![]() |
مقدمه
مكتملة
قلبان التقيا على الحب ثم فرقتهما الأقدار، حتى ظنا أن اجتماعهما استحال كإستحالة طلوع الشمس من مغربها، و غروبها من مشرقها، تلك العلامة التى تنبؤنا بقيام الساعة، نعم... فهو ينتظر لقائها فقط فى الجنة.
ماذا إذن لو قُدِّر لهما اللقاء بعدما اتخذ كل منهما سبيله فى الحياة، يهيمان فيها بجسد خاوى من الروح، بخطى مهزوزة، و كيان هش قابل للإنهيار، فقد تعانق قلبيهما، و بقى حطام جسديهما يهذى و يهوى بهذه الحياة.
الفصل الأول
قلبان التقيا على الحب ثم فرقتهما الأقدار، حتى ظنا أن اجتماعهما استحال كإستحالة طلوع الشمس من مغربها، و غروبها من مشرقها، تلك العلامة التى تنبؤنا بقيام الساعة، نعم... فهو ينتظر لقائها فقط فى الجنة.
ماذا إذن لو قُدِّر لهما اللقاء بعدما اتخذ كل منهما سبيله فى الحياة، يهيمان فيها بجسد خاوى من الروح، بخطى مهزوزة، و كيان هش قابل للإنهيار، فقد تعانق قلبيهما، و بقى حطام جسديهما يهذى و يهوى بهذه الحياة.
فى أحد المولات التجارية الشهيرة بمدينة المنصورة، تقبع طفلة صغيرة لا تتجاوز الثالثة من عمرها بأحد أركان المكان، تبكى و تنادى على أمها، فكان مظهرها يمزق نياط القلوب، اقتربت منها فتاة يافعة محجبة ترتدى فستان محتشم يتناسب مع حجابها و انحنت إلى مستواها و قالت لها و هى تمسح على شعرها بحنو:
ــ حبيبتى بتعيطى ليه؟!.. فين ماما؟!
أجابتها الطفلة و هى تبكى و ترتجف من الخوف:
ــ مش عالفة.. ماما.. أنا عايزة ماما..
أخذتها بين أحضانها و قد انفطر قلبها لحالتها المذرية و الذعر الذى أصابها، و اخذت تطمئنها و تهدهدها قائلة:
ــ خلاص يا حبيبتى متعيطيش قطعتى قلبى... طاب قوليلى الأول انتى اسمك ايه؟!
أجابتها من بين شهقاتها:
ــ ملك..
رفعت حاجبيها باستغراب قائلة بذهول و مرح فى آن واحد:
ــ ملك!!.. ايه الصدفة الجميلة دى... انتى عارفة؟!.. أنا كمان اسمى ملك...
لم تبالى الطفلة كثيرا بكلامها، فأكثر ما يشغلها الآن هو شعورها بعدم الأمان فى غياب أمها و دفئ أحضانها و كلماتها التى تقطر حبا و حنانا و ردت ببكاء أشد:
ــ انا عايزة ماماااا..
فجأة وصلها صوت أمها المذعور و هى تنادى بإسمها قائلة:
ــ ملك..
التفتت الملكتان إلى مصدر الصوت، و ركضت الصغيرة على الفور إلى أحضان أمها التى التقفتها بسعادة و قلق فى آن واحد، و أخذت تربت على ظهرها تارة، و تشدد من احتضانها تارة و هى تحمد الله أن دلها عليها سريعا بعدما بحثت عنها لعشر دقائق فقط.
بينما ملك الكبيرة تراقب الموقف من مسافة بعيدة نوعا ما و هى تبتسم على ذلك المشهد الذى ينطق بكل معانى الأمومة.
اقتربت من الأم حتى وقفت قبالتها و قالت بصوتها الرقيق:
ــ حمد الله على سلامتها يا مدام... خلى بالك منها ربنا يخليهالك.
بينما الأم تجمد جسدها ما إن وصلها صوتها و بدأت تدير عينيها نحوها بحذر و ترقب إلى أن جحظتا من الصدمة عندما رأتها بوضوح، تسمر بؤبؤيها عليها، تناظرها بملامح مشدوهة و كأنما أصابها السحر، و قلبها يقرع بمخضعه من فرط الهلع، تحدثها نفسها بتيه و شرود:
ــ "أيعقل أن تكون هى...لا لا مستحيل.. فالموت لا رجعة منه... إذن هى شبيهتها.. نعم شبيهتها"
و بينما هى فى خضم هلعها و التيه الذى أصابها، كانت ملك تحدثها و داليا لا تشعر بها، إلى أن يأست منها و انصرفت، و لم تعد داليا إلى رشدها إلا بعد مغادرة ملك الكبيرة من أمامها.
أخذت نفسا عميقا تملأ به رئتيها اللتان اختنقتا من كثرة الإفتراضات التى داهمتها بمجرد رؤية ملامح تلك الغائبة عنهم لأكثر من خمس سنوات، يكاد يصيبها الجنون من كثرة التفكير، فإن كانت هى ملك المتوفاة و بفرض أنها لم تمت، إذن كيف لم تتعرف عليها، فقد كانت تحدثها برسمية و كأنها لا تعرفها.
عادت سريعا بصحبة الصغيرة إلى زوجها الذى ينتظرها عند المدخل الرئيسى للمول، و بمجرد أن وصلت إليه و وقفت أمامه صاح بها بقلق:
ــ ينفع كدا يا داليا... ايه التأخير دا كله..بقالك اكتر من نص ساعة متصلة بيا و بتقوليلى تعالى خدنا..
ازدردت لعابها بصعوبة من فرط التوتر و أجابته باعتذار و ملامح مذعورة و هى تحاول إخفاء حقيقة ما حدث منذ قليل:
ــ مـ معليش يا سفيان... انت عارف ماشية ملك... بطيئة جدا و هى اللى أخرتنى..
نظر لطفلته بابتسامة حانية و هو يقول:
ــ خلاص كله يهون علشان ملوكة حبيبة بابا..
تعلقت الصغيرة بساقه و احتضنته بقوة فانحنى بدوره و حملها و هو يحدث زوجته:
ــ مفيش حاجة عجبتك بردو؟!
ــ أيوة... و يلا نروح بسرعة بقى أصلى تعبت.
طالعها باستنكار قائلا:
ــ تعبتى ايه... دا انتى مكملتيش نص ساعة فى المول!!
توترت اوداجها و تعثر لسانها و هى تقول:
ــ احم.. أصل... أصل أنا... أنا جالى صداع فجأة و عايزة أروح لماما اريح عندها شوية و ابقى عدى علينا خدنا بالليل..
هز رأسه بقلة حيلة قائلا باستسلام:
ــ ماشى يا داليا اللى يريحك..
أخذهما و استقلا سيارة أجرة إلى مسكن أم زوجته و التى تسكن بنفس الشارع معهما، فتنفست الصعداء ما إن ابتعدت السيارة عن محيط المول و حمدت الله أنه لم يراها و إلا فستخسره للأبد حتى و إن لم تكن هى ملك... و تركهما عندها و انصرف هو إلى منزله.
ما إن تأكدت داليا من تمام مغادرة زوجها حتى جلست بالمقعد المجاور لأمها تحكى لها بهلع:
ــ ماما مش هتصدقى اللى شوفته فى المول؟!
أجابتها بقلق بالغ:
ــ خير يا بنتى شوفتى ايه؟!
ــ ملك...شوفت ملك يا ماما.
نظرت لها الأم باستغراب و وضعت يدها على جبينها تتحسسه ثم قالت باستنكار:
ــ انتى سخنة و لا إيه يا داليا...ماهى ملك كانت معاكى يا بنتى..
هزت رأسها بنفى و هى تقول بتوضيح:
ــ يا ماما مش بتكلم على ملك بنتى...انا اقصد ملك بنت عمو اسماعيل..
فغر فاها و سألتها بتوجس:
ــ انتى قصدك ملك الله يرحمها؟!
هزت رأسها عدة مرات بملامح ممتعضة، فضربت أمها كفا بكف و هى تقول بذهول:
ــ لا حول و لا قوة إلا بالله...انتى شكلك مش طبيعية النهاردة خالص يا داليا..
ــ يا ماما صدقينى...بقولك شوفتها و كلمتنى بس كانت بتكلمنى و كأنها متعرفنيش.
سكتت امها لوهلة تحاول استيعاب كلامها ثم أردفت:
ــ يا بنتى قولى كلام ناس عاقلين...انتى عايزة تفهمينى انك شوفتى ملك اللى ماتت من اكتر من خمس سنين؟!
اومأت بتأكيد و هى تقول:
ــ أيوة يا ماما صدقينى..
اقشعر بدنها عندما تخيلت الأمر و اغمضت عيناها و هى تستعيذ بالله من الشيطان الرچيم ثم ازدردت لعابها بصعوبة و هى تقول بتوتر:
ــ طـ طاب يا بنتى..ااايمكن واحدة شبهها..
أجابتها بحيرة و قد احتل الخوف و القلق جوارحها:
ــ مش عارفة يا ماما...هى فعلا متغيرة شوية...يعنى ملامحها البهتانة و وشها الضعيف بقى مليان و خدودها احمرت حتى لون عنيها الأخضر بقى لون كدا بين الأخضر و البنى زى ما يكون خضار عنيها استوى.
هوى قلبها فى قدميها و اتسعت عيناها على آخرها و كأنها رأت شبحا مخيفا ثم اردفت بتلعثم:
ــ يـ يعنى يعنى إيه يا داليا...معقول تكون لسة عايشة؟!...طاب إزاى؟!
أجابتها بقلق بالغ:
ــ ممكن يا ماما فعلا...إحنا لا شوفنا ليها جثة و لا حضرنا ليها جنازة و لا دفنة...اللى قالقنى إنها لو طلعت هى بجد و رجعت يبقى أنا كدا بيتى هيتخرب...سفيان لسة فاكرها و بيحبها و اكيد ما هيصدق ترجعله تانى...
أجهشت فى بكاء مرير و نصال الحسرة تمزق قلبها إربا و تقول بعويل:
ــ ااااه...البيت اللى بحافظ عليه بكل قوتى و جوزى و حبيبى اللى مبستحملش عليه الهوا، و اليوم اللى بزعله فيه مبيتحسبش من عمرى...انا بحبه اوى يا ماما و هموت لو بعد عنى...خايفة أخسره بعد ما حاربت و عافرت لحد ما وصلتله...اااه قلبى بيوجعنى كل ما اتخيل إنه هيقابلها أو هيشوفها تانى...
تمزقت نياط قلب امها لأجلها و جذبتها إلى أحضانها و هى تربت على ظهرها بحنو قائلة بإشفاق:
ــ متخافيش يا بنتى...انت بتتقى ربنا فيه و مراعياه و مراعية بيته و عمرك ما قصرتى معاه ف أى حاجة...استحالة هيسيبك بالسهولة دى و يروح لغيرك...صدقينى...و بعدين ما يمكن حبه ليها كان من باب الشفقة على حالتها و مرضها..
ابتعدت عن حضن أمها و كفكفت عباراتها و هى تقول برجاء:
ــ يا ريت يا ماما...أنا أكتر حاجة محببانى فيه طيبة قلبه و حنيته..رغم إنى عارفة إنى مكانى ف قلبه ميجيش قد نقطة ف بحر بس رغم كدا بيعاملنى بحب و طيبة و عمره ما جرحنى بكلمة..بيستحمل عيوبى و دايما بيشكر فى مميزاتى..هخسر كتير اوى يا ماما لو ضاع من ايدى..
هزت رأسها بقلة حيلة مردفة بحزن:
ــ ربنا يخليهولك يا حبيبتى و يهدى سركم...متخافيش ان شاء الله مش هيحصل حاجة و بكرة تقولى ماما قالت..
قلبت بؤبؤ عينيها للسماء تدعو الله بحرقة:
ــ يا رب.. يا رب.
أنهى سفيان دروسه مع الطلاب، فهو يعمل مدرس فيزياء، و اتجه إلى بيت حماته و أخذ زوجته و صغيرته عائدا إلى شقته.
عندما حان وقت النوم و نامت الصغيرة بغرفتها، جلست داليا بجواره بالفراش و قبضت على كفه تسأله بتردد:
ــ سفيان...انت بتحبنى؟!
أجابها بابتسامة ودودة:
ــ و هو دا سؤال تسأليه بردو؟!..طبعا يا حبيبتى بحبك..دا انتى مراتى و أم بنتى و سكنى اللى ربنا حلله ليا..
انفرج ثغرها بابتسامة باهتة و كأنها غير واثقة بمشاعره ثم تنحنحت و سألته بارتباك:
ــ احم..يعنى...يعنى لو...لو ملك.. ملك بنت عمك الله يرحمها لسة موجودة..احم..هتفضل تحبنى بردو..
تجهم وجهه بحزن دفين و لكن سرعان ما قلب ملامحه للمرح و أجابها بمزاح:
ــ ايه دا بقى...احنا هنغير من واحدة ميتة؟!
أسرعت تصحح ما فهمه:
ــ لا لا...الموضوع مش كدا.
ــ اومال الموضوع ايه؟!
اخذت تفرك كفيها بتوتر ثم ازدردت لعابها قائلة بتردد:
ــ كل الحكاية بس إنها جات على بالى فسألت نفسى يا ترى لو هى لسة عايشة هتسيبنى و تروحلها؟!
هز رأسه بأسى و هو يقول لها بحنو:
ــ حبيبتى ملك دلوقتي فى عالم تانى و أنا مستحيل هفضلها عليكى لأنها ببساطة مالهاش وجود.
سألته بإصرار:
ــ طاب لو موجودة؟!
راح يطالعها باستغراب شديد مشدوه الملامح من اصرارها الغريب على الحصول على إجابة ثم قال بجدية:
ــ داليا لو سمحتى اقفلى الموضوع دا...خليكى أعقل من كدا بلاش تصرفات أطفال..
ــ ريحنى و قولى بصراحة...هى لسة موجودة ف قلبك؟!..لسة بتفتكرها.
أجابها بجدية و حزم:
ــ ايوة بفتكرها...بفتكرها علشان أدعيلها ف صلاتى..علشان هى تستحق إنى دايما أفضل فاكرها بالخير..تستحق إنى ادعيلها و اتصدق على روحها..ملك اتعذبت كتير..اتولدت يتيمة الأم و اتحرمت من كلمة ماما..عاشت حياتها بتعانى من مرض خبيث كان بيخلص عليها و انتى بنفسك شوفتى منظرها كان بيقى عامل ازاى بعد كل جلسة كيماوى...كلنا كنا بنبكى عليها بدل الدموع دم..كل دا و عايزانى أنساها؟!..طاب ازاى...إزاى و أنا كنت معاها فى كل لحظة ألم بتتألمها..مش هنسى ابدا كل كلمة آه خرجت منها و كانت بتقطع فى قلبى..مش هنسى شكلها بعد ما وشها اصفر و عنيها دبلت و حواجبها اتمسحت و رموشها وقعت و شعرها اللى كانت دايما بتداريه بطرحتها علشان ماشوفش منظرها...
اعتصر جفنيه بألم و حزن بالغ ثم تنهد بعمق و هو يقول بخفوت:
ــ ربنا يرحمها و يجعل العذاب اللى شافته فى ميزان حسناتها.
بينما داليا كانت تستمع له بقلب منفطر، فماذا لو كانت ملك حية ترزق...حتما بعدما أقر بما يحويه بقلبه تجاهها، سيتركها و يعود لحبيبته الفقيدة...
ارتجفت شفتاها و هى تسأله بصوت متحشرج:
ــ أفهم من كلامك إنك لسة بتحبها؟!
اصتك فكيه من الغضب و هدر بها بانفعال:
ــ داليا افهمى بقى..ملك ماتت..ماتت..ماتت.
ثم ترك لها الغرفة و صفع الباب خلفه بعنف، تاركا إياها تبكى و تنعى عُشها الذى اصبح على شَفا جُرفٍ هارٍ، يكاد يسقط و ينهار فى الحال..
بينما سفيان اتجه إلى غرفة الجلوس حيث يقبع مكتبه الصغير هناك إلى جانب مكتبة صغيرة تحوى عدد من الكتب و الروايات..
دلف الغرفة و أغلق بابها ثم سار ألى المكتب و جلس بالكرسى، فتح أحد الأدراج المقفلة بقفل صغير و أخرج منه إطار صغير خاص بصورة حبيبته الفقيدة، وضعه بين كفيه و نظر له باشتياق ينهش قلبه كأسد حصل على فريسته بعد جوع شديد، و هو يحدثها كأنها أمامه:
ــ بيسألونى نسيتك؟!...طاب فى حد بينسى روحه؟!.. حد بينسى بنته؟!..حد بينسى حتة منه؟!.. معذورين... أصلهم ميعرفوش انتى إيه بالنسبالى.. ميعرفوش إنك بنتى و حبيبتى و صحبتى و كان نفسى تكونى شريكة حياتى و عشرة عمرى و أم عيالى... بس الحمد لله على كل حال... نصينا إن إحنا نتفرق... بس هنتقابل فى الجنة يا ملك روحى و قلبى و كل دنيتى..
