القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية سل الغرام كامله من بارت 31 حتي 35 للكاتبه مريم غريب

 


( 31 )


_ خداع ! _


كان مخططها يسير على نحوٍ جيد.. للغاية... كانت ذكية بالفعل هذه المرة و استطاعت أن تخدع زوجها بدهائها و مكرها الذي بدأت تستعمله مؤخرًا و كان زوجها السابق أول ضحاياها


الآن أمسى زوجها الآخر خاتمًا بإصبعها، تمامًا صار معها كما أرادت... إستطاعت أن تروّض الوحش الكامن بداخله و تجعله بين يديها كالحمل الوديع.. هكذا بعد أن آنست عنه القسوة و الشِدة ليطوّعها في بادئ علاقتهما و يسيطر عليها، و ليرهبها أيضًا حتى لا تستهين به لعجزه.. لكنه حقًا... لم يكن بعاجز أبدًا بنظرها.. بل العكس هو الصحيح !


كان الطقس دافئ مساء اليوم، و النسمات تهب عليلًا لتبعثر شعرها الحريري بشيء من العشوائية، فتضطر أحيانًا لرفع أصابعها من حينٍ لآخر حتى ترتبها كي ما تتمكن من النظر إلى مرافقها الجالس مقابلها هنا.. وسط ذلك المطعم الراقي الشهير و المطل على أجمل سواحل عروس البحر الأبيض المتوسط ...


كان رجلًا في أواسط العقد الرابع من عمره.. وسيمًا إلى حدٍ ما.. و قد خالط الشيب منابت شعره الأمامية فقط مضفيًا عليه هيبة و وقار كبيرين... ملابسه الفاخرة المؤلفة من حِلّة زرقاء يعلوها معطفًا ثمين قاتم اللون.. و ساعة يده الضخمة المصنوعة من البلاتين الخالص.. و أيضًا سواره الذهبي و خاتمه ذي الحجر المستوحى من العقيق الأصيل.. كلها كانت أشياء صغيرة تخبر عن حالته المادية اليسيرة و مستواه الاجتماعي الرفيع


كان يحتسي فنجان قهوته بتمهلٍ و هو يستمع إلى تتمة كلامها بتركيزٍ و عقله لا يكف عن التفكير في آن ...


-أنا لو ماكنتش محتاجة فلوس ضروري ماكنتش هاعمل كده No way يا خالو نبيل.. إنت فاهمني صح ؟


فرغت "هالة" من شرحها المسهب و أختتمته بهذه العبارة التبريرية المستكينة، بينما يضع المدعو "نبيل" قدح القهوة فوق الطاولة أمامه، ثم يتطلع إليها قائلًا بصوته الرخيم الهادئ :


-طبعًا يا هالة. طبعًا يا حبيبتي.. أصلًا بعد إللي حكتيه دلوقتي ده كله. خلتيني أحس بذنب كبير أوي إني كنت بعيد عنك و عن أخوكي كمان. بس إنتي بالذات كنتي محتاجالي.. إنتي أمانة فريدة. أختي الوحيدة و إللي كانت في مقام أمي بالظبط.. مش عارف هاقول لها إيه لما أقابلها. أنا أثرت في حقك أوي يا حبيبتي


إتسمت ملامحها بحزنٍ بيّن و هي ترد عليه بلهجة مستضعفة :


-إنت مالكش ذنب في أي حاجة يا خالو.. أنا إللي كنت وسط عيلتي. كنت فاكراهم بيحبوني فعلًا و قلبهم عليا و على مصلحتي. بس للأسف طلعت غلطانة. و هما راموني في الآخر !


توهج محيا الأخير غضبًا و هو يقول بخشونةٍ :


-لسا ماتخلقش إللي يرميكي أو يمس شعرة منك طول ما أنا عايش.. عزائي إني كنت بعيد عنك زي ما قولتلك. بس خلاص. أنا رجعت.. و ليا كلام تاني خالص مع أبوكي و أخوكي و إبن عمك ده كمان. هاحاسبهم كلهم على كل حاجة وحشة حصلتلك بسببهم


هالة بلطفٍ : لأ يا خالو بليز.. ماتعملش مشاكل معاهم. خلاص إللي حصل حصل. و هما في الأول و في الأخر أهلي. كفاية الفصل إللي هاعمله فيهم. الحركة دي لوحدها هاتجننهم و أولهم عثمان !


و لم تستطع منع ابتسامتها الخبيثة من الإنبلاج بوضوح على جانب وجهها عندما ذكرت الجزء الأهم من الخطة ...


-يا حبيبتي إنتي مش مضطرة تتنازلي عن حقك عشان تنتقمي ! .. قالها "نبيل" بجدية، و تابع :


-أنا سيبتك تفضفضي و تخرجي كل إللي جواكي. لكن قراراتك مالهاش اعتبار عندي.. يعني إيه أقبل إنك تبيعيلي نصيبك في القصر و الشركة ؟ مستحيل ده يحصل يا هالة. إنتي لو محتاجة فلوس أنا تحت أمرك من جنية لمليون و كل إللي تحتاجيه


أخذت تقول "هالة" في محاولة مستميتة لإقناعه :


-يا خالو بس إفهمني.. بابي من فترة جمعني أنا و صالح و قال إنه قرر يساوي بينا في الميراث على حياة عينه. و صالح وافق رغم إن له النصيب الأكبر. بس دي كانت رغبة بابي و هو ماعترضش. دلوقتي كل الأوراق إللي قدامك سليمة و تقدر تتأكد !


و أشارت لمجلد الوثائق و العقود الملقى فوق الطاولة الفاصلة بينهما ...


نبيل باستنكار : يابنتي إنتي فكراني مخونك ؟ جرالك إيه يا هالة.. استوعبي كلامي شوية من فضلك. أنا قلت مستعد أساعدك بالمبلغ إللي إنتي عايزاه و مستعد بردو أقدملك أي حاجة تحتاجيها منغير ما أخد قصاد ده كله حاجة واحدة تخصك


أومأت "هالة" قائلة :


-أنا فاهماك يا خالو.. لكن صدقني أنا فكرت كويس. طبعًا مش سهل عليا أتنازل عن حقوقي و أخرج عن طوع أهلي بالشكل ده.. بس أنا محتاجة أعمل كده دلوقتي. أنا محتاجة أبعد عنهم و أستقل بحياتي.. مش هاسمح لحد يتحكم فيا تاني و يلوي دراعي. أنا اتبهدلت في الفترة الأخيرة أوي و كلهم باعوني كأني و لا حاجة بالنسبة لهم.. و قبل ما تعترض تاني أنا عارفة إنك تقدر تساعدني و تقف جمبي منغير حاجة. لكن أرجع و أقول أنا عايزة أعتمد على نفسي. عايزة تبقى ليا حياتي الخاصة أنا إللي أخد القرار و مابقاش الطرف الأضعف في أي وضع أكون فيه... ياريتك تفهمني يا خالو !


نبيل بجمودٍ : أنا فاهمك كويس يا هالة ! .. ثم زفر بقوة و هو يشيح عنها للجهة الأخرى


لحظاتٍ قصيرة.. و عاود النظر إليها من جديد و هو يقول مذعنًا :


-أوكي.. لو ده فعلًا إللي هايريحك. خلاص أنا هانفذه


و مد يده مفندًا الأوراق التي وضعتها إبنة شقيقته المتوفاة أمامه منذ جاءت للقائه، تناول قلمًا كان مرفقًا بمجلد الأوراق، ثم بدأ يوقع بأسمه و قد كانت هي تسبقه في هذا الأمر و إسمها موجودًا كطرف أول بالفعل ...


