القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية مالي لاانساك للكاتبه دعاء فؤاد من الفصل السادس حتي العاشر علي النجم المتوهج

 الفصل السادس

اثناء انتظارهم على مقاعد الانتظار اخذ سفيان والده و نزلا بحجة احضار وجبة إفطار لهم، و ما ان خرجا من المشفى حتى قال له بأسى:

ــ و بعدين يا بابا...احنا هنسيب عمى لوحده فى بلد غريبة فى ظروف زى دى...معقول هيدفنها من غير ما نشوفها و نودعها...بالله عليك يا بابا اتصل بيه تانى يمكن يكون فتح تليفونه خليه يحاول يجيبها يدفنها هنا...على الأقل يكون ليها قبر نزورها عنده و ندعيلها و نفتكرها كل ما نروحلها...

هز رأسه بيأس قائلا:

ــ يابنى أنا مبطلتش رن عليه من ساعة ما قفل معايا...و رنيت على تليفون ملك و الاتنين مقفولين...يا ريتنى أقدر أعرف عنوانهم بالظبط كنت اتصرفت و روحتله...الله يكون فى عونه دلوقتي..زمان مفيش فيه دماغ لينا علشان يكلمنا...ربنا يصبره و يصبرنا و يتولاه هناك برحمته..

ــ يعنى إيه؟!..هنفصل قاعدين كدا مكتفين ايدينا و مش عارفين عنهم حاجة؟!..

ــ فى ايدينا ايه نعمله يابنى..نصيبه كدا بنته تموت فى الغربة..

قبض سفيان على رأسه بغيظ و غضب و هو يقول:

ــ اااه يا ملك...عمرى ما كنت أتصور إن يوم موتك هتكونى بعيدة عنى، حتى مش قادر أودعك و لا أدفنك و لا أشيل نعشك على كتافى..

ربت أبوه على كتفه بمواساة قائلا:

ــ وحد الله يابنى...كل حاجة بتحصلنا مقدر و مكتوب...و محدش عارف الخير فين...و أكيد ربنا له حكمة فى كدا...

أخذ يمسح على وجهه و هو يستغفر ربه و يقول:

ــ و نعم بالله...يا رب هون علينا يا رب..

بعد قليل عادا و بأياديهم أكياس الطعام، فوجدهم كما تركهم جالسين بالمقاعد، و ما إن خرجت أميرة من غرفتها، حتى سمعوا صراخها و هى تنادى باسم شقيقتها و تقول:

ــ دالياااا...ماماااا...مامااااا

ركض الجميع بهلع و رهبة خشية ان يكون قد أصابها مكروه او تذكرت أحداث تلك الليله السوداء، و كانت داليا أول من وصل لها و أخذتها بين أحضانها و هى تربت على ظهرها بحنان و تهدهدها برفق و سلمى تبكى بعويل و هى تقول:

ــ أنا حصلى ايه يا داليا؟!..شالولى الرحم ليه..ليه...ضيعتونى منكم لله...حرمتونى من الخلفة للأبد...شيلتوه ليه...ااااه...

انفرجت شفتيها لتتحدث إلا أن سفيان اقترب منها سريعا و أشار لـ داليا بألا تتحدث و وجه حديثه لـ سلمى قائلا:

ــ اهدى يا سلمى...و الله غصب عننا...العربية دخلت فيكى جامد و عملتلك نزيف شديد من الرحم و الدكاترة مكانش قدامهم غير انهم يشيلوا الرحم، قبل ما دمك يتصفى و تموتى..

أجابته ببكاء و نحيب:

ــ كنتوا سيبونى أموت....الموت أهون من اللى أنا فيه دلوقتي...ااااه يا ريان......يا ريتنى كنت مت يا ريان قبل ما يحصلى كدا..

اقتربت منها عفاف و قالت بإشفاق و مواساة:

ــ يا بنتى حرام عليكي اللى انتى بتعمليه فى نفسك دا...استغفرى ربك و ارضى بنصيبك يا حبيبتى..

جففت عبراتها و أخذت تستغفر الله و تسأله الصبر، و فى تلك الأثناء رن هاتف داليا برقم ريان، و ما إن رأت إسمه حتى امتعضت ملامحها بأسى و أحست بسكين يقطع بقلبها و لكنها لم ترد، سألتها سلمى بترقب و هى ما زالت تبكى:

ــ مين يا داليا..

ــ ها...ممفيش..دا..دى سما صاحبتى..

رن الهاتف مرة أخرى، فدسته فى جيبها و تجاهلته..

و لم تمر دقيقة واحدة حتى رن هاتف سفيان برقم ريان، فنظر للهاتف و هو يراقب تعابير وجه سلمى التى كانت تتطلع له بتوجس و كأنها تعرف هوية المتصل، فسألته بجدية:

ــ دا ريان...صح؟!

سكت سفيان و لم يقوى على الرد، فأردفت سلمى بجدية يشوبها الحزن و الحسرة:

ــ إوعى تقوله حاجة يا سفيان...خليه يركز فى دراسته و منحته اللى كان بيتمناها من زمان...بالله عليك اوعى تغلط و تقوله...

أجابها بملامح حزينة:

ــ زمانه قلقان عليكي دلوقتى...أكيد رن على موبايلك كتير و لاقاه مقفول لأنه تقريبا كدا ضاع فى الحادثة..

علت شهقاتها و قالت بنبرة أليمة مزقت نياط قلوبهم:

ــ قوله إنى موبايلى اتكسر و الشريحة اتحرقت و أنا دلوقتي فى نبطشية و طمنه عليا..

هز رأسه بأسى ثم قال:

ــ طاب دا اللى هقوله النهاردة...طاب و بكرة و بعده و بعده...كدا كدا هيعرف يا سلمى..

أجابته بصراخ و انفعال:

ــ لااا...ريان لو عرف أنا هموت نفسى...ايوة هموت نفسى...أنا بقولكم أهو...

جذبتها أمها إلى أحضانها سريعا و هى تقول ببكاء:

ــ خلاص يا حبيبتى محدش هيقوله...بس اهدى علشان الجرح ميتفتحش...اهدى يا بنتى...

أبعدت نفسها عن حضن أمها ثم دارت بعينيها فى وجوههم جميعا و قالت بملامح جامدة:

ــ يكون فى علمكم كلكم....أنا هفسخ خطوبتى من ريان..

لطمت فاطمة صدرها بكف يدها بصدمة و نظر لها الجميع بملامح مشدوهة من سرعة حسمها لهذا القرار، ثم استرسلت سلمى بنفس النبرة:

ــ ريان مالوش ذنب فى إنه يتحرم من الخلفة طول حياته..و أنا مش هكون مرتاحة و أنا عايشة معاه بالوضع دا...

رد سفيان بجدية:

ــ المفروض تسيبيله هو الإختيار يا سلمى..

ردت بعصبية مفرطة:

ــ و أنا مش هستنى لما يرفضنى و يكسر قلبى للمرة التانية...و فى نفس الوقت مش هقبل منه تضحية و لا شفقة لو كمل فى جوازه منى....أحسن حل إنى أفسخ الخطوبة بأى حجة غير إنه يعرف....فاهمين؟!..أنا لو شوفت ف عينه نظرة شفقة ليا بعد ما كانت حب مش هسامحكم أبدا...مش هتحمل منه كدا...أنا بتكلم بجد..ريان لو عرف اللى حصلى هموت نفسى..

قالت كلماتها الأخيرة و هى تبكى بحسرة و مرارة، فربتت داليا على ظهرها قائلة:

ــ خلاص يا سلمى...ان شاء الله محدش هيقوله و اللى انتى شايفاه صح اعمليه يا حبيبتى...أهم حاجة عندنا انك تقومى بالسلامة و نفسيتك تهدى كدا و ترتاح...

شردت بعينيها الباكيتان فى الفراغ ثم قالت:

ــ هرتاح...مسيرى هرتاح...الأيام كفيلة إنها تداوى جروحنا...بس هى تعدى بسلام...


بينما على الجانب الآخر عند ريان...

يجلس فى الجامعة فى إنتظار محاضرته، و كأنه جالس على جمر، فمنذ ليلة أمس و لم تفتح سلمى رسائله التى أرسلها لها عبر الواتساب، حتى داليا لا تجيبه، حتى اشتد قلقه عليها فاضطر إلى أن يتصل بشقيقه سفيان، لم يرد بالمرة الأولى، فأعاد الإتصال به، و أجابه تلك المرة بنبرة حاول قدر الإمكان أن تكون عادية قائلا:

ــ ازيك يا ريان عامل ايه يا حبيبي؟!

ريان:

ــ أنا تمام الحمد لله...انتوا عاملين ايه؟!

سفيان بقلق داخلى:

ــ احنا كلنا تمام و الحمد لله..

ريان بترقب:

ــ سفيان هى سلمى كويسة؟!...انا بتصل عليها من امبارح و موبايلها مقفول، حتى داليا مبتردش عليا...

أغمض سفيان عينيه بألم داخلى ثم أجلى حنجرته لتخرج نبرة صوته طبيعية و قال:

ــ اه سلمى موبايلها وقع منها و اتكسر و الشريحة اتحرقت...بس هى دلوقتي فى شغلها و مش معاها موبايل..

سأله باستغراب:

ــ طاب داليا ماردتش عليا ليه و قالتلى الكلام دا؟!

سفيان:

ــ مش عارف...يمكن ماسمعتش رنة الموبايل..

تنهد ريان بقلق ثم قال:

ــ طيب يا ريت تكلم داليا و تخلى سلمى تكلمنى على موبايلها لما ترجع من الشغل...تمام؟!

رد سفيان و قلبه يبكى دما لأجلهما:

ــ حاضر يا ريان هكلمها و أقولها..

ريان:

ــ متعرفش حاجة عن ملك؟!

وقفت غصة مريرة فى حلقه على ذكر إسمها، فابتلعها بصعوبة و أجابه بصوت متحشرج:

ــ ملك اتوفت إمبارح يا ريان..

شهق ريان بصدمة و قال بذهول:

ــ لا إله إلاّ الله...إنا لله و إنا إليه راجعون..طاب هتدفن فين؟!

أجابه بحزن بالغ:

ــ منعرفش...من ساعة ما عمى قال الخبر لـ بابا و تليفونه مقفول و مش عارفين نوصله..الله أعلم ان كانت اندفنت و لا لسة.

ريان بعدم تصديق:

ــ طاب ازاى بس ميكلمكوش تانى يعرفكم هو هيعمل ايه...يمكن محتاج حد معاه...لا حول و لا قوة إلا بالله..

سفيان:

ــ ربنا يتولاه هناك..

ريان:

ــ شد حيلك يا سفيان...أنا حاسس بيك يا خويا..ربنا يصبر قلبك على فراقها..

تنهد بعمق قائلا:

ــ الحمد لله ربنا مصبرنى فعلا...أنا كان بيتهيألى ان ملك لو ماتت إنى هموت وراها...بس ادينى واقف أهو على رجلى و بكلمك...ربنا يثبتنى على الصبر دا...خايف من كتر الضغط و الكبت إنى أنهار يا ريان.

ريان:

ــ ربنا يربط على قلبك يا رب...مركب الحياة سايرة مبتقفش على حد و بكرة هتنساها و هتبقى مجرد ذكرى..

رد سفيان بقهر دفين:

ــ مش عارف هقدر أنساها و لا لأ

ريان:

ــ هتنساها و يمكن كمان تحب غيرها...

سفيان بنبرة معذبة:

ــ ما أظنش هحب غيرها يا ريان...

تنهد بألم ثم قال بجدية:

ــ كفايه عليك كدا.. المكالمة الدولية غالية..

ريان:

ماشى يا حبيبى... أصلا المحاضرة شكلها ابتدت، هسيبك أنا دلوقتي..

سفيان:

ــ ماشى يا حبيبى مع السلامة..

ــ سلام..


فى مساء نفس اليوم، أرسلت سلمى رسالة إلى ريان عبر تطبيق الواتساب تخبره بأن يحادثها عبر هاتف داليا عندما يُتاح له ذلك...

لم يكد يمر ساعة على إرسالها لتلك الرسالة حتى رد عليها كاتبا:

ــ سلمى... عاملة ايه؟

كان الهاتف فى يدها فى تلك اللحظة، و ما إن وصلها صوت الرسالة حتى فتحتها بأصابع مرتعشة و قلب ذبيح، و ها هى تخطو أولى خطواتها فى طريق إفتراقهما، فكتبت و الدموع تتلألأ فى عينيها:

» أنا كويسة

» انت اللى عامل ايه

ابتسم بهيام و كتب:

ــ أنا تمام

ــ كنت قلقان عليكي أوى.


» أنا كويسة متقلقش.


ــ وحشتيني أوى

ــ امبارح عدى عليا كأنه سنة

ــ علشان بس مكلمتكيش


» معليش أكيد سفيان قالك


ــ أيوة قالى


» كلمنى على موبايل داليا لحد ما أشترى

واحد جديد.


ــ ماشى


» انا هقفل دلوقتي لانى كنت ف نبطشية

و جاية تعبانة..

أصابته تلك الكلمات بالصدمة و الذهول، فطيلة الستة أشهر الماضية لم تكتب له ذلك قط، لم تشكو مرة من إرهاق أو تعب أثناء محادثاتهما الكتابية، بل على العكس تماما، فكم من مرة أشفق عليها و طلب منها إنهاء المحادثه لكى تستيقظ مبكرا لعملها و هى من كانت ترفض بشدة، كانا ينهيان المحادثة بحنين و إشتياق و كأنهما لم يجرياها من الأصل...

انتظرت رده و لكن طال إنتظارها، فأدركت أن ذلك الأسلوب الجديد قد أصابه فى مقتل، و أنها نجحت فى أولى خطواتها نحو الفراق..

كتب بغضب مكتوم:

ــ ألف سلامة عليكي

ــ تصبحى على خير

انتظر أن تصحح قصدها او تعتذر إلا أنها خيبت أمله حين أنهت المحادثة نهاية صادمة فكتبت:

ــ الله يسلمك

ــ و انت من أهل الخير..

أغلق الهاتف و ألقى به بعنف على الفراش، و نيران الغضب تكاد تفتك به، اصتك أسنانه من الغيظ، و كور قبضة يده و ضرب بها الحائط بعصبية وهو يتنفس بلُهاث من فرط الإنفعال، و لكن سرعان ما أخذ يُقنع نفسه بالهدوء و إلتماس الأعذار لها، ثم حدث نفسه بهدوء مُنافى لما يختلج بصدره من بركانٍ ثائر:

ــ اهدى يا ريان...اعذرها يمكن تكون فعلا تعبانة و مش قادرة تكتب او حتى تتكلم...ايوة هو كدا..

بينما سلمى أعطت الهاتف لـ داليا، ثم بكت بعويل و حسرة حتى انقطعت أنفاسها و حُبس صوتها من ضراوة البكاء و شدته، فأخذتها شقيقتها بين أحضانها و ظلت على هذا الوضع لفترة لا بأس بها إلى أن ثَقُلت رأسها على صدرها و نامت من فرط التعب و الألم، و داليا تربت على ظهرها بقلب منفطر و عينين حزينتين.


مر أسبوع كامل على هذا المنوال...

ريان يراسل سلمى عبر هاتف داليا و فى كل مرة تُنهى المحادثة سريعا بأسباب مختلفة، حتى كاد أن يُجن من أفعالها الغريبة بالنسبة له، و تقلًُباتها التى تزداد سوءا شيئا فـ شيئ.

كان الدكتور حسام يتابع حالة سلمى حتى ارتبط ذهنه بها، و أصبحت تحتل جل إهتماماته، و تستحوذ على جزء كبير من تفكيره، أعجب كثيرا بصبرها على مصابها، و ثباتها الإنفعالى رغم قسوة ما حدث معها، إلى أن تحول إعجابه بها إلى حب يُكنه لها فى قلبه، حتى أنه كان يخترع الأسباب للذهاب إلى غرفتها و الإطمئنان عليها، و مناقشتها فى مواضيع شتى، فقد خفف عنها كثيرا مدة الأسبوع الذى مكثته فى المشفى..