ازال دمعة ساخنة فرت من جانب عينه دون أن يشعر ثم عاد بظهره مستندا على ظهر الكرسى عائدا بذكرياته إلى ما قبل خمس سنوات....
ــــــــــــــــــــــــــــــ
فلاش باك...
نهضت من فراشها بتثاقل و إعياء شديد، فلولا ذلك الدرس الذى تنتظره من الحصة للأخرى لما تحركت من فراشها قيد أنملة..
خرجت من المرحاض بعدما اغتسلت و وقفت أمام مرآتها تتأمل ملامحها الباهتة و قسماتها المرهقة بحزن بالغ، ثم التقطت قلم كحل و قامت بتحديد عينيها الخاوية من الرموش، ثم رسمت حاجبيها المختفيان من مكانهما، و لونت شفتيها باللون الوردى لتخفى بهتانهما، ثم صبغت وجنتيها بنفس اللون لتغطى على اصفرارهما، و فى الأخير قامت بلف حجابها بطريقة أنيقة و أخذت كتبها و سارت بإتجاه غرفة الجلوس حيث ينتظرها معلمها و ابن عمها سفيان..
تقدمت منه بخجل و جلست فى الكرسى المقابل له على الطاولة و هى تلقى عليه تحية المساء، استقرت بمقعدها و وضعت الكتب أمامها، و رفعت بصرها إليه فوجدته يطالعها بابتسامة مشرقة و قال لها بنبرة حانية:
ــ ها يا جميلة...عاملة إيه النهاردة...أحسن من امبارح؟!
اومأت بضعف مع ابتسامة بسيطة و هى تقول برقة:
ــ الحمد لله يا مستر...أحسن كتير..
يعلم أنها ليست بخير و أنها فقط تتظاهر بذلك، و لكن ليس بيده شيئا يقدمه لها، فقط يتمنى لو أصيب هو بدلا عنها بهذا المرض اللعين، فحتما سيتحمل، و لكنها إرادة الله و لا راد لقضاءه.
تنهد بأسى ثم رسم على ثغره ابتسامة مصطنعة و قال لها:
ــ نبدأ الدرس..
اومأت و هى تقول برقة:
ــ ماشى..نبدأ على بركة الله..
بدأ يشرح لها الدرس و هو يرمقها بين الحين و الآخر بإشفاق بالغ، و هى تحاول قدر استطاعتها استجماع قدرتها الواهية علها تركز فى درسها، و لكن ألم رأسها يكاد يفتك بها فتكا، تحاول أن تخفى تألمها و تكتم تأوهاتها بصعوبة حتى لا تثير قلقه عليها، إلى أن طفح كيلها، و هوت قدرتها على الصمود أمام ضراوة الألم، فأطلقت صرخة مدوية فقدت وعيها على إثرها...
بينما هو هب من مقعده منتفضا مذعورا على صرختها و استطاع أن يسندها قبل أن تسقط على الأرض.
أخذ يصرخ بها بهلع مناديا بإسمها تارة و بإسم عمه تارة، إلى أن أقبل عليه و هو يلهث من فرط القلق و ما إن رآها بهذه الحالة حتى انحنى لمستواها و هو يبكى و يقول:
ــ ملك بنتى حبيبتى...معليش يا بنتى يا ريتنى كنت أنا مكانك...قومى يا حبيبتى علشان خاطرى أنا..قومى..
رد عليه سفيان بجدية يشوبها الخوف و القلق:
ــ مش وقته الكلام دا يا عمى..لازم ناخدها ع المستشفى حالا..بسرعة اتصل بالدكتور ناجى عرفه إنها أغمى عليها و هنجيبها و نيجى..على ما أكون أنا كلمت عم سالم السواق يودينا بالتاكسى بتاعه..
التقط هاتفه من جيبه بيد مرتعشة و قام بالإتصال بالطبيب و بعد دقائق كان جارهم سالم سائق التاكسى ينتظرهم أمام باب المنزل..
وصلوا المشفى و حملها سفيان بخفة و سلمها سريعا لطبيب الإستقبال الذى قام بدوره بنقلها إلى قسم الأورام و الذى يرأسه الدكتور ناجى المسؤل الاول عن حالة ملك...
بعد قرابة الساعتين من فحصها بالأشعة و عمل تحاليل الدم اللازمة و التأكد من استقرار حالتها إلى حد ما، خرج لهم الطبيب أخيرا و يبدو على ملامحه علامات الإرهاق و الأسف، فهرول إليه سفيان و والده ابراهيم و عمه اسماعيل والد ملك، يسألونه بقلق و لهفة عن حالتها الصحية الحالية فأجابهم بحزن:
ــ للأسف يا حاج اسماعيل البنت حالتها فى النازل و الورم بيزيد و بيتمكن اكتر فى المخ و طبعا بيسببلها ألم شديد دا غير قلة التركيز و عدم التوازن..
ابتلع تلك الغصة الأليمة التى وقفت بحلقه ثم سأله بحزن و حسرة:
ــ طاب و الحل إيه يا دكتور...كدا خلاص بنتى راحت منى؟!
أسرع الطبيب يجيبه بمواساة:
ــ متقولش كدا يا حاج...هو مفيش قدامنا بقى غير الجراحة...بس أنا سبق و قولتلك مخاطرها و نسبة نجاحها و الإختيار فى ايدك انت دلوقتى..
اجابه بإصرار و حزم:
ــ ماشى يا دكتور هنعمل العملية..
طالعه سفيان باستنكار و هو يصيح به بغضب:
ــ انت بتقول ايه يا عمى...الدكتور قالك قبل كدا إن نسبة نجاحها قليلة جدا...انت كدا بتقدمها للموت بإيدك..
انكمشت ملامحه بحزن و حسرة ثم قال بنبرة محملة بالقهر و الألم:
ــ يا أخى يمكن تحصل معجزة و تعدى منها...أنا مبقتش قادر أشوفها بتتألم و انا واقف بتفرج عليها و متكتف و مش عارف أعملها أى حاجة...سنتين و هى عايشة ف وجع و ألم و محدش بيحس بيها...كفاية عليها كدا...دى بنتى اللى حيلتى يا سفيان...بنتى اللى ربنا رزقنى بيها بعد ١٥ سنة حرمان من الخلفة، مش فاضيلى غيرها بعد موت أمها و هى بتولدها...هى كل دنيتى و أغلى ما أملك...
رد الطبيب بعملية:
ــ يعنى انتى ناوى تعملهلها ف ألمانيا يا حاج...؟!
اومأ بتأكيد:
ــ ان شاء الله يا دكتور...انا هبيع كل اللى حيلتى و أسفرها تعملها هناك...لو ربنا شفاها يبقى خير و بركة..و لو لا قدر الله...يبقى خلاص مبقاش عندي حاجة أغلى منها أبكى عليها...
سكت سفيان يستوعب قرار عمه المتهور من وجهة نظره ثم ما لبث ان اقترح ان يؤجل السفر بعد انتهاء إمتحانات الثانوية العامة خاصتها، لربما يراجع نفسه فى هذه الفترة، فأملى عليهم الطبيب رأيه قائلا:
ــ تمام شهرين مش هيأثروا اوى عليها...هتمشى بجلسات الكيماوى و المسكنات لحد ما تخلص الامتحانات و فرصة كمان تحجزلها تذاكر الطيران و تنسق مع المستشفى اللى هتسافر عليها هناك.
أومأ اسماعيل بخنوع ثم جلسوا جميعا على مقاعد الإنتظار إلى أن تستفيق و تسترد عافيتها قليلا.
بعد مرور أكثر من ست ساعات عادوا إلى المنزل بسيارة سالم و حملها سفيان إلى غرفتها و وضعها فى فراشها برفق بالغ و هى فى قمة خجلها و قمة سعادتها فى آن واحد...
أتت عفاف والدة سفيان، و أيضا جارتهم فاطمة و بنتيها داليا و سلمى، و إلتف الجميع حولها ليطمئنوا على حالتها و يؤازروها فى محنتها، و يقوموا بواجبهم تجاهها كمريضة فتلك هى عاداتهم التى تربوا و نشأوا عليها.
قامت داليا بعمل الشاى و تقديم الفاكهة للحضور، فـ اسماعيل يعيش وحيدا مع إبنته و يقوم بإستئجار سيدة تنظف له المنزل يومين فى الأسبوع، و تعد أصنافا من الطعام و تحفظه فى الثلاجة، و تغسل الملابس و تنصرف، و احيانا تمر داليا او سلمى و تساعدان ملك فى الاعمال المنزلية نظرا لمرضها الشديد.
تجلس داليا بين الحضور تراقب نظرات سفيان لـ ملك بقلب جريح ينزف دما، نظراته العاشقة لها تكاد تقتلها مئات المرات، فهى تعشقه بجنون...
داليا و سفيان جيران و يسكنان بنفس الشارع، علاوة على ذلك هما أيضا زملاء فى المدرسة من المرحلة الإبتدائية إلى أن التحقا بالجامعة، بل و بنفس الكلية الا و هى كلية العلوم و هما الآن بالفرقة الثالثة.
أحبته منذ عرفت للحب سبيل أثناء المرحلة الثانوية، و لكن قلبه معلق بإبنة عمه ملك و الجميع يعلم ذلك و لكنه لم يبح لها بحبه بعد حتى لا يكون سببا فى إشغال ذهنها و تعطيلها عن دراستها، فلم يبقى لها سوى شهرين و تنهى مرحلة الثانوية العامة.
يتبع...
الفصل الثاني
انتهت جلستهم بعد مدة ما، ثم ما لبث أن عاد كل منهم إلى منزله عدا سفيان فقد طلب منه عمه البقاء معهما قليلا...
جلس اسماعيل بجوار ملك و كان سفيان جالسا بكرسى بجوار الفراش، فأدار أبوها دفة الحديث قائلا لها متظاهرا بالمرح:
ــ عايزك بقى تشدى حيلك كدا و تنجحى السنادى علشان هنسافر ألمانيا سوا ف الأجازة.
قطبت جبينها متسائلة باستغراب:
ــ ألمانيا مرة واحدة يا بابا؟!
لم يستطع أن يذكر لها السبب فأشار برأسه لسفيان لكى يتحدث بدلا عنه فأومأ له و وجه حديثه لها قائلا بجدية:
ــ احم..عمى هيحجزلك فى مستشفى كويسة جدا يا ملك فى ألمانيا علشان تعملى عملية إستئصال للورم اللى فى المخ...الدكتور قال إن العملية أفضل ليكى على الأقل هتترحمى شوية من الكيماوى...أى نعم هتكملى بجلسات كيماوى بعد العملية بس هتبقى لفترة مؤقتة..
راحت تدير عينيها بينه و بين أبيها ثم قالت بقلق:
ــ أنا بخاف من سيرة العمليات أوى...لا أنا مش هعمل عملية..
أحاط أبوها كتفيها بذراعه و باليد الأخرى أمسك كفها و قبله و هو يقول بحنو:
ــ حبيبتى أنا قلبى بيتقطع مع كل كلمة آه بتطلع منك...نفسى تعيشى حياتك زى كل البنات اللى فى سنك..و أنا عندى أمل فى ربنا إنه هيجعل العملية دى سبب فى شفاكى ان شاء الله.
ازدردت ريقها بتوتر ثم سألته بتردد:
ــ طيب مين اللى هيسافر معانا؟!
ــ أنا و انتى بس..
ــ بس؟!
تعجب أبوها من أمرها، و لكن سفيان قد فهم أنها لا تريد أن تسافر حتى لا تبتعد عنه، فاسترسل يسأل عمه:
ــ أنا مستعد أسافر معاكم يا عمى...كدا كدا هنكون ف الأجازة و هكون خلصت امتحاناتى أنا كمان.
هز رأسه بأسف مجيبا باعتذار:
ــ مش هينفع يا سفيان...انت عارف يبنى التذكرة بكام؟!..دا غير الإقامة و مصاريف الأكل و الشرب...أبوك كتر خيره هيشترى نصيبى فى محل القماش و هبيع الأرض بتاعة المرحومة، و الفلوس اللى هجمعها يدوب هتكفى العملية و مصاريفنا هناك بالعافية...خليك يابنى مع أبوك ساعده فى المحل هو محتاجك أكتر منى..
رد عليه بإصرار و حزم:
ــ لا يا عمى...أنا مش هسيب ملك فى ظرف زى دا...و انت مالكش دعوة بمصاريفى أنا هتصرف..
اجابه بجدية:
ــ يابنى الله يهديك قولتلك مش هينفع...ربنا وحده اللى يعلم هنقعد هناك قد إيه...و وجودك معانا لا هيقدم و لا هيأخر...يعنى مصاريف على الفاضى و خلاص...
تنهد بقلة حيلة و نظر لملك فوجدها مطرقة الرأس فى حزن و عيناها مغرورقة بالدموع، فسألها بشجن:
ــ ما تقولى حاجة لبابا يا ملك...انتى مش عايزاني أسافر معاكم و لا إيه؟!
رفعت رأسها و نظرت له بعشق جارف ثم قالت:
ــ أنا نفسى طبعا تسافر معانا...بس بابا معاه حق و كلامه كله مظبوط..ان شاء الله هنروح و نرجع بسرعة و مش هنلحق نوحشكوا...
قالت عبارتها الأخيرة و هى تبتسم بأمل، فأجابها بابتسامة مطمئنة:
ــ إن شاء الله هترجعى و هتنورى الدنيا كلها يا ملك (قلبى)..قال الكلمة الأخيرة فى نفسه و هو يطالعها بحب مختلط بلمحة من الحزن و الشجن، بينما هى اتسعت ابتسامتها و قالت بحماس:
ــ أنا بقيت كويسة دلوقتى الحمد لله...مش هنكمل درس الفيزيا بقى؟!
رد أبوها قائلا:
ــ ارتاحى يا حبيبتي دلوقتى و بكرة ان شاء الله اعملى اللى انتى عايزاه.
رد سفيان مؤيدا:
ــ عمى معاه حق...هعدى عليكى بكرة ان شاء الله بعد ما أخلص محاضراتى.
أومأت بالإيجاب و جلس قليلا يتحدثون فى أحاديث شتى ثم استأذن و انصرف إلى منزله...
فى صباح اليوم التالى...
ألتقت داليا بـ سفيان فى الكلية و قبل بدء المحاضرة الأولى جلست بجواره بالمدرج و أدارت دفة الحديث قائلة:
ــ صباح الخير يا سفيان.
ــ صباح النور يا داليا
تنحنحت ثم سألته بجدية ممزوجة بغيرة:
ــ ملك عاملة إيه النهاردة؟!
تنهد بحزن ثم قال بشجن:
ــ زى ما سيبتيها امبارح...هعدى عليها بعد الكلية علشان أكملها الدرس بتاع امبارح و يا رب ألاقيها كويسة النهاردة..
أطرقت رأسها حتى لا يرى الغيرة الواضحة بعينيها و قالت:
ــ ربنا يشفيها يا رب..
ــ يا رب يا داليا...ادعيلها.
ــ بدعيلها يا سفيان و ربنا يعلم بتمنى إن ربنا يخفف عنها الألم اللى هى فيه...
سكتا لبرهة ثم استرسل سفيان حديثه بنبرة عاتبة قائلا:
ــ على فكرة أنا زعلان منك يا داليا..
شهقت بخفوت و سالته باستنكار:
ــ مني أنا؟!..ليه؟!
اجابها بهدوء و رزانة:
ــ مزعلة طنط فاطمة ليه؟!..كل ما يجيلك عريس كويس ترفضيه و تطلعى بميت حجة و سبب...
تحولت ملامحها للغضب و التجهم و أجابته بحدة:
ــ و الله دا شيئ ميخصكش...انت مش ابويا عشان تكلمنى بالطريقة دى..
رد بحدة و انفعال:
ــ لا يخصنى يا داليا...أبوكى الله يرحمه موصينا عليكم، صحيح مفيش بينا صلة قرابة و لا دم، بس بينا جيرة و عشرة عمر و ياما كلنا مع بعض عيش و ملح...و متنسيش إن ريان أخويا يبقى خطيب سلمى أختك، يعنى احنا نسايب كمان..
ابتلعت تلك الغصة المريرة التى تكونت بحلقها ثم قالت و هى مشيحة بوجهها بعيدا عنه:
ــ أنا لسة صغيرة و قدامى سنة كمان على ما أخلص الكلية..
ــ دى مش حجة مقنعة على فكرة يا داليا...
سكت لوهلة ثم تنهد بعمق و قال بنبرة حانية هادئة:
ــ داليا أنا بحب ملك و كلكم عارفين كدا...بلاش تعلقى نفسك بيا..فكرى كويس و بالعقل و اركنى قلبك على جنب، لأن انتى كدا هتتعذبى، و لو ناوية تستنينى هتستنى كتيير أوى...لأنى مش ناوى أتنازل عن ملك مهما كانت حالتها...فاهمانى يا داليا؟!
نظرت له بعينين مشتعلتين بالغيرة و الغضب ثم قالت بحدة:
ــ انت عارف إن ملك متنفعش للجواز بالمرض اللى عندها دا و مع ذلك عندك أمل تتجوزها و..
