأمر الذى زاده فرحا و ارتياحا و دفعه لأن يسألها:

ــ قد كدا بتحبيهم يا سلمى؟!

ازدادت بسمتها اتساعا و نظرت له قائلة بحب صادق نابع من أعماق قلبها:

ــ كلمة حب دى قليلة أوى...أنا بعشقهم يا ريان.. حاسة إنهم ولادى اللى منزلاهم من على قلبى.

اتسعت ابتسامته بسعادة بالغة و أردف بحماس:

ــ طاب مش هتقوليلى ادخل و لا هفضل واقف على الباب كدا كتير..

شهقت بخفوت و هى تكمم فمها بيدها قائلة:

ــ يا خبر!!..أنا اتلهيت مع چوچو و كلامها العسل و نسيت أقولك اتفضل...

أفسحت له المجال ليدلف و هو يقول بمرح:

ــ معذورة يا ستى..مين لاقى احبابه نسي صحابه...

جلسا سويا بالصالون و أدار ريان دفة الحديث قائلا بجدية:

ــ سلمى... أنا عايز اتكلم معاكي فى موضوع مهم.

قطبت ما بين حاجبيها بترقب قائلة:

ــ خير يا ريان...اتفضل سمعاك..

أردف بجدية:

ــ أنا طلقت سيرين.

هبت سلمى واقفة بانفعال و صاحت به بحدة:

ــ ايه؟!..انت بتقول ايه؟!..انت ازاى تعمل كدا؟!

هب هو الآخر من مقعده و وقف بمواجهتها قائلا بتقطيبة تنم عن استنكاره لرد فعلها الغير متوقع:

ــ انتى مالك بتتكلمى كدا زى ما تكونى زعلانة انى طلقتها؟!

ردت باندفاع و عصبية:

ــ أكيد طبعا مش هفرح بطلاقكم و بهدلة الولاد بينكم...و بعدين تطلقها ليه أصلا؟!

ظل ينظر لها بتمعن و وجهه متجهم الملامح، فاستشف من انفعالاتها أمرا ما ثم قال بجدية:

ــ متقلقيش يا سلمى...أنا مطلقتش سيرين بسببك أو علشان أرجعلك.

اجابته باندفاع:

ــ لا..انت طلقتها علشان تقدر تتجوزنى بعد ما عرفت اللى حصلى و إنى لسة بحبك...شوفت!!..علشان كدا فضلت مخبية عليك و مكنتش عايزاك تعرف أى حاجة أبداً.

كور كفه بغضب جم من عنادها هاتفا بحدة:

ــ بقولك انتى مالكيش أى دخل فى طلاقنا...بيكى أو من غيرك كنت هطلقها...

اغرورقت عيناها بالدموع و اقتربت منه قليلا قائلة برجاء:

ــ ريان...راجع نفسك و فكر فى ولادك....أنا مش عايزة أكون السبب فى بعدهم عن مامتهم...مش هسامح نفسى و ذنبهم هيفضل ملازمنى طول العمر...لما يكبروا و يعرفوا سبب طلاقكم أكيد هيكرهونى و أنا مش هتحمل منهم كدا..

أطبق جفنيه يعتصرهما بحزن بالغ، فتلك المسكينة تفكر فى مصلحة جلادها، و تظن أنها سبب الخلاف غافلة عن كونها ضحية طمع تلك الشيطانة و هوسها بحب التملك، تنهد بعمق ثم قال بجدية ممزوجة بالوجع:

ــ سلمى أقسملك إن اللى فى دماغك دا غلط...بدليل إنى فصلت مكمل معاها بعد ما عرفت الحقيقة لحد ما الحياة بينا بقت مستحيلة...سيرين مستهترة و متحررة و مفيش بينا أى تفاهم و عاجلا أو آجلا كنا هنتطلق...

ازدردت لعابها بقلق و نظرت له بعدم اقتناع، فاسترسل قائلا بعطف:

ــ متحمليش نفسك ذنب انتى معملتهوش و مالكيش أى دخل فيه...

هزت رأسها بحيرة و تردد ثم قالت بوعيد:

ــ بس لو اكتشفت فى يوم انك طلقتها بسببى مش هسامحك و لا هسامح نفسى..

لاحت منه ابتسامة ساخرة ممزوجة بالألم ثم قال:

ــ ممكن بقى نقفل الموضوع دا و نتكلم فى المهم؟!

أجابته بترقب:

ــ و ايه هو بقى المهم؟!

ابتسم بهيام قائلا:

ــ أنا طالب القرب منك.

طالعته بنظرة تحذيرية قائلة بعبوس:

ــ ريااان...انت كدا بتثبتلى شكوكى و مخاوفى.

هز رأسه بيأس من رأسها اليابس قائلا بضيق:

ــ أنا مش شايف فى طلبى حاجة تخوف...بالعكس دا طلب بديهى جدا...أنا خالى و انتى مش مرتبطة، و فى بينا مشاعر حب، ايه اللى يمنع انى أطلبك للجواز؟!

أجابته بتوتر:

ــ انت عايز الناس تقول خطفته من مراته و ولاده؟!

عند هذا الحد و قد بلغ منه الغضب أقصاه فرد عليها بانفعال حاد:

ــ ملعون أبو الناس...مش كفاية بُعد و عذاب بقى؟!..الناس عارفين الهم اللى احنا عيشنا فيه؟!..حاسين بالقهر اللى حسيناه فى بُعدنا عن بعض؟!..شافوا دموعك اللى مكانتش بتنشف كل ليلة؟!..شافونى لما عيشت أسوأ أيام حياتى بعيد عنك؟! لدرجة إنى بقيت مدمن مخدرات و دى آخر حاجة كنت اتوقع إنى أعملها!!..سلمى هما يومين و تردى عليا بالموافقة، و لو مش هتوافقى هسيب البلد كلها و هغور من هنا...أنا خلاص جبت آخرى...سلام..

ثم انصرف من أمامها بخطى غاضبة صافعا باب الشقة خلفه بعنف، و تركها تنظر فى أثره الفارغ بتردد و حيرة تكاد تفتك بالبقية المتبقية من عقلها و سلامها النفسى.


يتبع......

مع تحياتي/دعاء فؤاد

الفصل السابع عشر

فى سرايا النيابة بالقاهرة...

تم ثبوت تهمة الاتجار بالمخدرات على مجدى و بعض من أعوانه، أعقبه ذلك التحفظ على أمواله بالبنوك و الحجز على الشركات و الفيلا، و حبسه على ذمة القضية لحين البث فيها، كما تم مواجهته بالجناية التى ارتكبها فى حق سلمى، فى بادئ الأمر أنكرها و لكن عندما تمت مواجهته بالتسجيل المقدم من قبل ريان و تقارير الطب الشرعى، نصحه وكيل النيابة بالاعتراف ربما يخفف له الحكم و بالفعل اعترف بالجريمة و أسبابها و دوافعها.


عودة لمدينة المنصورة...

عاد ريان من منزل سلمى بعدما أثارت حنقه بردها الجائر من وجهة نظره، كان يسير فى طريق العودة و هو ينفث نيران الغضب من أذنيه و عينيه، و هو فى طريقه للبيت لمح سفيان واقفا على سطح المنزل و مستند بذراعيه على السور المطل على الشارع، فعبر البوابة عازما الصعود له، و بالفعل صعد إلى سطح المنزل و سار بخطى بطيئة نحوه حتى وقف بمحاذاته تماما، و استند أيضا بذراعيه إلى السور، فأدار ريان دفة الحديث قائلا و هو ينظر إلى السماء بشجن:

ــ مبتجيش تقعد هنا غير لما يكون جواك هم كبير أوى و زى ما يكون الهوا هيشيل منه شوية..

أطلق سفيان تنهيدة عميقة تنم عن كبت و معاناة لا يعرف قدرها إلا الله، ثم قال و هو ينظر أمامه بشرود:

ــ عمك حطنى فى خانة اليك...دخلنى تحدى صعب أوى، لو فشلت فيه عقابه حرمانى من ملك للأبد، و أنا مش عارف هكون قد التحدى دا و لا لأ..

قطب ما بين حاجبيه باستغراب قائلا:

ــ تحدى ايه دا أنا مش فاهم حاجة..

قص عليه سفيان ما حدث فى ذلك اليوم بدئا من سفر ملك سرا بدون علمه، و عودتها مرة أخرى من المطار، و تهديد عمه له بالرحيل المؤبد إن لم يتراجع عن فكرة الزواج بها، و ما إن انتهى من سرد الأحداث حتى قال له ريان بجدية:

ــ عمك اسماعيل معاه حق يا سفيان...الراجل معذور بردو...دى مهما كان بنته الوحيدة اللى كان عنده استعداد يبيع هدومه علشان تخف، و الحمد لله ربنا شفاها بمعجزة، فمش هيكون بالساهل عليه إنه يجوزها لواحد متجوز أيا كانت الأسباب.

نظر له بعتاب قائلا:

ــ المفروض انك أكتر واحد حاسس بيا و بالنار اللى جوايا، لأنك تقريبا عيشت نفس المأساة اللى أنا عايشها.

رد عليه بجدية:

ــ و لما عرفت الحقيقة و اللى حصل لـ سلمى رضيت بنصيبنا و كملت مع سيرين و مروحتش طلبت أتجوز سلمى سواء كزوجة تانية، أو طلقت سيرين علشانها، و لولا عرفت بجريمتها هى و أبوها كان زمانى لسة مكمل معاها علشان خاطر الأولاد...يعنى أنا دوست على قلبى و ركنت حبى لـ سلمى على جنب عشان أحافظ على بيتى، بس للأسف كنت بحافظ على حية متستاهلش منى ذرة احسان، و لسعتنى بسمها و أنا مش دريان و لا حاسس، لحد ما ربنا كشفلى كل حاجة....انما داليا حاجة تانية خالص، داليا بتحبك و بتتقى ربنا فيك و محافظة على بيتك و مالك، بصراحة و نعم الزوجة، يعني تستاهل أى تضحية منك...

كان سفيان يستمع لشقيقه و هو يحاول أن يقتنع بحديثه الرزين، ربما عقله يستجيب، إلا أن قلبه يأبى أى حل لمعضلته، يشعر بقلبه الممزق يستغيث بين أضلعه، يطالبه باستعادة نبضه المتمثل فيها، فأجابه بعد برهة من التفكير:

ــ صعب...صعب عليا أوى يا ريان...

ربت ريان على كتفه بمواساة قائلا بحنو:

ــ ربنا معاك يا سفيان...

أومأ برأسه عدة مرات، و خيّم عليهما صمتا وجيزا، كل منهما محدقا فى البدر المنير، و يبث فيه بعضا من شجنه الكامن بقلبه، كل منهما يرى وجه محبوبته فى وجه القمر و كأنها تراه و تسمع نبضات قلبه الباكية، إلى أن قطع صمتهما سؤال سفيان:

ــ ناوى على ايه بعد طلاق سيرين و بعد ما أبوها اتحكم عليه؟!

أجابه بجدية ممزوجة بالغضب:

ــ ست سيربن هانم مع نفسها، معادش ليا أى علاقة بيها و لا عايز أعرف عنها حاجة...أصلا زمانها دايرة على حل شعرها و رجعت لأصلها الزبالة...

زفر ريان بعنف بعدما أنهى عبارته، عله يتخلص من حالة الغضب التى خلفتها سيرة تلك المرأة، ثم استرسل حديثه بنبرة أكثر هدوئا:

ــ أنا روحت لـ سلمى البيت و فاتحتها فى موضوع الجواز و سيبتلها مهلة يومين تفكر و ترد عليا..

انفرجت أسارير سفيان بسعادة قائلا:

ــ أخيرا يا ريان!!...ربنا يجمع شملكم على خير يا حبيبى.

أجابه بابتسامة بسيطة قائلا:

ــ يا رب يا سفيان...لو وافقت ان شاء الله هعملها فرح و هخليه فى أقرب وقت، مفيش داعى للتأخير أكتر من كدا...كفاية السنين اللى عدت من عمرنا و كل واحد فينا فى وادى بس قلوبنا و أرواحنا متعلقين ببعض..

اومأ سفيان بتأييد قائلا:

ــ فعلا معاك حق...الخمس سنين اللى فاتوا دول كانت أمرّ سنين عمرنا.

سكت ريان لوهلة ثم أردف بجدية:

ــ اسمع يا سفيان...انت لازم تلتزم بوعدك مع عمى اسماعيل و تبعد عن ملك، و تبتدى تصلح علاقتك مع داليا علشان حياتك تستقر و تقدر تعيش مع بنتك و مراتك فى هدوء...علشان كدا بكرة ان شاء الله نروح أنا و انت و ناخد معانا الحاج و الحاجة و نروح لداليا نصالحكوا على بعض، و بالمرة أطلب ايد سلمى رسمى من طنط فاطمة...ها؟!..ايه رأيك...

زم شفتيه بحيرة ثم ما لبث أن أومأ باستسلام قائلا:

ــ ماشى يا ريان....أدينى ماشى وراكم زى الانسان الآلى لحد ما نشوف آخرتها إيه...

ابتسم ريان بود قائلا:

ــ آخرتها خير ان شاء الله ياشقيقى.


فى اليوم التالى....

اتفق سفيان مع والديه على زيارة داليا بمنزل والدتها للصلح بينهما، فهتف ابراهيم قائلا بسعادة:

ــ عين العقل يابنى...أيوة كدا يا سفيان، بنتك و مراتك أولى بيك.

أومأ بقلة حيلة ثم قال بجدية:

ــ المهم يا بابا مش عايز داليا تعرف اللى حصل بينى و بين عمى اسماعيل و الاتفقاق اللى اتفقنا عليه، عشان متاخدش الأمور بحساسية و تحس إنى مغلوب على أمرى أو إنها مجرد بديل، يعنى كأنى أنا اللى صرفت النظر عن جوازى من ملك من نفسى مش تحت صغط من حد...فاهمنى يا بابا؟!