-بس العقود دي هانقطعها سوا قريب ! .. تمتم "نبيل" بصرامةٍ و هو ينهي آخر ورقة


رفع وجهه لينظر لها، فوجدها ترمقة بغرابةٍ، ليقول بجدية :


-أنا مضيت عشان أريحك. و الفلوس إللي إنتي محتاجاها كلها بكرة الصبح هاتكون في حسابك في البنك.. افتكري إن خالك واقف جمبك و في ضهرك. أنا معاكي في أي قرار هتاخديه. و من ناحية تانية يا هالة.. حقك هايرجع. و أنا عارف كويس هارجعه إزاي. بعد ما أوفي بوعدي ده ليكي. هانقعد تاني مع بعض و هانقطع العقود دي و كل حاجتك هاترجعلك. ده أخر كلام عندي و مافيش نقاش بعديه. سامعاني ؟!


_______________


في قصر آل "البحيري"... طبقًا لأوامر السيد فالجميع قد اختفوا عن الأنظار، أهل البيت و الخدم على حد سواء


حيث لم يكن هنا بقاعة الصالون الفخمة سوى شيخ مسن _ مأذون _ و إثنان من الشهود، و السيدة "فريال" تقف عند مقدمة القاعة قرب إبنها لا تتفك عن التململ بمكانها من شدة غضبها المكبوت ...


-خلاص يا عثمان ؟ .. تساءلت "فريال" فجأة... و بصوتٍ ملؤه الخيبة


إلتفت "عثمان" نحوها و نظر لها كأنه لم ينتبه لعبارتها، بينما كانت تشمله بنظراتٍ ساخرة، و خاصةً و هي تتفحص هندامه و بذلته الكحلية الأنيقة التي زادته جاذبية و نضوجًا ...


-خلاص هاتتجوز على سمر ؟!!


يطبق "عثمان" جفنيه في هذه اللحظة مطلقًا نهدة حارة من صدره.. عمل على تهدئة أعصابه أسرع مِمّ ينبغي ثم رفع بصره إليها مرةً أخرى و قال بضيقٍ :


-ماما ! أظن مش وقته إللي بتقوليه ده ؟ إنتي جاية تعاتبيني دلوقتي ؟ و بعدين كنتي فين من الصبح ؟ ماينفعش خالص إللي بتعمليه ده في ناس حوالينا !


-طز في الناس !!! .. صاحت "فريال" بانفعال


فزجرها "عثمان" بنظرة غاضبة و هو يشد قامته المتشنجة ملقيًا نظرة متوترة صوب الرجال الغرباء الجالسون على مقربةٍ منهما ...


-وطي صوتك يا فريال هانم ! .. غمغم "عثمان" عبر أسنانه المطبقة بشدة


سددت "فريال" له لكمة بمنتصف صدره هاتفة بحنقٍ :


-و إن ماوطتش يا باشا.. هاتعمل إيه ؟ رد يا عثمان !!!


توسعت نظراته و هو يرمقها بذهول، تلك التصرفات جديدة عليه كليًا.. إذ لأول مرة بحياته يرى أمه تمد يدها إليه بهذا الشكل أو بغيره ...


-ماما إنتي بتعملي إيه ؟!! .. سألها مشدوهًا


فريال بشيء من العصبية :


-بعمل إيه ؟ عشان ضربتك في صدرك ؟ طيب و ماله.. ما أنا ممكن أضربك بالقلم كمان. كبرت عليا يا عثمان ؟ و لا ممكن تردهولي ؟ ما أنا مابقتش أستغرب منك أي حاجة


يجفل "عثمان" للمرة الأولى منذ مدة طويلة و هو يتكلم محاولًا التفاهم مع أمه :


-طيب إهدي يا ماما. مالك بس إيه حصلك فجأة ؟ إحنا كنا تمام.. أنا مقدرش أرفع عيني في وشك. إنتي تعملي فيا إللي يعجبك طبعًا. لو عايزة تمدي إيدك عليا إتفضلي. و قدام الناس كمان إنتي أمي و أنا طول عمري تحت رجليكي. و هفضل كده لحد أموت !


عبثت كلماته المهدئة بسهولة بمقدرات غضبها، ليخبو بريق العنف في عينيها الرماديتين الجميلتين بسرعة، و تكسوها دمعاتٍ ما هي إلا تعبيرًا عن حزنها و الكرب الشديد الذي يسببه لها إبنها بأفعاله و تصرفاته.. لم تستطع أن توجه إليه كلمة أخرى، فاستدارت موليّة تجاه الدرج بخطواتٍ مهرولة


تفاقم إضطراب "عثمان" و هو يحدق في إثرها عاجزًا، كان سيتبعها من فوره ضاربًا بكل شيء و بحياته برمتها عرض الحائط.. إذ تهون الدنيا بأسرها و لا تهون عليه دمعةٍ واحدة تسقط من عين أمه.. و بسببه هو !!!!


لكنه لم يكد يخطو خطوة واحدة... ليجمّده هذا الصوت الناعم الذي علق بذاكرته من أول وهلة و إلى الأبد :


-هاي يا روحي.. إتأخرت عليك ؟!


إلتفت "عثمان" نحو البهو المقابل لباب المنزل الضخم، فإذا به يراها... عروسه الصغيرة، أو العاهرة الصغيرة كما أطلق عليها مؤخرًا... و للحق كم لائمها الوصف تمامًا الآن !


تبدل حال "عثمان" بلحظة عندما وقعت عيناه عليها، فغمره الغضب على الفور و هو يدقق بنظراته الجاحظة في مظهرها المخزي المشين.. و الذي تمثل ببساطة في ثوبٍ فاضح وردي محمر اللون يحاكي لون شعرها الجديد، و زينة وجهها الصارخة، و الـPiercing.. ( حلق الأنف و الفم ) الذي برز بوضوح لناظريه ...


كانت مقبلة عليه و إلى جانبها تسير صديقتها المقربة "لينا" بوجهٍ تجلله معالم الرعب على عكس "نانسي" تمامًا


لم يلاحظها "عثمان" من فرط مشاعره العنيفة التي أخذت تنهشه من الداخل و تهدد بتحطيم ثباته الإنفعالي بأيّ لحظة ما إذا أقتربت أكثر و صارت بمتناوله... لكنها بالفعل إقتربت، و لم يعد يفصل بينها سوى خطوة واحدة !!!!


إبتسمت "نانسي" بوداعة و هي ترنو إليه بغواية إحترافية، ثم تقول برقةٍ شديدة :


-عروستك جت أهيه يا عثمان.. جت برجليها لحد عندك. زي ما كنت عاوز بالظبط. زي إخواتها !


_______________


كان "فادي" قد جلب مقعدًا و جلس قرب مدخل الشقة مسندًا رأسه للجدار من خلف.. كان على هذه الحالة منذ عاد من عمله و لم يجدها ...


ما إن سمع المفتاح يدور بالقفل، حتى قفز من مكانه و مضى ليجتذب المقبض صائحًا :


-كنتي فين يا هالة ؟!!!


صدرت عنها شهقة فزعة بادئ الأمر، وضعت كفها فوق صدرها و هي تقول مؤنبة و الشحوب يغلف وجهها بسرعة :


-إيه يا فادي ده !


حرام عليك تخضني كده.. في إيه مالك ؟؟


كرر "فادي" و هو يمد يده السليمة مجتذبًا إياها إلى الداخل :


-سألتك كنتي فين ؟ أنا راجع من الشغل بقالي ساعتين و مالاقتكيش.. و قافلة موبايلك كمان. كنتي فين إنطقي !


و صفق الباب خلفها بقوة ...