أما سفيان ساءت حالته كثيرا، فكلما تخيل أن ملك قد فارقت الحياة دون أن يودعها، أو يدفن جثمانها أو يصلى عليها صلاة الجنازة، ينشطر قلبه حسرة عليها و على حاله بدونها، كما أنه لم ينفك هو أو والده عن الإتصال بعمه و لكن ما زالت هواتفهم مغلقة إلى أن يئِسوا و سلموا أمرهم إلى الله.


فى بداية الأسبوع التالى...

كان إبراهيم مريضا فى ذلك اليوم، فطلب من سفيان أن يتولى هو العمل بمحل الأقمشة خاصتهم بعد عودته من الكلية، على أن يلتزم أبوه المنزل حتى يرتاح...

رن هاتف إبراهيم برقم شقيقه إسماعيل، فلم تسعه الفرحة و أجابه سريعا بلهفة:

ــ ألو...أيوة يا اسماعيل..ازيك يا حبيبى عامل ايه لوحدك فى الظروف دى..

أجابه بابتسامة واسعة:

ــ أنا الحمد لله زى الفل يا أبو ريان...اعذرنى يا أخويا إنى سيبتك قلقان عليا أسبوع بحاله..

تعجب من نبرة صوته الفرحة و سأله بتوجس:

ــ إيه اللى حصل من ساعة ما التليفون اتقفل...طمنى أنا هتجنن من القلق و التفكير فيك انت و ملك..

رد بحماس و سعادة:

ــ مش هتصدق يا إبراهيم اللى حصل...ساعة ما كنت بكلمك لقيت الدكاترة و الممرضات بيجروا على قوضة ملك، واحدة منهم قالتلى ان قلبها وقف، و أنا انهارت و التليفون وقع من ايدى اتكسر ميت حتة، بس مفكرتش فى أى حاجة غيرها، و بعد ساعة بحالها من القلق و العياط، خرجلى الدكتور عامر اللبنانى و هو مبسوط و بشرنى إن ملك الحمد لله بتاخد نفسها من غير الجهاز و هتتفصل من عليه و هتتحط على جهاز أقل شوية، أنا الفرحة مكانتش سيعانى، و على آخر اليوم كانت اتنقلت قسم تانى كدا اسمه الرعاية المتوسطة، و قدرت أدخلها و أقعد جنبها فترات طويلة...طبعا الدكتور اللى بيدرس حالتها فى رسالته هو كمان فرح بالتقدم اللى حصل معاها و عرض عليا عرض مكنتش أحلم بيه..

قاطعه إبراهيم بذهول:

ــ عرض ايه دا يا أبو ملك؟!

استرسل بسعادة:

ــ عرض عليا شغلة كويسة غير شغلانة الشيال دى، و شقة حلوة، و كمان هو اللى هيتكفل بمصاريف المستشفى مقابل إنى أسيبها يكمل دراسته عليها و ما أرجعش مصر تانى..و أنا طبعا وافقت..

فغر فاه ابراهيم من الصدمة، حتى ظن أنه الآن بمجرد حلم، فقال اسماعيل بأستغراب:

ــ إبراهيم..انت ساكت ليه؟!

رد عليه بغيظ و غضب:

ــ الله يسامحك يا أخى..بقى سايبنا أسبوع بحاله عمالين نترحم على ملك و نعيط عليها؟!، و لا سفيان اللى كان هيجراله حاجة فى مخه من الزعل، و انت هناك هايص و عايش حياتك!!.

جحظت عيناه بذهول مردفا:

ــ نعم!!..تترحموا عليها؟!

أجابه بغيظ:

ــ أيوة يا سيدى..مانت آخر كلمة قولتهالى ملك ماتت..

هز رأسه بتفهم ثم أردف بجدية يشوبها بعضا من الحزن:

ــ على العموم اعتبرها ماتت يا إبراهيم...ملك فاقت النهاردة و الدكاترة اكتشفوا إنها فقدت الذاكرة...دى حتى مش فاكرانى..بس قولت الحمد لله إنها لسة عايشة و بتتنفس حتى لو مش فكرانى، و قولت يمكن خير...أصلا حياتها مكانش فيها ذكرى حلوة تفتكرها...كلها وجع و يُتم و مرض..أنا مش هرجع تانى يا إبراهيم و هبدأ من جديد مع ملك جديدة غير اللى انتوا تعرفوها..

رد عليه بترقب:

ــ طاب و سفيان اللى كان بيتمناها له من يوم ما حبها؟!

سكت لبرهة يفكر ثم قال بجدية:

ــ اسمع يا إبراهيم...سيب الكل مفكر انها ماتت بجد و متقولهوش انها فاقت...هى كدا كدا مش فاكراه، و دى فى حد ذاتها حاجة تحزن، و بعدين علشان على الأقل ميفضلش منتظرها و سيبه يكمل حياته و ينساها...أنا مش راجع مصر تانى و مش عايز سفيان يأثر عليا أو يتأثر هو بسفرنا و يعطل نفسه و حياته و هو بيستنانا...فهمت قصدي يا إبراهيم؟!

أجابه و هو يهز رأسه باقتناع:

ــ فهمتك...بس انت كدا بتحطنى فى موقف صعب أوى يا اسماعيل..سفيان لو عرف فى أى وقت ان ملك عايشة و أنا مخبى عليه، هيزعل منى جامد و الله أعلم ممكن يعمل ايه؟!

ــ و إيه بس اللى هيعرفه...ماهو مفيش حد غيرنا احنا الاتنين اللى عارفين...و أنا عن نفسي مش راجع تانى.

ــ طاب لو سألنى عليك تانى أقوله ايه؟!

ــ قوله إنى دفنت ملك فى ألمانيا و هستقر هناك و مش راجع تانى..

هز إبراهيم رأسه باستسلام و قلة حيلة قائلا:

ــ حاضر يا اسماعيل اللى تشوفه و ربنا يستر من اللى جاى..


أنهى اسماعيل المكالمة مع شقيقه، ثم عاد لحبيبته و قرة عينه و الإبتسامة تشق وجهه، و جلس بمقعد مجاور لفراشها و أدار دفة الحديث قائلا:

ــ عاملة إيه يا حبيبتى النهاردة..

أجابته بصوت ضعيف من التعب:

ــ الحمد لله كويسة...بس حاسة إن زورى متعور و بيوجعنى أوى لما أتكلم او أبلع ريقى..

ربت على كفها المستلقى بجوارها و طمئنها قائلا:

ــ متقلقيش يا حبيبتى...الدكتور عامر قالى إن الأنبوبة اللى كانت طالعة من الرئة و متوصلة بجهاز التنفس هتسيب أثر مكانها و ندبة هتاخد وقتها و هتروح ان شاء الله...فى أى حاجة تانية بتوجعك؟!

أجابته بوهن:

ــ صداع...صداع شديد و صدرى بيوجعنى، دا غير إنى مش قادرة أفتكر أى حاجة خالص..

فى تلك اللحظة دلف الدكتور عامر و قد استمع لشكواها الأخيرة فألقى عليهما السلام ثم قال بابتسامة عريضة:

ــ ملك لازم تعرفى منيح إن أچهزة چسمك تعرضت لضغط فيسيولوچى كبير بسبب چهاز التنفس الاصطناعي، و بالأكيد إنها راح تتأثر بصورة أو بأخرى و إنك راح تعانى شوى من هاى الأثار لحتى تاخد مچراها و تروح، و بنصحك إنك ما تحاولى تضغطى على مخك و تتذكرى، لأنه بالأخير المخ بده راحة بعد ها الفترة العصيبة اللى مرأت عليه، و الحمد الله إن الذاكرة فقط ياللى تضررت من الچراحة، و ما فى شى خلايا تانى بالمخ اتعرضت للموت...موضوع الذاكرة شى سهل كتير بالنسبة للمخاطر التانية ياللى كان ممكن إنها تحصل..تمام ملك؟!

أومأت بضعف قائلة:

ــ تمام يا دكتور...

استرسل بعملية قائلا:

ــ هلا دكتور چوناثان راح يچرى عليكى الكشف المعتاد تبع الرسالة تبعه، بس هاى المرة إنتى فايقة و عم تشوفى كل شى، أنا راح احضر الكشف لحتى أترچملك الأسئلة ياللى راح يسألها لإلك...و إن شا الله راح يوفرلك معلم لحتى يعلمك اللغة الألمانية فى أقرب وقت..

اومأت ملك دون رد، بينما اسماعيل قال بسعادة بالغة:

ــ احنا بنشكر حضرتك جدا يا دكتور عامر...مش عارفين من غيرك كنا عملنا إيه...

اجابه بابتسامة ودودة:

ــ و لو يا زلمة...نحنا اخوات متل ما قولتلك من قبل...و الحمد الله على سلامة ملك..


على الجانب الآخر عند إبراهيم، أغلق الخط و قد أُلجم لسانه من ذهوله و تلاعب الأقدار بهم، لقد اقتنع برأى شقيقه، فربما حياة ملك الجديدة التى ستبدأها هناك ستكون أفضل لها و لأبيها الذى عانى معها الأمرين و قضى بسببها اوقاتا عصيبة لا تُحتمل، فاصبح من حقه أن يفرح بشفائها و يصنع لها حياة جديدة كما يترائى له، خاصة و أنها لا تتذكر سفيان و لا ذكرياتها معه و لا أى أحد من أفراد عائلتها...إذن هو صائب الرأى.

جلس بفراشه يحاول لملمة شتات نفسه، و تنظيم أفكاره حتى لا يُخطئ أمام أحد و يكشف ذلك السر الذى إئتمنه عليه شقيقه، و أقر بقرارة نفسه أن سفيان أيضا لا بد أن يبدأ من جديد و يمحى ملك من ذاكرته، كما مُحِى هو من ذاكرتها.


يتبع....

الفصل السابع

فى مساء ذلك اليوم أنهى سفيان عمله بالمحل ثم إتجه إلى المشفى ليأخذ سلمى و داليا و فاطمة إلى منزلهن، بعدما بدأت سلمى تتماثل للشفاء و أوشك الجرح على الإلتئام.

وصل إلى المشفى ثم توجه لمكتب الدكتور حسام أولا لكى ينهى إجراءات خروجها، و يسأله عن التعليمات التى ستتبعها فى المنزل إلى أن تُشفى تماما..

رحب به ترحيبا حارا و بعدما أخبره بما أراد رد عليه برسمية قائلا:

ــ طبعا لازمها راحة تامة و متابعة الجرح علشان ميتلوثش، و هكتبلها أدوية تمشى عليها فترة، دا غير الهرمونات التعويضية اللى هتستمر عليها لأن طبعا الرحم كان بيفرز هرمونات مهمة جدا لأى أنثى..

أومأ سفيان بتفهم ثم أجلى حنجرته متسائلا بحرج:

ــ احم...طيب هى ممكن تتجوز عادى؟!

خلع نظارته الطبية ثم سأله بتوجس:

ــ انت تقربلها إيه؟

ــ أنا أخو خطيبها و فى نفس الوقت جيران..

تفاجأ من كونها مرتبطة و نشبت بداخله غيرة خفية، و لكنه سكت لبرهة ينظر لكفيه المتشابكتين بتفكير ثم أردف بجدية:

ــ السؤال دا هجاوبه قدامها هى و مامتها و أختها، لأنهم من حقهم يعرفوا وضعها بالنسبة للجواز ايه..

اومأ سفيان بتفهم قائلا:

ــ معاك حق يا دكتور...بس على فكرة هى رفضت اننا نعرف أخويا باللى حصل و ناوية كمان تفسخ خطوبتها منه، هو مسافر برا فى بعثة دراسية، و قولت اعرف حضرتك علشان لو حصلت أى صدفة و قابلته متعرفهوش حاجة..

أومأ بسعادة داخلية حاول إخفائها و تظاهر باللامبالاة قائلا:

ــ متقلقش يا أستاذ سفيان..سرك فى بير...يلا بينا نروحلها نطمن عليها قبل الخروج.

ذهبا إلى غرفتها فوجدا داليا و فاطمة بصحبتها، ألقيا عليهن السلام ثم أدار د. حسام دفة الحديث قائلا:

ــ حمد الله على سلامتك يا مس سلمى...ان شاء الله هكتبلك على خروج الليلة دى، و عايز أتكلم معاكى شوية بالنسبة للعملية و حياتك هتمشي إزاى بعدها..

هزت رأسها بضعف و هى تقول بنبرة حزينة:

ــ اتفضل يا دكتور..

اتخذ مقعدا بجوار الفراش و جلس به قائلا بجدية:

ــ عايز أقولك إنك تقدرى تتجوزى عادى جدا و كمان تمارسى حياتك الزوجية زى أى زوجة سليمة و عندها رحم، طبعا انتى عارفة إن الجهاز التناسلى عند الأنثى بيتكون من الرحم و عنق الرحم و المهبل، إحنا شيلنا الرحم بس، و باقى الأجزاء موجودة و زى الفل و بتأدى وظيفتها عادى جدا، مشكلتك الوحيدة دلوقتي هتكون مع الإنجاب فقط.

هزت سلمى رأسها بتفهم و هى تقول بوهن و حسرة:

ــ عارفة يا دكتور حسام...شكرا على تعب حضرتك معايا...

أجابها بابتسامة ودودة:

ــ لا شكر على واجب...حمد الله على سلامتك..و لو احتاجتى أى حاجة أنا فى الخدمة و بدون مقابل مادى طبعا.

رد سفيان بامتنان:

ــ حضرتك كلك ذوق يا دكتور..ألف شكر..

انتهى من كتابة الأدوية ببطاقة الخروج ثم استأذن منهم و انصرف على مضض، يود لو تبقى أمامه لأطول فترة ممكنة و لكن لا بد من عودتها لمنزلها بعدما تماثلت للشفاء.


عادوا جميعا للمنزل و لكن عفاف أصرت عليهم أن يتناولوا العشاء سويا بمنزل إبراهيم بمناسبة عودة سلمى من المشفى على خير...

تناولت الأسرتان العشاء فى جو من الدفئ المعتاد بينهم منذ أن كان الشباب أطفالا، و لكن الجو تلك المرة ملبد بالتوترات و الأحزان، فلم يكن صافيا تماما كما اعتادوا..

بعدما انتهوا و احتسوا الشاى أوصلهم سفيان إلى شقتهن و قبل أن يغادرهن استوقفته داليا قائلة:

ــ سفيان...لحظة بس..

أغلق الباب مرة أخرى و عاد لها قائلا:

ــ خير يا داليا...

فركت كفيها بتوتر قائلة:

ــ احم...أنا بقالى أسبوع غايبة من الكلية و فى محاضران كتيرة فاتتنى...ممكن تراجع معايا اللى فاتنى؟!

ابتسم بود قائلا:

ــ و كل التوتر و الكسوف دا علشان كدا؟!..أصلا من غير ما تطلبى كنت ناوى أجيبلك كل المحاضرات و السكاشن اللى فاتتك بكرة فى الكلية و هعدى عليكوا بالليل ان شاء الله بعد ما أخلص شغل المحل علشان لو فى أى حاجة مش فاهماها أشرحهالك..

اتسعت ابتسامتها قائلة بسعادة:

ــ بجد يا سفيان؟!...بس أنا كدا هتعبك..

أجابها بابتسامة محملة بالوجع:

ــ لا متقلقيش أنا متعود على كدا..يا ريت التعب دا دام..

بالطبع فهمت مغذى كلامه و إنقلاب تعابير وجهه للوجع، فهو يقصد تلك الأيام التى كان يشرح فيها لملك مقرراتها الدراسية، فهزت رأسها بإحباط قائلة بشجن:

ــ اممم...ماشى..نتقابل بكرة فى الكلية ان شاء الله..

أومأ لها موافقا و تركها بحزنها و غيرتها و انصرف.


أما فى غرفة سلمى...