ربت على فخذه و هو يومئ بتفهم قائلا:

ــ متقلقش يا حبيبى...كلامك كله مظبوط..

نظر لزوجته قائلا:

ــ انزلى يا أم ريان جهزى زيارة حلوة كدا ناخدها فى ايدنا و احنا رايحين، و انت يا سفيان روح يا حبيبى اشترى لمراتك هدية حلوة كدا تليق بيها و تراضيها بيها و ربنا يهدى سركم يابنى..

أومأ بملامح واجمة لا تنم عن أى سعادة أو راحة و لكنه حقا مغلوب على أمره، فقط يساير الأيام لكى تمر إلى أن تنقضي و ينقضى معها عمره.

فى المساء ذهبت العائلة لمنزل داليا و بأياديهم الهدايا للأختين و الألعاب للأطفال علاوة على حقيبة كبيرة بها ما لذ و طاب من الفاكهة و الخضر.

كانت الزيارة مفاجئة، ففرحت الفتيات بها، و دب الأمل بداخل داليا من جديد و أحست بارتياح شديد قبل حتى أن يتحدث أيا منهم.

بعد التحيات جلس الجميع بغرفة الصالون يتجاذبون أطراف الحديث عدا ريان و سلمى، فقد كان يراقبها بشغف بينما هى تجلس بتوتر و حيرة فهى لم تحسم أمرها بعد فى شأن زواجهما.

قدم سفيان اعتذاراته لـ فاطمة و داليا و وعدها بنسيان أمر الزواج من أخرى، و أنه سيلتفت فقط لزوجته و ابنته، فأحلت بهم حالة من السعادة البالغة، ثم طلب سفيان الاختلاء بـ داليا قليلا، فأخذته و دخلا غرفتها و جلسا سويا بحافة الفراش فأدار دفة الحديث قائلا بجدية زائفة متظاهرا بالسعادة:

ــ لسة زعلانة منى يا داليا؟!

نظرت له نظرة خاوية ثم قالت بأسى:

ــ هحاول مزعلش منك يا سفيان...هحاول أنسى الفترة فاتت دى و كأنها محصلتش...هحاول نبدأ من جديد...وحشتني الأيام اللى كنا فيها عايشين هاديين بنضحك و نهزر و نقول لبعض أحلى كلام...بالسهولة دى نسيت يا سفيان و كأن مكانش فى بينا عشرة و أيام جميلة؟!

أطرق رأسه بخذى، فهو يرى أنها محقة، و لكن الذى لا تعرفه أنه كان يغتصب البسمة من شفتيه، الفرحة من قلبه و الكلام العذب من لسانه حتى يحافظ على سير مركب حياته الزوجية لأطول مدة ممكنة...

رفع رأسه يطالعها بندم ظاهرى و لكن قلبه يأبى الندم و الاستسلام، تنفرج شفتيه ليتحدث إلا أن لسانه يأبى طاعته، فازدرد لعابه بصعوبة ثم استرسل بكذب:

ــ أنا..احم..أنا ندمت على كل الكلام اللى جرحتك بيه و عرفت غلطى، و أنا جايلك النهاردة و عايز أصلح غلطى و نفتح مع بعض صفحة جديدة أولها الليلادى...

همس بكلماته الأخيرة بابتسامة أذابتها و لم تشعر بنفسها إلا و هى تلقى بجسدها بين أحضانه و تلف ذراعيها حول عنقه و تتمسك به بقوة و كأنه سيهرب منها، فقام هو بدوره بلف ذراعيه حول خصرها، مستندا بذقنه على كتفها و هو يعتصر جفنيه و يعض على شفتيه يحاول أن يمحى صورة ملك الحاضرة الآن بذهنه و المتعلقة بعينيه، يحاول قدر استطاعته أن يشعر بزوجته المستقرة بين ذراعيْه بتملك، إلا أن قلبه يصرخ باسم مليكته و يأبى الخنوع لإشارات العقل، لقد فقد سيطرته عليه حتى تمرد و انقلب عليه...

و لكن هل ستستمر الحياة بينهما على هذا المنوال؟!....


بينما على الجهة الأخرى عرض ريان طلبه الزواج من سلمى غير مباليا بتلك التى تنظر له جاحظة العينين و مصتكة الفكين، فلم تنتهى بعد المهلة التى أمهلها إياها، الأمر الذى أثار حنقها و جعلها تشتعل غيظا منه، و لكن رحبت فاطمة بعرضه و أحلت بها سعادة عارمة من أجل ابنتها المسكينة، و أخيرا سيُلم الشمل بعد انتظار طويل، فعندما لقى ريان ترحيبا من قبل فاطمة تجرأ أكثر قائلا:

ــ طالما حضرتك موافقة يا طنط يبقى مفيش داعى نستنى أكتر...ايه رأيك نقرا الفاتحة دلوقتي و ننزل بكرة نشترى الشبكة و نعمل خطوبة بسيطة كدا و الفرح بعد أسبوعين؟!

انتفضت سلمى من مكانها و كأنما لدغتها كلماته، قائلة باستنكار:

ــ أسبوعين؟!..و دول هلحق أعمل فيهم ايه؟

ردت عليها أمها قائلة بهدوء:

ــ أسبوعين مهلة كويسة يا سلمى...كدا كدا جهازك موجود و محافظة عليه زى عنيا، يعنى مش هنجيب بس غير شوية الهدوم و حاجات بسيطة كدا مش هتاخد مننا يومين..

توترت سلمى أكثر و بدأ قلبها يهرع بمخضعه، لا تدرى لما تخشى تلك المواجهة التى لطالما تمنتها مع من عشقه قلبها، تشعر و أن هناك سببا خفيا يُرعبها من زواجه بها رغم أنه قد علم بحادثها الأليم، فردت بارتباك و تلعثم:

ــ احم..لا...لا أسبوعين مـ مش كفاية.

طالعها ريان بتحدى و وجّه حديثه لـ فاطمة و كأنه لم يسمعها ثم قال:

ــ يبقى على خيرة الله نقرا الفاتحة...

أشارت له سلمى و هى تلوح بذراعيها قائلة بتذمر:

ــ ايه!! حيلك حيلك...انت مسمعتش أنا قولت ايه.؟!

نظر لها بابتسامة تهكمية ساخرا منها بتعبيرات وجهه ثم التفت برأسه لوالديه:

ــ يلا يا بابا...يلا يا ماما مستنيين ايه؟!..اقراوا الفاتحة معانا يلا...

رفع كل منهم كفيه أمام وجهه و شرعوا فى قراءة الفاتحة و كل يكبت ابتسامته بصعوبة حتى لا يثيروا حنقها أكثر، بينما هى تتابعهم بذهول و استنكار، و فى تلك اللحظة خرج سفيان و داليا و تلاهم الصغار من غرفة سلمى، فغمزه ريان بعين واحدة و قال بابتسامة عريضة:

ــ تعالى يا أبو ملك...تعالوا اقرأوا الفاتحة معانا يلا...

ابتسمت داليا بسعادة و راحت تحتضن شقيقتها المذهولة و تقبلها و تنهال عليها بالتهانى و المباركات، و الأخرى جامدة تشتعل غيظا منه، و ترمقه بحنق و هو يبادلها النظرة بتحدٍ، و يغمزها بعينه قاصدا استفزازها أكثر.


بعد مدة قليلة استأذن إبراهيم بالانصراف بصحبة زوجته لأنهما ينامان مبكرا و غادر معهما ريان تاركا ولديه لدى سلمى بطلب منهما.


تناول سفيان العشاء بمنزل حماته ثم استأذنها للإنصراف مصطحبا داليا و ملك ابنته.

ما إن خرجا من بوابة المنزل حتى قبضت على كفه بتملك و هى تطالعه بابتسامة هائمة، فبادلها الابتسامة و شدد من قبضته على كفها و سارا سويا فى جو عائلى دافئ، و كانت الصغيرة تسير أمامهما بحرية تارة و تركض تارة أخرى، و الضحكات تتعالى منها و أبويها يراقبانها بسعادة و يضحكان على حركاتها الطفولية، استمرا على هذا المنوال إلى أن اقتربا من المنزل، و فى تلك الأثناء كانت ملك تقف بشرفة غرفتها و رأتهم من بعيد و هما على هذه الشاكلة الحميمية، الأمر الذى أشعل نيران الغيرة بصدرها، تلك النيران التى لطالما أخمدتها بتفكيرها العقلانى الرشيد، و لكن هيئتهم جعلتها تتمنى لو كانت هى مكان داليا الآن، شعرت بنصال الحسرة تمزق بقلبها حتى بكت رغما عنها و لم تستطع كبت حزنها الكامن بقلبها أكثر من ذلك، راحت تراقبهم بعينيها من خلف ستار الشرفة و هى تكمم فمها لتمنع شهقاتها من الانفلات، و أخذت تتخيل نفسها مكان داليا و أن ملك ابنتها منه فازداد نحيبها و بكائها أكثر و دلفت غرفتها سريعا و ارتمت على الفراش و دفنت وجهها فى وسادتها و بكت حتى أعياها البكاء....

ياللمفارقة، فمنذ خمس سنوات كانت داليا هى من تتمنى أن تحل مكان ملك فى علاقتها بسفيان و الآن انقلبت الآية، و لكنها الأيام السِجال التى يُداولها الله بين الناس...


فى اليوم التالى أخذ ريان سلمى و ذهبا لمحل الصاغة و اشتريا خاتمى الخطبة، و فى طريق العودة مرا على منزل اسماعيل و صعدا إلى الشقة و طرق ريان الباب ففتحت له ملك و استقبلتهما بابتسامة رقيقة و أفسحت لهما المجال ليدخلا...

جلسوا بغرفة الصالون و بعد قليل حضر اسماعيل و جلس معهم فأدار ريان دفة الحديث قائلا بسعادة:

ــ يا ريت تشرفنا انت و ملك يا عمى و تحضروا حفلة خطوبتنا أنا و سلمى بالليل فى بيت طنط فاطمة ان شاء الله.

تهللت أساريرهما و قالت ملك بفرح:

ــ ألف مبروك يا ريان...ألف مبروك يا سلمى...

قال اسماعيل بسعادة:

ــ ألف مبروك يا حبيبى..الحمد لله إن ربنا لم شملكم على خير و لو انى كنت متوقع أرجع من ألمانيا ألاقيكم متجوزين و مخلفين كمان، بس اتفاجئت لما لقيتك متجوز واحدة تانية غير سلمى و قولت يمكن محصلش نصيب بينكم.

تجهمت ملامح سلمى و أطرقت رأسها بحزن بينما أجابه ريان بشجن واضح بين طيات كلماته:

ــ الخمس السنين اللى غيبتوا فيهم دول يا عمى كانوا أسوأ خمس سنين مروا علينا..

ثم قص عليه ما حدث أثناء فترة غيابه و لم يتطرق إلى كون الحادث مدبر من قبل حماه و زوجته السابقة، لأن سلمى لم تعلم بعد و لم تتذكر أيضا ما حدث.

أشفقت ملك عليهما للغاية و أحست بنيران الفراق التى لفحتهم بحرارتها، فهى قد ذاقت ويلاتها مثلهم تماما و ما زالت تعانى منها.


فى المساء التم الجميع بالمنزل فى جو من السعادة و أغانى الخطبة تصدح فى الأجواء، لتضفى بنغماتها جوا من الفرح و البهجة، كان العروسان فى أبهى حُللهم يطالع كل منهما الآخر بعدم تصديق و كأنهما فى حلم جميل يخشيان إنتهائه.

حضر اسماعيل و ملك لاحقا، و ما إن أطلت عليهم حتى التفتت إليها الأنظار بإعجاب، حيث كانت ترتدى فستان وردى طويل أبرز رشاقة قوامها رغم حشمته، و حجاب أسود لامع أبرز بياض بشرتها، مع استعمالها لبعض زينة الوجه و كحل العينين الذى أظهر مدى جمال لونهما.

ما إن رأتها داليا بهذه الطلة الخاطفة للأنظار حتى اشتعلت سريرتها بغيرة ملتهبة، و راحت تراقب زوجها الذى كان واقفا بجوار شقيقه و بعيد عنها نسبيا، فاحمر وجهها من الغضب حين رأته ينظر لها بابتسامة هائمة و نظره مسلط على عينيها، بينما الأخرى تتحاشى النظر إليه حتى لا تفضحها نظراتها كما فضحته نظراته لها و أصبحت واضحة للجميع.

تقدمت من مجلسهم و قامت بتهنئة العروسين، ثم اتخذت مقعدا و استقرت به و هى فى غاية الخجل من نظرات سفيان التى تلاحقها، تنظر كل حين و آخر لـ داليا لترى ان كانت منتبهة لنظرات زوجها لها، فرأت علامات الغيرة و الغضب جَليّة على ملامحها، الشيئ الذى أصابها بالتوتر و جعلها تشعر بتأنيب الضمير أن حضرت الحفل من الأساس، فحتما ستنشب بينهما مشكلة بسببها الليلة.

و على الجهة الأخرى كان ريان هائما فى بحر عشقه لسلماه، غارقا بين أمواج الشوق، غافلا عن الحضور و كأنهما منفردين فى عالم خاص بهما، همَّ ليُمسك كفها إلا أنها سحبتها سريعا و هى تنظر له بغضب قائلة:

ــ ريان لسة مش مسموحلك تمسك ايدى.

عقد ما بين حاجبيه و زم شفتيه بحنق قائلا:

ــ تصدقى إنى غبى لأنى مخليتهاش خطوبة و كتب كتاب!!...خطوبة ايه دى اللى احنا بنعملها!!..هو احنا لسة هنتعرف على بعض؟!