قاطعها بحدة و غضب:
ــ ملك هتخف...ان شاء الله هتخف و هترجع زى الاول و أحسن و أنا هستناها لما تبقى كويسة و تسترد صحتها، ان شالله أستناها العمر كله.
طالعته بحزن و قهر دفين ثم هبت من جانبه و غادرت المدرج بالكامل بخطوات غاضبة.
بينما هو شرد بذهنه فى مليكة قلبه، فكل خلية بجسده ترفض فكرة افتراقهما بسبب مرضها، يُمنى نفسه دائما بتمام شفائها، و أنه حتما سيحصل عليها مهما اشتد بها المرض أو طال.
خرجت من المدرج و هى تبكى فاصطدمت بصديقتها سما، و ما إن رأتها حتى احتضنتها و ازداد نحيبها أكثر و الأخرى تربت على ظهرها و تهدئها إلى أن هدأت قليلا وأخذتها سما من كفها و سارت بها إلى أحد المقاعد أمام مبنى الكلية و جلسا سويا، فأدارت دفة الحديث قائلة بهدوء:
ــ ها قوليلى يا ستى إيه اللى مزعلك؟!
كفكفت داليا عبراتها و قصت لها الحديث الذى دار بينها و بين سفيان منذ قليل و ختمت حديثها قائلة:
ــ الدكاترة أجمعوا إنها صعب جدا تتجوز لأن حالتها شبه متأخرة و جلسات الكيماويّ مأثرة على كل أعضاء جسمها و هو عارف الكلام دا كويس، و مع ذلك متمسك بيها و عنده أمل يتجوزها..
سكتت لوهلة تستوعب حديثها و أحست بالشفقة تجاه ملك ثم حدثتها بجدية:
ــ معذور بردو يا داليا..بصراحة الله يكون في عونها..إذا كان أنا لا شوفتها و لا أعرفها و صعبت عليا ما بالك بيه هو بقى...
ــ أنا كمان زعلانة علشانها.. بس نحكم عقلنا شوية بقى يا سما...هو عارف ان انا بحبه و برفض الجواز بسببه و كمان عارف إن ملك مش هتتجوز أبدا...يبقى ليه يقولى الكلام دا...طاب حتى يدينى أمل إنه ممكن يفكر فيا..
سكتت سما لوهلة تفكر فى طريقة لتساعدها بها إلى أن واتتها فكرة فابتسمت قائلة بحماس:
ــ طاب بصى.. أنا هكلم أكرم خطيبى و أحكيله على القصة دى و أخليه يقنعه بيكى و يمحى الأمل اللى جواه من ناحية بنت عمه دى...انتى عارفة إنهم أصحاب جدا و سفيان بياخد رأيه ف حجات كتير بحكم إنه أكبر منه، و أكرم أصلا عنده طريقة ف الإقناع حلوة جدا...ها إيه رأيك؟!
تجدد الأمل بداخلها و أومأت بموافقة و هى تقول:
ــ يا ريت يا سما..لو حصل و قدر يقنعه مش هنسالك الجميل دا أبدا..
ــ طيب تعالى بس ندخل الاول نلحق المحاضرة و بعدين لما أروح أكلمه على ما يكون روح من المدرسة هو كمان..
فى منزل داليا...
يجلس ريان فى غرفة الجلوس و معه فاطمة والدة سلمى، فدخلت سلمى و بيدها صينية عليها أكواب الشاى و بعض قطع الكعك و قدمتها له ثم جلست فى المقعد المقابل له، فأدار هو دفة الحديث قائلا بسعادة:
ــ أنا جيت النهاردة علشان افرحكم بالخبر اللى كنت مستنيه من زمان..
ردت سلمى متسائلة بترقب:
ــ قول إن إسمك جيه فى البعثة...صح؟!
أجابها بابتسامة واسعة:
ــ صح..
أطلقت فاطمة زغرودة مدوية ضحكا على إثرها كل من ريان و سلمى، ثم قالت له بسعادة:
ــ ألف ألف مبروك يبنى...عقبال ماشوفك معيد قد الدنيا..
رد بسعادة عارمة:
ــ الله يبارك فيكى يا طنط...ربنا يسمع منك يا رب.
بينما سلمى قالت بسعادة عارمة:
ــ الف مبروك يا ريان...الحمدلله ان ربنا مضيعش تعبك..قولى بقى هتسافر امتى و فين و هتقعد هناك قد ايه و هتنزل أجازات امتى و....
قاطعها ريان قائلا بسخرية:
ــ حيلك حيلك...ايه يا بنتى الأسئلة دى كلها..خدى نفسك شوية..
اخذت نفسا عميقا ثم قالت بمرح:
ــ أهو....جاوب بقى..
ضحك على مرحها و خفة روحها ثم قلب ملامحه للجدية قائلا:
ــ البعثة يا ستى هتكون فى جامعة ليفربول البريطانية تبع كلية التجارة، و هسافر مع جروب من طلبة من مختلف جامعات مصر بعد أسبوع بالظبط، و المنحة مدتها سنة متواصلة مفيش فيها أجازات...بس كدا..
ردت سلمى بحزن:
ــ ياااه...سنة كاملة يا ريان من غير ما شوفك؟!
تدخلت فاطمة فى الحوار قائلة بجدية:
ــ معليش يا سلمى...دا مستقبله يا بنتى و لازم نضحى شوية علشان يوصل للمكانة اللى بيتمناها..
رمقها بابتسامة ممتنة ثم قال:
ــ الله ينور عليكي يا طنط فاطمة...ثم نظر لـ سلمى بعشق بالغ قائلا:
ــ ربنا بعلم إنى على قد ما أنا فرحان إنى أخيرا هطلع المنحة دى، على قد ما أنا زعلان إنى هفضل سنة كاملة بعيد عنك...هتوحشيني من كل قلبى...
كادت سلمى أن ترد إلا أن فاطمة تنحنحت و هى ترمقهما بتحذير قائلة:
ــ احم احم نحن هنا...
رد ريان بحرج:
ــ احم...لا مؤاخذة يا طنط...
ابتسمت بحنان قائلة:
ــ و لا يهمك يا حبيبى...تروح و ترجعلنا بألف سلامة يا رب..
ــ ربنا يخليكى لينا يارب..ها يا سمسمتى...عندك نبطشية بالليل؟!
اومأت بالإيجاب دون رد فأردف قائلا بملامح ممتعضة:
ــ و الله أنا مضايق جدا من وظيفة التمريض دى علشان السهر بالليل...لو تكون بالنهار بس!!
أجابته بهدوء و إقناع:
ــ طاب و مين اللى هيخلى باله من المرضى بالليل بقى لو روحنا بالنهار بس؟!
هز رأسه بقلة حيلة قائلا بضيق:
ــ أنا بكون قلقان عليكي جدا يا سلمى...و خاصة بقى لما أسافر...طاب أنا اللى بوصلك المستشفى بالليل...مين بقى هيوديكى و أنا مسافر؟!
أجابته بابتسامة مطمئنة و قالت:
ــ متقلقش عليا يا ريان...هبقى أظبط نبطشيتى مع واحدة من صحباتى اللى بيتهم قريب منى و نروح سوا..
أجابها بتصميم:
ــ بس بردو هقلق عليكى..
ردت فاطمة لتنهى الحوار بذلك الأمر:
ــ متخافش عليها يابنى، سلمى بميت راجل و ربك هو الحافظ...ان شاء الله هيحفظها من كل شر..
تنهد بقلة حيلة مجيبا:
ــ يا رب يا طنط...ربنا يستر...طاب أنا همشى دلوقتي علشان أبلغ العيلة و افرحهم...انا جيت من الجامعة على هنا علطول علشان أفرح سلمى و تكون هى أول واحدة تشاركنى فرحتى...و هعدى عليكى على ميعاد النبطشية يا سمسمتى...
ابتسمت بسعادة بالغة و طالعته بعشق جارف ثم أوصلته إلى الباب و انصرف...
أنهى سفيان محاضراته و اخذ طريقه إلى منزل عمه متلهفا لرؤيتها و الإطمئنان عليها و بمجرد أن وصل و فتح له عمه باب المنزل سأله بلهفة:
ــ ها يا عمى؟!...ملك عاملة إيه النهاردة؟!
ابتسم بارتياح قائلا:
ــ الحمد لله يا بنى أحسن من امبارح كتير..
تنهد براحة قائلا بابتسامة فرحة:
ــ طاب الحمد لله...أنا جيت علشان أكملها الدرس بتاع امبارح
ــ ادخل يا حبيبى استناها فى الأنتريه و أنا هبعتهالك..
دلف سفيان و اتخذ مقعده المقابل للمنضدة فى انتظارها و بعد دقائق أطلت عليه بابتسامتها الرقيقة و خطاها الحَيِيّة، و من ثم اتخذت مقعدها المقابل له بعدما ألقت عليه السلام..
راح سفيان يتأملها بعشق جارف، فرغم إندثار جمالها الذى قضى عليه ذلك المرض الخبيث، إلا أن جمالها لم ينقص فى عينيه مثقال ذرة، بل إن تعلقه بها يزداد كلما ازداد شحوبها، يغوص بخضار عينيها الباهت و كأنها دوامة تجذبه لأعماقها حتى تبتلعه...طال تأمله لها حتى أخجلها، فتنحنحت حتى تنبهه، فحمحم بحرج و هو يقول بابتسامة هائمة:
ــ عاملة ايه النهاردة يا ملك؟!
اجابته برقة و خجل:
ــ الحمد لله يا مستر أحسن..
ــ تمام...نبدأ الدرس؟!
ــ اممم يا ريت...
أطاحت تلك الكلمة بنغمة صوتها الرقيقة بالبقية المتبقية من ثباته و ازدادت ابتسامته اتساعا و قال لها بمرح:
ــ لا و حياة أبوكى...اخشنى كدا علشان أعرف أركز فى الشرح...اركنى الرقة دى على جنب دلوقتى..
لم تستطع كبت ضحكتها و تركت لها العنان حتى توقفت بشق الأنفس و قالت له بجدية:
ــ عارف يا مستر...انت الوحيد اللى بتخلينى أضحك من قلبي بجد..
انفرجت أساريره بسعادة غامرة و استرسل بمرح:
ــ كويس يعنى بشتغلك مدرس و بهلوان كمان....المفروض بقى تزوديلى الفيزيتا اللى مباخدهاش أصلا..
ازدادت ضحكاتها أكثر من ذى قبل و أجابته من بينها:
ــ خودها فى الجنة بقى يا مستر...
طالعها بشجن و هو يقول:
ــ نجاحك و رجوعك لينا بالسلامة أحسن عندى من مليون فيزيتا...
ابتسمت بخجل ثم قالت بجدية:
ــ طاب مش هنبدأ؟!
ــ ماشى يلا نبدأ بسم الله....
مر أسبوع كامل كثف سفيان خلالها دروسه لـ ملك حتى تستطيع تحصيل ما فاتها، كما أنه كان يساعدها فى إستذكار المواد الأخرى.
سافر ريان إلى انجلترا للحصول على منحته مع مجموعة من الطلاب من مختلف الجامعات بالجمهورية، تاركا سلمى تتلوى بألم الفراق و تحترق بوهج الغيرة كلما خطر ببالها تعامله مع فتيات أخريات غيرها، فهى تعشقه حد الهوس، هو بالنسبة لها أغلى ما تملك، بل هو الهواء الذى تتنفسه، إنه حبيبها الذى لحبه و بحبه و على حبه تعيش..
وصل ريان إلى مدينة ليفربول و اتجه مع مجموعة من الشباب الى السكن المخصص لهم على إتفاق بالتجمع فى اليوم التالى بالجامعة لبدء أولى محاضراتهم بها..
فى قاعة المحاضرات تقبع إحدى الفتيات المصريات بجوار صديقتها، و نظرها لا يحيد عن ريان إلى أن لكزتها صديقتها وهى تقول بهمس:
ــ سيرين...ركزى شوية فى المحاضرة...انتى بتبصى فين؟!
عادت لنظرها إلى المُحاضِر حتى لا يلحظها ثم أجابتها بهمس:
ــ بعد المحاضرة هقولك يا فدوة..
انتهت المحاضرة و خرج جميع الطلاب من القاعة، فذهبت كل من فدوة و سيرين إلى إحدى الكافيهات و اتخذت كل منهما مقعدها فأدارت سيرين دفة الحديث قائلة بحماسة:
ــ أخدتى بالك من الواد الطويل ابو شعر بنى ناعم و عيون عسلية دا...بصراحة هموت و أتعرفةعليه..
سكتت فدوة لوهلة تحاول تذكره إلى أن هتفت فجأة:
ــ أيوة أيوة...اللى انتى منزلتيش عينك من عليه دا من ساعة ما شوفتيه فى المطار!!...بس دا شكله جد و راسى اوى يا سوسو...تؤتؤ..سيبك منه.
شردت قليلا فى ملامحه ثم رسمت ابتسامة حالمة على محياها و هى تقول:
ــ ما هو علشان كدا عاجبنى...حاسة إنه له هيبة كدا و شخصية مش زى حازم السيس و أمثاله.
ــ لا يا سيرين ابعدى عنه...أصل الناس اللى زى الأخ دا بيبقوا عاملين نفسهم محترمين و ممكن يحرجك بكلمة ملهاش لازمة...
لم تلقى لنصيحتها بالا و قالت بإصرار:
ــ أنا ليا طريقتى اللى هدخله بيها...دا أنا سيرين بنت مجدى باشا أكبر صاحب سلسلة شركات و قرى سياحية ف مصر، و لو ماجاليش بالذوق هخلى بابى يجيبهولى لحد عندى يبوس ايدى و رجلى علشان أنول الرضا.
رفعت حاجبيها بانبهار ثم ضيقت عينيها قائلة:
ــ يخربيت دماغك السم...انتى هتقوليلى على أونكل مجدى!!..دا انتى لو طلبتى لبن العصفور بيجيبهولك..
ضحكت سيرين بصخب و غرور ثم قالت:
ــ قومى معايا نروح القاعة، المحاضرة الجاية لسة قدامها نص ساعة، هشوف كدا يمكن يكون واقف هناك...و اتفرجى عليا بقى و أنا بجيب رجله و اتعلمى..
قالت عبارتها الأخيرة بثقة لا متناهية ثم جذبتها من كفها و نهضتا إلى القاعة.
وجدته سيرين جالسا بأحد المقاعد المتراصة بجوار القاعة من الخارج فلكزت صديقتها و قالت لها بهمس:
ــ أهو قاعد هناك...استنينى انتى هنا على ما أخلص مهمتى...
تركتها و تقدمت منه بخطى ثابته تحاول رسم الحياء و الأدب على قسمات و جهها و حركات جسدها إلى أن وقفت أمامه مباشرة ثم قالت برسمية:
ــ صباح الخير...ممكن آخد من وقتك خمس دقايق بس؟!
رفع بصره من دفتره و طالعها باندهاش قائلا بملامح جادة و بنبرة جافة:
ــ أيوة اى خدمة؟!
اغتاظت من رده الجاف و نظرته الحادة لها رغم جمالها الملفت و أناقة ملبسها، فقد كانت ترتدى بنطال چينز ضيق تعلوه سترة خريفية و شعرها الأشقر الطويل منساب على ظهرها، لكنها ابتلعت غيظها و رسمت ابتسامة ودودة على ثغرها قائلة برقة:
ــ أنا سيرين معاك فى جروب المنحة و انت؟!
زفر بملل ثم نظر لها بابتسامة مصطنعة قائلا ببرود:
ــ نعم يا أستاذة سيرين..أقدر أساعدك بإيه؟!
تجهم و جهها وكأنه صفعها على حينِ غُرةٍ أمام جموع غفيرة من الناس، واشتعلت سريرتها بغضب مستعر و إصرار بالغ على رد الصفعة له أضعافا مضاعفة و عدم الإستسلام لطريقته الفظة معها، و لكن سرعان ما استعادت ثباتها و أجابته بابتسامة و أدب:
ــ احم... كان فى جزئية كدا البروفيسور شرحها بسرعة و مقدرتش أفهمها... ممكن تشرحهالى تانى؟!
لم يَخفى عليه هدفها فى استدراجه، و خلق الحجج للتعرف عليه، فرفع حاجبيه يتصنع التفكير ثم سألها باستهجان:
ــ امممم...و اشمعنى أنا بالذات من ضمن طلبة الجروب كله اللى جيتيله يشرحلك، مع إن انتى متعرفنيش و لا تعرفى مستوايا الدراسى علشان تيجي تسألينى، دا غير إن فى زميلات فى الجروب كان من باب أولى إنك تسأليهم هما..
راحت تطالعه بتعجب و انبهار فى آن واحد من رد فعله الغير معتاد لديها، فقد اعتادت على تهافت الشباب عليها لينالوا منها مجرد كلمة او حتى ابتسامة، فابتسمت بإعجاب ثم قالت بجدية و ثقة:
ــ لأنى ببساطة لاحظت إنك الوحيد اللى كنت بتناقش البروفيسور بطلاقة و كان واضح جدا إعجابه بيك و بأسئلتك المهمة اللى كنت بتسألهالوا، فأنا قولت مفيش غيرك اللى هيقدر يساعدنى..