تركتها أمها حتى تأخذ قسطا من الراحة، و ما إن خرجت من الغرفة حتى وصلت سلمى رسالة من ريان عبر هاتف داليا مكتوب فيها:

ــ داليا... ممكن أتكلم مع سلمى؟

تنكرت بشخصية داليا و كتبت له على أنها هى:

ــ سلمى فى الشغل و مش معاها موبايل

زفر بإحباط ثم كتب:

ــ هترجع امتى؟!

كتبت سلمى و الدموع متلئلئة فى عينيها:

ــ هترجع الصبح

ــ بس هى بتيجى تنام علطول لأنها بتكون

سهرانة طول الليل زى ما انت عارف.

كتب بقلب جريح:

ــ هى ليه ماشترتش موبايل لحد دلوقتي

كتبت و الدموع تنزلق من عينيها فى صمت مميت:

ــ مشغولة شوية و مش فاضية تنزل تشترى

أى حاجة

اصتك فكيه من الغيظ ثم كتب:

ــ أنا هكلم سفيان يشتريلها موبايل

تحول بكائها الصامت إلى بكاء حاد و كتبت بصعوبة:

ــ ماشى

كتب و هو يشعر بوخز حاد فى قلبه:

ــ ماشى يا داليا

ــ سلامى لكل اللى عندك

أغلقت المحادثة ثم دفنت وجهها بين كفيها و أخذت تبكى بنحيب، لقد طفح الكيل، و نفذ صبرها على تحمل كل هذا الكم من الوجع و الأسى.


بينما فى الناحية الأخرى، اعتصر هاتفه بغضب حتى كاد أن يتهشم بين يديه، و أخذ يحدث نفسه بعصبية:

ــ ايه يا سلمى؟!..هو اللى بعيد عن العين بعيد عن القلب؟!..يا رب أنا مش مصدق إن سلمى ممكن تتغير من ناحيتى بالشكل دا...لا لا أكيد أنا اللى مكبر الحكاية شويتين...أيوة دا من حبى الشديد ليها بس..


فى اليوم التالى...

ذهب سفيان لـ داليا مساءا كما وعدها و جلسا حول طاولة صغيرة و الكتب و الدفاتر منفتحة أمامهما، كان يشرح لها بتركيز شديد، بينما هى هائمة فى ملامحه، شاردة بقسماته الوسيمة، تنتقل بعينيها ما بين شعره الأسود الناعم، لعينيه البنيتين الواسعتين ذو الرموش الكثيفة الطويلة، لعلامة الحسن التى تزين ذقنه النامية، حتى وصلت لتلك الغمازتين التى تظهر كلما انفرج ثغره، فابتسمت بعشق خالص و لم تدخل أى كلمة مما قال لذهنها المنشغل به ليس غيره، ظلت على هذا الحال حتى قال بجدية:

ــ النقطة دى وصلتلك كدا؟!

أجابته بتلعثم:

ــ ها... اه اه وصلت.

انفرجت شفتيه ليتحدث، فقاطعته قائلة بنبرة حالمة:

ــ انت عارف يا سفيان..أنا بحسد ملك الله يرحمها.

قطب جبينه باستنكار متسائلا:

ــ بتحسديها إزاى مش فاهم؟!

أجابته بشجن واضح فى نبرة صوتها:

ــ بحسدها على اللحظات اللى كانت بتقضيها معاك فى وقت الدرس... قد ايه كانت محظوظة و انت قاعد قريب منها كدا و بتبصلها كل شوية و تسألها كدا فهمتى؟!.. و الأهم من دا كله إنك كنت بتحبها.. يا ريتنى أقضى أنا معاك نص الوقت اللى قضيته معاها... بجد كنت هكون مبسوطة أوى..

سكت و هو يطالعها بوجع و حزن على إثر ذكر حبيبته الفقيدة، ثم رد و الألم يملأ طيات كلماته:

ــ ربنا يكفيكى شر الوجع اللى شافته.. ملك كانت تستاهل حب الكون كله.. مكانش يكتر عليها حبى أبدا.. كنت ناوى أعوضها عن كل الوجع اللى شافته بعد ما ترجع.. بس ربنا اختارلها اللى أحسن منى..

أغمض عينيه يعتصرهما بأسى، يجاهد العبرات لألا تسقط، ثم أردف بتجهم و هو يغلق الكتاب:

ــ أنا آسف يا داليا مش هقدر أكمل... نكمل بكرة ان شاء الله..

ردت عليه بلهفة و اعتذار:

ــ سفيان أنا مش قصدى حاجة لا سمح الله... أنا آسفة إنى فكرتك بيها..

أجابها بملامح منكمشة من الحزن:

ــ متتأسفيش... أنا أصلا منسيتهاش.. أنا بعمل نفسى ناسيها يمكن ييجى يوم و أنساها فيه بجد... عن إذنك..

غادر من أمامها بخطى سريعة تحت نظراتها الحزينة، ثم لملمت كتبها و دلفت غرفتها و هى تعض أناملها ندما على ما تفوهت به من هراء.


بينما سفيان يسير بطريق العودة بخطى تائهة، شاردا فى ملامحها البريئة، يعتصر جفنيه بقوة بين الحين و الآخر ليمنع عينيه من البكاء، يحاول أن يتحلى بالصبر و القوة، و لكن أى قوة هذه التى ستمنع قلبه من رثاء معشوقته و مليكته و من وشمت إسمها على جدران قلبه، فلا أياماً تمر، و لا أعواما تكر، و لا مخلوق سواها سيستطيع محو إسمها من قلبه.

ظل هائما بالطريق إلى أن وصل إلى منزلها المقابل لمنزله، وقف تحت شرفة غرفتها و أخذ ينادى بإسمها بصوت مرتفع و كأنها تقبع بالغرفة و ستلبى ندائه ما إن تسمعه، فأخذ يصرخ قائلا:

ــ ملاااك..ملك.. بصيلى يا ملك أنا هنا...ملاااك...ردى عليا بقى حرام عليكي...افتحى الباب دا و بصيلى يا ملك..

خرج والديه مهرعين إلى الشرفة ينظران إلى إبنهما الذى أفقده عشقها عقله، و يناديها و هو يعلم أنها فى دار الحق، فأخذت عفاف تضرب كفا بكف و هى تبكى حال ولدها، بينما إبراهيم إنفطر قلبه على ولده و فكر فى أن يخبره بالحقيقة، و لكنه تدارك حاله مرة أخرى و أقنع نفسه أنها ستكون فترة عصيبة و لكنها ستمر و تنقضى فى الأخير، ثم سرعان ما سيعود لحياته العادية و يعتادها بدونها..

نزل إبراهيم إلى ولده رغم مرضه و قبض على ذراعه و سار به بإتجاه منزلهم و سفيان مستسلما لا حول له و لا قوة، و إبراهيم يشد على أزره قائلا بمواساة و الألم يعتصر قلبه:

ــ وحد الله يابنى و انساها بقى و عيش حياتك...الحى أبقى من الميت يا سفيان...اجمد يا حبيبى علشان خاطر أمك...هى هتحزن على مين و لا مين بس يابنى..عليك و لا على أخوك و اللى حصل لسلمى..

أخذ يستغفر ربه و يمسح بكفيه على وجهه عله يعود لرشده و يستعيد قوته و ثباته، ثم صعد مع والده لشقتهم و توضأ و صلى و تضرع إلى الله لكى يلهمه الصبر و الثبات عليه.


مرت الأيام على قلوب المحبين ببطئ شديد، فـ سلمى أكثر الأوقات ترد على رسائل ريان على أنها داليا، و تعمدت عدم شراء هاتف جديد حتى يكون حُجة لها فى عدم التواصل معه، ربما تتغير مشاعره تجاهها و يقل شغف حبه لها تدريجياً، و قد نجحت فى ذلك فى غضون شهر واحد منذ الحادث الأليم.

ذات مرة نفذ صبره و أصر على أن يكلمها حتى يستفسر منها عن سر تغيرها، فاتصل على هاتف داليا بإلحاح شديد حتى ردت عليه سلمى بعد محايلة من شقيقتها و أمها و أجابته ببرود عكس نيران الشوق المتأججة بقلبها:

ــ أيوة يا ريان..

قطب جبينه باستنكار قائلا بذهول:

ــ أيوة يا ريان؟!..مين معايا؟!..انتى أكيد مش سلمى...لا لا اللى بتتكلم دى مش سلمى حبيبتى.

اعتصرت جفنيها بألم بالغ ثم أجابته بنفس النبرة:

ــ لأ أنا سلمى...ممكن أعرف إنت ليه مُصر تكلمنى كل شوية؟!..يا ريت تراعى إنى بشتغل و مواعيد شغلى مش ثابتة و انت عارف كدا..

زادت وتيرة تنفسه حتى شعر بالإختناق و أن الهواء قد نفذ من الغرفة و رد بذهول و عدم تصديق:

ــ من امتى فى بينا الكلام دا يا سلمى..

ردت بحدة مصطنعة:

ــ من النهاردة يا ريان..بص من الآخر كدا أنا حبى ليك بيقل جوايا مش عارفة ليه..مبقيتش أشتاقلك زى الأول، الظاهر كدا إن غربتك كانت امتحان لحبى ليك، و اكتشفت إنه كان مجرد تعود على حبك و اهتمامك، بس بصراحة أنا بقيت حاسة إنك شخص عادى بالنسبالى، مش حاسة بشغف الحب اللى كان بينا...أنا آسفة جدا يا ريان مش عايزة أخدعك أكتر من كدا...

انحبست أنفاسه، و تسارعت دقات قلبه حسرة و انكسارا من هول ما سمع، سكون تام أحل به، فقد ألجمته الصدمة و أفقدته قدرته على استجماع الكلمات، بينما الأخرى تنتظر رده بقلب منفطر ينزف دما حتى مات من كثرة الجروح و مرارة الفقد و ألم الفراق..

وصلها صوته المتحشرج قائلا و هو تحت تأثير الصدمة:

ــ أومال أنا حبى ليكى ماقلش ليه؟!...شوقى ليكى زى ما هو..لا دا بيزيد..ليه؟!..يعنى أنا كنت بحبك بجد و انتى كنتى بتلعبى و بتتسلى بيا؟!

حاولت قدر المستطاع الحفاظ على نبرتها الجادة قائلة:

ــ أنا مش قصدى أتسلى و لا ألعب أنا...

قاطعها بعصبية صارخا بها:

ــ بس...كفاية...مش عايز أسمع صوتك تانى و لا عايز أشوفك و لا أكلمك...من هنا و رايح انتى من طريق و أنا من طريق...و من غير سلام..

أغلق الهاتف و لم ينتظر ردها، هى بالأساس لم تكن لترد عليه، فقد انحبس صوتها من فرط الحسرة و الألم و ارتمت على الفراش و بكت حتى فقدت وعيها، فأى مرار ستتحمل، مرارة فقدانها لحبيب عمرها و مالك قلبها، أم مرارة فقدها لنعمة الإنجاب.


بينما ريان جلس بأقرب مقعد له فى غرفته، و دفن رأسه بين كفيه، مكفهر الملامح، و أعصابه تالفة، لا يصدق بعد ما سمعه بأم أذنيه من معشوقته و حبيبة طفولته و مراهقته و بلوغه...أبعد كل تلك السنوات اكتشفت أنه مجرد تعود؟!..أى منطق هذا الذى تتحدث به!!..يعلم بل هو متأكد أنها ليست تلك الفتاة الطائشة متقلبة المزاج...إذن ماذا دهاها!!..و ما بال قلبها!!...هل فقدت صوابها أم أن أصابها السحر..لقد كاد أن يجن من كثرة التفكير إلى أن اهتدى لأن يبدل ملابسه لطاقم رياضى و خرج من السكن و ركض بالشوارع بأقصى ما يملك من سرعة فى ذلك الجو قارص البرودة، فقد كانت درجة الحرارة بتلك الليلة لا تزيد عن درجة او درجتين، و لكن صدمته فى أحب مخلوق لقلبه أفقدته الإحساس بهذا البرد القارص، لا يشعر سوى بصقيع كلماتها التى لحفت قلبه حتى تجمد من برد مشاعرها، ركض وسط ظلام الشتاء الدامس ليفرغ فيه غضبه المستعر بصدره كالجحيم، حتى أعياه الركض و عاد أدراجه إلى سكنه و منه إلى غرفته و ألقى بجسده بإعياء شديد على الفراش و غط سريعا فى النوم.


و فى مكان آخر، كانت ملك قد استعادت قدر كبير من عافيتها فى خلال هذا الشهر، حيث تم فصلها من كافة انواع أجهزة التنفس، فقط تستنشق الأكسجين مرة او مرتين خلال اليوم، كما أنها بدأت تتعافى تدريجيا من الأثار الجانبية لجهاز التنفس الاصطناعي.

ما زالت فاقدة للذاكرة، و ليس لها صلة بهذا العالم بما فيه إلا من خلال أبيها و الدكتور عامر و الدكتور چوناثان الذى تَبنى حالتها، و بعض الممرضات بالمشفى و معلم اللغة الألمانية، و ها هى تجلس بفراشها ممسكة بإحدى المجلات الألمانية تحاول قرائتها لتختبر مدى تقدمها فى إتقان اللغة، إلى أن ظهر أمامها نص رومانسي حزين ترجمته:

ما لىَ لا أنساكِ

فى كل الوجوه أراكِ

ذكراكِ تلازمنى كالهواء الذى أتنفسه

صوتك يدوى بأذنيا و بكل مكان أطللتى عليه.

طيفك يطاردنى حيثما أذهب.

و كلماتك تدغدغنى و تبث النشوى بقلبى المشتاق

أين انتِ..أبحث عنكِ..أناديكِ

كم قسى قلبك فلا تجيبننى

تركتينى ألهث خلفكِ من كثرة البحث عنكِ

رجاءا عودى و لن أعاتبك..

فقط عودى...عودى و حسب..

ما إن انتهت من قراءة ذلك النص حتى بدأ يراودها ذلك الحلم الذى لازمها طيلة فترة الغيبوبة و حتى بعد استفاقتها، لم يتركها بعد، فحانت منها ابتسامة هائمة لا تعرف سببها، و لكن البسمة هى من رسمت نفسها على ثغرها رُغماً عنها، فدلف عليها أبوها فى تلك اللحظة و تعجب من تلك البسمة الحالمة فأخرجها من شرودها متسائلا بدهشة:

ــ يا ترى ايه سر الإبتسامة الجميلة دى؟!

أجابته بتعجب من حالتها و قالت:

ــ هتصدقنى يا بابا لو قولتلك مش عارفة...بس فى حلم بيتكرر معايا كتير أوى لما افتكرته لقيت نفسى مبتسمة كدا..

سألها بترقب:

ــ طاب و ايه الحلم دا؟

زاغت عيناها فى الفراغ بشرود و كأنها ترى الحلم أمام عينيها و تصفه، فقالت:

ــ دايما بشوف شاب طويل كدا و مش مليان أوى، ملامحه مش واضحة أوى، مش شايفة منه غير شعره الأسود الناعم و غمزات بتظهر لما بينادى عليا..أنا واقفة قدامه بس مش شايفنى و بينادى عليا بعلو صوته و أنا برد عليه بقوله أنا هنا قدامك و هو بردو مش سامعنى..نفسى أعرف مين الشاب دا يا بابا..

جف حلقه و توترت أوداجه، و ازدرد لعابه بصعوبة مجيبا بتوتر:

ــ مش عارف يا ملك...هيكون مين يعنى؟!...أنا حكتلك قبل كدا على عمك و ولاده و مراته، بس علاقتك بيهم كانت عادية...يعنى زى الإخوات..

هزت رأسها بإحباط و خيبة أمل ثم قالت:

ــ يمكن مجرد هلوثة من الأجهزة و الضغط اللى كنت فيه...مش كدا؟!

أجابها بارتباك:

ــ ها...اه اه أكيد طبعا..

شردت مرة أخرى فى صورة تلك الشاب، كما لو كانت تتمنى أن يطمئنها أبوها بأن له وجود فى حياتها، فهى قد أحبته بل عشقته فقط من خلال منامها و أحلامها، تود لو كان حقيقيا فحتما ستكتمل سعادتها بهذا العالم الجديد الذى دلفته حديثا فقط منذ شهرا واحدا...