انفلتت منها ضحكة خافتة ثم قالت بتشفى:

ــ الخطوبة أدب...يعنى مفيش تمسك ايدى...مفيش نخرج مع بعض كل شوية...مفيش..

قاطعها قائلا بتهكم:

ــ اصبرى بس...كلها أسبوعين و هتيجى تحت ايدى و ساعتها هوريكى الأدب على أصوله.

تغيرت ملامحها للقلق و عاد قلبها لسرعة خفقانه مرة أخرى على ذكر تلك السيرة التى أصبحت تؤرقها ليلا و نهارا، و لا تدرى ما سبب هذا القلق الغير مبرر بالنسبة لها.

بمجرد أن ارتدى العروسين خاتمى الخطبة و تعالت التهانى و المباركات، هبّت ملك من مقعدها و همست فى أذنى أبيها تطلب منه المغادرة فاستجاب لها على الفور، و قاما بتهنئة العروسين و اتجها إلى الباب تحت أنظار سفيان المتعلقة بها، فسار خلفهما و استوقفهما قائلا:

ــ استنى بس يا ملك انتى رايحة فين لسة بدرى..

نظرت له بعينين متسعتين و قالت له بهمس:

ــ سفيان كفاية بقى...انت كدا زودتها أوى..مراتك مرقباك على فكرة من أول ما جيت و واخدة بالها من نظراتك ليا..

تجهمت ملامحه قائلا بعتاب:

ــ انتى كمان مش عايزانى أبصلك يا ملك؟!...للدرجادى قلبك قسى عليا!!

انفعل اسماعيل قائلا بحدة طفيفة:

ــ اللهم أطولك يا روح...و بعدهالك يا سفيان...احنا اتفقنا على ايه يبنى؟!

اصتك أسنانه بغيظ مكبوت و قال من بين أسنانه المطبقة:

ــ هو فيه ايه يا عمى؟!..كل دا عشان بقولها خليكى شوية...هو حرام الواحد يقول لبنت عمه خليكى..و بعدين دى خطوبة ابن عمها مش حد غريب..

هز اسماعيل رأسه بقلة حيلة مشفقا عليه فى نفسه، بينما ملك قالت له برجاء:

ــ بالله عليك يا سفيان ابعد عنى بقى...أنا ماشية من هنا مخصوص بسببك، لأن مراتك زعلانة جدا من اللى انت بتعمله دا، حرام عليك انت خليتها تكرهنى.

أصابته كلماتها بالشعور بالخذى من ذاته و من أنانيته و هز رأسه بتفهم ثم قال بشجن:

ــ ماشى يا ملك...عموما انتى معاكى حق، هى مهما كان بردو انسانة من لحم و دم و لازم أراعى مشاعرها أكتر من كدا..

تنهدت بارتياح ثم ألقت عليه نظرة أخيرة و خرجت من الشقة تبعها أبوها، بينما سفيان التفت لمكان وقوف داليا فوجدها تنظر له بملامح جامدة و عيناها تنطق بالشرر، فزفر بعنف و أخذ يلعن غبائه الذى يفسد علاقته دائما معها.

بعد بضع ساعات انتهى الحفل و عاد كل منهم إلى شقته، و دلف سفيان بزوجته و ابنته، و وضعت داليا صغيرتها النائمة بفراشها و دثرتها جيدا بالغطاء ثم خرجت لـ سفيان الذى كان متأهبا لجدال مشتعل بينه و بينها.

جلست قبالته و قالت له بملامح متجهمة و نبرة حادة:

ــ هو دا كان كلامك معايا يا سفيان؟!..هو دا اللى عرفت غلطتى و ندمان و هنبدأ صفحة جديدة، و مع أول موقف جمعكم مع بعض رميت كل وعودك ورا ضهرك و مفتكرتش غيرها هى و بس؟!..

دفن رأسه بين كفيه لعله يجد من الحجة ما يبرر به موقفه، ثم نظر لها قائلا بنبرة هادئة:

ــ داليا.. المفروض هى اللى تغير منك لأنى أنا ملكك انتى و بين ايديكى...علشان خاطرى بطلى الغيرة دى بقى علشان نعيش مع بعض فى هدوء.

احتدت نبرتها بصراخ قائلة:

ــ معنى كلامك انى المفروض أشوفك و انت مش منزل عينك من عليها و اسكت!!....

أشاح بوجهه للجهة الأخرى و لم يعقب، الأمر الذى زاد حنقها و تذمرها، فقالت بنبرة حزينة ممزوجة باللوم:

ــ يا خسارة يا سفيان...كنت فاكرة انك هتكون صادق فى وعدك معايا و هتتخطى ملك و نرجع تانى لأيام زمان، بس يظهر كدا إن ملك هتفضل الحاجز اللى بينا طول ماهى عايشة على وش الدنيا...ملك هى اللقمة اللى وقفالى فى الزور طول ما أنا على ذمتك...

هدرت بعبارتها الأخيرة بغصب بالغ ثم انصرفت من أمامه و دلفت غرفتها التقطت منها ملابس للنوم ثم خرجت إلى غرفة صغيرتها لتنام معها تاركة إياه يتلوى بألم الحيرة، لقد أوشك عشه الهش على الانهيار و هو يراقبه بقلة حيلة مكتوف الأيدى غير قادرا على أخذ خطوة جدية فى سبيل انقاذه من الدمار.


يتبع

الفصل الثامن عشر

اقتربت ليلة الزفاف، و كلما اقتربت زاد قلق سلمى و خوفها من القادم، بينما العلاقة بين سفيان و داليا قد توترت للغاية منذ ليلة الخطبة و ما حدث بها، و مهما قدم لها من اعتذارات أو وعود لا تستجيب، فهى قد فقدت ثقتها فيه لأقصى حد.

و ها قد حانت الليلة المنتظرة، التى تمناها ريان كثيرا و انتظرها طويلا، كان حفلا جميلا، و الكل مبتهج سعيد، حتى السعادة لم تترك الصغار، فقد ارتدت كل من چود و ملك فساتين زفاف صغيرة، و ارتدى چاد حُلة سوداء تشبه حُلة أبيه تماما.

داليا تناست مشكلاتها مع سفيان و لم تدع شيئا يُعكر صفو هذه الليلة، فرحا بعوض الله على شقيقتها الحبيبة، و ملك لم تجلس بالقاعة أكثر من نصف ساعة ثم غادرت حتى لا يتكرر ما حدث من سفيان بليلة الخطبة و تكون سببا فى مشكلة جديدة بينهما.

استمر الحفل إلى قبيل منتصف الليل، ثم انتهى و أخذ ريان عروسه إلى شقته بمنزل والده، و التى غيّر كل أثاثها خلال الأسبوعين، تاركا ولديه بشقة أبيه بصحبة والدته.

دلف العروسين و بدل كل منهما ملابسه و بدأ ريان ليلته بالصلاة بها، ثم انتظرها بشرفة غرفته إلى أن تبدل اسدال الصلاة، و شرد بذهنه فى ليلة زفافه على سيرين، تلك الليلة المشؤمة التى لم يبدئها حتى بالصلاة، بل بدأها بشرب السجائر المحشوة و غاب فيها عن الوعى و لم يدرِ ما فعله بعد ذلك، بدأ معها بمعصية، و لم تُقوَّمه أو تزجره أو تذكره حتى باستهلال حياتهما الزوجية بطاعة الله حتى يبارك لهما الزواج، فـ شتان بين سيرين و سلمى، فـ الشيطان قد تمثل فى صورة سيرين و الملاك قد تمثل فى صورة سلمى.

ارتدت سلمى قميص حريرى أبيض اللون يعلوه روب طويل و شفاف إلى حد ما ثم وقفت خلف ريان و تنحنحت بخجل و كأنها تخبره بأنها قد انتهت...

استدار لها بترقب و ما إن رآها بهيئتها الملائكية حتى ازدادت ابتسامته اتساعا باعجاب و انبهار، فهو لأول مرة يراها بكامل زينتها و يرى شعرها الأسود الناعم منساب على ظهرها، و ابتسامتها الخجلى تزين محياها.

اقترب منها بخطوات بطيئة مهلكة حتى وقف قبالتها تماما، و هو يدور بعينيه فى ملامحها ينهل من فرط جمالها، ثم قبض بكفيه على كفيها قائلا بصوت أجش:

ــ أخيرا يا سلمى!...أنا و انتى لوحدنا و مقفول علينا باب!..أخيرا بقيتى حلالى!!..خمس سنين محروم منك كأنى كنت مدفون و محروم من الهوا...كأنى كنت غريق و مستنيكى تمدى ليا ايدك تنقذينى...كنت ميت و أنا بتنفس، بس كنت بتنفس عذاب و حزن و كآبة.

بينما هى تناظره بشغف، بعينين تقطران حبا، بوجدان هائما بملامحه الوسيمة، بسمته المشرقة، عينيه التى تحاصر عيناها بعشق خالص، ثم ردت عليه بنبرة هائمة:

ــ أنا كنت بموت فى كل يوم بيعدى عليا و انت فى حضن غيرى، عارفة إن حبك ليا زى ما هو رغم كل الظروف اللى مرينا بيها، زى ما يكون قلبك عارف إنى بحبك و مستحيل إنك تكون واحد عادى بالنسبالى زى ما كنت بقولك، قلبك مكانش مصدق، علشان كدا مقدرتش تكرهنى...

انكمشت ملامحه بألم من أجلها، فلولا هو ما حدثت لها تلك المأساة، و لَما افتعلت تلك الكذبة التى فرقتهما لأكثر من خمس سنوات، اغرورقت عيناه بالعبرات تأثُرا بها و اشفاقا عليها، و أسرع بجذبها من خصرها لتستقر بين ذراعيه و بأحضانه قبل أن ترى دموعه، لف ذراعيه أكثر بتملك حول خصرها و هو يعتصر جفنيه بألم بالغ، و عند هذا الحد و بدأ قلبها يخفق بقوة و زادت و تيرة تنفسها للغاية حتى وصلت لحد الاختناق، شعر ريان بحركة صدرها و هو يعلو و بهبط بطريقة ملحوظة، فأبعدها قليلا عن حضنه و نظر لها و هو مقطب الجبين باستغراب قائلا:

ــ مالك يا حبيبتى؟!..انتى تعبانة و لا ايه؟!

حاصرت رأسها بكفيها و هى تقول بتعب:

ــ مش عارفة مالى؟!.حاسة ان قلبى مقبوض..

أخذها مرة أخرى إلى صدره و هو يربت على ظهرها بحنو قائلا بهمس حانى:

ــ حبيبتى طول ما أنا جنبك متخافيش من حاجة أبداً...انتى مش بس مراتى يا سلمى..انتى بنتى و حتة منى و عمرى ما هقسى عليكى أبدا...

بدأت تنظم أنفاسها المتلاحقة و تحاول السيطرة على أعصابها التالفة ثم بادلته العناق، فابتسم بارتياح و تجرأ أكثر و رفع وجهها له و مال برأسه عليها و لكنها اغمضت عينيها تلقائيا ثم بدأت تداهمها تلك الذكرى الأليمة و شبح ذلك المجرم المُلثم يلوح أمام عينيها المغمضتين، فعادت لها تلك الحالة مرة أخرى و لكن بشكل أشد، الأمر الذى أثار قلق ريان للغاية و بدا له الأمر مريبا و غير طبيعى.

أحس أنها على وشك أن تفقد وعيها، فحملها سريعا و وضعها على الفراش برفق بالغ و هى تتنفس بلهاث و مازالت مغمضة العينين، فأخذ يمسح على شعرها و هو يهمس بقلق:

ــ سلمى حبيبتي افتحى عينيكى...سلمى حاسة بإيه؟!...طاب فتحى عيونك و كلمينى...

بدأت تستجيب له و تفتحهما ببطئ و هى فى حالة من الخوف و الهلع، فانهمرت عبراتها بغزارة و هى تقول:

ــ ريان....كل ما تقرب منى ضربات قلبى بتبقى سريعة و بحس ان الدنيا بتضلم و بشوف خيال شخص ضخم متلتم بيهجم عليا...أنا.. أنا مش عارفة ليه بيحصلى كدا؟!..أنا...أنا خايفة أوى يا ريان...

توترت أوداجه، و انفطر قلبه لأجلها، فالآن فقط فهم سر تلك الرهبة التى أصابتها حين تحرش بها مسبقا تحت تأثير المخدر، و فزعها الآن و هى بين أحضانه، و كأن تلك المأساة أصبحت لعنة تلاحقها كلما اقترب منها، همَّ ليحتضنها مرة أخرى ربما تشعر ببعض الأمان، إلا أنها منعته بإشارة من كفها و هى تصرخ بفزع:

ــ لأ... متقربش منى..

انفطر قلبه لهيئتها المرتعبة، و داهمه شعور قاتل بالذنب، فأومأ بموافقة و هو يقول باشفاق بالغ و حزن دفين:

ــ حاضر... مش هقرب.. بس عايزك تهدى أعصابك خالص و تاخدى نفس عميق علشان تتنفسى براحة...

ازدردت لعابها بصعوبة من فرط الرهبة و استجابت له بلاوعى، و ابتعد إلى حافة الفراش و هو يراقبها بحسرة ثم قال لها بنبرة حانية:

ــ ايه رأيك نعمل فيشار و نقعد نتفرج سوا على فيلم لحد ما النوم يغلبنا و ننام؟!

اغتصبت ابتسامة على شفتيها حتى لا تثير قلقه أكثر من ذلك، فأيا كان ما تشعر به، ليس له ذنب فيه....هى بالأساس لا تدرى ما سر هذه التقلبات المزاجية التى تعانى منها.