إرتعدت "هالة" بخوفٍ، لكنها ما لبثت أن تماسكت من جديد، و في الحال دست يدها بحقيبتها الصغيرة لتخرج ذاك الملف و هي تقول بهدوء :


-كنت بجيب التحاليل إللي إنت أصريت أروح أعملها.. عشان تطمن عليا !


و وضعتها في يده و هي ترميه بنظرة ذات مغزى، لكنه إستطاع أن يستخلص منها خيبة رجائها فيه ...


-تاني مرة إبقى آجل عصبيتك شوية يمكن مايكونلهاش داعي !


نظر لها "فادي" بعد أن تفوّهت بهذا و لم يستطع الرد في حينها، لكنه سارع بالقبض على يدها عندما رآها تهم بالذهاب من أمامه ...


-إستني طيب ! .. تمتم بشيء من التوتر


تسمرت "هالة" بمكانها، لكن دون أن تنظر إليه فقال بإضطراب :


-أنا دلوقتي مش فاهم.. روحتي تجيبي التحاليل. تمام.. إيه النتيجة بقى ؟ إنتي كويسة يعني ؟!!


لمست القلق الحقيقي في نبرته، فطمأنته قائلة :


-كويسة.. ماتقلقش. زي ما قولتلك إللي حصل كان راجع لحالتي المزاجية مش أكتر


تنهد "فادي" بإرتياح و قال :


-الحمدلله. الحمدلله إني إطمنت عليكي ! .. و أردف و هو يستدير ليقف في مواجهتها :


-ماقولتليش ليه طيب أو ماستنتيش ليه لحد ما أرجع و كنا نروح سوا ؟


هالة باقتضاب : ماحبتش أزعجك.. أنا كنت عارفة الطريق. و قلت أروح و أرجع بسرعة. بس الـCenter كان زحمة أوي. عشان كده إتأخرت


-و موبايلك ! كان مقفول ليه ؟ أنا حاولت إنصل بيكي كتير و كنت قلقان أوي. شوية و كنت هاتصل أسأل عليكي في بيت أهلك.. بس إتحرجت. لو كنتي هناك فعلًا منغير ما تقوليلي شكلي كان هايبقى إيه !


و رمقها بنظرة معاتبة ...


تنفست "هالة" بعنق و قالت :


-الشبكة كانت وحشة هناك.. بس إنت عندك حق. كان لازم أعرفك قبل ما أنزل من البيت. أنا آسفة يا فادي. مش هاعمل كده تاني !


بتلك الكلمة، نجحت بامتصاص الباقي من غضبه و انفعالاته.. ليبتسم و هو يقول بلطفٍ :


-خلاص و لا يهمك.. المهم إنك بخير


ردت له الإبتسامة و هي تقول متقبلة مصالحته لها بسهولة :


-أوكي.. أنا هاروح أحضرلك العشا بقى أكيد جعان


أومأ "فادي" مؤيدًا بشدة :


-أيوة أنا جعان جدًا إنهاردة. كان في شغل كتير أوي


-حالًا السفرة هاتكون جاهزة. كله جاهز على التسخين بس !


أفلتها في هذه اللحظة، فمضت هي صوب المطبخ و فمها يتلوى بإبتسامة ماكرة... فها هي، تخدعه مرةً أخرى.. و هو يصدقها !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! ........................................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ...


هانكمل بكرة في نفس المعاد بإذن الله ❤❤

( 32 )


_ مُنقِذ ! _


طوفان من المياه الباردة نجح في إفساد زينة وجه "نانسي" الباذخة و تخريب تسريحة شعرها الغجرية... و بالرغم من هذا كانت تضحك بطريقة هستيرية، بينما يمسك "عثمان" برأسها ويضعها بالقوة أسفل صنبور الحوض الملحق بحمام بتلك الغرفة المخصصة للضيوف


شهقت بقوة حين إجتذبها فجأة من تحت المياه المنهمرة و جرها من ذراعها خلفه جرًا إلى داخل الغرفة ...


أطلقت آهة ألم عالية عندما دفعها بمنتهى القساوة و الوحشية نحو الفراش الكبير، لم يمهلها لحظة لتلتقط أنفاسها و جثم عليها مثبتًا ظهرها بركبته و ضاغطًا بكفه الغليظ على رأسها فصار جانب وجهها كله مدفوسًا في الوسادة التي أغرقتها المياه المنهمرة من شعرها ...


-لو ماكنتش لسا كاتب عليكي !!! .. غمغم "عثمان" من بين أسنانه بشراسةٍ


-مراتي إللي نايمة فوق دي عمرها ما سمعت مني كلمة مش تمام.. من يوم إتجوزتها عمري ما شتمت قدامها. لكن إنتـي.. إنـتــــي !!!!


و قام عنها ممسكًا بها ليقلبها على ظهرها بلحظة لتواجهه ..


تآوهت "نانسي" مجددًا لخشونته و شدته معها، بينما يميل صوبها قابضًا بأصابعه على فكيها بقوة مؤلمة و هو يجأر بعنف :


-سبحانه إللي صبرني عليكي برا.. مش عارف فضلت ماسك نفسي عليكي إزاي و إنتي قاعدة قدام المأذون و الشهود بشكلك الـ×××××× ده زي الـ××××××××× بالظبط.. دلوقتي بقى بعد ما أتقفل علينا باب.. أعمل فيكي إيه ؟ هـــه.. رررررررردي.. أعـمـــل فـيـكــي إيــــه ؟؟؟


-إللي بتعمله ده بالظبط يا عثمان !


نطقت أخيرًا ...


بتلك العبارة الجذلى التي أشعلته أكثر، و أكملت بنفس الإسلوب و هي تنظر إليه بجرأة و تعض على شفتها السفلى بقوة :


-مش إنت قولتلي الصبح كده ؟ أو لمّحت بكده.. أنا ماحرمتكش من حاجة. ده كان طلبك.. و أنا جاهزة أكون معاك زي إخواتي إللي قبلي. و موافقة على كل إللي هاتعمله فيا مقدمًا.. عايز تشتم إشتم.. عايز تضرب كمان إضرب. عايز تـ آ ا ...


و لم تكملها.. إذ هوت كفه بالفعل على خدها بصفعة عنيفة أخرستها كليًا للحظات، قبل أن تعاود النظر إليه بعينين ملؤهما الدموع و لكن مع إبتسامة معاندة أيضًا


إرتعش فكه من شدة الغضب و نهض تمامًا و هو يصيح بصرامة متراجعًا للخلف :


-شعرك ده يرجع زي ما كان. تتصرفي و ترجعيه زي ما كان. أقسم بالله يا نانسي.. لو رجعت الصبح و لاقيته كده هاشيلهولك خالص. هاشيلهولك بإيدي سامعة ؟؟؟


و بقى لحظة أخرى،


ثم إستدار مغادرًا الغرفة و هو يصفق بابها بمنتهى العنف.. و لأول مرة... لا يدري إلى أين أو إلى من عساه يذهب، ترى أيّ مكان يتسع له الآن !!!


____________________


-و بعدين يا مامي ؟!! .. قالتها "صفية" و هي تعود أدراجها إلى صالون الطابق الأوسط بعد أن ذهبت لتودع رضيعتها في عهدة أبيها


كانت "فريال" تجلس هناك في زواية معتمة، لا يضيئ حولها سوى مصباح خافت مثبت إلى الجدار.. كان الصغير "يحيى" غافيًا بعمق و يتوسد صدرها، و بدورها أحكمت ذراعيها حوله


أحتوته بين أحضانها و لصقت خدها فوق رأسه، تستمد منه العون و القوة و المواساة ..


لم تكن في وضعٍ يؤهلها لأيّ مناقشة أو تجاذب لأطراف حديثٍ مقتضب حتى، و لكن "صفية" بدت مصممة ...