يتبع.....

الفصل الثامن

فى صباح يوم جديد بجامعة ليفربول بإنجلترا...

تجلس سيرين بقاعة المحاضرات بجوار صديقتها فدوة و هى فى حالة من عدم التركيز و القلق الشديد، تنظر فى ساعة يدها بين الحين و الآخر إلى أن لكزتها فدوة فى كتفها قائلة بصوت منخفض:

ــ ايه يا بنتى قاعدة مش على بعضك ليه؟!

أجابتها و نظرها مسلط على مكان ريان الذى يجلس به دائما بالمدرج:

ــ المحاضرة قربت تخلص و ريان مجاش لحد دلوقتى... أول مرة يغيب يا فدوة و قلبى مش مطمن خالص..

هزت الأخرى كتفيها بعدم اهتمام قائلة:

ــ عادى يعنى تلاقيه راحت عليه نومة و لا حاجة..

ــ أنا رنيت عليه كتير أوى و مبيردش... أكيد لو نايم كان رنة الموبايل هتصحيه..

ربتت على كتفها و هى تقول:

ــ طيب اصبرى بس لما المحاضرة دى تخلص و نبقى نسأل عليه واحد من اللى ساكنين معاه فى نفس الشقة..

أومأت لها دون رد و القلق ينهش بصدرها، و ما إن انتهت المحاضرة حتى أسرعت إلى أحد زملائها ممن يقيمون مع ريان بالشقة و سألته بترقب:

ــ لو سمحت يا مروان.. متعرفش ريان مجاش الجامعة ليه النهاردة.

أجابها بجدية:

ــ أنا خبطت عليه الصبح لما لاقيته اتأخر و رد عليا قالى روح انت أنا هتأخر شوية حتى من غير ما يفتح الباب، بس صوته كان تعبان و بيتكلم بالعافية.

هوى قلبها فى قدميها و زاد قلقها عليه أضعافا و قالت:

ــ انت ازاى تسيبه تعبان لوحده كدا فى الشقة.. افرض جراله حاجة؟!

ــ ما هو مكانش راضى يفتحلى الباب فقولت أسيبه براحته.

هزت رأسها بعدم رضا و قالت بغضب دفين:

ــ طيب ممكن تدينى نسخة مفاتيحك و أنا هشوف دكتور و نروحله انا و فدوة و هرجعلك المفتاح تانى.

نظر لها بملامح مشدوهة و لم يعقب، فاسترسلت بنفاذ صبر:

ــ ايه انت بتبصلى كدا ليه؟!... أنا مش هسيبه تعبان لوحده و أفصل قاعدة هنا... تولع المحاضرات.. أهم حاجة عندى دلوقتي إنى ألحقه قبل ما حالته تسوء.

أخرح المفتاح من جيبه و تناولته منه سريعا و أخذت فدوة فى يدها و انصرفت بأقصى سرعة تاركة زميلها ينظر فى أثرها بذهول و هو يهز رأسه بعدم تصديق قائلا بغيرة:

ــ يا بختك يا ريان!!

وصلت سيرين للشقة و جربت أولا أن تطرق الباب لعله يكون بخير و يفتح لها، و لكن طرقت الباب طرقا كثيرا دون جدوى، ففتحت الباب بالمفتاح و دلفت و طرقت أبواب الغرف كلها، فهى لا تعلم فى أى غرفة ينام، إلى أن سمعت صوت أنينه يأتى من الغرفة المقابلة لباب الشقة ففتحت الباب مباشرة و دلفت الغرفة و من خلفها فدوة، صُعقت سيرين من هيئته، فقد كان ممددا بالفراش بطاقم رياضى، حتى الحذاء ما زال مرتديه بقدميه، وجنتيه مشتعلتان بحمرة الحمى، كما أنه يهذى بكلمات غير مفهومة و جسده بالكامل يرتجف بشدة.

اقتربت منه و تحسست جبينه فوجدت حرارته مرتفعة للغاية فقالت لـ فدوة:

ــ و بعدين يا فدوة.. دا حرارته عالية أوى و جسمه كله بيرتعش.

ردت بقلة حيلة:

ــ المشكلة إننا منعرفش رقم الإسعاف هنا كام و لا نعرف أماكن المستشفيات.

سكتت سيرين تفكر لوهلة ثم سرعان ما قالت لها:

ــ بقولك ايه انا هعمله كمدات علشان الحرارة تنزل شوية و يفوق على ما تكونى انتى نزلتى و أى حد يقابلك اسأليه عن رقم الإسعاف و اتصلى بيهم بسرعة و مليهم العنوان... بسرعة يا فدوة ارجوكي.

هزت الأخرى رأسها عدة مرات و لبت طلبها فى الحال و انصرفت، بينما سيرين خرجت تبحث عن أى إناء إلى أن وجدته بمطبخ الشقة ثم ملأته بالماء و أخذته بجواره و التقطت أحد قمصانه البيضاء و غمسته بالماء ثم بدأت فى عمل كمادات باردة على وجهه و رقبته، ثم احكمت الغطاء عليه جيدا لتقلل من إرتجاف جسده و ظلت على هذا الحال لمدة خمسة عشرة دقيقة إلى أن بدأ يعود لوعيه شيئا فشيئ، و فتح عينيه ببطئ شديد، و ما إن وقعت عيناه عليها حتى قال بهذيان:

ــ سلمى؟!.. امشى مش عايز أشوفك.. أنا بكرهك.. مش طايق أشوف وشك.

ابتسمت سيرين بشماتة، ثم سرعان ما قلبت ملامحها للحزن و هى تقول:

ــ فوق يا ريان أنا سيرين... سيرين اللى بتحبك و بتموت فيك.. سيرين اللى مستعدة تعمل أى حاجة علشان تفوز بيك... أنا سيرين... سيرين يا حبيبى.

حاول قدر المستطاع أن يستعيد قواه و قدرته على التركيز، و ما إن وعى تماما قال لها بوهن:

ــ سيرين!!... انتى ايه اللى جابك هنا؟!..

ردت عليه بنبرة متلهفة:

ــ أخيرا فوقت...انت لما اتأخرت على المحاضرة الأولى قلقت عليك جدا و ما صدقت انها خلصت و روحت بسرعة أسأل عليك مروان، قالى ان انت قولتله هتيجى بس هتتأخر شوية و مخرجتش من القوضة خالص، أنا قلقت أكتر و أخدت منه مفتاح السكن و جيت أنا و فدوة بسرعة، دخلت عليك لقيت حرارتك عالية و بتهلوث كمان، و أدينى أهو بقالى أكتر من تلت ساعة بعملك كمادات لحد ما الحمدلله الحرارة نزلت شوية، و فدوة نزلت تجيب اسعاف..

ازدرد ريقه بصعوبة بسبب ألم حلقه و قال لها بتعب:

ــ طاب اتصلى بيها بسرعة خليها ترجع...أنا مش عايز اسعاف و لا هروح مستشفى..

ــ ازاى بس يا ريان انت مش قادر تتكلم..

ــ لو سمحتي يا سلمى كلميها بسرعة أنا مش رايح فى مكان..

نظرت له بوجه متجهم و هى تقول بغضب دفين:

ــ أنا سيرين مش سلمى..

إعتصر جفنيه بغضب من نفسه أن مازال يتلفظ بإسمها ثم قال بوهن:

ــ سورى...اتصلى بيها بقى.

اتصلت بها و أخبرتها أن تعتذر للإسعاف و تعود مرة أخرى إليهما ففعلت، و بعدما أنهت الاتصال، قال لها بإمتنان حقيقى:

ــ أنا متشكر جدا يا سيرين على تعبك معايا و اهتمامك بيا...مش عارف لو مكنتيش جيتى كان جرالى إيه دلوقتي..

ابتسمت و جلست قبالته بالفراش و هى تقول بنبرة عاشقة:

ــ متشكرنيش يا ريان..انت متعرفش انت ايه بالنسبالي..أنا يمكن بحاول ألتزم بوعدى ليك إن إحنا نفضل أصدقاء، بس دا ميمنعش إن حبك فى قلبى زى ما هو...بالعكس بيكبر...

تنحنحت بحرج مصطنع ثم استرسلت بمكر:

ــ احم...أنا اسفة إنى بقولك كدا..أنا عارفة طبعا انك بتحب خطيبتك و متمسك بيها و...

قاطعها قائلا بجمود:

ــ احنا فسخنا الخطوبة..

نظرت له بصدمة و حاولت جاهدة كبت ابتسامتها السعيدة، و سألته بإندهاش مصطنع:

ــ معقول!!...طاب ليه؟!

هز كتفيه لأعلى بعدم إكتراث ثم قال بنبرة ضعيفة لكن يشوبها أطنانا من الوجع:

ــ عادى...شوية مشاكل كدا و اختلافات اكتشفت بعدها ان احنا استحالة نكمل مع بعض و احنا مبسوطين..

أطرقت رأسها تتصنع الحزن و الإشفاق ثم قالت:

ــ بقى انت فى واحدة تختلف معاك؟!..لا لا لا...دى أكيد مبتشوفش..فعلا مش حاسة بقيمتك..لو كانت بتحبك بجد و حاسة بأهميتك فى حياتها كانت هتحارب الدنيا كلها علشانك...

زاغ بعينيه فى الفراغ يتمعن بحديثها، و كأن كلماتها المسمومة قد نفذت إلى قلبه المنجرح، فتغلغل سمها عبر الجرح المفتوح فزاده إتساعا و جعل من إندماله أمرا عسيرا...

استغلت لحظة وجعه و شروده بكلامها و استرسلت بخبث و بنبرة هائمة:

ــ ريان انت حاجة كبيرة أوى...انت أى بنت عاقلة تتمناك..وسامة و رجولة و شهامة و أخلاق و ذكاء و كل المواصفات الحلوة موجودة فيك..هكون أسعد بنت فى الدنيا لو اديت نفسك فرصة تبصيلى على إنى حبيبتك...مش مهم دلوقتي..خد وقتك و اخرج من صدمتك و أنا فى انتظارك فى أى وقت...استحالة حد هيدخل قلبى بعدك يا ريان..

فى تلك اللحظة دلفت فدوة و قطعت حديثهما، ثم جلست بإرهاق على أحد الكراسى و قالت:

ــ حمد الله على سلامتك يا ريان...أنا اتصلت و اعتذرت للمسعف بعد ما كانت العربية قربت توصل..

رد عليها بنبرة متحشرجة من الألم:

ــ انا آسف يا فدوة تعبتك معايا..

ــ لا أبدا و لا يهمك..أهم حاجة انك تقوم بالسلامة..

نظرت له سيرين بابتسامة عاشقة:ـ

ــ احنا هننزل نشوف أى صيدلية نجيبلك منها خافض حرارة و أقراص أنتيبيوتيك علشان البرد دا...تمام؟!

هز رأسه برفض قائلا:

ــ لا يا سيرين كفاية عليكم كدا...أنا هتصل بمروان يجيبلى أدوية و هو جاى...ارجعى انتى و فدوة على الجامعة و كملوا اليوم...ثم استرسل بنبرة ذات مغذى:

ــ أومال مين اللى هيشرحلى المحاضرات اللى فاتتنى النهاردة..

اتسعت ابتسامتها بسعادة بالغة، فيبدو أن ذلك تصريح منه بقبول عرضها الذى أملته عليه قبل دلوف فدوة، و قالت بحماسة مفرطة:

ــ أنا طبعا..

اومأ لها بابتسامة، فأردفت بسعادة:

ــ طيب هنرجع الجامعة و هبعتلك مروان بالأدوية..تمام؟!

ــ تمام..

سألته بترقب و أدب مصطنع:

ــ ممكن أبقى أتصل بيك علشان أطمن عليك؟!

هز رأسه بإرهاق راسما ابتسامة ضعيفة على ثغره ثم قال:

ــ طبعا يا سيرين..أنا مش عارف أشكرك ازاى و جميلك دا مش هنساهولك أبدا.

امتعضت ملامحها بغضب مصطنع ثم قالت:

ــ و بعدين بقى!!..احنا مش قولنا مفيش بينا شكر؟!

ضحك بضعف ثم أعادت ترتيب الغرفة تحت أنظاره المتعجبة من كم الحب الذى تُظهره له و كم الإهتمام الذى تُغدقه عليه، ثم أخذت صديقتها و عادت من حيث أتت.

أما سلمى المسكينة إنهار كيانها و دخلت فى نوبة من الإكتئاب الشديد بعدما أنهى ريان طريقهما بكلماته القاسية، و استمرت على هذا الحال قرابة الأسبوعين إلى أن ذهب سفيان فى إحدى زياراته لهن بعدما استأذن من أمها، فجلسا سويا بغرفة الضيوف، أخذ سفيان يطالعها بإشفاق و حزن بالغ، يتأمل وجهها الشاحب، الهالات السوداء التى أحاطت عينيها، بنيتها الجسمية التى نحلت، و ظهرها الذى أحناه الحزن و الأسى، ثم أدار دفة الحديث قائلا بجدية:

ــ سلمى... ممكن أعرف انتى هتفضلى حابسة نفسك فى جو الإكتئاب دا لحد امتى؟!

لم يجد منها ردا فاسترسل بنبرة عاتبة:

ــ مش انتى اللى اختارتى الفراق؟!.. و عارفة إن الفراق صعب و انك مش هتتحمليه و مع ذلك أصريتى عليه.. جاية ليه دلوقتي تعيطى عليه؟!.. ها؟!.. ردى عليا..

أيصا لم يجد منها سوى الصمت والسكون جوابا، فزفر بنفاذ صبر ثم أردف بحدة:

ــ قسما بالله العظيم يا سلمى إن ما فوقتى و رجعتى لحياتك و شغلك تانى لهتصل بـ ريان و هقوله على كل اللى حصلك و انك كدبتى عليه علشان يكرهك و يفسخ هو الخطوبة..

طالعته بعينين جاحظتين من الغضب ثم نطقت أخيرا:

ــ اليوم اللى هيعرف فيه هيكون آخر يوم فى عمرى يا سفيان.

رد عليها بصراخ:

ــ و انتى بتسمى العيشة اللى انتى فيها دى عيشة.. حرام عليكي انتى مش عايشة في الدنيا لواحدك.. أمك و أختك هيموتوا عشانك.. فوقى بقى و ارسمى لنفسك حياة جديدة و انسى الماضي باللى فيه..

نظرت له بتمعن ثم قالت بنبرة أليمة:

ــ لو انت قدرت تنسى الماضي و ترسم لنفسك حياة جديدة يا سفيان أنا هقدر..

ألجمته تلك الكلمات و أفقدته القدرة على النطق، فهى محقة، فبما ينصحها و هو غير قادر على تطبيق النصيحة على ذاته، أتأمرون الناس بالبر و تَنسوْن أنفسكم؟!..

استرسلت حديثها الحاد بمزيد من القسوة:

ــ ايه!!.. سكت ليه؟!... شوفت؟!.. صعب.. مش كدا؟!

ازدرد لعابه متخطيا تلك الغصة المريرة المتكونة بحلقه، ثم قال بصوت أجش:

ــ لا مش صعب.. هنسى يا سلمى... هنساها و هكمل حياتى زى ما هى كانت عايزة... هكمل علشاها هى.. علشان تكون مرتاحة فى قبرها... و انتى كمان لازم تكملى حياتك.. حياتنا مش هتقف على انسان مهما كانت مكانته فى قلوبنا... طول ما فينا روح لازم هنكمل يا سلمى...

بدأت تشهق شهقات ضعيفة و هى تقول بنبرة باكية:

ــ مش قادرة أصدق إن خلاص مفيش ريان.. قلبى بيوجعني اوى.. حاسة إنى هموت يا سفيان.. مش قادرة..