نهضت من الفراش بتثاقل و نهض هو الآخر معها، مدّ كفه لها لتتمسك به، ففعلت و خرجا من الغرفة باتجاه المطبخ، و هم ليدلف معها إلا أنها استوقفته قائلة بضيق من نفسها:

ــ ريان أنا آسفة...أنا كان نفسى أول ليلة لينا متكونش بالشكل دا، بس أنا...

وضع سبابته اليمنى على شفتيها و هو يهمس بحنو:

ــ شششش...بس متكمليش...

انتقل بسبابته و ابهامه إلى وجنتها يداعبها بهما مردفا بعشق و شغف:

ــ أنا يكفينى إنك تكونى معايا و قدام عينى طول الوقت...مش عايز أكتر من كدا..صدقينى يا سلمى انتى بالنسبالى حلم جميل أوى و بحمد ربنا إنه اتحقق، و مش عايز حاجة تانية بعد كدا..

عجز لسانها عن الرد أمام تيار عشقه الجارف، فشعر بها و أردف بمرح ليقلل من وطأة حرجها:

ــ بيتهيألى كان فى مشروع فيشار المفروض ننفذه، و لا إنتى رجعتى فى كلامك و لا إيه؟!

ابتسمت براحة مجيبة:

ــ روح انت شغل فيلم على ذوقك و انا هجهز الفيشار.

أومأ لها بابتسامة باهتة، و من ثَمَّ تركها و قام بتشغيل أحد الأفلام الأجنبية ثم جلس بالأريكة فى انتظارها...

جلسا سويا يشاهدان الفيلم و يأكلان الفيشار و قد منع ريان نفسه من الالتصاق بها حتى لا يداهمها ذلك الشعور السخيف مرة أخرى، كانا يشاهدان فى جو من الصمت التام، فقد كان شاردا فى حالها و ما يحدث معها كلما يقترب منها، يرمقها بين الحين و الآخر بحزن دفين و إشفاق بالغ، لا يدرى إلى متى ستستمر تلك الرهبة، و ما مصير حياتهما اذا بقى الوضع على ما هو عليه، و فى خضم تفكيره أحس بثِقَل رأسها على كتفه، فقد نامت دون أن تشعر. ابتسم بتلقائية على مظهرها و أسند رأسها على كفه إلى أن اعتدل و نهض من مجلسه، ثم حملها إلى غرفة النوم و وضعها على الفراش برفق بالغ...

جلس بجوارها و أخذ يتأملها بردائها الأبيض المثير و شعرها منساب بجوارها و جمالها الأخاذ الذى يدعوه لينهل منه كيفما شاء، فابتسم بسخرية مريرة و هو يهز رأسه بأسى، فها هى حوريته أمامه و بين يديه و لكن لا يستطيع لمسها.

أطلق زفرة حارة ثم دثرها بالغطاء و استلقى بجوارها عائدا لشروده و تفكيره مجددا إلى أن غلبه النوم.


و على الجانب الآخر....

وقف سفيان قليلا بشرفة غرفته يتنفس هواءا عليلا، كان نظره مسلط على شرفة ملك يتمنى لو تخرج و لو للحظات ليراها و يطمئن عليها، فهى لم تجلس بحفل الزفاف إلا وقتا قليلا حتى أنه لم يراها إلا و هى راحلة، الأمر الذى أصابه بالضيق البالغ، فهو أصبح لا يتخيل يومه دون أن يراها...

لاحظت داليا شروده فوقفت خلفه و لكزته من كتفه و هى تقول:

ــ سفيان مش هنام؟!

و لكنه لم يسمعها، فلكزته مرة أخرى، فاستدار لها قائلا بعفوية:

ــ ايوة يا ملك!!

اتسعت عينا داليا على آخرها من الغضب ثم قالت بعينين مغرورقتين بالعبرات:

ــ مفيش فايدة....مهما عملت و مهما سامحت و مهما عديتلك...بردو مفيش فى دماغك غيرها.

أخذ يلعن و يسب نفسه بخفوت ثم قال بتبرير:

ــ هو مفيش ملك غيرها؟!...أنا كنت فاكرك ملك بنتنا..

ابتسمت بتهكم قائلة:

ــ انت عمرك ما ناديت بنتك و قولتلها ملك، يا إما لوكا أو ملوكة...أنا مش غبية للدرجة دى يا أستاذ سفيان و لا أنا طفلة علشان تضحك عليا بأى مبرر و السلام.

زفر بعنف ثم صاح بها:

ــ أوف بقى أنا زهقت...كل شوية خناق و زعل و خصام...لحد امتى؟!..نفسى ننتهى من القصة دى و نعيش فى هدوء شوية..

هزت رأسها بموافقة مرات متتالية ثم قالت بوجوم:

ــ فعلا مش هننتهى من القصة دى أبداً...علشان كدا زى ما دخلنا بالمعروف نخرج بالمعروف...كدا كدا هننفصل لان حياتنا بالشكل دا استحالة تستمر...لو ما اطلقناش النهاردة هيبقى بعد سنة، و لو مش بعد سنة يبقى بعد سنتين...عاجلا أو آجلا هنتطلق.

قلب عينيه بملل ثم اقترب منها قائلا بهدوء:

ــ داليا اقصرى الشر و بلاش كلام فى السيرة دى تانى.

أشاحت بوجهها للجهة الأخرى قائلة بقهر دفين:

ــ مش أحسن ما نعيش مع بعض و احنا مش طايقين بعض.

نظر لها بجحوظ مستنكرا ذلك اللفظ، فاسترسلت و هى تومئ بتصميم:

ــ أيوة مش طايقين بعض...مستغرب أوى كدا ليه؟!...انت بتتعامل معايا و بتنام جنبى و انت مغلوب على أمرك و مضطر تسايرنى و تعدى الأيام، و أنا كمان مشاعرى ناحيتك بقت باردة و مبقتش تفرق معايا....داليا اللى كانت بتعشق سفيان و بتموت فيه انت موتها و عملت داليا تانية قاسية و باردة، و مش عايزة اوصل معاك لمرحلة الكره يا سفيان...مش عشانك و لا عشانى...لا..عشان بنتنا متحسش بكدا و تتربى بعقد نفسية احنا فى غنى عنها.

نظر لها مشدوه الملامح قائلا بعدم استيعاب:

ــ داليا انتى واعية كويس للى انتى بتقوليه؟!...انتى بالسهولة دى عايزة تنهى مشوارنا اللى بدأنا سوا..؟!

احتدت نبرتها قائلة بصوت متحشرج من البكاء:

ــ كانت غلطة و أنا اللى بدفع تمنها دلوقتي...بس أنا...أنا كنت مفكرة ان ملك ماتت زيك بالظبط، و كان عندي امل إنك تحبنى بعد الجواز، و رغم ان انت معرفتش تحبنى بس كنت بتعاملنى بحب و ود و كنت مبسوطة بكدا، لحد ما ملك ظهرت تانى و هدت كل حاجة حلوة بينا....

صرخ بها بانفعال:

ــ ملك مهدتش حاجة بينا...ملك ملهاش يد و لا ليها ذنب فى أى حاجة حصلت بينا...متحمليهاش ذنب هى معملتهوش...لو حد هيتحاسب يبقى أنا...اللوم عليا أنا...ملك فضلت تقاومنى بكل قوتها رغم حبها الشديد ليا و رفضت الجواز منى...دا كله علشان متكونش السبب فى خراب بيتى...اوعى...اوعى يا داليا أسمعك تجيبى عليها أى ذنب او لوم أو عتاب...انتى فاهمة؟!

هتف بعبارته الأخيرة بنبرة تحذيرية بالتزامن مع الغضب الذى لاح على وجهه بمجرد اتهامها بكونها السبب، الأمر الذى زاد من غضب داليا و جعل الامور بينهما أكثر تعقيدا، فصرخت به بانفعال و كره:

ــ طلقنى..طلقنى انا بكرهك...بكرهك.

ثم تركته و ركضت إلى غرفة صغيرتها و هى تبكى بنحيب و عويل، لقد أثار سفيان بغضها له بعد دفاعه المستميت عن غريمتها، و جعلها تخرج ما بجعبتها من مقت لهما و سخط عليهما، و تصفه بأسوأ الصفات صارخة:

ــ انت انسان مريض...بقيت مجنون زفتة ملك...خاين و كداب و غشاش و مالكش أمان...أنا بكرهك...كان يوم أسود يوم ما جيتلك برجليا...


بينما سفيان ألقى بجسده بإهمال جالسا على حافة الفراش و هو فى حالة من الصدمة، لا يصدق أنه قد وصل معها إلى هذا الحد من المهانة و قلة الاحترام، و عزم حينها على ضرورة الإنفصال، فبعد هذا الموقف و بعدما سمع منها نعته بأبشع الصفات، استحالت الحياة بينهما.


فى صباح اليوم التالى استيقظت سلمى أولا و جلست بمكانها بالفراش و راحت تنظر لـ ريان و هو نائم و تتأمل ملامحه بشغف و حب، و لكن سرعان ما تذكرت أحداث ليلة الأمس، فأصابها الضيق البالغ من نفسها و عزمت على محاولة تخطى هذه الحالة الغريبة، فربما قد أصابتهما العين..

نهضت من الفراش بحماس و توضأت و صلت اولا، ثم بدأت تتلو ما تيسر لها من آيات السحر و الحسد و تحصن نفسها بها، ثم اتجهت إلى المطبخ و قامت بإعداد وجبة الإفطار و من ثم عادت له مرة أخرى..

جلست بجواره و بدأت تقترب منه رويدا رويدا بحذر و هى تحاول السيطرة على أعصابها و مالت بوجهها عليه حتى قبلت ما بين عينيه، و ما كادت لتعتدل حتى قبض على خصرها بكفيه برفق بالغ و هو يطالعها بهيام و شغف و لمحة من السرور تلمع بعينيه أن بادرت هى بالاقتراب منه و تغلبت على مخاوفها.

ابتسمت بخجل من حركته المفاجئة و قالت:

ــ اممم...يعنى انت عامل نفسك نايم؟!

اجابها برقة أذابتها و ابتسامة حبست أنفاسها:

ــ تؤتؤ...ريحة الورد اللى فى شعرك هى اللى صحتنى.

اتسعت ابتسامتها أكثر ثم قالت:

ــ طاب قوم يلا علشان نفطر..

اعتدل و جلس بمواجهتها و مازال قابضا على خصرها بتملك ثم اقترب منها أكثر ليطبع قبلة مُطولة على وجنتها، ثم عاد ينظر لها بترقب ليرى رد فعلها، فاطمئن قلبه عندما لم يجد منها فعلا مُريبا و تجرأ أكثر و اقترب ثم اقترب حتى أصبحت زوجته شرعا تحت صراع ضارى بينها و بين عقلها الذى لم ينفك عن مداهمتها بمشهد ذلك الجُرم المهيب، و الذى لم تتذكره بعد، و لكنها انتصرت عليه بمعاناة إلى أن تم ما أرادت ثم ارتدت ملابسها سريعا و ركضت إلى الغرفة الأخرى و هى فى حالة من الذهول و الصدمة، و وقفت أمام المرآة و عبراتها تنهمر بغزارة فى صمت قاتل، وقفت تتأمل نفسها إلى أن نطقت أخيرا بصدمة و عدم تصديق:

ــ أنا...أنا مش..أنا مش عذراء!!...طاب ازاى؟!...ازااااى؟!...

هدرت بتلك الكلمة بصراخ و كأنها تنهر ذاتها على ذنب لم تقترفه، فدخل إليها ريان مسرعا و وقف قبالتها هاتفا بها بهلع:

ــ سلمى...حبيبتى اهدى...مالك بس فيه ايه؟!

نظرت له بملامح مشدوهة قائلة بتيه:

ــ ريان..الدكتور حسام قالى انه فتحلى قيصرية و شال الرحم بس، و إن باقى الأجزاء كويسة و مفيش فيها أى مشكلة...يعنى المفروض انى أكون لسة عذراء...

أغمض عينيه بألم و حسرة و لم يدرِ ماذا عليه أن يبرر أسبابها التى سردتها، سكت مليا ثم قال بتوتر:

ــ احم...يمكن..يمكن الاصابة كانت شديدة و الدكتور ما أخدش باله من الموضوع دا..

ضيقت جفنيها بتفكير تحاول استيعاب احتماله، فاسترسل مردفا بجدية:

ــ و بعدين يا سلمى أنا مقدر كويس أوى الظروف الصعبة اللى عدت عليكى و الحالة النفسية السيئة اللى مريتى بيها، و الموضوع دا مش هيفرق معايا فى حاجة...أنا بثق فيكي أكتر من نفسي..و لو مكنتيش انتى اللى فتحتي الموضوع دا استحالة كنت هفكر فيه او هسألك عليه، لأنى متأكد طبعا ان دا بسبب الحادثة...دا كله مش كفاية بالنسبالك؟

طالعته بحيرة و ما زالت الشكوك تساورها و الذكريات تداهمها و لكن هل ستظل مجرد ذكرى أليمة لن تتعدى حدود العقل الباطن أم أنها ستتخطاه لتصبح واقع مرير تعيش بمأساته إلى وقتها الحاضر!!....


يتبع

الفصل التاسع عشر

فى شقة سفيان...

قامت داليا بضب جميع أغراضها و ملابسها بالاضافة لملابس صغيرتها بعدة حقائب ثم تركتها بمكان ما بالشقة و أرسلت رسالة لـ سفيان كتبت فيها:

"أنا ماشية و يا ريت تبدأ فى إجراءات الطلاق بسرعة، و الشنط اللى فى الصالة تشوف حد ينزلها و ابعتهالى على بيت ماما"

ثم أخذت حقيبة صغيرة بها بعض الملابس البسيطة و حملتها على كتفها و اغلقت الشقة و هبطت لشقة حمويها و اخبرتهما بأمر انفصالهما، فشهقت عفاف بصدمة و هى تصرب صدرها بكفها، بينما هدر بها إبراهيم بغضب صائحا:

ــ طلاق ايه و زفت ايه اللى انتوا بتتكلموا فيه!!...هو احنا بتوع طلاق يا داليا.؟!..دا ايه المصايب دى يا ربى...عيالى الاتنين يطلقوا مراتاتهم..لا حول و لا قوة إلابالله.