طالعها بملامح مشدوهة، و زاغت عيناه بعيدا عنها يستوعب حديثها فقد استطاعت بحجتها الذكية أن تقنعه و تُروّده لصالحها، و ظن أنها صادقة..
فى الأخير أومأ بإبتسامة واثقة و هو يقول:
ــ فين الجزئية اللى انتى مش فاهماها؟!
ابتسمت بانتصار ثم جلست بجواره تاركة بينهما مسافة مناسبة حتى لا يسوء ظنه بها، و سألته بحماس:
ــ طاب قولى الأول إسمك إيه؟!..مش معقول هفضل أقولك انت انت طول الوقت..
انفلتت منه ضحكة بسيطة أذابتها و زادت فوق إعجابها به إعجابا ثم قال:
ــ اسمى ريان.
رددت إسمه عدة مرات وكأنها تتذوق حلاوته إلى أن انتبهت على سؤاله:
ــ ها قولى يلا عايزانى أشرحلك إيه...
فتحت دفترها بسعادة غامرة لنجاح أولى خطواتها فى مخططها للحصول على قلبه و ما خفى كان أعظم..
انتهى يومهم الدراسى و عاد الطلاب إلى مساكنهم..
ففى غرفة سيرين و فدوة، بمجرد أن ولجتا إلى داخل الغرفة و أغلقوا بابها هتفت فدوة بإعجاب:
ــ انتى طلعتى خطيييرة بجد يا سيرين...ايه دا؟!..دا مخادش ف إيدك خمس دقايق و لاقيته مقعدك جنبه و بيشرحلك...
أجابتها بغرور و ثقة:
ــ مش قولتلك انا ليا طريقتى...بس فى مشكلة صغيرة..
ــ ايه هى؟!
ــ لابس دبلة ف إيده اليمين...تقريبا كدا خاطب....بس على مين؟..ان شاء الله هنسيهاله و هنسيه اسمه كمان...
ضحكت الفتاتان بصخب و لا مبالاة، فمثيلاتهن قد تربين على حب الذات و الأثرة، و تحقيق مصالحهم الشخصية على حساب الآخرين دون الإلتفات لإنتمائاتهم او مشاعرهم الخاصة.
توقفت سيرين عن الضحك عندما أتتها رسالة على الواتساب، و عندما فتحتها و قرأت محتواها القت الهاتف على الفراش و زفرت بملل فسألتها فدوة بترقب:
ــ مين اللى باعتلك رسالة و ضايقك اوى كدا..
نزعت عنها سترتها و القتها بإهمال على أحد المقاعد ثم أجابتها بضيق:
ــ دا حازم...باعتلى رسالة قال إيه عايزنى أكلمه أنا من الخط بتاعى..
قطبت فدوى جبينها باستنكار قائلة:
ــ و ميتصلش هو بيكى ليه..
اجابتها بسخرية و تهكم:
ــ انتى عايزة الجعان دا يتكلم من معاه..انتى متعرفيش ان المكالمات الدولية غالية و لا إيه...و هو أصلا كارت مش خط...
زاغت بعينيها فى الفراغ و صورة ريان حاضرة أمامها تتأمله بشرود ثم قالت بجدية:
ــ و كارت محروق بالنسبالى كمان..
رفعت فدوة حاجبيها باستغراب تسألها بملامح مشدوهة:
ــ معقول...حازم خلاص كدا راحت عليه..
ابتسمت بهيام و هى تقول:
ــ من ساعة ما شوفت ريان و أنا نسيت حازم و نسيت الدنيا كلها..بصى هو غطى على أى واحد قابلته و اتعرفت عليه...أنا أصلا مقابلتش زيه و لا حتى ربعه يا فدوة...
ابتسمت لها صديقتها و هى تقول بمرح:
ــ يا سيدى يا سيدى...يا بختك يا سى ريان...
تمددت سيرين على الفراش و استعادت أول مشهد لها معه و هى ترسم برأسها الأمانى و الأحلام التى تنوي تحقيقها معه مهما كلفها ذلك الأمر، فقد عزمت على امتلاكه و إيقاعه بشباكها شاء أم أبى...
يتبع
الفصل الثالث
بينما فى غرفة ريان، بمجرد ان دلف، بدل ملابسه و أدى فروضه ثم التقط هاتفه و فتح تطبيق الواتساب و حمد الله أن حبيبته و خطيبته كانت على وضع استخدام الشبكة...
تمدد على الفراش بأريحية و هو ممسك بالهاتف ثم بدأ يكتب لها...
ــ وحشتيني
أما هى بمجرد أن وصلها صوت الرسالة فتحتها بلهفة و اتسعت ابتسامتها ما إن قرأتها و كتبت له:
» و انت كمان..وحشتنى
ابتسم بهيام ثم كتب:
ــ أخبارك إيه
» اممم...قلقانة شوية
ــ من إيه يا عمرى
» خايفة عينك تزوغ كدا و لا كدا
ــ ههههههه
أنا عينى مبتزوغش غير
على سلمى واحدة بس
» متأكد
ــ نفسى تفتحى قلبى و
تشوفي فيه إيه
» فيه ايه؟!
ــ شرايين قلبى مرسومة على إسمك س ل م ى
الحروف دى محفورة ف كل
خلية من قلبى
قلبى اللى بيضخ كل نقطة
دم شايلة حبك و بتجرى ف
اوردتى
صورتك مبتفارقش عينى
شايفك فى كل الوشوش و
ببتسم و الناس بتفتكرنى
مجنون
طاب ما أنا فعلا مجنون
مجنون بحبك يا حب عمرى.
أرسل كلماته الأخيرة ثم انتظر طويلا حتى يأتيه ردها و لكنها لم تفعل، فتسلل القلق إلى جوارحه فأرسل لها و كتب:
ــ سلمى انتى روحتى فين؟!
» معاك يا ريان
أنا اتأثرت أوى من كلامك لدرجة إنى
بكيت.
انا حاسة إنى عاجزة عن الرد بعد
كل الكلام اللى دوبنى دا
ابتسم بسعادة عارمة ثم كتب
ــ دا مش كلام يا سلمى
دى حقيقة و بعدين كفاية
إنى عارف و متأكد انك
بتحبينى بس مش عارفة
تعبرى عن حبك ليا.
ــ فعلا يا ريان
أنا بحبك فوق ما تتصور
استمرت محادثتهما الكتابية لوقت ليس بقليل حتى أرهقتهما الكتابة و تركا بعضهما بشق الأنفس و خلد كل منهما إلى نوم هادئ مليئ بالأحلام السعيدة.
مر شهران أنهت خلالهما ملك عامها الدراسى الأخير بمرحلة الثانوية العامة، بعدما مرت فترة الإختبارات عليها فى جو من التوتر و التعب و الإرهاق إلى أن أتمتها بسلام..
انتهى أيضا كل من سفيان و داليا و سما من اختبارات عامهم الدراسى الثالث فى كلية العلوم...
أما سلمى فمازالت مستمرة فى عملها كأخصائية تمريض بالمشفى العام التابع لمركزها.
مازال ريان مستمرا فى دراسته بالمنحة مع مجموعة الطلاب من مواطنيه، و قد انبهر به حميع المدرسين علاوة على الطلاب، من ذكائه و قوة ملاحظته، مما زاده هذا الأمر إعجابا من الجميع، خاصة سيرين التى أصبحت مهووسة به، و لم تنفك عن إستغلال الفرص للتقرب منه مُبدية حسن النية و متظاهرة بالأدب و الخجل، فنجحت فى استمالته و الحصول على ثقته و أصبح يعتبرها زميلة و صديقة و لا يبخل عليها بالمساعدة ظنا منه أنها حقا تستحق ذلك.
ذات يوم رأته جالسا باحد المقاعد الخاصة بالقاعة فاقتربت منه و جلست بجواره و تنحنحت قائلة بخجل مصطنع:
ــ احم.. ريان عايزة أتكلم معاك فى موضوع مهم..
قطب جبينه باستغراب و هو يسألها:
ــ خير يا سيرين... حاجة واقفة معاكى فى محاضرات النهاردة...
أطرقت رأسها و هى تفرك كفيها بتوتر مصطنع ثم قالت:
ــ لا.. الموضوع اللى عايزة أتكلم معاك فيه مالوش علاقة بالمحاضرات.. احم.. ريان أنا... أنا بحبك..
فغر فاهه، و اتسعت عيناه على آخرها، فهو لم يكن يتوقع أن تتطور علاقتها به لتصل إلى مرحلة الحب، و لكنه سرعان ما ارتخت ملامحه وهو يقول بجدية:
ــ سيرين انتى عارفة إن أنا خاطب... و أنا و خطيبتى بنحب بعض جدا و كمان محددين ميعاد الفرح من قبل ما أسافر...
اومأت بملامح حزينة ثم قالت:
ــ أنا عارفة كل الكلام دا... بس بصراحة مقدرتش أفضل مخبية مشاعرى ناحيتك أكتر من كدا..
ــ سيرين أنا طبعا مقدر مشاعرك جدا.. و مش هلومك لأن الحب دا حاجة خارجة عن إرادتنا.. بس للأسف انتى بالنسبالى مش أكتر من صديقة.
طالعته بحزن و غيرة متوهجة بصدرها ثم استرسلت بشجن:
ــ أنا مش هبطل أحبك و لا هيأس، لأن ممكن فى لحظة القلوب تتغير، و يا ريت بس لو تدى نفسك فرصة و تفكر فيا كحبيبة... مش صديقة..
أجابها بتصميم و ثقة:
ــ متتعبيش نفسك و تديها أمل لأنى متأكد من حبى لـ سلمى و مش ناوى أسيبها لأى سببٍ كان.
هزت رأسها عدة مرات بموافقة و هى تضمر بصدرها غضب مستعر و توعد وعر، ثم نهضت من جانبه و ذهبت.
انتهى اليوم الدراسى و عادت بصحبة صديقتها فدوة إلى سكنهما و بمجرد أن دلفت الغرفة، دق هاتفها برقم أبيها فاتسعت ابتسامتها بسعادة و فتحت الخط لتجيبه بحماس:
ــ بابى حبيبى و حشتنى أوى..
ضحك أبوها و أجابها بسعادة:
ــ و انتى أكتر يا روح بابى...ها ايه أخبار الدراسة؟!
ــ زى الفل يا بابى...بصراحة ريان اللى حكيتلك عنه مسهلى الأمور جدا، و شرحة هايل و لا أسهل من كدا.
انفلتت منه ضحكة مرحة ثم قال:
ــ شوقتينى لـ ريان اللى واكل عقلك دا.
ابتسمت بعشق و شردت بملامحه الوسيمة ثم أجابته بنبرة هائمة و بطريقة وقحة:
ــ هو واكل عقلى بعقل يا بابى...أنا متأكدة إنك لو قعدت معاه و اتكلمتوا سوا هياكل عقلك انت كمان..
رفع حاحبيه باندهاش و هو يقول:
ــ معقول للدرجادى..
اومأت بتأكيد:
ــ أيوة يا بابى بجد...عنده كاريزما تخطف القلب...
أطلق ضحكة مرحة ثم قال:
ــ طاب كويس طمنتينى....أهو على الأقل أحسن من البتاع دا اللى اسمه حازم...
ــ لا حازم مين يا بابى...انسى..
ــ طاب انتى عارفة أنا متصل بيكى علشان أقولك إنى جاى لندن بكرة ان شاء الله و هبقى أجيلك الجامعة نقضى يوم سوا و بالمرة أتعرف على سى ريان دا..
انفرجت أساريرها بإبتسامة واسعة ثم قالت بحماس:
ــ ييس..هو دا....يااااه اتبسطت جدا بالخبر دا يا بابى بجد و متحمسة جدا إنى أعرفك عليه.
ضحك على حماستها ثم تحدثا قليلا و أنهيا المكالمة.
فى المساء
انتهى سفيان من عمله بمحل الاقمشة التابع لهم و استأذن والده للذهاب إلى عمه لكى يطمئن على إجراءات السفر.
فتحت له ملك الباب، فانفرجت أساريره بإبتسامة واسعة لمرآها قائلا بسعادة:
ــ ملك هانم بنفسها اللى بتفتحلى...لا لا أنا كدا هتغر..
اطلقت ضحكة بسبطة ثم أفسحت له المجال للدخول قائلة:
ــ اتفضل يا مستر..
دلف سفيان و جلس على اقرب أريكة للباب و سألها بترقب:
ــ فين عمى يا ملك؟!
جلست على الأريكة المقابلة و أجابته بملامح واجمة و نبرة حزينة:
ــ بابا نايم...كان فى مكتب الجوازات و لسة جاى من شوية.
ــ اممم...و عمل إيه؟!
أطرقت رأسها بحزن بالغ لبرهة ثم رفعتها قائلة بأسف:
ــ خلص كل الإجراءات و حجز التذاكر و هنسافر بكرة فى طيارة ٨ بالليل اللى طالعة من القاهرة...يعنى المفروض نتحرك من هنا على الساعة ٣ العصر كدا..
هب من جلسته بانفعال قائلا بعصبية:
ــ نعم!!..و ازاى عمى ميعرفنيش بالميعاد دا...و ازاى أصلا حجز بالسرعة دى..
نهضت هى الأخرى و وقفت بمواجهته قائلة بهدوء:
ــ ما هو كان ناوى يعدى عليكم بعد ما يصحى من النوم علشان يعرفكم...و بابا كان شغال فى الإجراءات من زمان بس كان مخبى علينا علشان نركز فى المذاكرة و الإمتحانات....هو لسة قايلى الكلام دا النهاردة لأنى بردو قولتله نفس الكلام اللى انت قولته دلوقتى..
جلس مرة أخرى و هو يمسح بكفيه على وجهه و شعره و يستغفر ربه حتى يخفف من وطأة إنفعاله و هياجه، فجلست ملك بجواره على مسافة مناسبة بينهما قائلة بترقب:
ــ عندى جلسة كيماوى بعد شوية...هتيجى معانا..
طالعها باستنكار قائلا:
ــ و انتى من امتى بتاخدى الجلسة بالليل؟!..
ــ الدكتور أكد على بابا انى لازم اخد جلسة قبل السفر، علشان لو اتأخرت فى الوصول ميكونش فاتتنى جلسة و مش هينفع اخدها ف نفس اليوم اللى هسافر فيه...انت عارف أنا بكون تعبانة ازاى.
اومأ بتفهم قائلا بحزن:
ــ تمام... اكيد طبعا هاجى معاكى يا ملك..
أحل بهما الصمت لفترة كل منهما يفكر فى البوح بمشاعره للآخر، فذلك هو حينه و لا يجب التأجيل اكثر من هذا، فنظر كل منهما للآخر فى نفس الوقت و نطقا فى نفس اللحظة:
ملك..سفيان..
ابتسم كل منهما على الموقف، فى حين تعجب سفيان من مناداتها له بإسمه بدون لقب "مستر" فهى لأول مرة تفعلها ثم قال:
ــ نعم...عايزة تقولى ايه؟!
ــ لا قول انت الاول انت كنت عايز تقول ايه.
ــ مش هقول غير لما أسمعك..
أطرقت رأسها و ابتسامة خجلى مرتسمة على محياها و يداها تفركهما بتوتر بالغ، ثم أخيرا نحَّت خجلها جانبا و رفعت رأسها له تطالعه بعشق خالص و شغف بالغ ثم قالت:
ــ سفيان....
نظر لها باعجاب و عينيه تنطقان بالسعادة لسماع إسمه منها بدون لقب، بالتزامن مع صوتها الهادئ الرقيق، الامر الذى أعاد لها خجلها مرة أخرى، و ابتسمت و عيناها تدور فى كل مكان سواه ثم قالت:
ــ أنا عارفة إنك مستغرب إنى بقول اسمك من غير "مستر"...بس لأن الكلام اللى هقوله مينفعش يتقال بين الأستاذ و التلميذة بتاعته...
نظر لها بترقب و لم يعقب فى انتظار سماع ما تقوله، فازدردت ريقها بتوتر ثم قالت:
ــ احم...طبعا أنا هسافر بكرة و هعمل عملية الله أعلم هقوم منها و لا لأ...مكانش ينفع أسافر من غير ما أقولك إنى...إنى شايلة فى قلبى مشاعر ناحيتك، أتمنى ماتكونش مشاعر فترة المراهقة بإعتبار ان انت اللى معايا و قدامى علطول، بس...بس أنا فعلا بحس بقلبى بيرفرف من الفرحة كل ما ييجى ميعاد الحصة، و أنا معاك مبكونش عايزة الحصة تخلص، بنسى الوجع و بنسى المرض و بنسى الدنيا كلها و أنا شايفاك قدام عينيا..مش عارفة هو أنا كدا بحبك و لا يمكن دى أحاسيس عادية لأنك بتهتم بيا بزيادة؟!..