أجابها بجدية و إصرار:

ــ سلمى مفيش قدامك غير إنك تقطعى الأجازة و ترجعى الشغل... شغلك و اختلاطك بزميلاتك و بالناس و المرضى هيهون عليكى كتير و هيطلعك من جو الإكتئاب اللى انت حابسة نفسك فيه..

هزت رأسها بموافقة قائلة من بين شهقاتها:

ــ معاك حق...فعلا شغلى هو اللى هيخرجنى من اللى أنا فيه..

ابتسم سفيان بارتياح ثم قال:

ــ الله ينور عليكى...من بكرة تروحى مديرية الصحة و تقدمى طلب الإعفاء من نبطشيات السهر بسبب الحادثة، و تاخدى معاكى كل التقارير حتى صورة المحضر بتاع النيابة و ان شاء الله شغلك يبقى بالنهار بس و بكدا نكون مطمنين عليكى...

أجابته بشبه ابتسامة:

ــ حاضر...شكرا يا سفيان على تعبك معانا و وقفتك جنبنا...بجد لو كان لينا أخ مكانش هيعمل اللى انت بتعمله دا..

ابتسم بود قائلا:

ــ طاب ما أنا أخوكم فعلا يا سلمى...و انتى هتفضلى أختى الكبيرة اللى بعزها و بحترمها زى ريان أخويا بالظبط.

بالفعل استجابت سلمى لنصيحة سفيان و أنهت إجراءات استئناق العمل، كما أنها حصلت على إعفاء من العمل الليلى بمساعدة الدكتور حسام..

الدكتور حسام الذى ما إن رآها تسير بأحد أروقة المشفى حتى انفرجت أساريره بسعادة غامرة و أقبل عليها حتى وقف قبالتها قائلا بسعادة:

ــ حمد الله على سلامتك يا سلمى...تسمحيلى أقولك سلمى من غير مس.

اومأت بابتسامة بسيطة قائلة:

ــ الله يسلمك يا دكتور..طبعا حضرتك تقول اللى انت عايزه..

ــ اممم...طاب خلاص بلاش حضرتك دى بقى..

ــ ماشى براحتك.

ــ أخبارك إيه دلوقتي..بقيتى كويسة؟!

ــ اه أحسن كتير الحمد لله..

ــ طيب الحمد لله

سكت مليا ثم أجلى حنجرته قائلا بحرج طفيف:

ــ احم..أنا كنت عايز أتكلم معاكى فى موضوع شخصى شوية..ممكن؟!

تسلل القلق إلى جوارحها فيبدو أنها قد فهمت ما يرنو إليه، فأجابته بتوتر:

ــ احم..أنا آسفة جدا يا دكتور أنا معايا حالتين النهاردة و مش فاضية خالص...مرة تانية ان شاء الله..عن إذنك..

ثم فرت من أمامه سريعا و لم تنتظر أن يرد عليها حتى، بينما هو نظر فى أثرها بإحباط و هو يقول:

ــ ماشى يا سلمى...اتقلى براحتك..بس بردو هفضل وراكى و مش هيأس أبدا..


فى ذات اليوم اتصل ريان بوالده لكى يخبره بإنهاء علاقته بـسلمى بعدما حسم أمره خلال الأسبوعين الماضيين، و أصبح من الواجب إخبار والديه بذلك، فرد عليه أبوه بحزن بالغ:

ــ طاب فكر تانى يابنى...سلمى بنت حلال و تستاهلك..

أجابه و الحسرة تملأ طيات كلماته:

ــ سلمى هى اللى اختارت يا بابا...هى اللى باعت و أنا مش هشترى حد باعنى...لا دا أنا ادوس على قلبى و لا إنى أهين كرامتى علشان واحدة متستاهلش ذرة حب منى..

هز ابراهيم رأسه بقلة حيلة مردفا:

ــ يابنى متقولش عليها كدا...سلمى بنت أصول و متربية...انت متعرفش ظروفها ايه؟!

أجابه بحدة و عصبية:

ــ ظروف؟!..ظروف ايه دى اللى خلتها تكتشف أخيرا إنها مبتحبنيش..

أغمض عينيه ليخفف من وطأة إنفعاله ثم استرسل باعتذار:

ــ أنا آسف يا بابا إنى عليت صوتى عليك بس اعذرنى...أنا مجروح منها أوى..

رد بنبرة يملأها الحزن و الحسرة على حاليهما:

ــ و لا يهمك يا حبيبى...ربنا يعوضك عنها خير و يسعدك دى أهم حاجة عندى..

ــ ربنا يخليك ليا يا حاج...يا ريت تبلغ طنط فاطمة و تنهى معاها الموضوع دا و اتأسفلها بالنيابة عنى..

ــ ماشى يابنى...اللى تشوفه..

ــ وصل سلامى لماما و سفيان

ــ مع السلامه يا حبيبى..

ألقى ابراهيم بجسده بإهمال على أقرب أريكة له، لا يصدق ما آل إليه حال ولده البكرى و خسارته الفادحة لحبيبة عمره، و الأدهى من ذلك حبه لها الذى تحول لكره بدون وجه حق..و لكنه القدر الذى يتقاذفهم كيفما شاء.


بينما ريان أنهى المكالمة مع والده، و استرخى بفراشه يفكر بأمر ما و يقلبه برأسه من جميع الإتجاهات ثم قرر أن يتصل بـ سفيان ليتشاور معه فى ذلك الأمر، و بعد أن تبادلوا السلامات و أخبره بأمر إنهاء خطبته من سلمى خلال المكالمة التى أجراها معها منذ أسبوعين، قال بترقب:

ــ بقولك ايه يا سفيان..عايز أخد رأيك فى موضوع مهم.

ــ قول يا حبيبى سامعك.

ــ فاكر البنت زميلتى اللى أبوها عزمنى هنا ف ليفربول و وعدنى إنه هيشغلنى فى شركته بعد ما أرجع من البعثة؟!

ــ أيوة فاكر..

ــ أنا بفكر أخطبها..

جحظت عيناه من الصدمة و قال بذهول:

ــ بالسرعة دى؟!..دا انت مفاتش على فسخ خطوبتك من سلمى أسبوعين..

رد بجدية ممزوجة بالغضب:

ــ و أنا ايه اللى هيخلينى أئجل قرار زى دا..عشان ايه؟!..خايف على مشاعرها أوى؟!..اذا كانت هى معملتش حساب لغربتى و بكل بجاحة جاية تقولى أنا مبقتش أحبك زى الأول.

ــ ريان افهم...انت دلوقتى مجروح و مصدوم...متخليش صدمتك تأثر عليك و تخليك تاخد قرارات متهورة.

أجابه بجدية و تصميم:

ــ أنا عارف كويس أوى أنا بعمل ايه يا سفيان...و بعدين سيرين بتحبنى بجد و بتتمنى اننا نكون لبعض..

ــ طاب و انت يا ريان؟!

ازدرد لعابه بألم بالغ ثم قال بوجع:

ــ أنا!!...أنا كرهت الحب يا سفيان..محيت الكلمة دى من قاموس حياتى...قفلت على قلبى و جنزرته بسلسلة حديد..من دلوقتي و رايح همشى بدماغى مش بقلبى..

ــ و دماغك بتقولك إيه بقى؟!

ــ دماغى بتقولى ان سيرين أنسب واحدة ليا...بنت ناضجة و ذكية و محترمة، متربية كويس، مشوفتش منها أى حاجة وحشة، بالعكس دايما بتشحعنى و واقفة جنبى، دا غير ان باباها كمان بيعزنى أوى و مبيعديش أسبوع من غير ما يكلمنى و كل مرة يقولى مكانك محجوز فى مجلس الإدارة...هعوز ايه أكتر من كدا؟!

ــ ريان فكر كويس...الراجل دا تقيل و احنا مش من توبه و لا هو من توبنا...

ــ بس أنا متأكد إنه هيوافق و هيرحب جدا كمان...و الجوازة دى هتم بشروطى أنا...و بكرة تشوف..

ــ ايه يا عم الثقة دى كلها؟!

ــ ما انت عارف إن دى طبيعتى يا سفيان.

تنهد سفيان بقلة حيلة ثم قال باستسلام:

ــ شكلك مفكر و واخد قرارك و بتعرفني بس.

ــ لا أنا بقنعك بس مش أكتر..

ــ طيب يا حبيبى اللى تشوفه صح و تلاقى فيه راحتك اعمله...و شوف نفسك كدا و أنا هتكلم مع الحاج فى الموضوع دا..

ــ حبيبى يا سيفو يا صغير..ربنا ما يحرمنى منك يا رب..

ابتسم سفيان مجيبا:

ــ و لا يحرمنى منك يا حبيبى..مع السلامة.

أنهى سفيان المكالمة و قد انفطر قلبه لأجل سلمى، تلك المسكينة التى تحولت لضحية بين ليلة و ضحاها، و الآخر لا يعلم عنها شيئا، بل يحاسبها و يعاقبها على ذنب لا هو يعرفه ولا هى لها يد فيه.


فى اليوم التالى أنهى ريان محاضراته و قبل مغادرة الجامعة أقبل على سيرين بإبتسامة عريضة و إستأذن من زميلاتها و أخذها إلى أحد المقاهى المقابلة للجامعة و جلسا سويا بإحدى الطاولات المنعزلة فى المقهى، بعدما طلب لهما مشروبا باردا، ادار ريان دفة الحديث قائلا بابتسامة واسعة:

ــ سيرين أنا بقالى أسبوعين بفكر فى حاجة كدا و أتمنى إنك توافقى عليها..

إلتمعت عينيها بسعادة غامرة و سألته بترقب:

ــ حاجة إيه يا ريان؟!

ازدادت ابتسامته اتساعا و هو يقول:

ــ عايز أطلب إيدك من باباكى...موافقة؟!

جحظت عيناها و شهقت بتفاجؤ و هى تكمم فمها بيديها ثم قالت:

ــ ريان انت بتتكلم بجد؟!

ــ طبعا يا سيرين...هى المواضيع دى فيها هزار..

هزت رأسها بعدم تصديق ثم قالت بتأثر:

ــ أنا مش مصدقة...أخيرا...بقالى ٨ شهور مستنية اللحظة دى، من أول يوم لينا فى ليفربول و أنا بتمنى إن احنا نرتبط...لا و كمان بتسألنى موافقة؟!..أبقى مجنونة رسمى لو رفضت طبعا..

أومأ لها بسعادة ثم قال:

ــ سيرين انتى تستاهلى كل خير...أنا كنت مغفل لما فضلت واحدة تانية عليكى متستاهلش ربع الحب اللى كنت شايلهولها فى قلبى...ان شاء الله انتى هتكونى كل دنيتى.

أدمعت عيناها صدقا، فكم تعشقه و فعلت من الآثام لكى تحصل عليه، ترى أنه يستحق أى تضحية و أى ثمن يمكن أن تدفعه، و ها هى تجنى ثمار شرها و شر أبيها، و لكنها ثمار خبيثة ربما تجلب لهما عقابا قاسيا لم يتوقعاه يوما.

همست بنبرة عاشقة:

ــ أنا بعشقك..

رد عليها بابتسامة فقط و لم يستطع لسانه أن يبادلها كلمات العشق و الهيام، و كأنه مقيد بحب سلماه فقط، لا يقطر عشقا إلا لها، و لكنه سرعان ما غير مجرى الحديث قائلا بجدية:

ــ عايزك تفاتحى مجدى باشا فى الموضوع و شوفى رأيه إيه و بلغينى...و لو موافق هنعمل حفلة خطوبة صغيرة كدا وسط زمايلنا علشان يعرفوا، و كلها شهرين و نرجع مصر و هناك بقى هنزوركم انا و والدى و والدتى و أخويا و نتفق على كل حاجة علشان الكلام يبقى رسمى..تمام؟!

اومأت بسعادة مفرطة:

ــ تمام يا حبيبى.

تنحنح ريان بضيق بعدما نعتته بهذه الكلمة ثم قال لها بجدية:

ــ بلاش حبيبى و حبيبتى دى لحد ما يكون فى بينا ارتباط رسمى...كدا هكون مرتاح نفسيا أكتر..

أومأت بتفهم فهى تعلم أنه ملتزم دينيا و عشقها الشديد له يجعلها تتقبل أى قيود يفرضها عليها بصدر رحب، بينما ريان تعجب من حاله عندما أحس بذلك الضيق الغير مبرر بالنسبة له، فهو كان يقول نفس الكلمة لـ سلمى بل و أكثر من ذلك..


بينما فى المشفى المركزى بالمنصورة..

انتظر د.حسام سلمى خارج المشفى بسيارته وقت انصراف الموظفين، و ما إن ابتعدت قليلا عن المشفى، لحق بها و وقف بجوارها بسيارته و حدثها من خلال شباك السيارة قائلا:

ــ سلمى...اركبى هوصلك..

أجابته برفض:

ــ لا شكرا يا دكتور البيت مش بعيد..

رد بإصرار:

ــ بقولك اركبى...أنا مش متحرك بالعربية غير لما تركبى..

تسلل الحرج إلى جوارحها و اخذت تنظر للمارة من حولها ثم اضطرت للركوب، فقد كانت هيئتها مثيرة للريبة، همت بالركوب فى الخلف إلا أنه فتح الباب الأمامى و أصر عليها أن تركب بجواره فاضطرت لأن توافقه لكى تنهى هذا المشهد المحرج بالنسبة لها.

طغى عليهما صمتا قصيرا قطعه حسام قائلا:

ــ ممكن أعزمك على اى حاجة نشربها و بالمرة أكلمك فى الموضوع اللى كنت عايزك فيه..

ردت بضيق:

ــ دكتور حسام مينفعش اللى انت بتعمله دا...لو حد شافنى راكبة معاك و قاعدين مع بعض كمان فى كافيه هيقول عليا ايه!!.

تنهد بنفاذ صبر ثم قال بجدية:

ــ صدقينى مش هاخد من وقتك كتير...عشر دقايق بالظبط..

رمقته بغيظ ثم نظرت للطريق أمامها و لم ترد، و بعد عشرة دقائق كانا جالسين بإحدى الطاولات بمقهى شبابى، طلب لهما مشروبا ثم أدار دفة الحديث قائلا:

ــ سلمى...تتجوزينى؟!

طالعته بصدمة، لبرهة لم تدرى ما يجب عليها قوله فى هذا الموقف الصعب، و لكنها استجمعت قوتها بعدما نحت صدمتها جانبا ثم أجابته بملامح حزينة و نبرة موجعة:

ــ انت أكتر واحد عارف ظروفى و مع ذلك بتطلب منى طلب جاحد زى دا؟!

قطب جبينه بتأثر من حالة الحزن التى انتابتها ثم قال بجدية:

ــ أنا بحبك يا سلمى...أنا مش عايز اولاد...أنا مش عارف انتى تعرفى إنى كنت متجوز و لا لأ...بس أنا هعرفك بنفسى كدا باختصار...أنا عندى ٣٦ سنة، كنت متجوز من حوالى ٨ سنين و طلقت مراتى من ٣ سنين، و مخلف منها ولدين عايشين معاها حاليا، عندى عيادة صغيرة كدا على قدى فى نفس البيت اللى ساكن فيه، بجانب شغلى طبعا فى المستشفى، عندى شقتى مستقلة عن بيت أهلى، من ساعة ما اتعرفت عليكي عن طريق الحادثة و قربت منك و أنا معجب بيكى و حبيتك بعد كدا، صدقينى أنا مستعد أعيش معاكى العمر كله و مش فارق معايا ابدا وجود أولاد من عدمه..

ازدردت لعابها بصعوبة ثم قالت بجدية و حزم:

ــ مع احترامي الشديد ليك، أنا مش موافقة...مش علشان شخصك لاسمح الله.. بس أنا خرجت موضوع الجواز من دماغى و مش ناوية أرجع فى قرارى..

هز رأسه بأسى ثم قال:

ــ كلامك دا مش هعتبره رد نهائي...هسيبك تفكرى براحتك و تاخدى رأى المقربين منك و أنا فى انتظارك فى أى وقت.

لم تجد جدوى من الشرح و الجدال معه فأومأت له بالإيجاب حاسمة قرارها بعدم الموافقة، فلينتظر كيفما شاء و لكنها لن تتراجع..