ردت داليا بجدية ممزوجة بقهر:

ــ خلاص يا بابا إبراهيم احنا قررنا...صدقنى دا أحسن حل...الحياة بينا وصلت لحيطة سد و مستحيل هنكمل مع بعض مهما قعدنا نزق فى الأيام...بس فى الآخر هننفصل.

اقتربت منها عفاف تحدثها بهدوء:

ــ يا حبيبتى استهدى بالله و بلاش تهدى بيتك بايدك..

أجابتها بغضب و اندفاع:

ــ مش أنا اللى هديته يا ماما...سفيان هو اللى مسابش ليا اى اختيار تانى...ملك جننته خلاص و معادش شايف غيرها و لا بيفكر غير فيها، ملك سيطرت عليه بطريقة مرضية و انا مش هقبل على نفسى اعيش مع انسان مش عايزنى و واخدنى سد خانة و خلاص.

أخذت عفاف تضرب كفا بكف بحزن بالغ، و أيضا إبراهيم يهز رأسه بعدم تصديق لما آل إليه حال ولده العاقل الرزين، تركتهما داليا بصدمتهم و ذهولهم و أخذت طفلتها و انصرفت إلى منزل والدتها.

فى لحظة خروج داليا من المنزل كانت ملك عائدة إلى منزلها و بيدها أكياس من الخضر، و قبل أن تعبر البوابة نادتها داليا بصوت مرتفع حاد قائلة:

ــ استنى.

وقفت ملك متفاجئة بها و مندهشة من حدة صوتها و التى تنم عن مقت شديد، فذهبت لها داليا بخطى متعجلة إلى أن وقفت قبالتها تماما، ثم نظرت لها بازدراء و بعينين تقدحان شررا قائلة بنبرة مغلولة قاتلة:

ــ انتى لعنة حلت على بيتى و خربته، شيطانة فرقت بينى و بين جوزى و خلتنى أكرهه، زمان لما كنتى مريضة كنت بحبك و بدعيلك رغم إنى عارفه إن الانسان اللى بحبه مش عايز غيرك، انما دلوقتي بقيتى أكتر انسانة بكرهها فى حياتى...يا ريتك كنتى موتى بجد....احنا اطلقنا النهاردة....أهو عندك أهو اشبعوا ببعض.

ثم ألقت عليها نظرة احتقار و غادرت من أمامها و هى تجر صغيرتها خلفها، بينما ملك تجمد جسدها من بشاعة كلامها و ثِقَله عليها، فقد خارت قواها و استندت على الحائط قبل أن تسقط، و تجمعت العبرات بمقلتيها، لا تصدق أنها أصبحت خبيثة و بغيضة إلى هذا الحد، سارت بخطى مهزوزة و هى على وشك السقوط إلى أن دلفت إلى داخل منزلها، ألقت بالأكياس على الأرض ثم ارتمت على أول درجة سلم و جلست عليها، ثم دفنت وجهها بين كفيها و انخرطت فى بكاء مرير، و جسدها يرتجف بشدة، تجلد ذاتها التى ألحت عليها بالعودة بقصد صلة الرحم بعدما استقرت بذاك البلد الغريب، و تنهر قلبها الذى آلمها ما إن قررت العودة لألمانيا مجددا لدرئ المشاكل، بعد كلام داليا لها أحست بمدى الجرم الذى ارتكبته فى حق عشها الذى كان هادئا ساكنا قبل عودتها.

ظلت على هذا الوضع لفترة تلعن نفسها و تسبها أن كانت سببا فى هدم حياة داليا و كرهها لزوجها، ما أبشعه من شعور... ألا و هو الشعور بالذنب و تأنيب الضمير.

بعد نوبة ضارية من البكاء و جلد الذات نهضت ملك و كفكفت عبراتها و خرجت من المنزل، و سارت باتجاه منزل عمها عازمة على بذل كل ما بوسعها لعلها تلملم شتاتهم الذى كانت سببا فى بعثرته، و تعيد المياه إلى مجاريها، فى تلك اللحظة كان سفيان عائدا من المحل ليرى أمر تلك الحقائب، فرأته ملك و هو يعبر البوابة إلى الداخل، و سارت إليه بخطى أشبه بالركض لكى تلحق به قبل أن يصعد شقته و بالفعل لحقته على الدرج و نادته بصوت حاد و بنبرة غاضبة:

ــ سفيان..

التفت لها و اندهش من عيناها الحمراوتين ذات الجفنين المنتفخين، ثم نزل إليها و وقفا فى مدخل المنزل و قال لها باستغراب و قلق فى آن واحد:

ــ مالك يا ملك انتى كنتى بتعيطى؟!

طالعته بعينين تقدحان شررا و ملامح تنطق غضبا ثم قالت بحدة:

ــ انت طلقت داليا ليه..؟!.

تحولت ملامحه للوجوم و أجابها بجمود:

ــ هى اللى طلبت الطلاق..

ردت بحدة أشد:

ــ و هى هتطلب الطلاق كدا من غير سبب.؟!...ما انت أكيد مقصر معاها جدا لدرجة انها زهقت و فقدت الأمل انك ترجع زى الأول..

قطب جبينه باستنكار و هو يقول بدهشة:

ــ انتى بتتكلمى كدا ليه و كأنك بتحاسبينى..

أجابته باندفاع و غضب:

ــ أيوة بحاسبك...علشان بابا حذرك إن لو حصل مشاكل تانى بسببى هنسافر و مش هنرجع تانى يا سفيان..

سكت قليلا يطالعها بدهشة و استنكار ثم قال بهدوء:

ــ ملك انتى ليه فاكرة انك السبب فى طلاقنا و....

قاطعته بصراخ:

ــ لان أنا فعلا السبب...انت خلتها تكرهنى، عملت منى شيطان بيفرق بين راجل و زوجته..

رد عليها بحدة:

ــ لا...انتى مالكيش أى دخل فى طلاقنا.

ردت بنبرة يملأها الألم:

ــ خلاص صالحها و رجعها..

احتدت نبرته بانفعال و صاح بها:

ــ دا شيئ ميخصكيش و مالكيش تدخلى فيه..

أجابته بنفس نبرته:

ــ لا ليا....لما أكون أنا السبب يبقى ليا حق أتدخل...و يكون فى علمك، حتى لو مرجعتش داليا...مش هوافق أتجوزك يا سفيان...استحالة هقبل انى أخد واحد من مراته و بنته...فاهم؟!...و لو بعد ميت سنة مش هيحصل..

ألقت بكلماتها المجحفة و استدارت لتغادر، بينما هو بلغ منه الغضب مبلغه، حتى أن صدره كان يعلو و يهبط بشدة من فرط الغضب، فسار خلفها إلى أن لحق بها قبل أن تعبر البوابة للخارج، ثم جذبها من ذراعها و أدارها بمواجهته و تحدث بغضب عارم و هو يقبض على ذراعها بقسوة قائلا:

ــ انتى فاكرة نفسك ايه؟!..انتى فاكرة إنى هموت عليكى؟!..مش هقدر أعيش من غيرك؟!..تبقى غلطانة...و أنا أبقى مغفل لوطلبتك للجواز...و لو انتى بنفسك اللى جيتيلى يا ملك و قولتيلى انك موافقة تتجوزينى أنا اللى مش هقبل...انتى فاهمة...

صرخ بكلماته الأخيرة و هو يفلت ذراعها بعنف و تركها بذهولها و صعد إلى شقته و هو فى حالة يرثى لها.

لقد خسر كل شيئ..خسر زوجته..ابنته...حتى حبيبته التى كان يتحرق شوقا لِلُقياها...خسرها أيضاً..

بينما ملك رغم الصدمة و الذهول الذى خيَّم عليها، إلا أنها عادت لمنزلها و هى لا تبالى لحديثه الأخير، فالشعور بالذنب قد سيطر على جوارحها، كما أنها تعلم جيدا أنها من استفزته ليقول هذا الكلام، و لكن قرارها الذى أقرته بعدم موافقتها على الزواج منه جعلها تشعر بشيئ من الارتياح لكى تثبت لذاتها أنها ليست سببا مباشرا فى إنفصالهما و تخفف و لو قليلا من عذاب ضميرها.

بينما سفيان دلف شقته كالثور الهائج و صفع الباب خلفه بعنف، و أخذ يركل بقدمه كل ما يقابله امامه من أثاث و هو يتحدث مع نفسه بعصبية و غضب:

ــ أخرتها يا ملك!!...أخرتها بتقوليلى مش هقبلك...دا أنا كنت بموت كل يوم فى غيابك...مكنتيش بتروحي من بالى و مبتفارقيش خيالى...كدا خلاص حبنا انتهى...ماشي...انا هثبتلك و هثبت لنفسى إنك مكنتيش تستحقى ذرة حب منى...لأنك لو بتحبينى بجد مكنتيش هتقولى كدا...أيوة مكنتيش هتجرحينى و تجرحى كرامتى كدا...

تعب من شدة الانفعال فجلس بإحدى الأرائك و دفن رأسه بين كفيه و راح يفكر فى خساراته الفادحة التى داهمته بالتتابع.


و فى الجهة المقابلة بشقة ريان...

لم تستطع سلمى أن تنسى تلك الحقيقة المفجعة التى آلمتها، فمهما حاول ريان أن يُلهيها بمُزاحه و نِكاته، إلا أنها ترسم ابتسامة مزيفة على ثغرها حتى لا تُثير قلقه و حزنه فى اول صباح لهما بحياتهما الزوجية.

كانت تجلس بجواره بالاريكة يشاهدان أحد الأفلام و هى شاردة حزينة الملامح، فجذبها بقوة لتستقر على صدره، فقبض على فكها برفق و أخذ يهزها بقبضته و هو يقول بمرح:

ــ مش هنفك التكشيرة دى بقى...

بينما هى كانت تتأوه بتمثيل، فحرر فكها ثم نظرت له بتذمر قائلة:

ــ ايه يا ريان..وجعتنى..

زم شفتيه بمرح قائلا:

ــ اخس عليا...لا لا دا أنا طلعت قاسى اوى..

ضحكت بصخب و هى تضربه على صدره بضعف، فابتسم على مظهرها ثم قال بجدية:

ــ عايزك تنسى بقى...يعنى لما مامتى و مامتك و أختك ييجوا و يلاقوكى مكشرة و زعلانة كدا هيقولوا عليا ايه؟!...هيقولوا دا ضاربها علقة دى و لا إيه..

ابتسمت بوجع ثم نظرت له و هى تحاول نسيان ما حدث بالفعل و قالت برقة:

ــ حاضر يا ريان...

ــ ايه ريان دى؟!..أنا علمتك تقولى كدا بردو؟!

ضحكت ثم قالت بغنج:

ــ حاضر يا حبيبى..

مسد على شعرها بعشق بالغ و هو يشتم العبير المُسكر المُنبعث منه ثم قال بنبرة هائمة:

ــ فاكرة لما كنتى بتقوليلى يا ريو..

ــ امممم...و انت كنت بتقولى يا سمسمتى.

تنهد بعشق بالغ و شرد فى تلك الذكريات القديمة التى هاما بها معا، و لكن سرعان ما استفاق منها على رنين هاتف سلمى، فنظرت فى شاشته و قالت:

ــ دى ماما..

فتحت الخط و أجابتها، فردت عليها أمها قائلة:

ــ صباح الخير يا حبيبتى عاملين ايه.

ــ صباح النور يا ماما... احنا تمام يا حبيبتى.

ازدردت فاطمة لعابها بصعوبة و قالت بتوتر:

ــ احم...معليش يا سلمى...أنا يا حبيبتى مش هقدر أجيلك النهاردة... أختك داليا جات الصبح و معاها لوكا و منهارة و بتقولى انها هتطلق من سفيان...و مش هينفع أسيبها بالحالة دى و أجيلك...الأكل كله عندك فى التلاجة و لو احتاجتى أى حاجة تانية كلمينى و أنا هبعتلك اللى تحتاجيه.

ــ أكل ايه بس يا ماما...انتى زعلتينى علشان داليا...

تنهدت فاطمة بقلة حيلة ثم قالت بحزن:

ــ نصيبها كدا يا بنتى...أنا أصلا متوقعة ان دا يحصل من يوم ما ملك رجعت...دا معداش عليهم يوم حلو من ساعتها...يلا الحمد لله على كل حال..

ــ حبيبتى يا داليا... أنا هجيلها يا ماما أتكلم معاها شوية يمكن تهدى و نفسيتها ترتاح..

ــ لا يا حبيبتى انتى لسة عروسة و النهاردة صباحيتك...ميصحش تسيبى عريسك و تنزلي...متشيليش هم داليا... أنا معاها و ان شاء الله أزمة و هتعدى.

ــ يا رب يا ماما...خلى بالك منها و سلميلى عليها.

ــ حاضر يا حبيبتى... سلميلي على ريان.

ــ الله يسلمك يا حبيبتى مع السلامة..

أغلقت الخط ثم نظرت لريان بملامح واجمة، فقطب جبينه باستغراب متسائلا:

ــ فى ايه؟!...داليا مالها؟!

ــ اتطلقت من سفيان.

احتلت الصدمة ملامحه ثم سرعان ما تحولت للحزن و الضيق و هو يقول:

ــ لا حول و لا قوة إلا بالله...ليه كدا بس يا سفيان... الله يسامحك...مفيش فايدة فيه أبدا.