اتسعت ابتسامته و كاد أن يرد إلا أنها استوقفته بإشارة من يدها أن انتظر ثم أردفت بشجن:
ــ أنا طبعا كنت حاسة إنك بتحبنى بس مش متأكدة مية ف المية...بس كل تصرفاتك معايا كانت بتأكدلى كدا...أحيانا بحس إنى يمكن صعبانة عليك بس الأغلب بحس ان دا حب حقيقي...معرفش هنشوف بعض تانى و لا لأ...بس ليا طلب واحد عندك..
طالعها بعشق جارف و هو يقول:
ــ انتى تؤمرى يا ملك..
أطرقت رأسها تجاهد عينيها حتى لا تبكيان أمامه ثم رفعتها له قائلة بصوت متحشرج:
ــ لو مرجعتش انسانى...انسانى و كمل حياتك...أوعى تعلق نفسك بيا زيادة عن اللزوم و إوعى توقف حياتك عليا...
اقترب منها أكثر و هو يقول بألم و حزن:
ــ ملك متقوليش كدا...ان شاء الله العملية هتنجح، و هتقومى بالسلامة و هتنورى دنيتى، و هستناكى و هنتجوز و هنجيب عيال كتير يملوا علينا البيت...أنا أموت من غيرك يا ملك...اليوم اللى بيعدى من غير ما أشوفك مبيتحسبش من عمرى...وصفك لمشاعرك دا حب يا ملك و أنا كمان بحبك...بحبك من وقت ما قربت منك و بدأت أذاكرلك و أديكى دروس فى أولى ثانوى...حبيت ملك البنوتة البريئة الخجولة الطيبة الرقيقة...بس للأسف الفترة اللى بدأت أحس ناحيتك بالحب هى نفس الفترة اللى اكتشفنا فيها إنك مريضة بالكانسر..و مع ذلك حبك زاد جوايا أضعاف و احتفظت بيه لنفسى لحد ما ييجى الوقت المناسب إنى أبوحلك بيه...و الحمد لله ربنا ألف بين قلوبنا و طلعتى إنتى كمان بتحبينى....
قال عبارته الأخيرة بعشق بالغ و هو يدور بعينيه بشغف متيم، ينهل من ملامحها التى يعشقها و التى كم سيفتقدها بعد ذلك...
بينما هى... أثارت كلماته الرقيقة حزنها البالغ بدلا من سرورها، و انتزعت الأسى من أعماق قلبها حتى طفى على ملامحها و جوارحها، فأجهشت فى بكاء مرير مزق نياط قلبه، فكلامه قد لامس مخاوفها المكبوتة من فراقه الأبدى بسبب هذا المرض اللعين، و قالت من بين شهقاتها:
ــ و أنا علشان كدا وافقت اعمل العملية.. علشان خاطرك انت...عندى أمل لو واحد ف المية انى أخف و ارجع تانى لملك القديمة...علشان متشوفنيش تانى و أنا شكلى وحش بسبب الكيماوى...علشان مشوفش ف عنيك نظرة الحزن و الحسرة كل ما يغمى عليا و تجرى بيا على المستشفى...علشان قلبك يبطل يوجعك عليا..
انكمشت ملامحه بألم جم و هو يقول:
ــ هترجعي يا ملك...ان شاء الله هترجعى و هتكونى أحسن من الأول مليون مرة....اوعدينى انك هتخفى و ترجعيلى بالسلامة علشان خاطرى...
أجابته من بين شهقاتها المؤلمة:
ــ مقدرش اوعدك بحاجة مش فى إيدى...بس أقدر أوعدك إنى هعافر و هقاوم و هتحمل أى ألم علشانك انت يا سفيان.
رد عليها بلهفة:
ــ و أنا هستناكى و هدعيلك كتير...مش هتروحى من بالى لحظة و هتصل بيكى كل شوية علشان أطمن عليكى....
سكت لبرهة يتأمل ملامحها و كأنه يحفرها بقلبه قبل عقله، و يرسمها فى عينيه، فلا يرى سواها و لا يبغى غيرها ثم قال بعشق جارف:
ــ هتوحشيني أوى أوى أوى...ربنا يصبرنى على بعدك.
أطرقت رأسها بخجل بعدما كفكفت عباراتها، ثم قالت:
ــ ميصحش تقولى كدا يا سفيان...احنا قدام ربنا وقدام الناس ولاد عم و بس...و ميصحش كمان نقعد مع بعض لوحدنا..
انفلتت منه ضحكة مدوية ثم قال لها بنبرة بها مزيج من السخرية و المرح:
ــ و الله بجد!!...بقى انت اللى هتعرفنى يا صغنن..انتى عارفة أنا أكبر من بكام سنة؟!
ــ ايوة طبعا....اممم يجى أربع سنين كدا...
كاد أن يرد عليها إلا أن حمحمة عمه أوقفته، و هب كل منهما من الاريكة فى توتر و ارتباك، خشية أن يظن بهما اسماعيل ظنا سيئا كونهما يجلسان بمفرديهما...
تقدم منهما و قال بجدية:
ــ اقعدوا اقعدوا...لو مكناش مسافرين بكرة مكنتش عديتهالك بالساهل كدا يا سفيان....الدروس و خلصت...قاعد معاها لوحدك دلوقتى بحجة ايه؟!
توترت أوداجه و رد بحرج:
ــ مفيش حاجة يا عمى...كل الحكاية إنى جيت لاقيتك نايم فقعدت علشان أسألها عن أخبار السفر...
هز رأسه بتفهم ثم قال بحزن و ضيق بعدما أطلق زفرة مطولة محملة بالهموم و الأحزان:
ــ يا ريت تبلغ أبوك انت.. لأنى بصراحة تعبان و مش قادر أخرج من البيت..
نهض و استعد للمغادرة قائلا:
ــ ماشى يا عمى هبلغه و إن شاء الله هحضر مع ملك جلسة الكيماوي و ارتاح انت طالما تعبان ..
اومأ بموافقة قائلا:
ــ ماشى يبنى فى انتظارك..ربنا يجبر بخاطرك..
ــ ربنا يخليك لينا يا عمى...أستأذن انا... و ابقى رنى عليا يا ملك لما تجهزى...
اومأت بابتسامة ثم تركهما و انصرف إلى منزله لكى يستعد للذهاب معها إلى المشفى.
فى ليفربول...
فى اليوم التالى التقت سيرين بـ ريان فى الجامعة و قبل بدء أولى المحاضرات أقبلت عليه بابتسامة قابلها هو بجمود و ما إن اقتربت منه حتى قالت بذات الإبتسامة:
ــ صباح الخير يا ريان..
ــ صباح النور..
امتعضت ملامحها بضيق و هى تقول:
ــ إيه مالك بتكلمنى كدا و انت مكشر و نبرة صوتك فيها برود...كل دا علشان قولتلك إنى بحبك..
هز كتفيه بلامبالاة قائلا:
ــ يعنى..حاجة زى كدا...المفروض هى دى الطريقة اللى نتعامل بيها...علشان الأمور بينا متتطورش أكتر من كدا.
سكتت لوهلة و هى تنظر له بغضب مكبوت، ثم حاولت قدر الإمكان التظاهر باللامبالاة و هزت كتفيها لأعلى و هى تقول بخبث:
ــ متقلقش يا ريان مش هتتطور...أنا امبارح فكرت ف كلامك و لاقيت ان انت فعلا معاك حق و طالما بتحب خطيبتك و هى بتحبك، استحالة هتفكر فيا...علشان كدا أنا قررت أنسى الكلام اللى قولتهولك و بتمنى نفضل زملا و أصدقاء...و يا ريت انت كمان تنسى و ترجع تتعامل معايا زى الأول و أنا اوعدك إن انت بالنسبالي هتكون صديق و زميل بس...
نظر لها بتمعن ثم سرعان ما ابتسم و قال لها بجدية ممزوجة بإعجاب:
ــ انتى فعلا يا سيرين كل يوم بتثبتيلى إنك بنت عاقلة و ناضجة...براڤو عليكى هو دا الصح..
ابتسمت بمكر ثم استرسلت بحماس:
ــ حيث كدا بقى عايزة أطلب منك طلب.
اجابها بابتسامة بسيطة:
ــ قولى يا ستى عايزة ايه...
ــ بابى جاى النهاردة من القاهرة و حجزتله فى فندق هنا قريب من الجامعة و هو من كتر ما كلمته عنك و عن ذكائك و شطارتك فى الشرح و كمان مساعدتك ليا نفسه يقابلك و يتعرف عليك، و علشان كمان يشكرك على اللى انت بتعمله معايا....ها إيه رأيك؟!
سكت لوهلة يفكر ثم قال لها بتردد:
ــ امممم...ماشى يا سيرين مفيش مشكله..
انفرجت أساريرها بسعادة غامرة ثم قالت بحماس:
ــ تمام...هتصل بيك أول ما يوصل و هقولك على عنوان الفندق..
اومأ بموافقة دون رد ثم استعد كل منهما لبدء المحاضرة..
انتهى اليوم الدراسى لديهم و عادت سيرين بصحبة صديقتها إلى السكن، و بعدما بدلت كل منهما ملابسهما جلستا بالفراش تتحدثان كعادتهما، فأدارت فدوة دفة الحديث قائلة:
ــ عملتى ايه مع ريان...نفذتى بردو اللى فى دماغك؟!
ــ أيوة يا فدوة..عملت فيها البت العاقلة الراسية و قولتله إنى خلاص هنسى الكلام اللى قولتهوله و نتعامل عادى..
ــ اه بتتمسكنى يعنى لحد ما تتمكنى..هههه.
انفلتت من الأخرى ضحكة ركيعة محملة بالسخرية وقالت:
ــ ما أنا كان لازم أعمل كدا يا إما كان هيضيع من ايدى و نظرته ليا هتتغير و هيبنى بينا سور عالى، و هيكون صعب عليا جدا إنى أوصله...
نهضت من الفراش و تجولت بالغرفة و هى متمعنة التفكير ثم قالت بخبث:
ــ عامة التمثيلية دى هتكون مؤقتا بس لحد ما أشوف طريقة أشيل بيها خطيبته من دماغه و أحطنى أنا مكانها...و أهو بابى جاى الليلة و هطلب منه يساعدنى..
نهضت فدوة هى الأخرى و وقفت قبالتها تسألها بترقب:
ــ ألا قوليلى يا سيرين...انتى شوفتى خطيبته دى...يعنى حلوة زيك كدا..
أومأت بالإيجاب و هى تقول بغيرة و حقد:
ــ أيوة...حاطط صورتها فى خلفية الموبايل...هى حلوة بس كانت لابسة طرحة عريضة كدا مغطية صدرها، و كمان شكلها كدا من النوع اللى مبتستعملش ميكاب او ممكن بتستعمل ميكاب خفيف أوى..
رفعت فدوة حاجبيها بدهشة قائلة:
ــ أووبا...محجبة يعنى...لا و طالما طرحة عريضة يبقى ملتزمة بقى و خنيقة...
ــ اممم...على فكرة ريان كمان ملتزم و تقريبا نوعية خطيبته دى هى نوعه المفضل...
ضحكت فدوة بصخب ثم قالت:
ــ على كدا بقى انتى تحمدى ربنا ان الجو هنا أبرد من مصر و مضطرة تلبسى لبس مقفول...و إلا لو شافك بالـ هوت شورت و البادى الكات كان زمانه محتقرك دلوقتى..
ضحكت الأخرى على كلام صديقتها ووأومأت لها بتأييد و هى تقول:
ــ انتى بتقولى فيها...أنا لازم أغير طريقة لبسى علشان نظرته ليا متتغيرش وأفضل البنت العاقلة المحترمة زى ما هو شايفنى دايما....
تنهدت بعمق و رسمت على ثغرها إبتسامة هائمة و زاغت بعينيها فى الفراغ و هى تقول بنبرة حالمة:
ــ أنا بحبه اوى يا فدوة و عندى استعداد أعمل أى حاجة علشان يحبنى و أكون معاه دايما...عارفة لو طلب منى أتحجب هتحجب...بس هو يحبنى بس و أى حاجة بعد كدا تهون..
أحاطت كتفيها بذراعها و هى تقول بجدية:
ــ للدرجادى يا سيرين بتحبيه؟!...أنا أول مرة أشوفك ضعيفة كدا...
تنهدت بقلة حيلة ثم أردفت:
ــ و لا أنا كمان كنت أتصور إنى أكون كدا..بس مش بإيدى...حبه سيطر على كيانى كله بطريقة جنونية....
أما ريان ما إن وصل غرفته حتى قام بمحادثة سفيان لكى يطمئن على ملك و يسأله عن إجراءات السفر فقص عليه سفيان كل التفاصيل المتعلقة بسفرها، و استمرت المحادثة بينهما ما بين مواساة ريان له و إقناعه بعودتها سالمة و بين الدعاء لها بتمام الشفاء و العافية...
أنهى محادثته مع شقيقه ثم ما لبث أن فتح محادثة أخرى مع سلمى، فكتب لها:
ــ حبيبى اللى واحشنى
فتحت سلمى الرسالة بتلهف و ابتسمت بعشق بالغ ما إن رأتها ثم كتبت:
» ياااه أخيرا افتكرتنى
ــ غصب عنى اليوم كان مليان..
» ماشى عفونا عنك
انت أخبارك ايه؟!
ــ مش ناقصنى غيرك بس
و هكون زى الفل
ابتسمت بسعادة بالغة ثم كتبت:
» ربنا يقرب البعيد
ــ يا رب..ربنا يهون علينا.
عندى مقابلة النهاردة مع رجل أعمال
مصرى يبقى والد بنت زميلتنا و حاسس
كدا إنه هاييجى من وراه خير كبير
امتعضت ملامحها على ذكر أنثى فى الحديث ثم كتبت بغيرة مكبوتة:
ــ اممم..ربنا يوفقك
بس بالنسبه لبنته دى بقى
ايه؟!
ضحك بشدة ما إن استشعر غيرتها بين أحرف كلماتها المكتوبة ثم كتب و هو مازال يضحك:
ــ مفيش ف القلب غير سلمى واحدة بس
سلمى أنا من كتر حبى ليكى ناوى
أسمى أول بنت لينا على إسمك..
» لا..اول بنت هنسميها چود
ــ لا سلمى
» لا چود
ــ سلمى
» چود
زفر بقلة حيلة ووهو يهز رأسه بقلة حيلة من رأسها اليابس ثم كتب:
ــ طيب يا ستى أمرى لله..چود
ابتسمت بانتصار ثم كتبت بحماس:
» و أول ولد هنسميه چاد
ضحك بصخب ثم كتب:
ــ و يا سلام بقى لو يكونوا توأم
يبقى چود و چاد
ضحكت هى الأخرى و استمرت محادثتيهما ما بين الأحلام و الأمانى و بين كلمات العشق و الهيام.
فى المساء..
التقى ريان بـ مجدى و سيرين فى المطعم التابع للفندق و رحب به مجدى ترحيبا حارا و عزمه على العشاء، و بعد أن انتهوا من تناول العشاء و المشروبات، دار بينهما حديثا مطولا عن إدارة المال و الأعمال و أملى عليه ريان العديد من المشروعات المربحة التى من الممكن خوضها و الحصول على أرباح طائلة منها، الشيئ الذى أثار إنبهار مجدى بذكائه و إعجابه الشديد بأفكاره الجديدة و التى كانت جميعها خارج الصندوق، فأيقن مجدى حينها أن ريان عبارة عن كتلة ذكاء و شعلة من النشاط و أنه كنز ثمين سـوف يُدِر عليه أموالا طائلة، و أنه لا بد من التمسك به و إحتوائه و كسبه له بأى وسيلة.
لم تقل سعادة ريان باللقاء عن سعادة مجدى، فـ ريان شاب طموح يتطلع لان يكون رجل أعمال ناجح و لكنه من طبقة متوسطة و يحتاج لمن يدعمه و يسانده، و قد أتى مجدى له كفرصة ذهبية عليه أن يستغلها و لا يتوانى عن جذب إنتباهه بأفكاره الطموحة و قد حصل على ما أراد.
يتبع....
مع تحياتي/ دعاء فؤاد عرض أقل
الفصل الرابع
فى صباح يوم جديد يطل على الجميع بأقدار جديدة لا يعلمها إلا الله...
أنهى سفيان عمله مع والده بمحل الاقمشة و كيانه يرتجف من القلق و الخوف على حبيبته، و قلبه منكوى بنيران الإشتياق التى انضرمت به قبل أن تغادر البلاد..
عند الظهيرة أغلق المحل و ذهب بصحبة والده و والدته إلى منزل عمه لكى يودعونهم و يذهب هو معهم إلى مطار القاهرة..
تأكدت ملك من تمام أغراضها من ملابس و أشعة و تقارير من الممكن ان تحتاج إليها فى المشفى ثم نادت سفيان و حمل عنها الحقائب و ضبها بسيارة جارهم سالم سائق التاكسى، و استقل معهم السيارة منطلقين إلى القاهرة...
بعد ثلاث ساعات من السفر، وصلت السيارة إلى المطار و انتظر معهما سفيان فى قاعة الإنتظار و عيناه لا تحيدان عن مليكة قلبه، يود لو تقضى تلك السويعات القليلة بين أحضانه لعلها تروى عطش اشتياقه لها، فقد وشمت اسمها على قلبه كالوشم المستديم، فلا مكان فيه لمخلوق سواها...