-يا مامي بليز ردي عليا. طيب إنتي عاملة في نفسك كده ليه ؟ عثمان حر و هو مش صغير سبيه يتحمل نتيجة تصرفاته. صحتك يا مامي حرام عليكي كلنا محتاجينلك !


و شدت مقعد لتجلس مقابلها ...


تنهدت "فريال" بثقل شديد، و من غير رغبة منها نظرت إلى إبنتها قائلة بصوتٍ خالٍ من التعابير :


-عثمان مش صغير يا صافي.. أنا عارفة. و عارفة هو بيعمل إيه.. بس مش قادرة أتقبل كل ده. أنا مارضاش بكده. و مقدرش أتجاهل إللي بيعمله أو أجمّد قلبي على مراته و إبنه. هما مالهمش ذنب.. و إللي تاعبني أكتر إني مش عارفة إيه نهاية كل ده !!!


عبست "صفية" بعدم فهم و قالت :


-أنا مش فاهمة.. قصدك إيه طيب ؟ و إيه إللي تعرفيه عن عثمان و مخبياه ؟ حاجة تخص جوازه يعني ؟!!


رمقتها "فريال" بصمت و لم تفه بكلمة... فألحت "صفية" بتوسل :


-بليز يا مامي إتكلمي.. طلعي إللي جواكي. مين غير يسمعك ؟ يا حبيبتي أنا سرك. أنا بنتك الوحيدة. تقدري تقوليلي كل حاجة و إنتي مطمنة. و أنا جمبك و هساعدك بس قوليلي !


بعد كل هذا الضغط و الترقب الذي مارسته "صفية" على أمها... لم تجد الأخيرة بُدًا.. فتحت فمها من جديد و قالت بصوتٍ صلدٍ جاف لأول مرة يخرج عبر شفتيها :


-عثمان بيحاول ينقذ نانسي !


-نعم !!! .. علّقت "صفية" باستنكار ملؤه الدهشة


لتؤكد "فريال" بمرارةٍ و هي تشيح بوجهها للجهة الأخرى :


-هايتجوزها بإرادته.. فاكر إنه فعلًا السبب في كل إللي جرالها هي و أختها و أبوها. لما سألت عليها من كام يوم و عرفت إن سمعتها وحشة أوي واجهته.. بس هو فضل متمسك بقراره. و كان كأنه عايز يقولي حاجة تانية أنا معرفهاش.. بس الأهم إنه وقف قدامي مصمم. هايتجوز نانسي. و مش هايسبها إلا لما يتأكد إنها رجعت كويسة زي الأول


و نظرت "فريال" لإبنتها المذهولة ثانيةً و أضافت بسخرية لاذعة :


-بس تفتكري يا صافي خطته هاتنجح ؟ هايقدر يصلحها بعد ما بقت ...


لم تستطع إتمام جملتها، فأغمضت عينيها بشدة مغمغمة بحرقةٍ :


-إبني مش واعي لنفسه.. إبني تايه. بس مسيره يفوق.. و الخوف كله لما يفوق يتصدم. بعد ما يلاقي كل شيء ضاع منه !


____________________


كانا يتناولان طعام العشاء في صمت... من جهة "فادي" كان كل شيء طبيعيًا و ربما لم يلاحظ التوتر البسيط الذي ألم بها بسبب إنهماكه بإلتهام وجبته اللذيذة التي صنعتها له زوجته بيديها


كان جائع حقًا.. لكنه سرعان ما عالج جوعه هذا و سد رمقه، لينتبه لها على حين غرة ...


رآها تعبث بصحنها تارة و ترفع كأس العصير لترشف منه رشفة صغير تارة أخرى.. إبتلع ما بفمه، ثم ناداها برفقٍ :


-هالة !


نظرت "هالة" إليه ...


-نعم يا فادي ؟ عاوز حاجة أقوم أجبلك حاجة ؟!


فادي بلطفٍ : لأ يا حبيبتي تسلميلي. أنا مش عاوز حاجة.. أنا بس لاحظت إنك تقريبًا مابتكليش.. إنتي كويسة ؟


إبتسمت "هالة" له و قالت :


-أنا كويسة.. ماتقلقش عليا يا حبيبي لو فيا حاجة أكيد هاقولك


رد لها الابتسامة و هو يتناول بيده قطعة من اللحم المطهي بالخضار، أطعمها لها بفمها و هو يقول بحب :


-طيب كلي بقى. عشان إنتي اليومين دول خاسة شوية و أنا مابحبش كده.. أنا واخدك بطاية و عايزك زي ما إنتي ماتتغيريش


أضحكتها دعابته الموحية كثيرًا، فتمهلت حتى مضغت قطعة اللحم و إزدردتها، ثم تطلعت إليه قائلة و هي لا تزال تضحك :


-مش معقول يا فادي. تصدق أول مرة أشوف راجل بيحب الست المليانة.. على الأقل في الوسط بتاعنا. ده مراد كان عايـ آ ا ...


بترت عبارتها فجأة.. حين شاهدت إنقلاب سحنته لحظة عندما نطقت إسم زوجها السابق ...


تلقائيًا كممت فاها بيدها و هي تتمتم بندم شديد :


-أنا آسفة يا فادي.. أنا آسفة جدًا و الله ماكنش قصدي أنطق إسمه بجد ...


كان العبوس قد ملأ وجهه بالفعل.. لكنه حاول جاهدًا أن يخرج صوته أكثر لينًا و طبيعية و هو يركز على طعامه مجددًا و يقول بنفس الوقت :


-خلاص.. ماحصلش حاجة. بس إبقي خدي بالك بعد كده. أنا دايمًا بحاول أنسى الموضوع ده بس للأسف ساعات مابقدرش.. بالذات لما بكون قريب منك أوي. مابقدرش أنسى إن في راجل غيري لمسك.. مش معقول إنتي كمان تفكريني بده !


أجفلت "هالة" باضطراب شديد و تصرفت دون حساب، فمدت يدها عبر الطاولة لتقبض على كفه و هي تقول :


-طيب حقك عليا.. أنا غلطانة. بس ماتكشرش كده. إنت عارف إني مابفكرش في حد غيرك دلوقتي. إنت أكيد حاسس بيا.. فادي الفترة إللي عيشتها معاك غيرت فيا حاجات كتير. لدرجة إني بقيت واثقة إن كل الرجالة إللي شوفتها في حياتي و لا حاجة جمبك. إنت مالي عيني أوووي و إنت أكيد عارف كده !


أدار رأسه نحوها في هذه اللحظة و قال :


-طيب و قلبك ؟ يا ترى دخلته و لا لسا يا هالة ؟!


توردت وجنتيها و هي ترد عليه برقة :


-لو ماكنتش دخلته ماكنتش أنا إعترفتلك بأي حاجة من دي.. أنا كتومة جدًا لعلمك. بعرف أداري مشاعري و أسراري كويس. بس إنت منغير مجهود فجرت المشاعر دي في لحظة و لاقيتني مابقتش مسيطرة على نفسي خالص و أنا معاك.. إنت ساحر و لا إيه يا فادي ؟


فادي مبتسمًا ببساطة :


-تؤ.. لا ساحر و لا حاجة. أنا حبيتك بس !


إختلجت قسماتها للحظة و هي تستمع إلي كلمته الأخيرة... تنفست بعمقٍ و نظرت بتيهٍ في عينيه الملوّنتان الجميلتان و قالت :


-فادي.. حد قالك قبل كده إن عنيك حلوة أوي ؟!