تنهدت سلمى بحزن ثم قالت:

ــ جوازهم من الأول كان غلطة يا ريان...بس... بس اتجوزوا على أساس إن ملك متوفية... يعنى أكيد لو كانوا يعرفوا ان ملك لسة عايشة مكانش دا كله حصل.

هز رأسه بموافقة مردفا:

ــ فعلا معاكى حق...الله يسامحه عمى اسماعيل هو السبب الرئيسى فى كل البلاوى دى..

أطرقت سلمى رأسها بحزن و شردت فى حال شقيقتها، فنهض ريان من جانبها و لم تشعر بنفسها إلا و هو يجذبها من ذراعها لتقف معه باستسلام ثم أحاط وجهها بين كفيه قائلا بهمس مثير:

ــ بقولك ايه...سيبك دلوقتي من داليا و سفيان و خلينا هنا...نفسى نعوض سنين الحرمان اللى فاتت دى يا سمسمتى..

عندما فهمت مغذى كلامه توترت أوداجها و تعرق جبينها، و بدأت تداهمها ذكرى الليلة الماضية و معاناتها مع عقلها لتخمد تلك المشاعر السلبية التى هاجمتها و هى بين يديه، لقد أصبح امر اجتماعهما بمثابة مأساة بالنسبة لها، فأخذت تبحث عن الحجج لكى تتهرب منه، و ازدردت لعابها بتوتر قائلة:

ــ احم...الولاد...الولاد وحشونى أوى...أنا...أنا هتصل بماما فاطمة تبعتهم..

عبست ملامحه بضيق و لكنه حاول إخفاء ضيقه البالغ من تهربها، و أومأ برأسه دون ان ينبس ببنت شفه، و تركها و دخل شرفة غرفته .

استند بذراعيه إلى سور الشرفة و شرد فى تلك المعضلة التى لم يحسب لها حساب، فكر أن يعرضها على طبيب نفسى، ربما يصف لها من الادوية ما يساعدها على تخطى هذه الهواجس، و لكن أكثر ما يخشاه أن تتذكر تفاصيل الجريمة و تتعقد الأمور أكثر خاصة و أنه السبب الرئيسي فيما حدث لها، و فى خضم شروده لمح سيدة تنزل من سيارة أجرة أمام بوابة المنزل، أخذ يدقق النظر فصعق عندما تبين له أنها سيرين، أخذ يتمتم بخفوت و بحنق:

"انتى لسة ليكى عين تيجيلى و تقابلينى يا مجرمة...يا ترى جاية ليه؟!..و يوم صباحيتى!!.. ربنا يستر".

ركض إلى الداخل سريعا و بحث عن سلمى ليجدها فى المطبخ، فجرها خلفه الى غرفة النوم و قال لها بجدية:

ــ سلمى..سيرين طليقتى جاية دلوقتي و...

قاطعته قائلة باشفاق:

ــ أكيد جاية تشوف الولاد...حرام أكيد وحشوها.

لوى فمه بتهكم قائلا:

ــ انتى طيبة اوى يا سلمى..أشك انها جاية تشوفهم...المهم عايزك انتى اللى تفتحيلها الباب..

طالعته باستغراب نوعا ما ثم اومات باستسلام قائلة:

ــ تمام..مفيش مشكلة..

تحركت لتلتقط اسدال الصلاة و همت لترتديه، فقبض ريان على كفها يقيدها قائلا:

ــ انتى بتعملى ايه؟!

اجابته ببرائة:

ــ هلبس الاسدال...مش معقول يعنى هقابلها بقميص نوم..

القى بالاسدال على الفراش ثم قام بنزع الروب العلوى تحت دهشتها البالغة قائلا:

ــ لا أنا عايزك تقابليها كدا...بالقميض و من غير الروب كمان..

نظرت له بجحوظ قائلة:

ــ نعم!!..طاب ليه يعنى...لا لا لا...انا اتكسف أقابل حد كدا حتى لو ست زييى.

قام بنزع الـ (تى شيرت) و بقى بملابسه الداخلية، فصاحت به سلمى قائلة باستنكار:

ــ انت بتعمل ايه!!..انت كمان هتقابلها كدا؟!

ــ أيوة

قطبت جبينها باستنكار قائلة:

ــ انت عايز توصل لإيه بالظبط يا ريان؟!

ــ عايز أحرق دمها...عايزها تحس إنك أجمل و أحلى منها و إن احنا مع بعض فى قمة سعادتنا.

ضيقت جفنيها باستغراب قائلة:

ــ ياااه للدرجادي بتكرهها..المسألة مش مسألة استهتار و اهمال منها و بس....الموضوع شكله أكبر من كدا بكتير.

توترت أوداجه و تهرب بعينيه منها ثم قال بارتباك:

ــ لا لا مش زى ما انتى فاكرة...هى..احم كل الحكاية إنها كانت بتغير منك زى ما تكون كانت ملاحظة إنى بحبك، و بصراحة كدا هى مش بتحبك، فأنا عايز اوريها إنك تستحقى تكونى مراتى و أعرفها قيمتك عندى قد ايه...

هزت رأسها بعدم اقتناع فجذبها من كفها و خرجا من الغرفة و هو يقول:

ــ تعالى نقعد برا فى الصالة...هى أكيد عدت على ماما الأول قبل ما تطلع هنا...

و بمجرد أن جلسا بالأريكة دق جرس الباب، فأماء برأسه على الباب، و سارت باتجاهه و هى تشعر بخجل شديد و فتحته، فتفاجأت بها سيرين بطلتها المثيرة، الأمر الذى أشعل لهيب الغيرة بسريرتها و راحت تنظر لها من أعلى لأسفل بازدراء و قالت أخيرا بميوعة:

ــ هاى..

ردت سلمى بجمود:

ــ أهلا..

صاح ريان بصوت مرتفع قائلا:

ــ مين يا حبيبتى...

اغتاظت سيرين أكثر و ردت هى قائلة:

ــ دى أنا يا ريان...سيرين.

نهض ليسير إليهما و تصنع المفاجأة ثم احاط كتف سلمى العارى بتملك و هو ينظر لها ببغص قائلا ببرود:

ــ ايوة...أى خدمة؟!

أجابته ببرود ظاهرى خلاف ما تبطن من غل و غضب:

ــ هتسيبنى واقفة على الباب كدا؟!...دا مهما كان أنا أم ولادك بردو.

اصتك فكيه بغضب مستعر و لكنه حاول السيطرة على موجة غضبه و أفسح لها المجال لتدخل و هو مازال ملتصقا بسلمى، و دلفوا إلى غرفة الصالون، و أثناء سيرها ظلت تدقق فى كل أركان الشقة و ما إن جلست بمقعدها حتى قالت بنبرة ساخرة:

ــ دا انت غيرت كل حاجة فى الشقة حتى ألوان الحيطان و ورق الحائط و الديكور...حاسة انها شقة جديدة غير شقتى...

قاطعها ريان قائلا بحدة:

ــ و مين قال انها كانت شقتك...انتى عمر ما كان ليكى انتماء للشقة دى و لا عمرك حبيتيها، و ما اظنش إنك عيشتى فيها كتير....دى فى الأساس شقتى أنا و سلمى من قبل ما أسافر ليفربول و أشوفك و أرتبط بيكى.

أثارت تلك الكلمات نيران الغيرة التى لطالما حاولت اخمادها إلى أن تُنهى ما قد أتت لأجله، و لكنها تظاهرت باللامبالاة ثم قالت:

ــ ايه يا عروسة!!..مش هتضايفينى و لا ايه؟!

همت سلمى بالنهوض إلا أن ريان قيد يدها ثم نظر لـ سيرين و قال بملامح جامدة:

ــ جاية ليه يا سيرين!!..لو كنتى جاية تشوفي الولاد و لو إنى أشك فهتلاقيهم تحت مع ماما، انزلى اقعدى معاهم براحتك.

زمت شفتيها بحزن مصطنع و قالت بتمثيل:

ــ أنا قولت أجى أباركلكم الأول قبل ما أقعد مع الولاد.

زفر ريان بعنف و هو يشيح بوجهه للجهة الأخرى و شعرت سلمى بتوتر الأجواء، ففضلت أن تحضر مشروبا تقدمه لها لعل الأمور تتحسن قليلا فاستأذنت منهما و لم يمانع ريان تلك المرة، فهو يريد أن ينفرد بـ سيرين حتى يوبخها على قدومها إليه بكامل إرادتها.

و ما إن خرجت سلمى من الغرفة حتى هب ريان واقفا و راح ينهرها بخفوت قائلا:

ــ انتى ايه!!..بعد كل اللى انتى عملتييه فيها انتى و ابوكى لسة جايلك عين تيجى هنا برجليكى...أما إنك انسانة بجحة و ما عندكيش دم.

نهضت و وقفت قبالته و قالت بنبرة مترجية:

ــ ريان أنا لسة بحبك و متنساش إن العدة لسة مخلصتش و إن انا لسة مراتك.

نظر لها بازدراء قائلا بكره:

ــ مش بقولك معندكيش دم...ابعدى عن طريقى بدل ما ارتكب فيكى جناية...أنا عملت بأصلى و مرضيتش أجيب سيرتك فى القضية علشان خاطر الولاد...يا ريت تقدرى دا و تحلى عنى.

ارتمت على صدره و تشبثت بعنقه و هى تتلون كالحرباء و تحدثه باستجداء تحاول إثارة شفقته و هى تقول:

ــ علشان خاطري يا ريان...و حياة الأيام الجميلة اللى عيشناها سوا...ارجعلى و أنا عندى استعداد أصلح كل اللى عملته غلط... انا ندمانة يا حبيبى.

زجها بعيدا عنه و هو يصرخ بصوت مكتوم حتى لا تسمعه سلمى:

ــ هو اللى انتى عملتيه دا ممكن يتصلح؟!...

ــ أنا هعتذرلها و هطلب منها السماح.

اصتك أسنانه بغضب بالغ و هب بها بانفعال:

ــ انتى مجنونة!!.. حسك عينك تتكلمى معاها فى حاجة...أنا أصلا معرفتهاش ان انتى و ابوكى اللى عملتوا فيها كدا...دى حتى من كتر ما كانت الجريمة بشعة، مخها رفض يستوعب اللى حصلها و مش فاكرة أى حاجة و لحد دلوقتي و هى فاكرة إن دا كله حصلها بسبب حادثة عربية.

جحظت عينا سيرين بدهشة، و انفرجت أساريرها بسعادة غامرة سرعان ما أخفتها، فقد قدم لها ريان بحسن نية وسيلة تساعدها على ابتزازه بكل أريحية، لم يتوقع أن تكون حية خبيثة إلى هذا الحد و تضمر كل هذا الكره لهما و تريد تدميرهما بأى وسيلة.

تظاهرت بالتأثر و الإشفاق عليها ثم قالت:

ــ طيب طالما مش عارفة و مش فاكرة تعالى ننسى اللى فات...

عادت لتتعلق بعنقه مرة أخرى و أردفت بغنج و هى تكاد تلتهم ما يظهر من جزعه العلوى بعينيها:

ــ انت وحشتنى أوى... حضنك وحشني اوى يا حبيب قلبى و عمرى...نسيت ليالينا الحلوة..

بينما ريان كان متصلب الجسد لا يتجاوب معها و لكنه أيضا لم يدفعها، فاستفاق أخيرا على صوت ارتطام الكؤوس بالأرضية الرخامية، و نظر بهلع إلى مصدر الصوت، فوجد سلمى تقف عند باب الغرفة تطالعهما بجحوظ و ملامح مشدوهة، فدفع سيرين بعيدا بعنف و ركض إليها و علامات الذعر و الندم بادية على ملامحه و أمسكها من كتفيها و هو يقول برجاء و اعتذار:

ــ سلمى حبيبتى... متفهميش غلط... أنا...

بتر عبارته عندما نفضت يديه عن كتفيها و هى تناظره باحتقار، ثم تركته بصدمته و ركضت إلى غرفة الصغار.

بينما الحرباء تراقبهما بسعادة غامرة، و ابتسامة شامتة لاحت على ثغرها، فها هى قد حققت تقدما فى خطتها التى رسمتها برأس الأفعى خاصتها.


يتبع....

الفصل العشرين

مازلنا بشقة ريان....

حيث يقف بذهوله بعدما ألقت عليه سلمى نظرة احتقار أفحمته و ذهبت، و ظل ينظر بأثرها الخالى بصدمة، يفكر فى أى وقتٍ أتت، و أى كلامٍ سمعت، و موقفها ذلك يرجع لِما سمعته، أم لما رأته بعينيها، أم للأمرين معا.

بعد برهة من الصدمة و التفكير، استدار لرأس الأفعى التى كانت تقف بغرور و ثقة و كأنها تخبره أنها قادرة على تخريب حياته التى يظن أنها ستكون أجمل و أسعد من حياته معها.

جذبها بعنف من شعرها المنسدل على ظهرها و هو يناظرها بشر قائلا بصوت حاد و نبرة عنيفة:

ــ مبسوطة يا مجرمة!!... انتى ربنا باعتك ليا لعنة...نفسى أعرف ايه الذنب اللى عملته و بتعاقب عليه بيكى!!

بينما هى تتأوه و تتلوى تحت يديه إلى أن استاطعت ابعاده عنها، ثم قالت بنبرة يملؤها الغل و الكره:

ــ خايف أوى على مشاعرها!!...عمرى ما حسيت انك بتحبنى و لو واحد فى المية من حبك ليها...انت ملكى أنا يا ريان..بتاعى لوحدى...انت فاهم!!

قبض على فكها بقسوة و ضغط عليه بغل و قال لها من بين أسنانه:

ــ انتى فاكرانى العربية اللى بابى جابهالك...انتى بتحلمى يا روح بابى...و غورى فى ستين داهية من هنا بدل ما أموتك بايدى.