حين وصل إلى مسمعه صوت المذيع الداخلى يخبر بقرب إقلاع الطائرة المتجهة إلى برلين و على الركاب التوجه إلى الطائرة، انقبض قلبه، و تجهمت ملامحه، و أحس بإنسحاب الهواء من رئتيه بالتزامن مع شعوره بانسحاب روحه، و كأن هذا الصوت انتزع منه روحه عنوة، و كأنها ستأخذ قلبه النابض بإسمها معها فيبقى هو بلا قلب، بلا روح، بل بلا حياة..
فى تلك اللحظة إنسابت عبراتها على وجنتيها و هى تطالعه بحزن بالغ و حسرة قاتلة، تجمد جسدها، فقدميها أبت أن تطيعها، و عينيها ترفضان التزحزح عنه، و كامل جسدها لا يريد تركه، و لكن يد أبيها امتدت لتقبض على ذراعها و تجذبها بإتجاه الطائرة، فسارت معه باستسلام و قلب منكسر مهزوم، و عيناها و كل وجدانها متعلق به، و كأنها تركت معه قطعة غالية منها...نعم لقد تركت معه قلبها الذى بحبه ينبض و بعشقه يحيى...
عاد سفيان مع سالم بسيارته مرة أخرى إلى المنصورة بقلب ينزف دما من جرح الفراق، يدعو الله فى نفسه ألا يطيل الفراق و أن يلهمه الصبر و السلوان حتى يلقاها على خير...
ما إن وصل إلى المنزل حتى فتحت له داليا، حيث كانت هناك بصحبة والدتها، ينتظرانه لكى يطمئنهم على سلامة وصولهم للمطار و استقلالهم الطائرة...
و لكنه تخطاها دون ان ينبس ببنت شفه، و دلف إلى صالة المنزل و ألقى السلام عليهم بملامح جامدة ثم دلف غرفته مباشرة و لم يلق لهم بالا، و لم ينتظر حتى يسألوه عنها، فقد كانت حالته النفسية سيئة للغاية، و لم يكن لديه طاقة للحديث او حتى النظر فى وجوههم...
دلف إلى شرفته التى تطل على شرفة غرفتها فى الجهة المقابلة، و عند هذا الحد و لم يستطع كبت مشاعره الثائرة الحزينة و لم يشعر بنفسه إلا و هو منكب على سور الشرفة برأسه و يبكى بحرقة...بكاء اهتز له كامل جسده و ارتجف له قلبه المهتريئ..ظل على هذا الوضع لفترة لا يشعر بأى شيئ و لا حتى بتلك الجريحة التى تقف عند باب الغرفة تراقبه بقلب منفطر و عينين دامعتين...تتنمى فقط لو تنل شطر هذا الحب الذى يكنه لـ ملك...
غادر مجدى مدينة ليفربول متجها إلى لندن لإكمال أعماله بعدما أنهى زيارته القصيرة لإبنته، و ما إن وصل الفندق حتى قام بالإتصال بها، حيث لم يتسنى له الحديث معها بعدما أخذها ريان و أوصلها السكن...
مجدى:
ــ ألو...أيوة يا حبيبتى خلاص أنا وصلت لندن و بكلمك دلوقتي من الأوتيل..
ــ حمد الله على سلامتك يا بابى...ها مقولتليش رأيك فى ريان.
ــ ريان دا جن مصور...داهية..كنز..دماغ شغالة...لا لا لا...دا فعلا أكل عقلى زى ما قولتى...الولد دا هينفعنى جدا فى إدارة المجموعة و مش لازم أضيعه من ايدى..
اتسعت ابتسامتها بسعادة و قالت بحماس:
ــ كنت متأكدة ان دا هيكون رأيك فيه..بصراحة يا بابى أنا بتمنى أنه يكون من نصيبى و نتجوز بس للأسف خاطب و بيحب خطيبته جدا...
سكت مليا يفكر فى ذلك الأمر ثم أردف بمكر:
ــ سيبيلى أنا الموضوع دا...ريان يستحق بنت جميلة و ذكية زيك و أنا كمان يشرفنى إنه يكون جوز بنتى الوحيدة...لا فعلا شخصيته جامدة...و عنده كاريزما رجال الأعمال.
ــ هو بعد ما صدنى و قالى انه مش هيسيب خطيبته، قولتله خلاص خلينا أصدقاء...بس بينى و بينك يا بابى بدور على أى طريقة أخليه ينساها بيها بس مش عارفة...مفيش غيرك اللى هيساعدنى..صح؟!
ــ ما أنا قولتلك سيبيلى أنا الموضوع دا..و خليكى على كلامك معاه...حركة ذكية منك بردو علشان مش تخسريه..بنت أبوكى صحيح يا سوسو...
أطلقت ضحكة مدوية ثم قالت بغرور:
ــ طبعا يا بابى دا أنا تربيتك..
ــ حبيبة بابى أنا مقدرش أسيبك كدا نفسك فى حاجة و مجبهاش ليكى لحد عندك...اصبرى عليا بس أخطط و أتكتك و وعد منى ريان ليكى...بس ابقى ابعتيلى كل المعلومات اللى تعرفيها عنه ع الواتس...لو قدرتى تجيبى تفاصيل أكتر من ملفه فى الجامعة يبقى تمام اوى...اوكى؟!
أجابته بسعادة بالغة و أمل جديد لاح أمام عينيها:
ــ أوكى يا أحلى بابى فى الدنيا..
ــ هههه...حبيبتى أنتى تؤمرى و أنا عليا أنفذ بس..
فى برلين...
فى اليوم التالى ذهبت ملك بصحبة والدها إلى المشفى المسبق التنسيق معها، و بعد فحصها بالكشف و عمل التحاليل و الأشعة اللازمة أقر لها الطبيب المشرف على حالتها بضرورة عمل الجراحة بأسرع وقت قبل تمكن الورم من خلايا المخ، و تم تحديد موعد لها فى مساء نفس اليوم بإعتبارها جراحة طارئة و تم حجزها بقسم ما قبل الجراحة لتجهيزها لإجراء العملية.
أما والدها انتظر بالقاعة المخصصة للإنتظار بعدما اطمئن على تجهيزها للجراحة على أكمل وجه، و فى تلك الأثناء اتصل بشقيقه إبراهيم لكى يطمئنه و يخبره بموعد العملية.
ما إن علم سفيان بذلك الأمر حتى أصابه القلق البالغ و سيطر الخوف من فقدانها على كل جوارحه، و قام بالإتصال بها عدة مرات و لكنها لم ترد على أى من مكالماته مما أصابه ذلك الأمر بالغضب و الرهبة فى آن واحد...
بينما ملك كانت فى حالة ترثى لها، فكل ما يشغل تفكيرها الآن هو حزنها على أبيها و سفيان إن لم يقدر لها نجاح العملية، ترى اسمه مرسوم على الشاشة كل حين و آخر حين يتصل بها، و لكنها لا تقوى على الرد، فحتما ستنفجر فى بكاء مرير يدمي القلب، و سوف تزيد حالته النفسية سوءا تباعا لذلك، فرأت أنه من الأفضل أن تترك له رسالة صوتية قبل أن يتم سحب الهاتف منها، فسجلت رسالة صوتية عبر الواتساب قالت فيها:
ــ سفيان...كلها دقايق و أدخل العمليات..سامحنى مش قادرة أكلمك فى الموبايل وجها لوجه..أنا سجلتلك الريكورد دا علشان يفضل معاك دايما و تفتكرنى بيه لو مرجعتش...سفيان أنا بحبك و نفسى أخف و نحقق كل اللى بنتمناه مع بعض..بس متنساش كلامى إنى لو مرجعتش تنسانى و تكمل حياتك...صدقنى مش هزعل لو كملت مع غيرى، بالعكس علشان أنا بحبك هفرح لفرحك و هتعذب لعذابك..لو بتحبنى بجد متعذبنيش و أنا فى تربتى...ادعيلى ربنا يقومنى بالسلامة و لو مت ادعيلى ربنا يرحمنى و يغفرلى.
بعد عدة دقائق وصله التسجيل الصوتى و استمع إليه بقلب منفطر و عينين باكيتين، يود لو يركض و يقطع المسافات و يذهب لها و يصرخ بها بألا تتركه و تذهب، يشعر و كأنه مقيد بسلاسل من حديد، و كأنه عاجز عن الحركة و كأنه قد أصيب بالشلل، فليس بيده ما يفعله ليضمن بقاء حبيبته بجانبه سوى أن يتضرع ألى الله و يتوسل إليه بأن يردها له سالمة و بأحسن حال...
مرت أكثر من ست ساعات و ما زالت ملك بغرفة العمليات و أبوها يجوب الممر الخاص بالمرافقين ذهابا و إيابا، تارة يتضرع إلى الله بالصلاة و الدعاء، و تارة أخرى يبكى من شدة خوفه عليها و رهبته من فقدها، و تارة يستكين تماما حين يفوض أمره لله..
بينما سفيان و والده و والدته لم يقل حالهم قلقا عن اسماعيل، و كان سفيان أشدهم قلقا و توترا...
توضأ و صلى صلاة قضاء الحاجة، ثم وقف بشرفة غرفته يتطلع إلى السماء القاحلة السواد و النجوم التى تزينها بقدرة قدير، راسمة منها منظر بديع يسر الناظرين، تطلع للقمر المكتمل بليلته فكان بدرا منيرا، و ابتسم بهيام حين تذكرها حينما كانت تسير بصحبته ليلا فى طريق العودة من المشفى، و البدر يسطع فى السماء تحيطه هالة واسعة من الضوء، و أشارت له عليه قائلة بتلقائية و براءة:
ــ مستر سفيان... شوف القمر شكله قمر أوى.
أجابها بتقطيبة تنم عن استنكاره:
ــ القمر شكله قمر!!.. اومال يعنى هيكون شكله شمس..
هزت رأسها بنفى و هى تقول:
ــ لا يا مستر مش قصدى كدا... أقصد إنه شكله جميل يعنى..
ــ اممم.. فعلا..عمرك شوفتى قمر بيغير من قمر؟!
قطبت جبينها بتفكير تحاول فهم مقصده و لكنها فشلت فى ذلك فسألته ببراءة:
ــ إزاى بقى يا مستر؟!.. دا هو قمر واحد بس فى السما..
ابتسم على برائتها و نظر لها بشغف بالغ ثم قال:
ــ انتى متعرفيش إن فى قمر فى السما و قمر ماشى ع الأرض... أهو القمر اللى فى السما دا بيغير من القمر اللى ماشى جنبى دلوقتي.
توقفت عن السير بغتة، لوهلة حتى تستوعب مغذى كلامه إلى أن فهمته أخيرا، فابتسمت بخجل و لم يسعفها عقلها لقول أى شيئ و إنما فقط أكملت سيرها و هى مطرقة الرأس و وجنتيها الباهتتان تشتعلان من الخجل.. تشعر بعد وصفه الرقيق لها و كأن ليس بها شيئ، و كأنها لم تعانى من مرض قط.
عاد من ذاكرته و هو يتامل البدر بشرود و يحدثه بشجن قائلا:
ــ مش عارف أشوفك يا بدر بدر.. لانى شايف وشها القمر فيك..شايف ابتسامتها الجميلة و عيونها الخضرا و ملامحها البريئة... اعذرنى.. بس هى أحلى منك.. او يمكن صورتها المرسومة فى وشك هى اللى محلياك... ااااه.. يا رب ترجعى تنورى سمايا تانى يا ملك.. يا رب اشفيها و رجعهالى بالسلامة.
بعد ثلاث ساعات أخريات خرجت أخيرا بعد جراحة عصيبة لم تكن ابدا بالهينة، لا على طاقم العملية، و لا على والدها الذى كاد قلبه ان يتوقف من فرط القلق، و لا على سفيان الذى كان يجوب الشوارع فى الظلام الحالك على غير هدى و كأنه يسير على جمر ملتهب...
تم نقلها سريعا إلى وحدة العناية المركزة و تم توصيلها فى الحال بجهاز تنفس صناعى، فقد كانت حالتها سيئة للغاية، و بعدما استقرت علاماتها الحيوية على الجهاز خرج اخيرا الطبيب و سأل عن والدها لكى يخبره بآخر تطورات حالتها الصحية..
تم إعلام اسماعيل برغبة الطبيب فى مقابلته، فأسرع إليه فى الحال و جلس معه بأحد مكاتب الأطباء، تحدث معه الطبيب بلغته الألمانية و لكن اسماعيل لم يفهم منها و لا كلمة..فعندما يئس الطبيب من فهمه تركه و ذهب لكى يخبر أحد الأطباء العرب الذين يعملون بالمشفى و طلب منه أن يحضر اللقاء حتى يترجم له الكلام.
حضر طبيب لبنانى فى الأربعين من عمره يدعى عامر و جلس بالكرسى المقابل لإسماعيل، ثم بدأ الطبيب الألمانى فى سرد تفاصيل الحالة و ترجم عامر قائلا:
ــ دكتور چوناثان عم بيخبرك إن ملك هلا تم توصيلها بچهاز تنفس صناعى لأن الچراحة كانت كتير صعبة و خطيرة و القلب توقف عدة مرات أثناء الچراحة...و هى راح تضل تحت الملاحظة على الچهاز لحين إشعار آخر...
نظر عامر للطبيب حتى يكمل حديثه فأخبره ببعض الأمور التى ترجمها عامر قائلا:
ــ نتيچة العملية ما راح نعرفها هلا...بدها شوية وقت لحتى نعرف لوين تطورت حالتها...ممكن تتطور للأفضل و ممكن للأسوأ...كل الإحتمالات قائمة..و ما راح تتفصل من ع الچهاز إلا فى حالة استعادة قدرة أچهزتها على العمل بشكل طبيعى أو....أو لو المخ مات و القلب توقف و ما عاد فى أمل إنها تصحى مرة تانية.
نزلت تلك الكلمات على اسماعيل كالصاعقة التى قصمت قلبه شطرين...حقا انخلع قلبه على حبيبته و قرة عينه و وحيدته و أنيسته بهذه الحياة، حتى سالت العبرات من عينيه حزنا عليها...لا يدرى هل أخطأ فى حقها حين أخذ قرار الجراحة أم أنه كان موفقا..حقا لا يدرى...
ألجمت صدمته لسانه و لم يقوى على الرد، أو حتى أن يسأل الطبيب أى أسئلة، حتى أنه لم يستطع أن يشكره على وقته الذى منحه إياه للترجمة.
بينما عامر كان يراقب ملامحه المصدومة بإشفاق بالغ، فربت على فخذه بمواساة و قال له بتعاطف شديد:
ــ ان شاالله خير يا زلمة..ادعيلها ان الله يتطلع لإلها و يشفيها و أنا هون معك راح طمنك عليها بإستمرار، و إذا بدك أيا شى فيك تطلب منى..و أنا كمان راح أعطيك ورقة فيها الكلمات الألمانية الشائعة و اللى راح تسمعها كتير هون بالمشفى..و فيك تدرسها منيح و تحفضها لحتى تقدر تتعامل مع الناس هون...ماشى؟!
أومأ اسماعيل بإمتنان و هو يكفكف عبراته و يقول:
ــ الله يباركلك يا دكتور يا رب...جميلك دا على راسى مش هنساهولك أبدا..
ابتسم عامر بود و قال:
ــ لا تقول هيك يا زلمة..نحنا اخوات فى الإسلام و العروبة...و هاد واچبى تچاهك...
أومأ اسماعيل بارتياح و حمد الله أن سخر له شخص خلوق مثل عامر، يساعده و يسهل عليه أمور كثيرة أثناء إقامته بهذا البلد الغريب و التى لا يعلم مداها إلا الله.
طلب اسماعيل منه أن يلقى على ملك نظرة سريعة حتى يشبع عينيه منها قدر استطاعته، فأتاح له رؤيتها لكن فقط عبر النافذة الزجاجية، حيث أنه ممنوع منعا باتا دلوف أى شخص خلاف الطاقم الطبى و التمريضى إلى داخل العناية المركزة.
عاد اسماعيل مرة أخرى إلى قاعة الإنتظار بعدما رآها موصولة بذلك الجهاز المخيف، و الذى قلما ينجو منه أحد قد اتصل به، رأى رأسها المغطاة بالشاش و الأنبوبة الحنجرية الخارجة من فمها إلى الخراطيم الواسعة و منها إلى الجهاز، رأى خطوط المحاليل المتصلة بطرفيها و تلك العباءة الطبية البيضاء التى ترتديها...لقد كانت هيئتها حقا مهيبة، هيئة تنخلع لها القلوب و تبكى لها الأعين أعواما..
جلس بأحد المقاعد يلملم شتات نفسه و يتضرع إلى الله أن يلهمه الصبر و القوة لتحمل تلك الشدائد...و بعد فترة اتصل بشقيقه فأجابه سفيان بلهفة يسأله عن حالتها، سكت اسماعيل مليا متحيرا أيخبره بالتفاصيل كاملة أم يخفى عنه بعض الحقائق حتى لا يثير حزنه و قلقه، و لكنه بالأخير قرر أن يخبره الحقيقة كاملة حتى يؤهله نفسيا لأى أمور سيئة قد تحدث لاحقا..