قهقه "فادي" ضاحكًا و قال :


-الحقيقة كتير من و أنا صغير. أنا و إخواتي كلنا عنينا ملونة ف بنسمع الكلام ده كتير.. بس منك إنتي دلوقتي كأنها أول مرة تتقالي طبعًا


منحته نظرة رقيقة و هي ترفرف بأهدابها الطويلة بطريقة جذابة... لم يكن عقلها يفكر سوى فيه هو في هذه اللحظات.. كان بالنسبة لها مركز العالم كله !


____________________


في ظلمة الغرفة التي جمعتها به ليالٍ.. في السكون المطبق عليها كذلك اللحاف الثقيل الذي بسطته فوقها... رقدت "سمر" فوق فراشه.. تنشج و ترتجف في صمت... كان الجو بارد في الأصل


و لكن البرد الذي بداخلها أعظم و أشد بكثير ...


أخيرًا سمحت لنفسها بالإنهيار.. بعد أن سلمت لهم كل شيء، إبنها و شقيقتها.. حتى هو.. زوجها... لتبقى هي بمفردها، كما كانت دائمًا


مجرد تخيلها بأنه قد تزوج بأخرى الليلة، و بأنه سيقضي الليل بين أحضان إمرأة غيرها.. شعور يطعنها بقلبها و يذبحها ذبحًا.. فذلك الرجل.. هو ليس زوجًا لها فحسب


بل حبيبها الأول و الأخير... إنها مع كل الأسف تحبه... رغم كل هذا تحبه.. و لا يسعها فعل أيّ شيء غير هذا أو حتى إيقاف قلبها عن النبض بأسمه.. بالرغم أنه أعطاها كل الأسباب للإقدام على كرهه إلى الأبد منذ عرفها.. لكنها لا تستطيع... مهما حاولت !


إزدادت البرودة بداخلها أكثر مع تدفق الأفكار، حتى طالت قلبها و غمرتها بالكامل.. فصارت و كأنها تحت تأثير تيارًا كهربائيًا يقتحم أوصالها، بالأخص مع إشتداد وتيرة بكائها.. كانت تبكي الآن مثل طفلة


حتى أنها لم تشعر به في البادئ، و هو يدخل إلى الغرفة.. ثم ينضم إليها بالفراش فجأة... لم تنتبه إلا حين أخذها بين أحضانه فقط.. علقت رائحته بأنفها و ملأت صدرها فظنت بأنها تحلم أو تتخيّل


لترتعد مصدومة، بينما يعانقها بقوة و يلف ذراعيه حولها بشدة مانعًا إياها من الحركة.. بالكاد تمكنت من رفع وجهها قليلًا لتحدق فيه عبر الظلام متمتمة بصوتٍ أبح :


-عـ عثمان !!!


سمعت صوت تردد أنفاسه الثقيلة عندما تنهد و شعرت بها و بسخونتها على بشرتها، فأيقنت بأنه ليس حلمًا و بدأت تقاومه و نشيجها يزداد حرارة رغمًا عنها.. بينما يحاول تهدئتها و هو يهمس لها :


-كنتي فاكراني ممكن أسيبك الليلة دي بالذات ؟ .. أبدًا.. أبدًا يا سمر.. أنا أسيب الدنيا كلها و ماسبكيش إنتي. إنتي حبيبتي. إنتي بس إللي بحبها.. مش عاوز غيرك إنتي ...


أخذت تجهش بالبكاء على صدره بضعفٍ مخزي.. لم تعد قادرة على مقاومته أكثر... تركته يلاطفها و يهدئها كما يريد، بل كما تحتاج منه أن يفعل تمامًا


و كل ما شغلها باللحظات التالية هو حديثه الهادئ لها و المعضلة التي اعترتها في تصديقه أو تكذيبه.. مع أنها تدرك تمام الإدراك بأنه كاذب مئة بالمئة.. لكنها أختارت أن تصدقه الآن، على الأقل الآن !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! ................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ...

( 33 )


_ صراحة ! _


كان الوقت فجرًا... لحظات ظلام الليل الأخيرة.. الهدوء سيد الموقف... نسمات هواء الصباح الملوّح بالأفق تهب عبر الشرفة المفتوحة نحو الفراش الكبير و هي تهز الستائر الناصعة الشفافة في طريقها.. "سمر"... "سمر" شبه النائمة.. كانت متكوّمة بأحضان زوجها دون حراك.. ربما بقيت على هذا الوضع ساعةً من الزمن.. أو أكثر !


لم تحسب الوقت تمامًا و لم تهتم أصلًا.. كانت ساكنة فقط طيلة تلك اللحظات... لم يسعها سوى الاستسلام الكامل له و التنعم بفيض غرامه الذي أهاله عليها بكرمٍ و شغف حتى رضاها و عالج جروحات قلبها الغائرة.. و لكنها تعلم جيدًا بأنه علاج مؤقت... سيزول بمجرد ذهابه.. أو أنه بالفعل قد بدأ في الزوال !


لقد تمكنت من الشعور بذلك الآن.. تلك الوخزات المؤلمة عاودت الطريق إلى صدرها و قلبها من جديد... في هذه اللحظة بالذات.. لقد عاد الألم !!


-سمر !


اختلجت أنفاسها حين سمعت همسه الخافت فوق رأسها.. كانت الغرفة غارقة في السواد على أيّة حال، لكنها أطبقت جفنيها شدة خشية وقوع أيّ مواجهة بينها و بينه


لم تكن مستعدة لذلك خاصةً بعد خضوعها المخزي بين يديه و التعاطي معه و تنفيذ كل أوامره و مطالبه.. صحيح أنه لم يجبرها على شيء... لكنه كان واثقًا من ضعفها، و متنبئًا باللحظة التي ستنهار فيها تمامًا رافعة رايات الهزيمة أمامه.. و ما حدث منذ قليل خير برهان على ذلك ....


-سمر أنا عارف إنك سمعاني !


إعترتها رجفة مباغتة أخرى عندما سمعت صوته بنفس الطريقة الهادئة.. يكاد يُسمع


لا تعرف لماذا داهمتها رغبة قوية للبكاء الآن، مع شعورها به باللحظة التالية يتحرك مبعدًا إياها عنه قليلًا ليحملها على مواجهته رغمًا عنها


تخشبت في مكانها أكثر و هي تغمض عينيها بقوة و تضع يديها على وجهها لتختبئ منه، بينما يحاول "عثمان" بأقصى ما لديه من لطف إزالة كفيها و هو يتمتم برفقٍ :


-بصيلي طيب.. أنا مش قادر أسيبك كده. عايز أتكلم معاكي.. يا سـمر !!!


أطلق زفرة نزقة و لم يجد أمامه سوى أن يرغمها هذه المرة فعلًا.. فنهض بجزعه معتدلًا بالفراش... إستدار نصف إستدارة و مد يده ليشعل المصباح الصغير الرابض فوق الطاولة بجوار رأسه


أصبحت الرؤية أوضح الآن تحت الظلال الذهبية الباهتة التي شاعت بلحظة مكوّنة هالة إمتدت حولهما و طوقتهما، ليعاود النظر إليها و يقبض على معصميها مباعدًا بين وجهها بحزمٍ و هو يقول :


-إنتي مش عايزة تسمعي مني طيب ؟ أنا هافهمك يا سمر.. بس إديني فرصة. بلاش حركات الأطفال دي !


-سيبني يا عثمان ! .. غمغمت "سمر" بصوتٍ مكتوم و هي لا تزال مغمضة عينيها بقوة


عثمان بإصرار : مش هاسيبك يا سمر. دلوقتي بالذات مش هاينفع أسيبك.. إنتي فاكراني بخدعك و بضحك عليكي زي زمان. بس الحقيقة يا سمر إن عمري ما خدعتك لحظة من يوم ما عرفتك. فكري فيها يا سمر و قوليلي إمتى ضحكت عليكي.. أنا عمري ما عملتها و عمري ما هعملها. و دلوقتي كل إللي بطلبه منك إنك تهدي و تسمعيني


تشنجت أكثر في قبضته و إرتفع صوت نشيجها، لتغص فجأة و تنتفض و هي تطلق شهقة عميقة و قد فتحت عينيها مرة واحدة ...