أفلت فكها بعنف و هو يهدر بكلماته الأخيرة بغضب جامح و نبرة حادة اهتزت لها جدران الشقة.

بينما الأخرى ابتلعت ألم فكيها و نظرت له بغل، ثم قالت بنبرة باردة:

ــ مش قبل ما اخد تمن سكوتى..

نظر لها بجحوظ قائلا بترقب:

ــ سكوت ايه اللى انتى بتتكلمى عنه؟!

رمقته بنظرة متحدية قائلة:

ــ عشر تلاف جنيه تحولهم على حسابى حالا و إلا هقولها على كل حاجة تخص الحادثة و هقولها كمان إنى عملت كدا علشان نتجوز.

زادت وتيرة تنفسه و أخذ يهز رأسه بعدم تصديق، فقد جعلته يشعر بمدى حماقته أن أخبرها بذلك الأمر، و جعلته أيضا يدرك مدى دنائتها و خستها أن استغلت ذلك السر الذى أخفاه عنها كوسيلة لإبتزازه للحصول على أموال.

قال بهمس قاتل و هو لا يصدق ما وصل إليه تفكيرها الدنيئ:

ــ انتى وصلت بيكى الندالة و الحقارة للدرجة دى!!..انتى كل لحظة بتثبيتيلى إنك أسوأ قرار أخدته فى حياتى....انتى الخطيئة اللى هفضل أندم عليها عمرى كله و مش هسامح نفسى عليها أبدا.

طالعته بلامبالاة و كأن كلماته لم تؤثر بها و لم تُحرك بها ساكنا ثم قالت:

ــ الكلام دا كله مياكلش معايا...بابى اتحجز على أملاكه كلها، و الفلوس اللى فى حسابى كل يوم بتقل.....

و سرعان ما انقلبت ملامحها للأسى و المسكنة ثم تقدمت منه و استندت برأسها على كتفه و هى تقول بأسى اظهرته بنبرتها اللعوب:

ــ يعنى يرضيك مرات ريان إبراهيم البيزنس مان المحترم، تستلف من دا و دا، و تمد ايديها للناس..

أبعد رأسها عنه و هو يناظرها باحتقار قائلا:

ــ انا ماليش أى صلة بيكى و ميهمنيش اذا كنتى تستلفى و لا تشحتى حتى...دا اقل عقاب ممكن تواجهيه بعد بلاويكى السودا انتى و أبوكى...و اطلعى برا بالذوق بدل ما أجرجرك من شعرك اللى انتى فرحانة بيه دا و أرميكى على السلالم.

انتفخت أوداجها و احمر وجهها من الغضب ثم قالت بجمود:

ــ تمام... متبقاش تيجى تلومنى و تعيط لما العروسة تعرف الحقيقة....سلام.

استدارت لتغادر فجذبها من ذراعها بقسوة آلمتها و أخذ يهزها بعنف و هو يصيح بها بصوت منخفض نوعا ما:

ــ استنى عندك...هتفضلى طول عمرك حقيرة و أنانية..

ثم نفض ذراعها و قال بمقت و احتقار:

ــ استنينى هنا متتحركيش من مكانك.

تركها و هى تنظر فى أثره بابتسامة مغترة، ثم ذهب لغرفته و التقط هاتفه المحمول و عاد لها مرة أخرى ثم قال:

ــ ملينى رقم حسابك...

أومأت له ثم استخرجت بطاقتها الإئتمانية من حقيبة يدها و أعطتها له، ثم قام بتحويل المبلغ لحسابها عن طريق حسابه على إحدى مواقع تبادل الأموال عبر الانترنت، و أعاد لها البطاقة مرة أخرى، و عندما انتهى ناظرها باحتقار و هو يقول:

ــ حولتلك عشر تلاف...غورى بقى من هنا و مشوفش وشك تانى...و متحاوليش تكررى اللى انتى بتعمليه دا تانى...المرة دى كنت كريم معاكى و نفذتلك اللى انتى عايزاه، انما قسما بالله لو اتكررت لتشوفى أيام جحيم و هندمك على اللحظة اللى فكرتى تبتزينى... فيها انتى فاهمة؟!

أثار تهديده الصريح خوفها و قلقها نوعا ما و لكنها تظاهرت بعدم الاكتراث ثم طالعته بثقة و هى تقول:

ــ اوكى...هحاول.

جحظت عيناه من غاية وضاعتها و لم يشعر بحاله إلا و هو يقبض على ذراعها و يجرها خلفه إلى باب الشقة و هى تصرخ و تتأوه من طريقته العنيفة إلى أن فتح الباب و ألقى بها خارج الشقة و هو يصرخ بها:

ــ انتى انسانة حقيرة و ميشرفنيش تقعدى فى شقتى لحظة واحدة...برا و مشوفش وشك هنا تانى..

كادت أن ترد عليه إلا انه سبقها و صفع الباب بقوة فى وجهها، و صدره يعلو و يهبط من فرط الانفعال، فاستند على الباب من الداخل ينظم أنفاسه المتلاحقة قليلا قبل أن يواجه زوجته الجريحة.


بينما على الجهة الأخرى

تجلس سلمى بمنتصف الفراش تضم ركبتيها إلى صدرها مستندة بذقنها عليهما، و مشهد احتضانه لغريمتها لا يفارق عيناها، تكاد تفتك بها الوساوس و الهواجس، تفكر ألهذا الحد تأثيرها عليه لا يُقاوم!!.. أبهذه السرعة اشتاق للمسها!!.. أم أنه لم يجد لديها ما كان معتادا عليه مع غريمتها؟!... تُرى هل تهربها منه جعله يحن لطليقته...لقد أعياها التفكير لا تدرى أتلومه أم تلوم حالها لانها لم تستطع جذبه لها و الحفاظ على علاقة حب متبادلة .

و فى خضم شرودها انفتح الباب و دلف ريان بخطى متمهلة و علامات الخذى و الندم بادية على وجهه، بينما هى لم تنظر إليه، بل أشاحت بوجهها بعيدا عنه.

تقدم منها حتى جلس بيمينها، و فك تشابك يديها مع مقاومة منها، إلى أن استسلمت له تحت إصراره، ثم أخذ كفها الأيمن و لثَّمه بعشق جارف و هى لازالت مشيحة بوجهها للجهة الأخرى.

رغم شعور القلق الذى اجتاحه خشية أن تكون قد علمت الحقيقة، إلا أنه افترض عدم سماعها و تصرف معها على هذا الأساس، إلى أن يتبين ردود أفعالها.

اقترب منها أكثر حتى التصق بها ثم أحاط كتفيها بذراعه الأيسر و قبض على فكيها برفق ليدير وجهها ناحيته، فنظرت له بعينين دامعتين ترسل له فى نظراتها الكثير و الكثير من رسائل العتاب، بينما هو أخذ نفسا عميقا ثم زفره على مهل قائلا بأسف:

ــ سلمى حبيبتى...اللى انتى شوفتيه دا مالوش أى معنى من اللى جيه فى دماغك...صدقينى هى اللى اترمت عليا و اتعلقت فى رقبتى و أنا كنت ساكت علشان كنت عايزها تجيب آخرها و بعدين كنت هعرفها حدودها و اطردها، علشان متنطش لينا كل شوية...حبيبتى مفيش فى قلبى غيرك و ميملاش عينى غيرك انتى و بس... حتى و هى على ذمتى مكنتش عارف أحبها، لأن انتى كنتى واخدة قلبى كله ليكى...مصدقانى يا سلمى؟!

اهتزت العبرات بمقلتيها و لكنها لم تستطع منعها أكثر من ذلك و انهمرت و هى تشهق و تأن بألم، فأشفق عليها للغاية و جذبها إلى أحضانه و اعتصرها بين ذراعيه برفق و هو يربت على ظهرها بحنو قائلا بندم:

ــ انا آسف يا حبيبتى على كل دمعة نزلت من عيونك بسببى...كفاية عليكى حزن و دموع بقى....خلى عندك ثقة فى حبى ليكى و متسمحيش لأى حاجة تهز الثقة دى...أنا بحبك يا سلمى و نفسى أعوضك عن كل حاجة وحشة شوفتيها طول السنين اللى فاتت دى.

بينما هى كانت تبكى على صدره، لا تدرى أتبكى من شعور الغيرة المنضرم بقلبها، أم من شعورها بالتقصير معه و الخوف من المستقبل إن استمرت على هذا المنوال، و لكنها فى الأخير بادلته العناق و شددت من قبضتها على عنقه و كأنها تخبره بأنها قد سامحته، فقد لمست كلماته أوتار قلبها حتى أحست بالرضا التام و قبلت اعتذاره.

أخذت تهمس من بين شهقاتها الخافتة:

ــ أنا كمان...بحبك يا ريان....سامحنى...قلبى معادش متحمل أشوفك مع واحدة غيرى حتى لو كانت لسة مراتك.....أنا تعبت..تعبت كتير أوى فى بعدك...و نفسى أرتاح بقى.

ابتسم بارتياح عندما استنبط من كلماتها أنها فقط غارت من مشهد احتضان سيرين له و شدد من قبضته على خصرها و هو يقول ببسمة هائمة و نبرة شغوف:

ــ طاوعينى انتى بس و أنا هنسيكى كل لحظة حزن مريتى بيها....دا أنا بقالى أكتر من خمس سنين مستنى اللحظة اللى هتكونى فيها بين ايديا.

أبعدت نفسها عنه و نظرت له بأسى قائلة بنبرة باكية:

ــ صدقنى غصب عنى يا ريان....أنا مش عارفة ايه الاحساس الوحش اللى بحس بيه دا كل ما تقرب منى...نفسى أفهم ايه السبب...مش عارفة احنا محسودين و لا ايه..

رفع حاجبيه مبتسما باندهاش:

ــ محسودين!!...تصدقى ممكن؟!...ليه لأ..

اومأت بايجاب مردفة ببراءة:

ــ اه محدش بيسيب حد فى حاله.

انفلتت منه ضحكة مدوية على إثر تفكيرها الأبله، ثم نهض و جذبها من كفها إلى خارج الغرفة و هو يقول:

ــ طاب تعالى بقى نقعد برا القوضة الشوم دى...يعنى يوم ما تدخليها، تدخليها علشان تعيطى.

ابتسمت و هى تهز رأسها بقلة حيلة و سارت معه باستسلام و قد عزمت على عدم التهرب منه مرة أخرى، فهى تريد الحفاظ على مقدار حبه الوفير لها، قبل أن تسرقه تلك الحرباء بدلالها و غنجها مرة أخرى.


فى صباح يوم جديد يشرق بشمسه الدافئة على الجميع.

توجه سفيان لأحد المحامين و قام بإنهاء إجراءات الطلاق بطريقة رسمية ثم عاد إلى محل الاقمشة يتابع العمل به، بعد دقائق جاءه اتصال من عمه اسماعيل، ففتح الخط مجيبا بترقب:

ــ ألو..ازيك يا عمى عامل ايه.

ــ أنا بخير يابنى الحمد لله.

ــ الايراد هبعتهولك النهاردة مع واحد من العمال ان شاء الله.

ــ براحتك يا سفيان، أنا أصلا مش عايزك عشان الايراد....أنا كنت عايزك فى موضوع تانى.

ــ خير يا عمى أؤمرنى.

ــ الأمر لله وحده....عايزك تعدى عليا دلوقتى علشان تاخد ملك و تقدملها فى كلية التربية فى الجامعة....انا خايف تروح لواحدها و هى متعرفش حاجة هنا، و من ساعة ما صحيت و أنا بتحايل عليها تكلمك علشان تروح معاها و هى مش راضية أبدا..

ــ و هى عارفة دلوقتي إنى هوديها؟!

ــ لا...ما أنا خليتها بتلبس و قومت مكلمك...تعالى بسرعة بقى قبل ما تخرج.

توترت أوداجه و ابتلع ريقه بصعوبة قائلا باستسلام:

ــ احم...حاضر يا عمى...خمس دقايق و هتلاقينى عندك..

أغلق الخط ثم زفر بعنف من فرط التوتر و الضيق، فقد وضعه عمه بموقف صعب و هو أكثر ما يخشاه أن يسقط قناع الصرامة و البرود الذى ينوى استخدامه معها الأيام المقبلة تأديبا لها على رفضها و طريقتها الفجة معه فى الحديث يوم أمس، و لكنه مضطر لتنفيذ رغبة عمه، فذلك هو الصواب.

بعد عشرة دقائق من السير على الأقدام كان سفيان منتظرا بشقة عمه، و بعد دقائق قليلة خرجت ملك من غرفتها بكامل أناقتها فتفاحئت به يجلس بالصالة، تجاهلته بالكلية و وجهت حديثها لأبيها قائلة:

ــ أنا ماشية يا بابا...مش عايز حاجة؟!

رد عليها بتوجس:

ــ سلامتك يا حبيبتى....استنى سفيان جاى معاكى..

نهض سفيان من مقعده تحت صدمتها و ضيقها البالغ و وقف قبالتها قائلا بملامح جامدة:

ــ يلا علشان متأخرش.

أجابته ببرود:

ــ متتعبش نفسك أنا هروح لوحدى.

ــ و تروحى لوحدك ليه طالما فى حد ممكن يوديكى و يساعدك و يخلصلك أمورك؟!

ــ شكرا...أنا مش صغيرة و اللى بيسأل ميتوهش.

انتفخت أوداجه من فرط الغضب و صاح بها بحدة:

ــ اوعى تكونى فاكرة إنى جاى معاكى عشان سواد عيونك...أنا لولا عمى كلمنى مكنتش هاجى و لا هعبرك.

نظرت له بجحوظ، فلاح أمامه جمال عينيها و لونهما و سحرها الخلاب الذى يخطف أنفاسه و يؤثر عليه، و شرد بهما بتأمل متناسيا صياحه و ضيقه منها قبل لحظات.