يتبع....

الفصل التاسع

عادت سلمى إلى منزلها، و ما إن دلفت إلى الشقة حتى وجدت داليا تجلس بأريكة الصالة و هى تبكى بشدة، فاضطربت سلمى و أسرعت إليها تسألها عن سبب بكائها فأجابتها من بين شهقاتها:

ــ خالو أحمد اتصل بـ ماما من شوية و قالها إنه جايبلى عريس من عندهم من اسكندرية و قالها نجهز علشان جايين يوم الخميس الجاى يطلبوا ايدى رسمى، و طبعا لما ماما قالتلى رفضت و هى المرادى صممت و اتعصبت عليا لدرجة إن الأزمة رجعتلها تانى، بس أنا لحقتها بالأدوية و نامت بعدها... سلمى أنا مش هتجوز غير سفيان... أنا بحبه و مش قادرة أتخيل نفسى مع حد غيره...

انتهت من كلماتها الأخيرة ثم انخرطت مرة أخرى فى بكاء أشد، فجذبتها سلمى إلى حضنها و أخذت تربت على ظهرها بحنان و هى تقول:

ــ و بعدين يا داليا... يعنى هنخليه يتجوزك بالعافية يعنى؟!.. انتى عارفه انه بيحب ملك و مافاتش على موتها غير ٣ شهور بس، ثم انه كمان لسة بيدرس، انتوا الاتنين من سن بعض، بس معروف ان البنت بتتجوز الأول بغض النظر عن دراستها، انما الشاب لازم يخلص دراسته و بعد كدا يشتغل و يجهز شقته و مووايل كتير.... و طبعا ماما مش هترضى تخليكى تستنيه دا كله و فى الآخر مش عارفين بردو هيتقدملك و لا لا.

ردت عليها بعصبية:

ــ ملك و خلاص ماتت، و الدراسة فاضلها شهرين و تخلص، و شقته موجودة و مش ناقصها غير حاجات بسيطة، و الشغل أهو شغال فى محل عمو ابراهيم غير الدروس الخصوصية اللى بيديها لمعارفه، ها عندك حجة ايه تانى؟!

ــ يا حبيبتى المشكلة مش عندى... هو يا داليا... هو مش مستعد يخوض علاقة رسمية و يتحمل مسؤلية بيت و قلبه مع واحدة تانية..

هبت داليا من جلستها و كفكفت عبراتها ثم قالت بإصرار و جدية:

ــ أنا مفيش قدامى وقت.. و مش لسة هستنى لما ينسى ملك و بعدين أشوف ان كان هيطلب ايدى و لا لا..

نهضت سلمى هى الأخرى و وقفت قبالتها تسألها بترقب:

ــ انتى ناوية على ايه يا داليا؟!

سلطت نظرها على نقطة بعيدة ثم ضيقت عينيها قائلة بتصميم:

ــ أنا هروحله يا سلمى.. سفيان لازم يفوق بقى.. لازم يفوق و ينتبهلى أنا... استحالة هيقابل واحدة بتحبه قدى... أنا أكتر واحدة أحق بيه..

طالعتها سلمى بملامح مشدوهة و عينين جاحظتين ثم قالت:

ــ انتى اتجننتى!!.. انتى عايزاه يقول عليكى ايه؟!

أجابتها بلامبالاة:

ــ يقول اللى يقوله يا سلمى... مش أحسن ما أضيع أنا فى الرجلين...

قبضت على كتفى شقيقتها قائلة برجاء:

ــ سلمى... علشان خاطري سيبينى أروحله و اتكلم معاه و أعمل اللى عليا علشان ما اندمش بعد كدا.. بس اوعى تقولى لـ ماما... ماشى؟!.. مش هتأخر..

لم تنتظر ردها و غادرت سريعا من المنزل متخذة طريقها إلى منزل سفيان و دقات قلبها تتسارع فى صدرها، تدعو الله أن يسدد خطاها و يهدى سفيان لها و يخضع لرغبتها و إلا حتما ستخسر حلاوة الدنيا إن خسرته.

فتحت عفاف باب الشقة للطارق فوجدتها داليا، انتباتها حالة من القلق خشية أن يكون قد أصاب أحداهن مكروها، فـ وجه داليا الباكى لا يبشر بخير أبدا، سألتها داليا قبل أن تدخل:

ــ سفيان موجود يا طنط..

قطبت جبينها باستغراب ثم قالت بدهشة:

ــ ايوة يا بنتى موجود..كان فى درس و لسة راجع حالا..ادخلى يا حبيبتى..

دلفت بخطى مترددة و جلست على أقرب كرسى لها، بينما عفاف دخلت غرفة سفيان تخبره بأن داليا تريده فى أمر هام، خرج لها بعد دقائق و جلس قبالتها بعدما ألقى عليها السلام ثم بدأت هى الحديث بسرد قصة العريس و بعدما انتهت أجهشت فى بكاء مرير و هى تقول:

ــ ملك و ماتت و معادش ليها رجوع...و انت عارف انى بحبك و استحالة هقدر اعيش مع حد غيرك...مستنى ايه يا سفيان؟!..ماما المرادى مصممة، و انا متأكدة اللى مخليها مصممة كدا اللى حصل لسلمى، زى ما تكون عايزة تعوض فرحتها بيا أنا، سفيان أنا حياتى هتكون جحيم من غيرك...ذنبى ف رقبتك..ماما بتتحسر على حظى شوية و حظ سلمى شوية لما هتموت بسببنا.

بينما سفيان كان يستمع لها مطرق الرأس، بملامح منكمشة من الأسى، لا يدرى ماذا عليه أن يفعل، بعدما انتهت سكت مليا ثم رفع رأسه لها و طالعها بعينين محتقنتين قائلا:

ــ زى ما انتى مش هتقدرى تعيشى مع حد غيرى، أنا كمان مش هقدر أعيش مع واحدة غير ملك.

جحظت عيناها من كلماته الجارحة و كتمت غضبها ثم قالت بوجه متجهم:

ــ معنى كلامك ان انت مش هتتجوز أبدا؟!

شرد بعينيه بعيدا عنها و بعد برهة من الصمت قال بجدية:

ــ معنى كلامى إنى لو اتجوزنا هظلمك معايا و مش هيكون فى راحة، و أكيد هيكون فى بينا مشاكل كتير بسبب الشك لأنك عارفة ان قلبى فيه غيرك..

أجابته سريعا بلهفة:

ــ اوعدك يا سفيان إنى هتحملك لحد ما تنساها، و أنا واثقة إنها فترة و هتعدى و مسيرك هتحبنى و انا هساعدك على كدا...ها قولت ايه؟!

سكت و هو يزدرد لعابه بتوتر و قلق من ذلك القرار السريع و المتهور فى ذات الوقت، إلى أن دلفت إليهما عفاف و بيدها صينية بها ثلاثة أكواب من الشاى وضعتها على الطاولة و جلست ثم قالت:

ــ و احنا يا حبيبتى مش هنلاقى عروسة أحلى منك لـ سفيان، هو هيلاقى فى جمالك و ادبك و تدينك و تربيتك فين، دا انتى تربية ايدى و بينا عشرة و عيش و ملح..

اتسعت ابتسامة داليا بينما سفيان نظر لأمه بصدمة، فقد قررت عنه دون الإلتفات لرأيه، و لكنها تجاهلته و استرسلت حديثها بسعادة:

ــ اشربى الشاى و روحى يا حبيبتى و انتى مطمنة و بكرة بإذن الله هتلاقينا عندكم بنطلب ايدك من ام سلمى حبيبتى..

ردت عليها بسعادة غامرة:

ــ بجد يا طنط؟!..

أومأت لها بابتسامة و هى تقول:

ــ طبعا يا حبيبتى بجد.

نهضت داليا ثم قالت:

ــ طاب انا همشى أصل ماما متعرفش ان انا هنا...سيبتها نايمة و جيت و انا خايفة تصحى و متلاقينيش..

ردت عفاف:

ــ ماشى يا حبيبتى مع ألف سلامة...و أنا لما الحاج ييجى من برة هخليه يكلم مامتك و ياخد منها ميعاد على بكرة..

هزت راسها عدة مرات بموافقة بسعادة بالغة و فتحت باب الشقة و انصرفت..

بينما سفيان مازال جالسا بصدمته، لا يصدق الحديث الذى دار أمامه منذ قليل، لقد فرضت عليه أمه الزواج بها بطريقة مفاجئة لا يمكنه الفرار منها، و ما إن خرجت داليا حتى صاح بها بغضب:

ــ ايه اللى انتى عملتيه دا يا ماما..بتجوزينى بالتدبيس؟!..ليه كدا يا ماما؟!..ليييه..

اقتربت منه كثيرا ثم قالت بنبرة حانية:

ــ يا حبيبى كل كلمة داليا قالتهالك عندها حق فيها...مسيرك هتتجوز يا سفيان، لو مش دلوقتى هيبقى بعدين، و انت مش هتلاقى واحدة تحبك و تتمنالك الرضا ترضى زيها...و بعدين يبنى كفاية اللى حصل لسلمى، و البنت طلعت جدعة و سابت أخوك و ضحت بحبها و سعادتها عشانه و علشان متحرمهوش من الخلفة، مش كفاية كسرة قلبها، يبقى هى و أختها كمان؟!..اعتبر جوازك منها جبر خواطر و رد جميل لسلمى...انت فكرك يعنى انى كنت هكون مبسوطة لو كان ريان اتجوز منها بعد اللى حصلها؟!..انا حمدت ربنا إنها طلعت بتفهم و جات منها هى..فهمتنى يابنى؟!

زفر بعنف و هو يمسح على وجهه بكفيه ثم نظر لها بحيرة قائلا:

ــ كلامك مظبوط يا ماما...بس الموضوع صعب عليا أوى.

ربتت على فخذه بحنان قائلة:

ــ قوم يا حبيبى صلى صلاة استخارة و اتوكل على الله و ان شاء الله ربنا هيسهلك الصعب.


بالفعل فى المساء تحدثت عفاف مع زوجها فى ذلك الأمر فرحب به للغاية، و اقنع سفيان مرة أخرى به، و حينها شعر إبراهيم بالإرتياح أن وضع ولده على اول طريق النسيان و بداية حياة جديدة دون الإلتفات للماضى.


فى اليوم التالى تقدمت عائلة ابراهيم لطلب يد داليا من والدتها و قد كان جميع أفراد العائلة فى حالة من السعادة الغامرة سوى سفيان الذى حاول قدر الإمكان أن يتظاهر بالسعادة، و لكنه كان من الداخل محطم الكيان، مفطور القلب، حزين السريرة، لم تنفك صورة مليكته عن مطاردته طوال الجلسة، يشعر و كأنه قد اقترف إثماً كبيرا فى حقها، و لكنه كان يُذكّر نفسه دائما بذلك التسجيل الصوتى بصوتها و هى تُملى عليه وصيتها بإكمال حياته بدونها.


أثناء الجلسة رن هاتف سفيان برقم شقيقه، لم يرد فى المرة الاولى خوفا على مشاعر سلمى، و لكن فى الثانية ألح عليه والده بالرد و تظاهرت سلمى باللامبالاة إلى أن سمعت سفيان يقول له:

ــ باباها وافق بالسرعة دى؟!

ــ مش قولتلك يابنى انه بيتمنى..

تنحنح سفيان بحرج و هو ينظر لسلمى يراقب رد فعلها ثم قال له:

ــ على فكرة احنا فى بيت طنط فاطمة علشان بنخطب داليا ليا..

رد ريان بسعادة:

ــ بجد!!...ألف ألف مبروك يا سيفو...أيوة كدا خلى الفرحة فرحتين...يا ريت تعرفهم ان أنا كمان خطبت..

رد عليه سفيان بهمس حتى لا يسمعه منهم احد:

ــ انت متخلف يالا!!..انت عايز توصل لإيه بالظبط!!..

أجابه بنبرة ممزوجة بالوجع:

ــ عايز أوصلها إن زى ما هى استغنت، أنا كمان استغنيت و مش باقى على اللى باعنى و اشتريت غيرها من غير ذرة ندم...سفيان افتح الاسبيكر..

ــ اعقل يا ريان بلاش تهور..

ــ متقلقش...أنا هباركلكم بس علشان الكل يسمعنى.

رد عليه بنبرة تحذيرية:

ــ ريااان!!

ــ قولتلك هبارك بس..

هز رأسه بقلة حيلة ثم قال للحضور:

ــ بقولكم يا جماعة... أنا هفتح الاسبيكر علشان ريان عايز يسلم عليكم و يباركلكم..

اومأوا بموافقة و القلق مسيطر عليهم جميعا، و ما إن فتح السماعة الخارجية حتى قال ريان:

ــ ازيكم كلكم عاملين ايه وحشتونى جدا جدا... ألف مبروك يا داليا... ألف مبروك يا طنط فاطمة و عقبال سلمى.. بقولكم استنونى بقى لما أرجع علشان نعمل خطوبتنا سوا.. أنا و سيرين و ريان و داليا..

صدمة.. صدمة احتلتهم جميعا خاصة سلمى، حتى أنها لم تحتمل أن تسمع أكثر من ذلك و هبت من جلستها ركضا إلى غرفتها و هى تبكى، بينما سفيان اصتك فكيه من الغيظ و الغضب و قاطعه سريعا قائلا:

ــ طيب يا ريان هكلمك تانى بقى أصل عايزين نتفق فى تفاصيل الجواز... سلام..

أغلق الخط سريعا دون أن ينتظر رده و هو يسبه و يلعن نفسه أن وافقه فى هذا الطلب السخيف، و أتاح له الفرصة لكى يجرح قلب تلك الضحية المسكينة بدون وجه حق..

ظل الصمت مسيطرا عليهم لفترة، فلم يقوى أحدهم على التحدث بعد هذا الكلام الصادم، فالكل منجرح بسبب ما حدث لسلمى و كلهم مشفقين عليها و ما آل إليه حالها، و ما تُلاقيه الآن من ظلم و معاملة جائرة من ريان، إلى أن تنحنح سفيان قائلا بحرج:

ــ أنا آسف جدا يا طنط فاطمة.. مكنتش أعرف إنه هيقول كدا... معليش اعذروه هو ميعرفش حاجة و سلمى هى اللى عايزة كدا...

ابتلعت فاطمة غصة مريرة تكونت بحلقها ثم قالت بتجهم:

ــ أنا عارفة يابنى إنه معذور... يلا نصيبنا كدا و احنا راضيين بيه و الحمد لله..

ردت عفاف قائلة:

ــ قومى يا داليا شوفيها متسيبيهاش تعيط لواحدها كدا... خليكى معاها يمكن تهدى شوية..

داليا بحزن:

ــ حاضر يا طنط..

بعد فترة انصرفت عائلة إبراهيم على وعد بزيارتهم مرة أخرى لمناقشة تفاصيل الخطبة، تاركين اياهن فى حالة من الحزن و الأسى بسبب ما حدث من ريان.


ظلت سلمى طوال الليل مستيقظة تفكر فى ريان و فعلته، أبهذه السرعة بحث عن غيرها؟!..ألفظها من قلبه و انتهى كل شيئ؟!..و لكن علامَ ستلومه و اللوم عليها هى..فهى من بدأت و عليها أن تتحمل النتائج...و لكنها ما زالت لا تصدق أنه قصد إذلالها بهذه الطريقة..إذن فلترد له الصفعة حتى لا يظن أنها تنتظره أو أنها نادمة على إنفصالها عنه، فحسمت أمرها أن توافق على طلب حسام الزواج منها و بذلك تقتص لكرامتها منه و كأن شيئا لم يكن..

و بالفعل فى اليوم التالى ذهبت لمكتبه بالمشفى و أخبرته بموافتها، فكاد أن يطير من السعادة و اتفق معها على زيارتها فى القريب العاجل بعدما أخذ منها العنوان، بينما هى استأنفت عملها بأعصاب تالفة و ندم شديد، فقد شعرت بأنها قد تسرعت و لكن فلتفعلها و ترى، لعله خير.