عبس "عثمان" بقلق عندما شاهد تطور حالتها من الحزن و الكمد إلى الإعياء المفاجئ.. حيث شحب وجهها و إزرقت شفاهها بلحظة


إنقبض قلبه حين شعر بأصابعها الباردة تقبض على كفه بقوة دون سابق إنذار و عيناها تشخصان في نفس الوقت ...


-مالك يا سمر ؟!! .. تساءل "عثمان" بقلقٍ جم


استغرق الأمر منها بضع لحظاتٍ، حتى تمكنت من الرد عليه ببطء و ضعف شديد :


-مش قادرة.. مش قادرة أخد نفسي !


إجتذبها فورًا من ذراعها ليقعدها فوق السرير و هو يفرك ظهرها و كتفيها مدمدمًا :


-طيب إهدي.. بالراحة... إسحبيه بالراحة.. ماتركزيش على التعب.. إهدي خالص ...


و بعد عدة مرات إتبعت خلالهم تعليماته، إستطاعت أن تضبط معدل تنفسها من جديد.. ليزفر "عثمان" براحة و يشدها لصدره و هو يقول بحنان :


-مش عارف أنا واخدك مرهوقة من يومك كده ليه ؟ أعمل معاكي إيه بس يا سمر تاعباني من يومك. تاعباني يا حبيبتي ..


نشجت "سمر" مرةً أخرى و هي تحاول دفعه عنها :


-طالما تاعباك كده جيتلي ليه ؟ أنا ماطلبتش منك حاجة و عمري ما طلبت و لا هطلب.. سيبني يا عثمان الله يخليك. أنا بكلمك بجد. إبعد عني من فضلك !


تنهد "عثمان" متفهمًا مشاعرها، لكنه قال بتصميمٍ دون أن يفلتها :


-مش قبل ما نتكلم يا سمر.. و أسمع منك إن مالكيش حق عليا. و إنك مسامحاني. مش هاسيبك


تضحك "سمر" بسخرية مريرة و هي تقول :


-ماليش حق يا عثمان ! ماشي. أنا فعلًا ماليش حق عليك. ممكن تسيبني بقى ؟ سيبني عشان بجد مش مستحملة ...


و أخذت تكافح بضراوة للإفلات منه و هي تصيح باكية بحرقة كبيرة دون مبررات تدفعها لذلك الآن :


-أنا خلاص وصلت لنهايتي معاك.. إنت كسبت يا عثمان. إنت أخدت مني كل حاجة. أخدت جسمي في الأول و بعدين قلبي و سُمعتي إبني و حياتي كلها بقت تحت رجليك.. عاوز إيه تاني ؟ مابقاش في حاجة ممكن أديهالك. أنا عارفة من أول لحظة إنت إيه و أنا إيه. عارفة إني لو فضلت طول عمري بجري عشان أحصلك مش هاعرف. عارفة إني و لا حاجة بالنسبة لك و إنك مسيطر عليا و محاصرني. عشان كده ساكتة. ساكتة و كل إللي طلباه منك إنك ترحمني.. إرحمني يا عثمان و سيبني أعيش جمبك على الأقل بكرامتي !


و أجهشت بالبكاء أكثر، بينما يطلق سبّة غاضبة بعد سماع كلامها و تصريحاتها الخاطئة كليًا بالنسبة له ...


-طيب بصي في عنيا و أنا بكلمك ! .. قالها باقتضاب لا يخلو من الجمود و هو يدفعها للوراء قليلًا


و عندما لم تستجيب له كرر بهتافٍ حاد و هو يهزها بعنف :


-قولتلك بصي في عنيا !!!


حبست أنفاسها لوهلة متوقفة عن البكاء.. لكنها ما لبثت أن غصته بحلقها و تطلعت إليه على مهلٍ و هي تزيح خصيلات شعرها المبعثرة عن وجهها ...


مرت لحظات من الصمت.. إلى أن قال بتجهم بث فيها القليل من الريبة :


-أنا مش هضغط عليكي أكتر من كده.. ربنا وحده يعلم أنا إللي فضلت أضغط على نفسي أد إيه عشان أجيلك و أفهمك الوضع كله و من البداية.. بس إنتي كالعادة عايشة في دور الضحية بتاعك إللي شكله عاجبك أوي و جاي على مزاجك. لكن إنتي مش ضحية يا سمر. و اقعدي مع نفسك كده و راجعي الشريط من أوله. أنا آه كنت داخل إتسلى بيكي أول ما عرفتك.. كنت عايز جسمك و ماكنش يخطر في بالي ثانية إني ممكن أحبك. و قولتهالك قبل كده. يا سمر إنتي لو ماكنتيش دخلتي قلبي و حبيتك بجد. لو كنتي إتشقلبتي من هنا لعشرين سنة ماكنتش هاكتبك على إسمي. و لا كنتي هاتخطي باب بيتي و تحملي في إبني و تعاشريني أنا و أهلي يوم واحد.. إمتيازات كتير أوي إدتهالك. و قبل ما تتكلمي و تقاوحيني تاني. آه إتجوزت عليكي. و جبتها تعيش هنا. بس الفرق بينك و بينها كبير أوي. لو عايزة تعرفيه و تفهمي الحكاية كلها صح.. لو باقية عليا يا سمر. و فعلًا بتحبيني أو حبتيني زي ما قولتيها أكتر من مرة.. أنا موجود. لما تهدي خالص تعالي و قوليلي فهمني يا عثمان. ساعتها هاصرحك بكل حاجة.. بس أتمنى إني ماندمش لو عملت كده !


و قام من الفراش باللحظة التالية مباشرةً.. لتلفحها بعض البرودة جراء الهواء المتسلل عبر الأغطية بفعل نهوضه و مفارقته إياها فجأة هكذا ...


-أنا رايح أنام في أوضة الولاد ! .. تمتم بإيجاز تغلفه قساوة غريبة


قصد أن يطلعها على هذا خاصةً عندما شاهد التساؤل و الإضطراب يملآن نظراتها... و تابع بنفس الاسلوب و هو يلتقط قطع ملابسه و يرتديها على عجالة :


-كده كده بقينا الصبح. مش هاطول في النوم.. ساعتين و راجع أخد شاور هنا و أغير هدومي. لو مافيهاش إزعاج يعني.. أو ممكن أستخدم أوضة تانية لو هضايقك !


-مافيش مضايقة ! .. غمغمت "سمر" على مضض و هي تقطب وجهها بشدة و تشيح عنه للجهة الأخرى


سيطر "عثمان" على إبتسامته و قال بصوت أجش :


-أوك.. مش عاوزة حاجة مني دلوقتي ؟


ردت بجفاف دون أن تنظر إليه :


-لأ !


تراقصت الإبتسامة على محياه أكثر و هو ينظر إليها و يهز رأسه بيأس.. ثم سرعان ما قمعها و حمحم قائلًا :


-طيب.. تصبحي على خير !


و إلتقط سترته راميًا بها على كتفه و غادر على الفور في هدوء شديد ...