ما إن سمع سفيان لما أخبر به الطبيب حتى خارت قواه و ألقى بجسده بوهن شديد على أقرب أريكة له، حتى أنه لم يقوى على الرد و أعطى الهاتف لوالده دون أن ينبس ببنت شفه.
أنهى إبراهيم المكالمة مع شقيقه بقلب مفطور ثم جلس بجوار سفيان بالأريكة و ربت على كتفه و هو يقول بحزن:
ــ قوم يابنى اتوضى و صلى و ادعيلها ان ربنا يشفيها و يطمنا عليها...و أى حاجة هتحصل بعد كدا مقدر و مكتوب و هو دا نصيبها من الدنيا..انت مؤمن يا سفيان و مش محتاج حد يفكرك بالكلام دا...حتى لو لا قدر الله مقامتش من نومتها دى فـ دا بردو عمرها اللى مكتوبلها من قبل ما تتولد...رفعت الأقلام و جفت الصحف...
أطلق سفيان تنهيدة مطولةمحملة بأطنان من الهموم و الأحزان و أخذ يردد:
ــ أستغفر الله العظيم...ربى لا أسألك رد القضاء و لكنى أسألك اللطف فيه..
ثم نهض و اتجه للمرحاض و توضأ و صلى و تضرع و توسل إلى الله أن يشفيها و بكى...
كم بكت عيناه لأجلها حتى استاءت...
فمنذ متى تبكى عينا رجُلٍ متى شاءت..
حتى و إن عَظُمت مصائبه و إن ساءت
و إن اشتدت الكُرَب و إن لأسوأها باءت
تمر الأيام و الليالى و الجميع مترقب، يمنون أنفسهم بقرب استفاقتها من تلك الغيبوبة التى ابتلعتها إلى ظلامها الدامس، و لكن لا جديد...
علاماتها الحيوية مستقرة على الجهاز و لكن لا توجد أى إشارة تدل على قرب استفاقتها...مجرد جسد ممدد بفراش المرض لا حول له و لا قوة، متصل بأجهزة معقدة تعطيها من الأنفاس ما يبقيها على قيد الحياة.
بينما اسماعيل المسكين استنفذ أكثر ما لديه من المال و لم يتبقى معه إلا القليل...
فاضطر إلى أن يجوب المدينة من شمالها لـ جنوبها و من شرقها لـ غربها بحثا عن عمل مناسب و شقة صغيرة تؤويه...فيبدو أن مدة الإقامة ستطول على عكس ما كان يظن...وجد أخيرا مصنع للملابس الجاهزة و قد عُين عامل بالمصنع، و لكن أى عاملٍ هذا...لقد عمل بالمصنع كما نسميه باللغة الدارجة "شيال" يحمل الخامات إلى عُمال الحياكة و ينقل المنتجات من المصنع إلى السيارات المخصصة لتوزيعها..
ماذا عساه أن يفعل..لقد اضطر أن يقبل بهذا العمل الشاق و بمقابل بخس حتى لا يجد نفسه و إبنته مطرودين من المشفى بل من البلد بأكملها.
و قد ساعدته تلك الورقة المدون بها الكلمات الألمانية و ترجمتها كثيرا فى التعامل مع الناس كما أنه اكتسب العديد من الكلمات الأخرى حتى أصبح شبه متمكن فى اللغة.
كان ينهى عمله بالمصنع ثم يتجه لتلك الشقة البالية التى كانت عبارة عن غرفة نوم واحدة و مرحاض و مطبخ صغير و صالة ضيقة، يقوم بإعداد وجبة ليتناولها و ينظف ملابسه، ثم يرتدى ملابس جيدة و يتجه للمشفى، يطل على إبنته عبر نافذة العناية ثم يجلس بقاعة الإنتظار لعله يسمع عنها بشرى سارة، إلى أن يحل الليل، فيعود إلى شقته و هو يجر أذيال الخيبة و ينام لكى يستأنف عمله فى اليوم التالى..
و كان هذا ديدنه طيلة الشهرين اللذين مرا على غيبوبة ملك...
أما ريان و سلمى فلم ينفكان عن تلك المحادثات الكتابية حتى أدمناها، فأشعلت بينهما فتيل الحب حتى عانى قلبيهما حرقة الإشتياق، حتى أن كل منهما يعيد قراءة المحادثة بعد انتهائها من فرط العشق و الهيام.
و تلك الحرباء سيرين تتلون معه بكل ألوان المكر و الخديعة، تنتظر اللحظة التى ستمتلكه فيها على أحر من الجمر مهما كان الثمن...و هو كالأبله يتعامل معها بحسن نية و فى حدود الزمالة و هى أيضا تسايره، فعلت فى نظره كثيرا و ازداد احترامه لها أضعافا.
فى إحدى ليالى الشتاء قارصة البرودة، كانت سلمى تسير بالشارع الخالى من المارة بسبب انهمار المطر بغزارة، تسير وحيدة بطريقها للمشفى لأداء نوبتها الليلية، كانت تسير ببطئ شديد على الرصيف خشية أن تنزلق، فقد تغيبت صديقتها عن نوبتها نظرا لمرضها الشديد فاضطرت لأن تذهب الليلة بمفردها...
و عند منتصف الطريق الذى يستغرق اكثر من ربع ساعة مشيا على الأقدام، سارت بجانبها سيارة ملاكى و كلما أسرعت تسرع السيارة إلى أن وقفت و خرج منها رجل ضخم ملثم، و كمم فمها سريعا و حملها بخفة و سهولة و أدخلها بالسيارة عنوة، ثم انطلق بالسيارة إلى قدرها المحتوم..
يتبع...
الفصل الخامس
عند منتصف الليل... كان أحدهم يسير بصحبة زوجته التى تعانى من مغص كلوى بإتجاه المشفى للكشف عليها فى قسم الإستقبال و الطوارئ، و لم يكد يقترب من باب المشفى حتى فزع من هول ما رأى...
فقد رأى فتاة ملقاة على الأرض على مسافة قريبة من بوابة المشفى، و قد كانت غارقة فى بركة من الدماء و ملابسها ممزقة من كل جانب...
أسرع بمنادة أفراد الأمن المستقرين بمكانهم عند بوابة المشفى حتى يحملوها معه و حتى ينفى التهمة عن نفسه..
أشفق عليها فردى الأمن و أسرع احدهم بإحضار النقالة لحملها عليها إلى قسم الطوارئ..
ما إن تسلمها ممرضات القسم و أطبائه حتى عرفوها على الفور، فلم تكن تلك الفتاة المسكينة سوى زميلتهم سلمى..
بعد الكشف عليها أمر الطبيب بسرعة تحهيزها إلى العمليات، فقد كان من المستحيل السيطرة على النزيف الرحمى الشديد الذى أصابها...
اتصلت إحدى زميلاتها بوالدتها و أخبرتها أن سلمى تعرضت لحادث طريق و هى الآن بالعمليات...
هوى قلب فاطمة فى قدميها و أسرعت بإيقاظ داليا و قامت داليا بدورها بالإتصال بـ سفيان حتى يذهب معهم، فليس لديهم من الرجال من يساندهم سواه هو و ريان.
فى خلال عشرين دقيقة كان ثلاثتهم يقفون بردهة المشفى المؤدية لغرفة العمليات فى انتظار خروج أحدهم يطمئنهم عليها..
كان سفيان يجوب الردهة ذهابا و إيابا يصيح بـ داليا و فاطمة بلا وعى قائلا:
ــ ازاى تسيبوها تروح لواحدها... ما اتصلتوش بيا ليه و أنا كنت وصلتها... ليييه؟!
ردت فاطمة و هى تبكى بكاءا مريرا:
ــ يابنى هى طالعة من البيت على أساس انها هتعدى على صاحبتها و هيروحوا سوا... تلاقيها لما لقيتها تعبانة كملت طريقها لوحدها... و بعدين ياما راحت لواحدها بالليل و محصلش حاجة..
ضرب الحائط بقبضة يده من فرط الغضب ثم قال بصراخ:
ــ مش كل مرة تسلم الجرة... و بعدين محدش عارف ايه اللى عمل فيها كدا.. الله أعلم دى حادثة بجد و لا اتخطفت و لا إيه اللى جرالها... محدش شاف حاجة نهائي...
ازداد نحيب داليا و والدتها حتى خرج أحد الأطباء و على وجهه علامات الحزن و الأسى، فانقبضت قلوبهم جميعا و ركضوا بإتجاهه، اطلق الطبيب زفرة عميقة ثم قال:
ــ للأسف النزيف شديد جدا و مش قادرين نسيطر عليه و مفيش قدامنا غير حل واحد يا إما دمها كله هيتصفى...
ردت فاطمة ببكاء و نحيب:
ــ اعمل أى حاجة يا دكتور المهم بنتى تعيش..
رد الطبيب بأسف:
ــ حتى لو هنستئصل الرحم.؟!.
نظر الثلاثة للطبيب بملامح مشدوهة و قد أحل بهم صمت مخيف إلى إن نطق سفيان أخيرا بصوت متحشرج:
ــ و إيه علاقة الرحم بالنزيف..
رد الطبيب بعملية:
ــ ما هو النزيف اللى عندها نزيف رحمى... الأنسة سلمى اتعرضت لإغتصاب بشع أدى لتهتك الرحم و للأسف مش كدا و بس، دا فى تهتك تم باستخدام أداة... يعنى الإضرار بالرحم شيئ مقصود.. و الحاجة الوحيدة اللى هتوقف النزيف هو استئصال الرحم تماما اللى هو أصل النزيف.
صدمة... صدمة مفجعة أحلت بهم جميعا حتى أن فاطمة اصابها الدوار حتى فقدت وعيها و سقطت على الأرض و سقطت معها داليا و هى تصرخ باسمها، بينما الطبيب قال بحزن و جدية:
ــ أستاذ سفيان مفيش قدامنا وقت... لو موافق امضى على الإقرار دا بسرعة..
تناول منه سفيان الورقة بيد مرتعشة و أعصاب تالفة ثم وقَّع على الإقرار و أعطاه للطبيب الذى دلف مسرعا إلى غرفة العمليات ليكمل ما أخبرهم به لتوه...
فى ذات الوقت دق هاتف إبراهيم الذى كان مستيقظا هو و زوجته فى انتظار معرفة ما حدث لـ سلمى، و قد كان المتصل شقيقه اسماعيل....
فتح الخط و أجابه بنبرة قلقة من اتصاله بهذا الوقت المتأخر خشية أن يكون قد أصاب ملك مكروها، و بعدما أتاه صوته استمع لحديثه، فأجابه بصدمة:
ــ كلام إيه اللى انت بتقوله دا يا اسماعيل...عايزنى أبيع البيت اللى حيلتك؟!..هو انت عاد عندك إلا هو؟!
أجابه اسماعيل بإستياء:
ــ أعمل ايه بس يا أخويا...القعدة هنا شكلها مطولة و المستشفى عايزة فلوس كل يوم...لولا الدكتور الألمانى اللى اتبنى حالتها فى دراسة الحالة بتاعت الدكتوراة بتاعته كان زمانا مطرودين من المستشفى من زمان...اهو كتر خيره بيدفع ٨٠٪ من المصاريف مقابل موافقتى و أنا بدفع ال٢٠٪ اللى باقيين...
هز إبراهيم رأسه بقلة حيلة و هو يقول:
ــ لا حول و لا قوة الا بالله...
فى تلك الأثناء أحس اسماعيل بحركة غريبة و ربكة غير عادية عند غرفة ملك، الأمر الذى أصابه بالقلق البالغ و قال لشقيقه بنبرة يشوبها القلق الشديد:
ــ خليك معايا كدا يا إبراهيم..مش عارف حاسس ان فى حاجة عند ملك...
هرول إلى غرفتها و استوقف احدى الممرضات التى كانت تركض باتجاه الغرفة و سألها بالألمانية:
ــ آنستى...ما الخطب؟!
ــ دعنى الآن سيدى..لقد توقف قلبها و يبدو أنها قد فارقت الحياة.
جحظت عيناه و ضاق نفسه و أخذ يردد بهمس وصل لمسمع إبراهيم الذى مازال على الهاتف:
ــ ماتت.؟!..ملك ماتت...؟!
بينما إبراهيم أخذ يسأله بهلع:
ــ ملك مالها يا اسماعيل...ملك مالها؟!
أجابه بصوت متقطع و هو يبكى بحرقة:
ــ ملك...ما..تت..ملك..ماتت..يا...إبراهيم..
ثم سقط الهاتف من يده ليتحول إلى فتات فى الحال ما إن لامس الأرضية الرخامية...
بينما إبراهيم أخذ يردد بقلب منفطر:
ــ اسماعيل..اسماعيل..
و لكن لا رد إلى أن أعطاه الهاتف صفارة إنهاء المكالمة...
ألقى إبراهيم بالهاتف بإهمال على أقرب أريكة و ملامحه مشدوهة من الصدمة، لا يصدق ما سمع لتوه بأذنيه على لسان شقيقه، جميعهم وضعوا ذلك الإحتمال فى اذهانهم و توقعوا حدوثه، و لكن دائما الحقيقة مرة، و معايشة واقعها أمر مؤلم حقا.
صاحت به عفاف بفزع و هى تقول:
ــ ملك مالها يا إبراهيم..
أجابها بملامح حزينة و صوت متحشرج من الصدمة:
ــ إنا لله وإنا إليه راجعون... لله الأمر من قبل ومن بعد...
بينما الأخرى أجهشت فى بكاء مرير و هى تقول من بين شهقاتها:
ــ حبيبتى يا ملك... لا إله إلا الله... الله يرحمك يا بنتى...حبيبى يا سفيان.. مش عارفة هيجراله إيه لما يعرف... لا حول و لا قوة إلا بالله.
رد إبراهيم بصوت منخفض من فرط الحزن و الأسى:
ــ سفيان راجل و مؤمن بقضاء ربنا و هيصبر... و كدا كدا كلنا كنا متوقعين انها عايزة معجزة علشان تقوم من نومتها، و أهو ربنا ريحها من العذاب اللى كانت فيه... أنا اللى صعبان عليا بصحيح اخويا اسماعيل... الله يكون فى عونه.. مفيش حد واقف معاه هناك فى شدته و لا حد يهون عليه و يساعده...
ربتت على كتفه و هى تقول بمواساة:
ــ ان شاء الله يا إبراهيم ربنا هيوقفله ولاد الحلال... سبحان الله من يوم ما راح و ربنا بيبعتله اللى بيساعده... ملك دى أصلها بنت حلال و قلبها أبيض زى الملايكة... فعلا اسم على مسمى.. بس يا خسارة بنت موت صحيح...
ــ استغفرى ربك متقوليش كدا يا عفاف... متغلاش على اللى خلقها و دا عمرها و انتهى..
ــ استغفر آلَلَهّ آلَعٌظُيَمً... يا رب جيب العواقب سليمة يا رب و يصبرك يا سفيان يابنى يا رب.
بينما فى المشفى المركزى...
خرجت سلمى من غرفة العمليات و تم نقلها إلى غرفة عادية بقسم الجراحة، بينما أمها تم حجزها فى قسم العناية المركزة بعدما أصيبت بأزمة قلبية حادة فور علمها بما حدث لإبنتها الغالية، و بقي داليا و سفيان حائران ما بين هنا و هناك و هما فى حالة يرثيان لها...
بعدما اطمئنا على استقرار حالتيهما إلى حد ما، جلسا بمقاعد الإنتظار بجوار قسم الجراحة، فقال سفيان لداليا بحزن بالغ و إرهاق فى نفس الوقت:
ــ داليا...أنا هروح القسم أقدم بلاغ...أنا مش هسيب حق سلمى يروح هدر..
اجابته ببكاء و حسرة:
ــ هنتهم مين بس يا سفيان...مفيش شاهد واحد على اللى حصلها...أنا مش عارفة بس مين من مصلحته يعمل فيها كدا..دى سلمى غلبانة و فى حالها و لا بتهش و لا بتنش..
أمسك رأسه بين كفيه يضغط عليها بعصبية و هو يكاد يُجن من كثرة التفكير في ذلك اللغز، قائلا بغيظ و غضب:
ــ أنا هتجنن يا داليا...مش عارف مين بس اللى ممكن يعمل فيها كدا...احنا كلنا فى حالنا و ملناش عداوات مع أى مخلوق...بس أكيد هى شافت اللى خطفها و هتقدر تتعرف عليه و ان شاء الله هاخدلها حقها من اللى عمل فيها كدا و مش هسيبه لو كان فين..
ازداد نحيب داليا أكثر و أخذت تضرب بكفيها على فخذيها بحسرة وتقول:
ــ و هيفيد بإيييه...ما خلاص ضاعت و مستقبلها ضاع...و الله أعلم لما تفوق هيجرالها ايه تانى لما تعرف اللى حصل فى العملية..ااااه يا سلمى..يا وجع قلبى عليكى يا أختى...اااه..