تأمله الشغوف لعينيها أربكها للغاية، فأخفضت جفنيها و أطرقت رأسها بخجل، فتنحنح سفيان ثم قال بجدية:

ــ اخلصى علشان منتأخرش.

زفرت بعنف و هى تتمتم بحنق ثم سبقته إلى الخارج باستسلام و قلة حيلة..

نظر لعمه الذى كان يراقب تصرفاتهم الغريبة و التى لم يعهدها بهما من قبل ثم قال بوجوم:

ــ عن إذنك يا عمى.

أجابه بملامح مشدوهة:

ــ اتفضل يبنى.

هبط سفيان إلى الطابق الأرضى حيث تنتظره ملك و هى تستشيط غضبا و حنقا و تهز قدميها بتوتر شديد، مر من جانبها و قال لها بأمر دون أن ينظر لها:

ــ تعالى ورايا.

تسمرت قدميها بصدمة من نبرته الآمرة و لم تتحرك قيد أنملة، فعاد ينظر لها باستنكار قائلا بجمود:

ــ يلا يا آنسة ملك...هنتأخر.

طالعته بتحدى و لم تتحرك، فزفر بحنق و جذبها من معصمها و سحبها خلفه إلى أن خرجا من المنزل و وقفا أمام البوابة، فأفلت معصمها، بينما هى تنظر له بعينين يتطاير منهما الشرر قائلة بغضب:

ــ انت ايدك طولت اوى على فكرة، و أنا مش هسمحلك تلمسنى تانى و....

لم تكد تكمل عبارتها حتى تفاجئت بـ داليا تقف أمامهما و تنظر لهما بغيرة، راسمة ابتسامة مصطنعة على ثغرها فيها من الغيرة و الحنق ما فيها، تطالعهما بنظرة شمولية و كأنها تراهما لأول مرة ثم قالت بنبرة ساخرة:

ــ امممم....لايقين على بعض أوى...

حولت ملامحها للعبوس بغتة و نظرت لـ سفيان بكره و قالت بنبرة صارمة حادة:

ــ بالسرعة دى روحتلها؟!...ما صدقت خلصت منى و روحتلها جرى من تانى يوم؟!...يااااه!!...للدرجادى كنت تقيلة عليك.

ردت عليها ملك باندفاع لتبرر موقفها:

ــ داليا انتى فاهمة غلط...دا بابا..

قاطعها سفيان و هو يصرخ بها:

ــ اسكتى انتى...احنا مش مضطرين نبررلها أى حاجة.

اغتاظت داليا أكثر من رده الجارح و لم تنطق من فرط الصدمة بينما سفيان أردف بنبرة جافة:

ــ عايزة ايه تانى يا داليا؟!...أنا لآخر لحظة فضلت متمسك بيكى و شاريكى...دوست على قلبى و وعدتك إنى هكمل معاكى و مش هتجوز غيرك و مع ذلك انتى اللى أصريتى على الطلاق...كنتى مستنية منى ايه بعد ما أهنتينى و قولتيلى بكرهك و قولتى عليا انى انسان مريض...كنتى فاكرة إنى هقولك لا معليش خليكى معايا؟!...خلاص كدا خلصت و مترجعيش تلوميني تانى لأنى حاولت بكل الطرق إنى أحافظ على علاقتنا...مش ذنبى إنك مش قادرة تتحملى وضعى اللى انتى عارفاه و قبلتيه من أكتر من خمس سنين.

ــ انت مصر تعايرنى بطلبى انك تتجوزنى!!...فعلا دى غلطة هفضل أحاسب نفسى عليها العمر كله...

قالتها بكره ثم ألقت عليهما نظرة احتقار قائلة:

ــ اياكشى تكونى مبسوطة يا آنسة ملك إنك أخيرا هتتجوزى حب العمر.

استدارت لتغادر بينما ملك همت لتسير خلفها لتتحدث و تعتذر لها، إلا أن يد سفيان القابضة على رسغها قيدتها فنظرت له تارة و ليده تارة فقال قبل أن تتحدث:

ــ انتى رايحة فين؟!..قولتلك انتى مالكيش دخل فى طلاقنا...انتى ليه مصممة تحملى نفسك ذنب انتى معملتهوش؟!

نزعت رسغها من قبضته بعنف و قالت له بعينين دامعتين:

ــ أنا بكرهك...بكرهك.

أشاح بوجهه للجهة الأخرى و اعتصر جفنيه بألم جم، ثم قال بصوت متحشرج دون أن ينظر لها:

ــ استنينى هنا...هروح أجيب تاكسى و آجى.

تركها و سار بخطى متعجلة إلى الشارع الرئيسى، بينما هى ظلت تنظر بأثره بإشفاق عليه، فرغم قسوة ما يحدث معهما و بسببها، إلا أنها تشعر بحيرته و لوعته و تتمنى لو كان بمقدورها محو تلك العراقل و المشكلات و العيش فى كنفه لآخر العمر، و لكن ليس كل يتمناه المرء يناله.

مرت الأيام ثقيلة على سفيان و ملك، فكل منهما التزم العزلة، فقد أصبحا كما لو كانا غرباء، ملك خلَّفت فى قلبه جرحا عميقا بقسوتها معه و إلقاء اللوم عليه فيما وصل إليه مع داليا، و تجنب التعامل معه إلى أقصى حد.

بينما ملك تَملّك منها الشعور بالذنب، فكانت نظرات داليا لها كلما تقابلها بمثابة جمرات ملتهبة تقذفها بقلبها فتشعل به الشعور بالذنب، فكم حاولت تجاهل هذا الشعور و لكن نظراتها كفيلة بتجديد تلك النيران الحارقة، فتجنبت التعامل مع سفيان و كأنها تعاقب ذاتها على هذا الذنب.


بينما ريان كان صبورا إلى أقصى حد مع سلمى، و مع تفهمه لحالتها النفسية و مساعدته لها على تخطى تلك المشاعر السلبية، بدأت تتعافى رويدا رويدا، و استقرت الحياة بينهما إلى حد كبير.


عندما انتهى شهر العسل الخاص بريان و سلمى، اجتمع مع سفيان بشقته فى أمر هام، فأدار ريان دفة الحديث قائلا بجدية:

ــ سفيان أنا عايز أفتح شركة هنا فى المنصورة...انت عارف ان شركات مجدى اتحجز عليها و أنا كدا كدا كنت ناوى أأسس شركة ليا و اهو آن الأوان.

ــ عين العقل يا ريان...و أنا مستعد أساعدك فى التمويل.

ــ أنا معايا مبلغ كويس هبدأ بيه، بس عايزك معايا فى الإدارة.

قطب سفيان جبينه باستغراب قائلا:

ــ أنا معرفش حاجة فى شغل الشركات...ما انت عارف.

ــ بالعكس انت أكتر واحد هتقدر تساعدنى...بص يا سفيان..انا هفتح شركة و هشغلها فى توزيع الملابس الجاهزة و هفتح جنبها مصنع ملابس هو اللى هيشغل الشركة، و انت بخبرتك فى تجارة القماش هتقدر تجيبلنا الخامات اللى هنشتغل بيها و هتكون انت مدير المصنع و عضو مجلس ادارة الشركة، و ليا أصحاب خبرة فى المحاسبة و القانون كانوا شغالين معايا فى مجموعة مجدى، هقنعهم يشتغلوا معايا فى الشركة الجديدة و واحدة واحدة هنكبرها و يمكن فى يوم من الأيام تكون مجموعة شركات و ليها فروع فى كل محافظة...ها ايه رأيك؟!

سكت سفيان لبرهة يفكر و يدير الأمر برأسه إلى أن قال بتساؤل:

ــ بس انت كدا لازمك موظفين فى مجالات كتير و التكلفة هتبقى عالية علينا.

أجابه بحماس:

ــ أنا عندى فكرة كويسة هتوفر معانا شوية.

ــ فكرة ايه؟!

ــ ايه رأيك نشغل معانا ملك كمترجمة للعقود الأجنبية، و داليا هعلمها شغل المحاسبة و تشتغل فى قسم الحسابات و فى اتنين صحابى أساتذة فى إدارة الأعمال هدخلهم بأسهم فى الشركة و فى نفس الوقت هيشغلوها بخبرتهم و هيساعدوا ملك و داليا فى شغلهم...

نظر له سفيان باستنكار قائلا:

ــ انت عايز تشغل ملك و داليا مع بعض؟!

ــ ما احنا لازم نركن خلافتنا الشخصية دى على جنب، و الشركة هتعود على الكل بالخير.

سكت سفيان مليا يفكر بحيرة ثم قال بجدية:

ــ ماشى يا ريان على بركة الله.

ابتسم ريان بارتياح ثم قال بسعادة:

ــ تمام...بكرة ان شاء الله هجمع العيلتين و نتفق على التفاصيل و هدخل عمى اسماعيل شريك معانا.

أومأ سفيان بموافقة قائلا:

ــ و أنا معاك فى أى حاجة يا حبيبى.


مرت ستة أشهر استطاع خلالها ريان تأسيس الشركة و تشييد المصنع التابع لها، و كانت داليا قد انتهت من الدورة المكثفة التى ألحقها بها ريان، كما أن ملك لم تتوانى عن مساعدتهم بكل ما لديها من خبرة فى مجال الترجمة..

بالنسبة لـ داليا منذ طلاقها من سفيان و هى تنتظر فى كل يوم يمر أن تسمع خبر زواجه بـ ملك و لكن لم يحدث ذلك، بل على العكس تماما، فقد لاحظت ابتعادهما و التعامل بينهما فى أضيق الحدود، الأمر الذى جعلها تعيد حساباتها فى علاقتها المتوترة مع ملك، فقد أحست أنها قد بالغت فى إلقاء اللوم عليها خاصة بعدما أثبتت ملك لها حسن نيتها فى عدم الزواج من سفيان، فأقرت فى نفسها ضرورة الاعتذار لها على ما صدر منها من كلمات جائرة و نظرات جارحة.

جاء اليوم المنتظر ألا و هو يوم افتتاح الشركة، كان أفراد الثلاث عائلات مجتمعين فى الطابق السفلى من المبنى مع الموظفين الجدد و أبرزهم الأستاذ عماد رئيس قسم الحسابات و الذى كان يساعد داليا فى تعلم كل ما يخص تلك الوظيفة، و الأستاذ قاسم رئيس قسم المبيعات و التعاقدات و الذى عمل مع ملك فى الترجمة.

كانت الأجواء تملأها البهجة و السعادة و الجميع يستبشر بالخير لهذه الشركة.

سارت داليا إلى حيث تقف ملك حتى وقفت قبالتها و قالت بحرج:

ــ ملك أنا كنت عايزة أتكلم معاكى شوية.

أومأت بموافقة قائلة:

ــ تمام سمعاكى.

اردفت داليا بنبرة اعتذار ممزوجة بالندم:

ــ ملك أنا عايزة أعتذرلك عن كل الكلام الوحش اللى قولتهولك قبل كدا، و عايزاكى بس تعذرينى لأنى كنت مجروحة أوى و كنت فاكرة إن انتى السبب الرئيسى فى طلاقى من سفيان، بس انتى أثبتيلى إنك مالكيش أى ذنب فى دا كله...أنا آسفة أنا جرحتك بكلامى بس أنا ندمت و عايزاكى تسامحينى و نرجع أصحاب زى الأول.

ابتسمت ملك بسعادة بالغة ثم احتضنتها بحب، فبادلتها داليا العناق و قد بدأت عيناها تتلألأ بعبرات الندم، ابتعدت ملك قليلا ثم قالت بابتسامة:

ــ انتى متعرفيش أنا مبسوطة قد ايه بكلامك دا...انتى شيلتى من على كتفى هم كبير أوى.

ابتسمت داليا بحب قائلة:

ــ لا يا حبيبتى أنا اللى كنت غلطانة...متحمليش نفسك فوق طاقتها...الـ ٦ شهور اللى فاتوا دول راجعت نفسى فيهم و صدقينى سفيان بالنسبالى بقى مجرد أخ و صديق و أنا احترمته جدا لأنه هو كمان أثبتلى إنى كنت ظلماه و أنا غلطت فى حقه كتير.

ربتت ملك على كتفها قائلة:

ــ ربنا يديم المحبة بينا كلنا يا رب.

ابتسمت داليا بمجاملة و ظلت تنظر لـ ملك بتمعن الأمر الذى أثار دهشتها فقالت بتعجب:

ــ داليا انتى بتبصيلى كدا ليه؟!

هزت داليا كتفيها بعشوائية مجيبة بابتسامة:

ــ مفيش...أنا كنت بتخيل احساسى هيكون ايه لو انتى و سفيان اتجوزتوا..

توترت ملك للغاية و سألتها بترقب:

ــ و حسيتى بايه؟!

ابتسمت داليا و هزت كتفيها لأعلى قائلة:

ــ و لا حاجة...انتى صاحبتى و سفيان أخويا...خلاص مبقتش بتأثر لما بشوفكم مع بعض.

رفعت ملك حاجبيها بدهشة قائلة:

ــ ياااه..معقول.

أومأت داليا قائلة:

ــ ايوة زى ما بقولك كدا...جوازى من سفيان كانت تجربة و اتعلمت منها دروس كتير...لو انتى لسة باقية عليه شيلينى من حساباتك و متحرميش نفسك منه أكتر من كدا...

ظلت ملك تنظر لها تارة و لـ سفيان الواقف فى الجهة المقابلة تارة أخرى، و هى تعض على شفتيها بحيرة شديدة، و كأن داليا أشعلت فتيل حرب الاشتياق الناشبة بداخلها و أذنت لها بالبدء من جديد.


يتبع..

تعليقات

التنقل السريع