لتسترخى عضلات جسمها المتنشجة أخيرًا و تلقي بنفسها للخلف، تمددت مثبتة رأسها فوق الوسادة و هي تحدق بالسقف العالٍ عاقدة حاجبيها.. تفكر... تفكر فقط في كلماته و المعاني المحتملة ورائها.. لكن أيّ معنى تحاول التوصل إليه الآن بنفسها لن يكون شافيًا و لا منطقيًا حتى


لعلها بالفعل مضطرة إلى الذهاب إليه و مطالبته بالشرح.. يجب أن تستمع إلى مبرراته و دوافعه.. قبل أن تقرر للمرة الأخيرة !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! .................................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ....


حبايب قلبي سامحوني على #البارت القصير ده، أنا جيت على نفسي جامد إنهاردة عشان أقعد و أكتبه و الله، أنا عارفة إنه قصير أوي، بس حقيقي أنا مُرهقة جدًا و حالة التسمم الغذائي إللي حصلتلي لسا مأثرة عليا و الدكتور مانعني من الأكل تقريبًا ف لكم أن تتخيلوا مافيش قوة خااالص 😂


بإذن الله هاسيبكم دلوقتي و هاشتغل على #بارت جديد هاطوله على أد ما أقدر و هايكون عندكوا بكرة في ساعة بدري.. و شكرًا لتفهمكم ❤

( 34 )


_ ميثاق ! _


بعد كل هذا التخطيط و الكفاح لنيل مآربها... هل يمكن أن تتراجع الآن !!!


لقد عقدت عزمها مرارًا خلال المدة التي عاشتها معه، و خاصةً بتلك الأوقات العصيبة التي شهدت فيها منه نفورًا و جفاء حتى وصل به الأمر لمد يده إليها بالضرب.. كان بداخلها حقد.. يزداد و لا ينقص.. و غل شديد.. عليه و على أبيها و إبن عمها و الجميع... هذا الشعور لا ينفك عنها مطلقًا 


أما الآن... في هذه اللحظة و هي تنحني لتضع الحذاء بقدمه كما اعتادت أن تفعل قبل وقت قريب.. لا تدري ما بال الشعور بالضيق و الندم يسيطران عليها... بالأخص و هو يلاطفها كما إعتاد أيضًا بعد كل مرة تعمد فيها إلى إعانته بأيّ شيء يفعله


يمد يده السليمة و يربت على شعرها الحريري كما يفعل الآن و هو يبتسم لها تلك الابتسامة الجذابة خاصته و التي لا يهديها للجميع.. إنما للخواص فقط... و على ما يبدو فقد صارت هي كذلك بالنسبة له.. حتى الآن ....


-قولتلك مابحبكيش تعملي كده ! .. قالها "فادي" بلهجته اللطيفة و هو يسحبها من ذراعها لتقف على قدميها


كان قد قام بدوره من فوق الكرسي الصغير بوسط مدخل الشقة، فصارا متواجهين ...


جاملته "هالة" بابتسامة رقيقة و هي تقول :


-و أنا عملت إيه يعني ؟ دي مش أول مرة أعمل كده


-ما أنا كل مرة بقولك. مش بحبك توطي تحت رجلي و تلبسيني الجزمة كده.. حد قالك عليا مشلول يعني مش هاعرف ألبسها ؟!


-قطع لسان إللي يقول عليك كده ! .. هتفت "هالة" بعدائية واضحة أدهشت "فادي" على الفور


لكنها ما لبثت أن تمالكت نفسها و عاودت التبسم في وجهه، أمسكت بيده و رفعتها لتسند خدها على كفه و هي تقول بنعومةٍ :


-قصدي إنت في عنيا مالكش زي.. و أنا بحبك. بعتبرك دلوقتي كل حاجة ليا.. جوزي و حبيبي و أبويا و أخويا و إبني كمان.. و بعدين أنا بساعدك في لبس الهدوم و في كل حاجة ...


و غمزت له بطريقة موحية، و أكملت ضاحكة بغنجٍ :


-جت على الشوز يعني يا فادي !


شاركها "فادي" الضحك و هو يضمها إلى صدره بحماسة مغمغمًا :


-بس يا حبيبتي إنتي هنا برنسيسة. جايز البيت مش قصر زي بيت أهلك. لكن أنا هنا واجبي أشيلك على كفوف الراحة.. عارفة ليه ؟


هالة مبتسمة : ليه يا حبيبي ؟


تراجع "فادي" بضع سنتيمترات عنها ليرى وجهها و ينظر بعيناها الجميلتان جيدًا، ثم قال بصوتٍ أقرب إلى الهمس دون أن يحاول إخفاء غرامه الشديد بها :


-عشان إنتي قيمتك كبيرة أوي. و غالية عليا أوووي.. و كان نفسي تبقي بنت عادية يا هالة. مش في المستوى العالي ده يعني. عشان تصدقي فعلًا كل كلمة بقولهالك و ماتشكيش في حبي ليكي لحظة !


إلتمعت نظراتها و هي ترنو إليه بصمت لثوانٍ، تتذوّق عذب كلماته الصادقة الرقيقة.. ثم قالت بصوت أبح متأثرًا بمشاعرها المتعاظمة منذ فترة طويلة :


-أنا عارفة.. و واثقة.. و متأكدة كمان. و على فكرة.. أنا كمان بحبك أوي يا فادي


توسعت ابتسامته أكثر مع اعترافها المتكرر، لقد سمعه مرة أو مرتين تقريبًا.. لكنه الآن كان به قدرًا من الدقة و المصداقية، و كأنها تعنيه مئة بالمئة ...


-ربنا ما يحرمني منك ! .. تمتم و هو يقرب رأسها قليلًا ليطبع قبلة مطوّلة فوق جبهتها


توادعا أخيرًا بعناقٍ حار كما هو عهدهما صباح كل يوم، ثم رحل "فادي" و تركها آمنًا لها و مطمئنًا مثل عادته مؤخرًا... بينما بدأت بالتحرك من فورها، و لكنها كانت كمن يُسيَّر آليًا.. إذ فعلت كل شيء دون شعور، فقط لأنها تذكرت بأن هذا المحتوم و يجب أن تنفذه بغض الطرف عن أيّ شيء


ذهبت إلى الغرفة و أحضرت حقيبة الملابس الكبيرة، أفرغت محتويات الخزانة من ملابسها و أغراضها و كوّمت كل شيء بداخل الحقيبة، جمعت حوائجها الهامة كلها.. ثم رمت بنفسها فجأة فوق السرير !


تحسست جيب سروالها الجينز القصير حتى أمسكت بهاتفها، ازدردت ريقها بصعوبة و أستلته من جيبها الأمامي، و بدون تفكير أجرت الاتصال به.. أتاها صوته أسرع مِمّ توقعت :


-هالة ! جهزتي يا حبيبتي ؟


صمت... و لا شيء غير الصمت.. حتى كرر الطرف الآخر بصوت أكثر ريبة :


-هالة.. إنتي كويسة يا حبيبتي ؟ إنتي معايا ؟!!


-... معاك ! .. نطقت "هالة" أخيرًا، إنما بلهجة جوفاء تمامًا


-معاك يا خالو.. أنا جاهزة !


سمعته يتنهد بعمقٍ، ثم يقول بأريحية واضحة :


-تمام يا حبيبة خالو.. أنا جايلك. نص ساعة و أبقى عندك مش هتأخر !


_______________


إرتفع رأس السيدة "فريال" التي عكفت على صنع ضفائر الشعر التي تفضلها الصغيرة "ملك".. عندما سمعت بوق حافلة المدرسة الدولية الحديثة التي وقع عليها إختيار "عثمان" لأجلها قبل عامين


عقدت لها آخر شريطة ملوّنة، ثم أقامتها و قامت هي الأخرى و هي تقول :


-يلا يا لوكا حبيبتي الباص جه. لبستي الشوز و لا لسا ؟


أومأت لها "ملك" و هي تشير لزوجي الحذاء الأبيض في قدميها الصغيرين :


-لبسته و عرفت أربطه لوحدي.. شوفي كده يا نناه !