بينما سفيان انخلع قلبه اكثر على نحيبها و تخيل صورة سلمى عندما تعلم بما حدث لها، فأحس بالإختناق و العجز، يشعر بأن الدنيا تصفعه من كل جانب بلا هوادة، و لكنه أخذ يستغفر ربه و يسأله اللطف فى مصابهم، و وجه حديثه لداليا مرة أخرى قائلا:
ــ لما تفوق يا داليا متقوليش ليها اى حاجة لحد ما تسترد عافيتها علشان حالتها متدهورش أكتر...و لما طنط فاطمة تفوق نبهى عليها تمسك نفسها شوية قدامها و متحسسهاش بحاجة..
أجابته و هى ما زالت تبكى:
ــ حاضر يا سفيان...ربنا يستر و يهون علينا الأيام الجاية دى..
لاحت أمام عينيه صورة ريان، فانكمشت ملامحه بقهر دفين، و انفطر قلبه على شقيقه الذى حتما سيموت قهرا على حبيبته التى ينتظر زواجه منها على أحر من الجمر، فإن حدث و تم الزواج سيُحرم من الانجاب حرمانا أبديا، و إن لم يتم الزواج فسيُحرم من حبيبته و عشيقته التى أحبها منذ نعومة أظافره...كلا الحرمانين يصعب إحتمالهما حقا...لك الله يا ريان...لكِ الله يا سلمى.
تركها سفيان و إتجه إلى قسم الشرطة و قدم بلاغا بإختطاف سلمى و إغتصابها و الإضرار بها عمدا، فتوجه معه أحد أفراد الشرطة إلى المشفى و قام الطبيب بعمل تقرير وافى بحالتها قبل دلوف العمليات و بعدها، و تم إرفاق التقرير بالمحضر، و عرضه على سرايا النيابة فى انتظار استفاقتها و أخذ أقوالها للإستدلال على هوية الجانى..
ظل كل من سفيان و داليا مستيقظان طوال الليل، فلم يستطع أى منهم أن يغمض له جفن من فرط الحزن و الأسى...
و لم يقل حال والده و والدته عنهما، فـ إبراهيم قضى الليل كله يفكر كيف سيخبره بخبر وفاة ملك خاصة و أنه من المستحيل أن يرى جثمانها أو يحضر دفنها...ياله من موقف صعب حقا...إلى أن حسم أمره و اتصل به ليسأله على الأقل عن حالة سلمى..
رن هاتف سفيان قبيل الفجر برقم أبيه ففتح الخط و أجابه بنبرة متعبة:
ــ ألو...ايوة يا بابا..
اجابه بثبات زائف:
ــ خير يابنى...سايبنا قلقانين على سلمى و متكلمتش تطمنا عليها..
اعتصر جفنيه بألم بالغ ثم قال بأسى:
ــ أنا مش عارف أقولك ايه بس يا بابا...سلمى اتخطفت و المجرم اللى خطفها اغتصبها و بهدلها و رماها عند المستشفى و كانت بتنزف جامد...و دخلت العمليات و...و استئصلوا الرحم..
كان إبراهيم يستمع بذهول و صدمة، حتى انه كاد أن يفقد عقله، فما بال الصدمات و الكوارث تلازمهم الليلة، فنطق بصدمة و بلا وعى:
ــ انت بتقول ايه!!...سلمى و ملك فى ليلة واحدة!!..لطفك بينا يا رب...لطفك بينا يا رب..
بينما سفيان هوى قلبه فى قدميه ما إن سمع إسمها و راح يسأل والده بقلق:
ــ ملك مالها يا بابا.؟!..عمى اسماعيل كلمك؟!...ملك فيها ايه الله يخليك قولى..
تدارك إبراهيم حاله و ندم على ما تفوه به، فيكفيه ما حدث لـ سلمى، فقال بتوتر و ارتباك:
ــ ها..مفيش يبنى...ملك زى ما هى على الجهاز مفيش جديد...
ــ لا يا بابا فى...قول اللى حصل ريحنى و متخافش أنا راضى بقضاء الله و قدره...
أجابه باستسلام و قلة حيلة:
ــ ملك اتوفت يا سفيان...راحت للى أرحم بيها من أمها...ارتاحت يابنى من العذاب اللى كانت فيه...
صمت...صدمة...هوان...انهيار..حسرة...ألم...مشاعر كثيرة انضرمت فى قلبه كالنيران الحارقة...أبوه يناديه و هو لا يسمع و لا يرد...لا يسمع سوى صدى صوتها و لا يرى سوى طيفها...فقط يقف متصنما و عيناه جامدتان و لكن تذرفان العبرات و هو لا يشعر..و كأنه قد انفصل عن العالم و ذهب لعالم آخر ليس به مخلوق سواه.
عاد من عالمه القاسى على هزة من يد داليا، جعلته ينظر إليها و يقول بلا وعى و عيناه ما زالت تذرفان الدموع:
ــ ملك ماتت..
شهقت داليا بصدمة و انخرطت هى الأخرى فى بكاء مرير، نعم هى غريمتها و لكنها لم ترى منها شرا قط، كانت جارتها و صديقتها ذات القلب الطيب و السريرة النقية علاوة عن مرضها الذى مزق نياط قلوبهم جميها إشفاقا و حزنا عليها..
بدأ سفيان يعود متداركا حالة التيه التى أصابته و يذكر الله كثيرا لكى يهون على قلبه المكلوم و يستطيع أن يصمد فى مواجهة تلك المصائب و الإبتلاءات التى أحلت بهم، فكفكف عبراته و استعاد بعضا من هدوءه و ثباته ثم قال لـ داليا بجمود:
ــ كفاية عياط يا داليا...انتى هتعيطى على مين و لا مين...يا ريت البكا بيرجع و لو لحظة حلوة عيشناها مع اللى حبيناهم و فارقونا...يا ريته بيرجع حاجة فقدناها و غيرت مصيرنا...مكناش بطلنا عياط...اهدى علشان خاطر طنط فاطمة و سلمى هما محتاجنا دلوقتى أكتر من...من ملك...
و عند هذا الحد و لم يستطع أن يصمد، و هوى قناع الثبات الزائف الذى تقنّع به، و فر من أمامها متجها إلى خارج المشفى...
و ما إن ابتعد قليلا عن بوابة المشفى و وجد حاله فى شارع خالى من المارة حتى أطلق لصوته و عينيه العنان، و أخذ يصرخ بصوت مكتوم و هو يبكى:
ــ ملاااااك...ملك..هتوحشينى يا ملك...ازاى مش هشوفك تانى...ازااااى..إزاى هيعدى يومى من غير ما أسمع صوتك...ازاااى...خدتى قلبى و سيبتينى ميت و أنا عايش يا ملك...طاب دى تتحسب عيشة ازاى...ااااه يا رب مش قادر...يا رب صبرنى.
سمع صوت أذان الفجر يصدح فى الأجواء فجفف وجنتيه من الدموع و أخذ يردد الأذان و اتجه إلى أقرب مسجد و أدى صلاة الفجر و جلس بعد الصلاة يدعو لها الله بالرحمة و المغفرة، و له بالصبر و الثبات، فاستكان قليلا و هدأت نفسه و احتسبها عند الله و عاد مرة أخرى للمشفى.
أما فى الجهة الأخرى عند إبراهيم ما إن علمت زوجته بما حدث لـ سلمى حتى أذهلتها الصدمة و افقدتها عقلها و بدأت تهذى بلاوعى:
ــ قلبى يا إبراهيم...قلبى معادش مستحمل...ولادى الاتنين قلبهم يتكسر فى ليلة واحدة!!...عينى عليكى يا سلمى و على اللى جرالك...يا قلب أمك يا حبيبتى كان مستخبيلك فين دا كله...ااااه يا عينى على بختك يا ريان يابنى...يا كسرة قلبك يا حبيبى..
صرخ بها زوجها يزجرها بحدة:.
ــ بس بقى يا ولية انتى هتندبى...فين صلاتك و صيامك و ايمانك بالله..
أخذت تبكى بنواح و هى تقول:
ــ الصدمة شديدة أوى يا إبراهيم...يا رب ألطف بينا يا رب...استغفرك ربى و أتوب إليك...
أشرقت شمس اليوم التالى بعد ليلة عصيبة مرت على الثلاث عائلات، ذهبت و أخذت معها ما لا يمكن عودته، مثلها تماما...فالليلة التى تمر لا تعود ثانية...
بدأت سلمى تفيق من المنوم الذى حقنت به لإرجاء صدمتها بواقعها المرير إلى أبعد وقت ممكن حتى لا تسوء حالتها و ينفتح الجرح، لكن كانت هناك مفاجأة أخرى تنتظرهم...
فتحت عينيها ببطئ شديد حتى تتكيف مع ضوء الغرفة، فوجدت داليا و فاطمة و عفاف و إبراهيم و سفيان، جميعهم ملتفين حول فراشها، نطق الجميع فى صوت واحد:
ــ حمد الله على سلامتك يا سلمى..
سلطت نظرها على أمها و سألتها بصوت متعب:
ــ ماما..أنا فين...ايه اللى حصل؟!..أنا إيه اللى منيمنى النومة دى...أنا...أنا مش فاكرة حاجة..
لم تقوى أمها على الرد، فأسرع سفيان يسألها بقلق و توتر:
ــ مش فاكره حاجة إزاى يا سلمى؟!..طاب ايه اللى انتى فاكراه؟!
أجابته بأنين و وهن شديد:
ــ أنا آخر حاجة فاكراها إنى كنت ماشية على الرصيف و أنا رايحة النبطشية..مش فاكرة أى حاجة بعد كدا...
أحلت بهم صدمة مفجعة، إذن لن يستطيعوا العثور على المجرم، فـ سلمى هى الشاهد الوحيد فى هذه القضية و هى أيضا المجنى عليها...
صرخ بها سفيان بعصبية:
ــ يعنى ايه مش فاكرة...هو اللى حصلك دا حاجة تتنسى..
رد عليه إبراهيم بلوم:
ــ اهدى على البنت شوية يا سفيان..ما يمكن دا من لطف ربنا بيها...
بينما سلمى تراقب ردود أفعالهم باستغراب، فاعتدلت لكى تنهض من نومتها، إلا أنها أطلقت صرخة مدوية عندما أحست بألم الجرح أسفل بطنها، فأسرعت داليا و فاطمة إليها و أعادوها لوضعها مرة أخرى و نياط قلبيهما تتمزق لأجلها، فبكت سلمى من شدة الألم و هى تقول:
ــ أنا حاسة إن فى جرح فى الحتة دى..
قالتها و هى تشير على مكان الألم ثم أردفت بنحيب:
ــ انتوا ساكتين ليه...أنا إيه اللى حصلى بالظبط...طاب إزاى مش فاكرة أى حاجة حصلت...حد يرد عليا..
ردت داليا و هى تجاهد نفسها لكى لا تبكى أمامها:
ــ اهدى يا حبيبتى...انتى عملتى حادثة و اتخبطى فى بطنك و اتجرحت و الدكاترة خيطوها..مفيش حاجة متقلقيش يا قلب أختك..
بينما فاطمة تراقب بصمت و الدموع تنهمر من مقلتيها بحسرة، فقط تطالع حبيبتها بقلب مفطور و الشعور بالعجز يداهمها بضراوة، و قلبها يتألم بلا رحمة.
قال سفيان بجدية:
ــ أنا رايح أقول للدكتور إنك فوقتى..
ذهب سفيان للطبيب الذى تكفل بإجراء الجراحة لها و يدعى حسام، جلس فى الكرسى المقابل لمكتبه ثم قال:
ــ سلمى فاقت يا دكتور...بس فى حاجة غريبة..بتقول مش فاكرة أى حاجة حصلت...
قطب حسام جبينه بتفكير ثم سأله بترقب:
ــ طيب هى فاكراكم؟!...يعنى اتعرفت عليكم؟!
ــ أيوة يا دكتور عارفانا كلنا....
هز حسام رأسه بتفهم و خلع نظارته الطبية و وضعها أمامه على سطح المكتب و قال بعملية:
ــ واضح كدا إنها اتعرضت لمتلازمة اسمها
(post trumatic stress syndrome)
و دى معناها ان المريض فاكر كل حاجة حصلتله قبل و بعد الحادثة، إلا الوقت اللى حصل فيه الحادثة، بيكون بالنسباله وقت مستقطع من حياته، و دا دليل على بشاعة و قسوة الموقف اللى اتعرضتله لدرجة إن المخ محاه من الذاكرة و رفض يسجله.. و دا طبعا من رحمة ربنا بيها...الله أعلم لو كانت فاقت دلوقتي و افتكرت اللى حصلها كانت حالتها عاملة ازاى...مش بعيد كانت فكرت فى الإنتحار..
طالعه سفيان بذهول ثم قال:
ــ لا حول و لا قوة إلا بالله...طاب و بعدين يا دكتور...أنا مبقتش عارف أقولها و لا ما أقولهاش و لا أعمل إيه بالظبط؟!
سكت حسام مليا يقلب الأمر برأسه ثم قال له:
ــ أنا رأييى إنك تقولها انها اتعرضت لحادثة عربية عملتلها نزيف رحمى و مكانش قدامنا حل تانى غير استئصال الرحم علشان ننقذ حياتها...و بلاش تقولها على موضوع الخطف و الإغتصاب دا...هيبقى صعب عليها جدا و هتأثر على نفسيتها بالسلب بدرجة كبيرة، و أنا عندى إستعداد أعرضها على دكتور أمراض نفسية هو هيفهم فى حالتها أكتر منى و هيكتب تقرير مفصل تقدر تقدمه للنيابة علشان يستبعدوها من التحقيقات لأنها كدا كدا هى مش فاكرة أى تفاصيل تخص الجناية اللى حصلتلها، و بكدا هيدوروا على خيوط تانية يمشوا وراها...
هز سفيان رأسه بأسى و قلة حيلة قائلا:
ــ خيوط ايه بس يا دكتور...دا مفيش شاهد واحد على اللى حصل...لله الأمر من قبل و من بعد...
طالعه بإشفاق بالغ قائلا بتعاطف و مواساة:
ـ ان شاء الله ربنا مش هيضيع حقها و لو بعد حين...
رد سفيان بتأثر و حزن:
ــ و نعم بالله..
نهص حسام من كرسيه بعدما ارتدى نظارته الطبية ثم ارتدى معطفه الطبى و قال له:
ــ تعالى يلا علشان أكشف عليها و نشوف الجرح أخباره ايه...
ــ تمام يلا بينا..
دلف حسام بصحبة سفيان إلى غرفة سلمى راسما على محياه ابتسامه واسعة ليبث الثقة و التفاؤل فى نفسيتها، فـ حسام معروف عنه فى المشفى أنه صاحب بسمة متفائلة و روح خفيفة، محبوب من الجميع بما فيهم المرضى، فـ سلمى تعرفه و لكنها لم يسبق لها التعامل المباشر معه، حيث كانت تعمل بوحدة الأطفال المبتسرين (الحضانة)، و هو يعمل بالعمليات و قسم الجراحة...
وقف قبالتها قائلا بابتسامه:
ــ حمد الله على سلامتك يا مس سلمى..
اومأت بتعب قائلة:
ــ الله يسلمك يا دكتور
نظر للحضور الملتمين حولها و قال بجدية:
ــ بعد إذنكم ممكن تنتظروا برة شوية لحد ما أفحصها؟!
اومأوا جميعا بتفهم و خرجوا من الغرفة تاركين الطبيب و ممرضة زميلتها فقط..
قام حسام بفحص مكان الجرح و تأكد من توقف النزيف و كتب بملفها مجموعة من الأدوية و المحاليل، و طلب من الممرضة سحب عينة دم منها لعمل التحاليل اللازمة و المدونة بملفها الطبى، ثم انصرف إلى مكتبه مرة أخرى و هو فى حالة شديدة من الحزن و الألم لأجلها، فقد كانت حالتها حقا مثيرة للشفقة.
انتهت الممرصة و التى تدعى أميرة من سحب عينة الدم و همت بالإنصراف، إلا أن سلمى استوقفتها لتسألها بتوجس:
ــ أميرة... هو الجرح دا شبه جرح القيصرية كدا ليه؟!
قطبت جبينها باستغراب و أجابتها بعفوية:
ــ ما انتى عارفة يا سلمى إن استئصال الرحم بيتفتحله قيصرية..
انحبست أنفاسها و تسارعت دقات قلبها من هول ما سمعت، حتى أنها فقدت قدرتها على النطق، تنفرج شفتيها كل ثانية و أخرى لتسألها كيف حدث ذلك، و لكن فى كل مرة تفشل و تعجز عن النطق، فقد فاقت الصدمة إحتمالها..
بينما أميرة أدركت خطئها حين رأت علامات الصدمة جلية على قسمات وجهها، فلملمت أدواتها بارتباك و توتر و غادرت من أمامها و هى تعض على أناملها من الندم، فما كان ينبغى عليها أن تخبرها بما تم معها، على الأقل فى الوقت الراهن.
يتبع
مع تحياتي /دعاء فؤاد عرض أقل


تعليقات
إرسال تعليق