فى برلين....

تعافت ملك تماما إلا من القليل من بعض الأعراض مثل الصداع المتكرر، و حشرجة صوتها البسيطة بسبب أجهزة التنفس، الشيئ الذى سمح لها بالخروج أخيراً من المشفى بعد عام كامل من المعاناة و الصراع من أجل البقاء على قيد الحياة..

اقترح عليها معلم اللغة الألمانيّة الإلتحاق بمعهد الترجمة حتى يكون لها فرصة عمل تفيدها أثناء عيشها بالمدينة و حتى تصنع لنفسها كيان خاص بها و قد سَرّها ذلك الأمر كثيرا و ساعدها المعلم الألمانى فى تقديم أوراقها و تسهيل الالتحاق بالمعهد..


تقدم د. حسام لخطبة سلمى و قد وافقت والدتها فى الحال، ظنا منها أن سلمى قد تخطت أزمتها و آن لها أن تتزوج و تنعم بحياة هادئة مثلها كمثل أى فتاة فى سنها.

اقترح سفيان إقامة حفل خطبة داليا و سلمى بيوم واحد فى حدود أفراد الثلاث عائلات فقط، فوافقوا جميعا على ذلك و تمت الخطبة فى جو من السعادة و الإرتياح، إلا قلبان ينزفان من قسوة الفراق، و تلاعب الأقدار بهما، أحدهما ينعى معشوقه و يتحسر لفقدانه، و الآخر يتألم من ضراوة الجرح الذى فتحه به معشوقه، فلم يكن صاحب القلب الأول سوى سفيان، و لم تكن صاحبة القلب الثانى سوى سلمى..

بعد انصراف الضيوف من شقة فاطمة، بقى فقط العرسان، فهمست سلمى فى أذن شقيقتها بشيئ ما، قطبت داليا جبينها باستغراب من طلب سلمى و لكنها لم تمانع و قامت بتنفيذ طلبها حين ذهبت لـ سفيان و قالت له:

ــ سفيان إيه رأيك نتصور احنا الأربعة صورة على موبايلك للذكرى يعنى..

أومأ بموافقة و وقف كل عريس منهما بجوار عروسه و قامت سما صديقة داليا بتصويرهم عدة صور...

ظلت سلمى شاردة طيلة الوقت، تريد أن ترسل تلك الصور لـ ريان لتقتص لكرامتها منه و تريه أنها من خُطبت أولا، إلى أن واتتها فكرة ما، فذهبت لـ سفيان و قالت له:

ــ لو سمحت يا سفيان ممكن مويابلك لحظة بس أتصل على واحدة زميلتى أخليها تعملى أجازة عارضة بكرة..أصل فونى مهنج و فون داليا مش لاقياه...تقريبا كدا سايباه فى مكان و مش فاكرة.

أعطاها الهاتف بحسن نية بعدما فتح الرقم السرى، فأخذته و دلفت غرفتها و تركت البقية منشغلين فى ثرثرتهم، و أغلقت الباب جيدا ثم فتحت الواتساب و قامت بإرسال الصور إلى رقم ريان و كتبت بعدها:

ــ مش هتباركلنا يا ريو...عقبالك.

بعدما تم إرسال الصور و الرسائل حذفت المحادثة بالكامل حتى لا يعلم سفيان أنه تم ارسال تلك الصور له.

ثم بعد ذلك أجرت مكالمة بزميلتها و أعادت الهاتف مرة أخرى لـ سفيان و كأن شيئا لم يكن.


على الحانب الآخر...

بمجرد أن وصل ريان تلك الصور و رأى سلمى تقف بجوار ذلك الأبله المبتسم بسماجة، مظهرة خاتم الخطبة الملتف حول بنصرها الأيمن حتى غلى الدم بعروقه و اشتعلت سريرته بغيرة ملتهبة تكاد تحرق الأخضر و اليابس، حتى أنه لم يلتفت لصورة داليا و سفيان و لم يقوى على تهنئة شقيقه، و ألقى الهاتف على الفراش بعصبية و هو يعتصر موضع قلبه بغضب قائلا لنفسه:

ــ ايه يا ريان؟!..زعلان و غيران ليه؟!..دى متستاهلش لحظة حزن واحدة...انت المفروص تفرح و تحمد ربنا إنها بانت على حقيقتها فى الوقت المناسب..

انحنى ليلتقط الهاتف مرة أخرى و ينظر فى الصورة بتمعن و هو يقول:

ــ بقى هو دا اللى انتى سيبتينى عشانه...ليييه...فيه إيه أحسن منى...

اعتصر جفنيه بألم بالغ ثم صاح لنفسه بغضب و هو يضرب الحائط مرات متتالية:

ــ انساها بقى...انساها...انساها..

خارت قواه و نزل بجسده جالسا على الأرض و ضم ركبتيه لصدره ثم دفن رأسه بين كفيه يتحسر على من كان يظن أنها حبيبته...و لكن مهلا...فهى حقا حبيبته و لم يستطع أن ينزعها من قلبه بعد، رغم كل ما فعله انتقاما منها لكرامته.


مر الشهران سريعا، و انتهت معهما سنة دراسية هى الأخيرة لـ سفيان و داليا، و انتهى أيضا ريان و سيرين من بعثتيهما و قد أوشكا على العودة إلى أرض الوطن...


كانت عفاف و داليا يعملان على قدم و ساق فى منزل إبراهيم، فاليوم عودة ريان من بعثته بعد حصوله على دبلومة الزمالة البريطانية فى إدارة الأعمال، بعدما انتهيتا من اعداد أصناف الطعام، جلستا فى انتظار إبراهيم و سفيان حيث ذهبا لاستقباله فى المطار..

بينما سلمى قابعة فى غرفتها بعدما خيم عليها الشعور بالإشتياق البالغ له، أخيرا انتهت بعثته و ها هى ستراه اليوم، لكن يا لها من أيام سِجال، فبدلا من أن تستقبله كحبيب، ستستقبله كمجرد جارها العائد من السفر، أى قسوة تلك التى تمارسها عليها الأيام، كم تمنت لو أنه بالإمكان عدم رؤيته، و لكنها لا بد أن تعزز موقفها أمامه حتى لا يظن أنها تخشى مواجهته، لا بد أن تستمر بقوتها الواهية أمامه إلى أن يشاء الله و يُخرجه من قلبها..

اتصلت داليا بها لتخبرها بقرب وصولهم و أنه لا بد أن تكون هى و والدتها فى إستقباله، كما أن عفاف دعتهما لتناول الغداء معهم بمناسبة سلامة وصوله، فاضطرت سلمى للموافقة، و بدلت ملابسها و أخذت أمها و ذهبتا إلى منزل إبراهيم..

بعد حوالى نصف ساعة دلف ريان إلى شقته، فأسرعت عفاف بالإرتماء بين أحضانه و هى تبكيه شوقا و فرحا بعودته سالما، بينما هو يربت على ظهرها بحب، ابتعدت عنه أخيرا ثم تركها و دلف إلى داخل الشقة فوجد سلمى و داليا و فاطمة فى إستقباله، سلم اولا على فاطمة ثم داليا ثم جاء دور سلمى.

وقف أمامها بهيئته التى حبست أنفاسها، فشتان بينه و بين حسام من حيث الوسامة و البنية الجسمية، طالعها بابتسامة جانبية ساخرة مُبديا برودا منافٍ لثورة المشاعر المتأججة فى صدره و التى تطالبه بجذبها إلى أحضانه و سحقها بين ذراعيه.

قطب جبينه باستغراب قائلا بنبرة ساخرة:

ــ خسيتى أوى و اتغيرتى يا سلمى...شكلك كدا مش جاية على الخطوبة التانية...مش كدا بردو؟!

أحست بأن خنجرا مسموما قد اخترق قلبها فأدماه بلا شفقة، و لكنها تماسكت قدر المستطاع و أجابته ببرود قائلة بغضب دفين:

ــ لا بتهيألك...أنا عاملة دايت لأنى كنت تخنت أوى من فترة...و لسة عايزة أخس شوية كمان.

رفع حاجبيه بتهكم قائلا:

ــ امممم...أنا عكسك خالص..من يوم ما خطبت سيرين و أنا حاسس إنى زدت شوية مش عارف دا من الراحة النفسية الرهيبة اللى الواحد حاسس بيها و لا ايه؟!

هزت رأسها بأسى و انكمشت ملامحها بوجع قائلة:

ــ انت فعلا عكسى...و عمر ما فى حاجة هتجمعنا..

بدأ وجهه يحتقن من الغضب فأسرع سفيان يجذبه من ذراعه إنقاذا للموقف و هو يقول بمرح مصطنع:

ــ ايه يا عم...عصافير بطننا بتصوصو و الحاجة حالفة ميت يمين ما حد هايمد ايده على الأكل قبلك..

تنهد ريان بأسى و قال بنبرة حزينة:

ــ ماشى يا سفيان...يلا نتغدا الأول..

سفيان:

ــ يلا يا طنط فاطمة نقعد على السفرة على ما البنات يرصوا الأكل على السفرة...

ساد بينهم جميعا جو من التوتر و الحزن فى آن واحد بسبب علاقة سلمى و ريان التى ساءت بدرجة كبيرة حتى أنهما أصبحا نِدّيْن، كل منهما يتفنن فى جرح الآخر. 

الفصل العاشر

اتصل ريان بـ مجدى والد سيرين و أخذ منه موعد لزيارته بصحبة أسرته لطلب يد سيرين، فرحب مجدى و أعطاه موعد بعد يومين لأنه يريد مقابلته سريعا حتى يُسلمه مكانه فى مجلس إدراة مجموعة شركاته.


بعد اليومين وصل ريان بأسرته إلى ڤيلا مجدى سلام بأحد أرقى أحياء القاهرة، و استقبلهم مجدى بحفاوة و جلسوا جميعا فى غرفة الصالون الفاخرة..

انقبض قلب عفاف من ذلك المكان الواسع و الذى يفوق مستواهم الإجتماعي بمراحل، و لم تشعر براحة نفسية بتاتا لهذه الزيجة، و لم يقل حال زوجها عنها و لكنها رغبة ابنهما الطموح.

أقبلت عليهم سيربن بهيئة أنيقة و لكن كانت بالنسبة لهم فاضحة، حيث كانت ترتدى فستان بنصف كم، قصير لبعد الركبة بقليل، و بفتحة صدر واسعة تظهر بشرتها البيضاء، فشهقت عفاف بصدمة لمظهرها، فهم غير معتادين على هذا، بينما إبراهيم و سفيان أطرقا رأسيهما بحرج شديد، أما ريان اصتك فكيه من الغضب و هو ينظر لها بوعيد و هى لا تبالى.

همت بالجلوس بعدما سلمت عليهم، إلا أن ريان استوقفها قائلا:

ــ بعد إذنك يا مجدى باشا عايز بس اتكلم مع سيرين لوحدنا برا شوية قبل ما نتكلم فى أى تفاصيل..

أومأ مجدى قائلا:

ــ اه اه طبعا اتفضل..

تقدمته سيرين و سار خلفها إلى أن خرجا إلى أحد المقاعد بحديقة الڤيلا و أدار هو دفة الحديث قائلا بجدية:

ــ شوفى يا سيرين...أنا مش هلومك على اللبس اللى انتى لابساه دا لأنى عارف ان دا بالنسبالك عادى و انك اتربيتى على كدا، بس لو عايزانا نكمل مع بعص يبقى لازم تلتزمى بقوانينى أنا.

ردت عليه بترقب:

ــ قوانين ايه يا ريان..

رد بحدية ممزوجة بصرامة:

ــ أولا تتحجبى...احنا بيئتنا مفيش فيها بنات بتلبس زيك كدا، ولا بنات بتمشى بشعرها، و الأهم من البيئة الدين طبعا..و أنا راجل متدين و بغير جدا على أهل بيتى..

ثانيا أنا مش فى مقدرتى إنى أعيشك فى ڤيلا...و عندى شقتى فى بيت أهلى جاهزة، بس أنا هضطر أخد شقة هنا فى القاهرة مش عشانك لا...علشان أكون بس قريب من شغلى فى الشركة.

ثالثا تفصلى تماما بين علاقتى بيكى و علاقتى بوالدك و شغلى معاه...لأن أى مشكلة هتحصل بينا مش هسمح لوالدك يتدخل بنفوذه أو يضغط عليا بشغلى عنده...و لو حصل هختار كرامتى و ملعون أبو الشغل اللى يخلينى أتذل لواحدة ست..

أنا كدا خلصت و هسيبك تفكرى كويس فى كلامى و هستنى موافقتك و الأهم موافقة والدك...تمام؟!

ازدردت لعابها بصعوبة، فيبدو أن شخصية ريان أصعب مما تصورت، و لن تستطيع ترويده بسهولة، و لكن حبها له أقوى من ملذات الحياة التى عهدتها، لذلك أومأت له بعدما رسمت ابتسامة واسعة على ثغرها و هى تقول بحماس و ثقة:

ــ ريان أنا موافقة على كل كلامك...أنا عارفة من الأول إن فى بينا شوية اختلافات بس أنا عندى استعداد إنى أدوس على أى حاجة و أتغير علشانك...انت متعرفش أنا بحبك قد إيه..

اتسعت ابتسامته بثقة و غرور ثم قال بسعادة:

ــ هى دى سيرين العاقلة الناضجة اللى أنا اختارتها و فعلاً مخيبتيش ظنى فيكى..

زادت ابتسامتها اتساعا فقال لها برقة و ترغيب:

ــ حيث كدا بقى اطلعى غيرى الفستان دا و شوفى واحد طويل و يكون مقفول لحد ما تجيبى لبس جديد و حجاب يليق بـ سيرين أميرتى و حياتى كلها..

أذابتها كلماته الأخيرة و طالعته بنظرات هائمة جعلتها تومئ له بلا وعى و صعدت لغرفتها سريعا امتثالا لأوامره.


انتهت جلستهم بعدما اتفقوا على كافة تفاصيل الزواج، كما أملى ريان على مجدى شروطه التى أملاها على ابنته، و اخبره بأنه موافق طالما ابنته ستكون سعيدة بذلك، و تم تحديد موعد الزفاف بعد شهرين على أن يُقام حفل زفاف ريان و سفيان فى يوم واحد فى أرقى قاعات الأفراح بمدينة المنصورة توفيرا للتكاليف، و دمجا للفرحة.

عادت أسرة ريان إلى المنصورة، بينما بقى ريان ليتسلم عمله بشركة حماه و يبدأ أولى خطواته فى إثبات جدارته بمنصبه الرفيع الذى نَصَّبه إياه حماه العزيز.


مر شهرى الخطبة، و كانت سيرين خلالهما تحاول جاهدة التقيد بالملابس الساترة و الحجاب، و لكنها أبدا لم تستطع التخلى عن حياتها المتحررة بهذه السهولة، كما أنها غير مستعدة للتخلى عن ريان، لذلك اهتدت لألا تتخلى عن أىٍ منهما، حيث نوت فى قرارة نفسها أنها ستلتزم بأوامره فى حضوره، و ما إن يغيب لأى سبب كان ستمارس شيئا من عاداتها القديمة كالخروج مثلا للملاهى الليلية و التدخين و التنزه مع صديقات السوء، و لا ضير من السفر للمنتجعات السياحية إذا تركها و سافر لإحدى الدول فى عمل ما، و قد وافقها أبوها الفاسد المستهتر فى ذلك، فهو يرى أنها تلك حياتها و لها أن تعيشها كيفما شاءت و أن ريان متشدد للغاية و هذا الأسلوب يناسبه.


و ها قد حان يوم الزفاف...

كان جميع الأبطال فى قمة أناقتهم و بهائهم، حيث أطل العريسان بحللهم الأنيقة و العروسان بفساتينهم القيمة على ضيوف الحفل بإطلالة تخطف الأنظار و تحبس الأنفاس..

و لكن واأسفاه على قلوب المحبين منهم، فـ سفيان صدى إسمها يتردد بقلبه و صورتها تطارد مخيلته، أما ريان يشعر بطعنات تمزق فى قلبه و هو يرى من عشقها منذ نعومة أظافره تقف جنبا لجنب مع غيره، ينظر لعروسه بحسرة و كأنه يقول لها هذا مكانها هى، لم يستطع أن يُبعد ناظريه عنها طيلة الحفل، كان يراقب حركاتها و سكناتها، فَقَد لذة الفرح بزفافه، فليذهب الزفاف إلى الجحيم و ليودع حبيبته وداعا أبديا...يسأل الله أن ينزع حبها من قلبه و إلا تحولت حياته لجحيم مُستعر.

أما سلمى و آهٍ من وجع سلمى و حسرة سلمى و مأساتها، قلبها يبكى دما، تحاول جاهدة كبت عبرات الحسرة و الألم، ترى نظراته العاتبة و لكن ما الجدوى، و بينهما حسام يراقب الموقف بغيرة قاتلة، يرى جيدا عينيها المحتقنتين بالدموع و يسمع صوتها المتحشرج من أثر الحزن و الأسى، تارة يريد أن يصرخ بها و يوبخها، و تارة يلتمس لها الأعذار، فما مرت به ليس هينا أبدا على أى فتاة فى مقتبل العمر.

لم يفز فى ذلك الحفل سوى داليا و سيرين اللتان اكتملت فرحتيهما بتحقيق أمنياتهما.

بعدما انتهى الحفل أخذ سفيان عروسه إلى شقته بمنزل أبيه، بينما أخذ ريان عروسه إلى شقته بالقاهرة.

و ما إن خرجت سلمى من بوابة القاعة حتى انهارت و نزلت على ركبتيها و انخرطت فى نوبة ضارية من البكاء المرير على مرئى و مسمع من حسام الذى يراقبها بغضب بالغ و غيرة مشتعلة، بينما انكبت عليها فاطمة تهدهدها و تواسيها إلى أن هدأت تماما، فوقفت قبالة حسام و خلعت خاتم الخطبة من بنصرها و وضعته فى كفه و هى تقول ببكاء:

ــ أنا آسفة جدا يا حسام...بس قلبى معاه و مش عارفه أخرجه منه..خطوبتنا كانت أكبر غلطة عملتها، استحالة هقدر أكمل معاك و أسعدك...سامحني.

أطبق كفه على الخاتم و نظر لها بجمود قائلاً:

ــ انتى صح...كانت غلطة فعلا...سلام.

ثم غادر من أمامها بخطى سريعة غاضبة عائدا إلى منزله و هو فى حالة يرثى لها.


فى شقة ريان بالقاهرة...

يقف فى شرفة شقته الفاخرة بعدما بدل ملابسه إلى بنطال بيتى و تى شيرت فى انتظار سيرين حتى تبدل ملابسها هى الأخرى..

وقف شاردا فى اللاشيئ و هو يدير تلك السيجارة المحشوة بنبات البانجو بين يديه، ذلك السم الذى نصحه به أحد زملائه بالشركة بحجة أنها ستنسيه العالم بأكمله و تجعله يحلق فوق السحاب، تردد كثيرا أيجربها أم لا، و لكنه حقا فى تلك الليلة بالذات يريد أن ينساها، بل يريد أن يمحيها من عقله تماما، فبدأ بسحب اول نفس منها علها تساعده فى النسيان و لتكن تلك المرة الأولى و الأخيرة، سَعُل قليلا فى البداية، ثم سرعان ما استحسن شعور النشوة الذى خيم عليه و شربها بالكامل ثم دلف الغرفة و هو فى حالة من الهذيان و اللاوعى..

ما إن رأته سيرين حتى وقفت أمامه بردائها الأبيض الشبه عارى، وضعت كفيها على صدره و هى تطالعه بابتسامة هائمة، تدور بعينيها فى ملامحه التى تعشقها عن قرب لأول مرة، لا تصدق أنها أخيرا نالته، بينما هو بدلا من أن تُنسيه تلك السيجارة سلمى، صَوّرتها له أنها هى، فبادلها البسمة و جذبها من خصرها بقوة لتستقر بين أحضانه، أطبق عليها بذراعيه بقوة و قال و هو يدفن وجهه برقبتها بهمس ضعيف للغاية:

ــ سلمى..

ظنت أنه يهمس باسمها، فكلا الإسمين يبدئان بحرف السين، فزادت ابتسامتها هياما و شددت من عناقها له، ثم أخذ يهذى بلا وعى و هو مازال على وضعه:

ــ بحبك..بعشقك..مش عارف أبطل تفكير فيكى، كنتى زى القمر النهاردة...كان نفسي أسيب الدنيا كلها و أخطفك و نروح لمكان بعيد محدش يعرفنا فيه و اللى يحصل يحصل....عايز أدخلك جوايا علشان تشوفى قد ايه بحبك....

بينما سيرين فى قمة سعادتها و هنائها، و ظلا على هذا الوضع و هو يسمعها معسول الكلام إلى أن قضى ليلته معها و هو تقريبا شبه مغيب، و الحية تظن أنها المقصودة و لا تدرى أنه يهذى باسم حبيبته و من تربعت على عرش قلبه، إنها سلماه.


بينما فى شقة سفيان بالمنصورة...

بدل كل منهما ملابسه فى غرفة منفصلة، و أخذ سفيان يماطل معها حتى يؤجل ساعة اللقاء، فصلى بها اولا ثم تحجج بالجوع و أكلا سويا، و عندما لم يجد بُدا من اللقاء، أخذها و جلس بجانبها بالفراش، أمسك كفها أولا، فتلك المرة الأولى التى يلمسها بها، أراد أن يشعر بها كزوجة حتى لا يظلمها او يتقاعص عن أداء واجباته الزوجية تجاهها، و لكن مازالت مشاعره أسيرة ملاكه، مسح بكفه على شعرها و هو يبتسم لها بمجاملة و هى مطرقة الرأس فى قمة خجلها، أخيرا جذبها إلى أحضانه و هو يتنهد بوجع و قلة حيلة، شدد من عناقه لها و كأنه يجبر جسده و مشاعره على الإستجابة لأوامر العقل، و لكن مشاعره أبت التحرك و ما زالت جامدة، أطبق جفنيه يعتصرهما بقوة حتى يُمحى صورة ملك من مُخيلته و أخذ يتضرع إلى الله سِرا أن يُنسيه إياها و لا يرى سوى داليا زوجته و سكنه، و بعد وقت طويل من الأحاديث المتبادلة بينهما عن الزواج و السكن و السكينة، استطاعت داليا أن تجذبه إليها و تنسيه ملك و لو قليلا، فأصبحت زوجته شرعا و ملأت السعادة قلبها بعدما امتلكته و حققت حلمها أخيرا بالزواج منه.


فى تلك الأثناء فى شقة اسماعيل بـ برلين..

نهض من فراشه مفزوعا على صراخ قادم من غرفة ملك، فدلف غرفتها سريعا، فوجدها تجلس بفراشها و هى تبكى و ممسكة بموضع قلبها، أقبل عليها يسألها بقلق بالغ:

ــ مالك يا ملك...فيكى إيه يا حبيبتى؟!

أجابته و هى تبكى و تشدد من قبضتها الممسكة بقلبها:

ــ قلبى بيوجعنى اوى يا بابا...حاسة إحساس وحش اوى...إحساس صعب مش قادرة أوصفهولك.

أخذها فى حضنه و ربت على ظهرها و هو يتلو عليها آيات من القرآن الكريم، و حين هدأت قليلا سألها بترقب:

ــ قوليلى يا حبيبتى إيه اللى خلاكى تحسى كدا؟!

انفلتت منها عدة شهقات خافتة و هى تقول من بينها:

ــ حلمت إن الشاب اللى بيجيلى فى الحلم علطول واقف بعيد عنى أوى و بيمد ايده ليا و أنا بجرى عليه فجأة طلع سور من الأرض و فصل بينا و كل ما أقرب منه السور يعلى، و لما قربت منه جدا و كنت خلاص هشوف ملامحه كويس السور على جدا و غطاه كله و هو واقف مكانه مبيتحركش، قومت من النوم مفزوعة و حاسة بالعجز و الضياع....ليه يا بابا الأحاسيس الغريبة دى بتجيلى...حاسة إن فى جزء كبير منى ضايع و مش لاقياه و مش عارفة أعيش من غيره...حاسة إن قلبى مش فيا يا بابا...

قالت كلماتها الأخيرة ثم أجهشت فى بكاء مزق نياط قلبه، يعلم أن قلبها يشعر بمالكه يضيع منها و يذهب لغيرها، فقد أخبره شقيقه فى مكالمة سابقة أن اليوم زفاف سفيان على داليا و لكن ليس باليد حيلة، إنه يشعر الآن بفداحة خطأه حين ظن أن ملك ستستأنف حياتها بعقل غير العقل و قلب غير القلب، لا يدرى أن القلب لا ينسى و إن نسيت جميع الجوارح.


مر على زواج سفيان و ريان ثلاثة أشهر، أثبت خلالهما ريان تفوقه فى شركة حماه الأمر الذى زاده حبا له و تمسكا به، فقد أدرّت عليه أفكاره و مقترحاته أموالا طائلة، كما أن رصيد ريان البنكى فى زيادة استمرارية بفضل مجهوداته الجبارة بالشركة.

كانت علاقته بـ سيرين باردة فى أغلب الأحيان، و مع ذلك لم تتوانى سيرين عن لفت انتباهه الدائم بغنجها و غزلها الدائم له، فهى تخشى أن تفتُر علاقتهما إلى حد الإنفصال و هى لن تتحمل ذلك، لقد هُوِست به و لن تتخلى عنه أبدا ما حَيَت.

عاد من عمله مساءا بعد يوم عمل شاق فوجدها فى انتظاره فى أبهى صورها برداء أحمر نارى شبه عارى كالعادة و شعرها الأشقر منساب على ظهرها، تقف و من خلفها طاولة الطعام مزينة بالشموع بجانب وجبة عشاء فاخرة..

أقبل عليها بابتسامة واسعة، فقد أنسته هيئتها الجذابة إرهاق العمل، اما هى ركضت إليه و ارتمت فى حضنه بابتسامة فرحة و هى تقول برقة:

ــ حمد الله على سلامتك يا حبيبى

شدد من احتضانها و مسد على شعرها و هو يقول مشيرا بعينيه إلى الطاولة:

ــ الله يسلمك يا قلبى... ايه الحاجات الجميلة دى!!..

ابتعدت عنه قليلا و زمت شفتيها بغضب مصطنع و قالت:

ــ هو دا بس اللى لفت نظرك؟!

انفلتت منه ضحكة مدوية ثم قرص وجنتيها قائلا بمرح:

ــ لا طبعا... إنتى أجمل حاجة فى دنيتى، كفاية إنك فهمانى و بتحاولى تسعدينى بكل الطرق.

أجابته بابتسامة هائمة:

ــ انا بحبك اوى يا ريان.. أنا مستعدة أبيع الدنيا كلها عشانك.. و أكتر حاجة بتمناها انك بس تحبنى ربع الحب اللى بحبهولك..

تغيرت ملامحه للتوتر، فيبدو أنها تشعر بعدم محبته الخالصة لها رغم محاولاته الدائمة بالتظاهر بذلك، و لكنه سرعان ما قال لها بكذب:

ــ انا كمان بحبك يا سـ سيرين..

لوت شفتيها لجانب فمها بابتسامة ساخرة ثم قالت مغيرة مجرى الحديث:

ــ عندى ليك خبر بمليون جنيه..

قطب جبينه بتفكير ثم قال بتوجس:

ــ خير فرحينى.

اجابته بابتسامة واسعة:

ــ أنا حامل.

صدمة..فقط يشعر بالصدمة، لا يدرى أيفرح أم يحزن، و لما يحزن، فهذا أمر طبيعى، هل لأنه لم يفكر يوما أنه سينجب من غيرها، سلماه التى لم تخرج من قلبه يوما، سلماه التى مازال يتعثر بإسمها كلما تحدث مع زوجته، سلماه التى بسببها أصبح مُدمناً للبانجو منذ ليلة زواجه. عندما طال صمته هزته سيرين فانتبه لها أخيرا ثم رسم ابتسامة مصطنعة على ثغره و احتضنها برسمية و هو يقول بوجع:

ــ ألف مبروك يا حبيبتى... أحلى خبر سمعته النهاردة..

ابتعدت عنه قليلا ثم قالت بسعادة غامرة:

ــ على فكرة انا حامل فى شهرين بس مكنتش عارفة، حسيت بشوية تعب كدا و روحت انا و فدوة لدكتور و هو اللى بشرنى و حبيت اعمل احتفال بسيط كدا أنا و انت بالمناسبة دى.

رفع حاجبيه بدهشة قائلا:

ــ معقول!!.. يعنى انتى و داليا ماشيين مع بعض.

هزت رأسها بإيجاب ثم أمسكت كفه و سارت به إلى غرفة النوم و هى تقول بغنج:

ــ يلا يا بيبى غير هدومك علشان نبدأ حفلتنا..

انقضت سهرته معها و هو متظاهرا بالسعادة، و لكنه كان شارد الذهن فى سلمى، و حديثه معها عن أسماء أطفالهما فى المستقبل الذى لم يأتى و يبدو أنه لن يأتى أبداً، فمنذ أن علم بفسخ خطبتها من حسام و قد ازداد الحنين لها أضعافا مضاعفة، فهو لا يصدق أنها فقدت شغف حبها له كما زعمت فى الماضى، و بدأت تراوده الشكوك حول أمر إنفصالها عنه خاصة عندما يزور عائلته بين الحين و الآخر، و يراها و يرى نظراتها الملتاعة المشتاقة له، فهو يعرفها جيدا و يفهم نظراتها.

ما إن نامت سيرين حتى خرج لشرفة الغرفة و بدأ فى تدخين تلك السيجارة المسمومة، و هو يفكر بها بطريقة مبالغ بها، يكاد يقتله الشوق، و يحرقه الحنين، فنوى فى قرارة نفسه أن يسافر المنصورة فى الغد لزيارة العائلة و إخبارهم بحمل سيرين، و يرى بنفسه وقع هذا الخبر على سلمى.


استيقظ مبكرا فى الصباح و أيقظ سيرين ثم قال لها:

ــ أنا هسافر المنصورة يومين كدا أغير جو و بالمرة أعرف البيت هناك بخبر حملك..هتيجى معايا؟!



ردت عليه بنبرة ناعسة:

ــ لا يا حبيبى أنا خايفة من السفر علشان الحمل، و بعدين كل ما أروح معاك مامتك بتحسسنى ان انا فاشلة علشان مبعرفش أطبخ كويس..

رد عليها بجدية ممزوجة بضيق قائلا:

ــ ما هى معاها حق بردو يا سيرى...أنا كل مرة بكون حاسس إن أنا هيجيلى تلبك معوى بسبب الأكل اللى بتعمليه، دا غير الدليفرى اللى انتى شغالة عليه دايما...طاب يا ريت تتعلمى منها الطبخ.

تأففت بملل ثم قالت لتنهى ذلك الحوار:

ــ أوكى يا بيبى...هتعلم..

تنهد بقلة حيلة ثم قال:

ــ طيب..ما تخرجيش من غير ما تكلمينى و تستأذنى منى و لو روحتى للدكتور عرفينى و خودى معاكى فدوة و أنا كل شوية هتصل بيكى أطمن عليكى..

طالعته بابتسامة هائمة ثم قالت:

ــ أوكى يا حبيبى.

انحنى ليقبل جبهتها و لكنها تعلقت برقبته، فاضطر لأن يبادلها العناق ثم نهض و أخذ حقيبة يد صغيرة بها أغراضه و بعض الملابس و غادر الشقة، ثم استقل سيارته الخاصة و انطلق إلى المنصورة بالطبع بعد أن أخبر والديه بقدومه فى الطريق.


يتبع

مع تحياتي / دعاء فؤاد عرض أقل


تعليقات

التنقل السريع