ألقت "فريال" نظرة على الحذاء بالفعل و قالت و هي تبتسم لها مشجعة :


-برافو عليكي يا روحي.. طيب و الـLunch box حطتيه في شنطتك ؟


-أها كله كله موجود ماتقلقيش


قهقهت "فريال" بحبور حقيقي و قد سرّها كثيرًا التعامل مع تلك الطفلة الذكية الجميلة، و قالت :


-بقيتي شطوورة يا لوكا. أنا عاوزة بوسة بقى. تعالي هنا !


اندفعت الصغيرة باللحظة التالية و هي تقفز نحوها مطوقة عنقها بشدة، بينما تحتضنها "فريال" و تقبلها و هي تربت عليها بحنان مبتسمة ...


-يلا هاتي شنطتك بقى عشان ماتتأخريش.. الدادة راحت تودي يحيى لمامته. أنا هانزل أوصلك إنهاردة لحد الباص. يلا بسرعة !


استجابت لها الصغيرة على الفور و ذهبت لتحضر حقيبة ظهرها الثمينة الأنيقة من أسفل مكتب الدراسة خاصتها، ثم عادت لتشبك يدها بيد السيدة الحنون الجميلة ...


أوصلتها "فريال" كما قالت حتى الحافلة التي وقفت تنتظرها أمام أسوار القصر.. سلمتها يدًا بيد إلى المشرفة الشابة و أوصتها عليها... ثم عادت أدراجها للداخل


لتصطدم بزوجة إبنها بمنتصف الدرج ...


كانت "سمر" هادئة هذا الصبح، و بشرتها متوردة قليلًا مِمّ بث الطمأنينة بقلب "فريال".. و كانت أيضًا تحمل طفلها بين ذراعيها.. ما إن رأتها جدته حتى قالت معاتبة بدون مقدمات :


-إيه يا سمر يا حبيبتي شايلة الولد من فوق لحد هنا ؟ معقول كده.. يحيى كبر و يقدر يمشي على رجليه ليه بتتعبي نفسك !!


و لأول مرة منذ وقتٍ طويل... ابتسمت "سمر" لها و قالت بهدوء و هي تضم صغيرها إلى حضنها :


-ماتخافيش عليا يا طنط.. أنا كويسة خالص مش تعبانة. و بعدين يحيى هو إللي مسك فيا عشان أشيله. أعمل إيه بقى بيدلع عليا شوية. و كمان ماتنسيش حضرتك إني إتحرمت من الرفاهية دي و ماكنتش معاه في العمر إللي كان بيتشال فيه طول الوقت


أجفلت "فريال" و قد تعكر صفوها مرةً واحدة عند سماعها إتهامات "سمر" المبطنة لها و لإبنها بالظلم ...


لكن "سمر" ما لبثت أن أصلحت عبارتها و هي تقول بلطفٍ :


-على كل حال أنا كنت رايحة أبص على ملك و أصحيها عشان المدرسة !


تنحنحت "فريال" قائلة بشيء من الاضطراب السالف :


-ملك لسا موصلاها لحد الباص بنفسي. أنا صحيت معاها بدري و قمت فطرتها و لبستها و حضرتها كويس أوي


سمر بغرابة : معقول مشيت بدري كده ؟ الساعة لسا سابعة ونص !


أوضحت "فريال" لها :


-أصل هي قالتلي من يومين إن عندهم حفلة أو حاجة كده تقريبًا. و في فقرة استعراضية للأطفال و المفروض طول الاسبوع ده يروحوا نص ساعة بدري عشان في مدربة بتعلمهم رقصة و أغنية


ارتخت تعابير "سمر" و هي تهمهم بتفهم، و لكنها تجهمت من داخلها بعد سماع أخبار كهذه من السيدة "فريال"... كان لا بد أن تعرف هي بها أولًا.. لكن يبدو فعلًا بأنها أمست بعيدة عن الصورة كليًا بالآونة الأخيرة !!!


-طيب طالما صحيتي و فوقتي بقى ! .. قالتها "فريال" و هي ترمقها بحذرٍ


-إيه رأيك نفطر سوا و نشرب الشاي أنا و إنتي تحت في الجنينة ؟ إنتي وحشاني أوي و نفسي أقعد أرغي معاكي. لو مش هضايقك !


قالت "سمر" في الحال :


-لأ أبدًا.. تضايقيني إزاي. حضرتك كمان وحشاني أوي


و إبتسمت لها بمحبة مؤكدة... لترد "فريال" الابتسامة و هي تقول برقتها المعهودة :


-طيب. حلو أوي.. يلا بينا يا حبيبتي !


_______________


هدير المياه يصل إلى مسامعه مشوشًا، ربما يسمعه في الأساس لأن ذهنه مركزًا عليه.. بينما كان يجلس منتظرًا هنا فوق السرير المبعثر بطريقة غريبة.. لعلها لن تكون غريبة للرائي غيره هو، فإذا ولج أيّ شخص إلى هنا سيقول بأن هذه غرفة عروسين و سيظن بأنهما حظيا بليلة ملحمية.. و لكن هو... كيف يظن ذلك !!!!


كان "عثمان" يقلب الأغطية و قطع الألبسة النسائية الغريبة المنتشرة من حوله... كان العبوس يملأ قسماته المرهقة، إذ لم يحصل على قسطه الكافي من النوم، بعد أن ترك زوجته فجرًا، ذهب لينام بالغرفة التي يتشاركاها طفله و شقيقة زوجته... لعله لم يغمض عينيه سوى ساعة واحدة، ثم وجد أمه فوق رأسه فجأة توقظه و الذهول يجتاحها فعليًا


لم يكن بمزاج يسمح له بشرح أيّ شيء، فتجاهل تساؤلاتها بلباقة مهذبة و تركها متوجهًا إلى غرفة زوجته و حبيبته الوحيدة... "سمر".. كانت لا تزال تغط في النوم، فلم يشأ إزعاجها و قام باستخدام الحمام حيث اغتسل و بدل ملابسه، ثم خرج في هدوءٍ تام و جاء إلى هنا


حتى يرى عروسه !!!


لكنه لم يرها إلى الآن.. لقد قضت وقت طويل بالحمام، ترى ماذا تفعل ؟ و لماذا تستيقظ من بّكرة الصباح هكذا أصلًا ؟!!!


اصطدم بالإجابة في هذه اللحظة تمامًا.. حين إنفتح باب الحمام فجأة و أطلت "نانسي" من خلفه مرتدية مئزر الاستحمام القصير.. و قد كان الماء يقطر من شعرها و ينساب على بشرتها حتى ساقيها للأسفل و كأنها تنصهر مثل شمعة !


مهلًا... هذا شعرها !!!


حقًا هذا شعرها.. تبيّن "عثمان" بوضوح و هو ينظر إليها الآن بتعابير غير مقروؤة بأنها أخذت بوعيده.. لقد غيّرت لون شعرها


ذلك اللون الأحمر المتورد اختفى نهائيًا.. ليحل محله لونًا قاتمًا فاحم السواد.. لعله ليس ملائمًا لها بالتمام كلون شعرها الأشقر الطبيعي... لكنه ناسبها على أيّة حال... لم يكن بالسوء الشديد !!


-صباح الخير ! .. هتفت "نانسي" من مكانها بصوت طبيعي للغاية


لا يزال "عثمان" جالسًا يشملها بنظراته.. تعمد التروِ بحركاته و ردة فعله... قام واقفًا ببطء و هو يرد عليها بلهجته المتعالية :


-صباح الخير.. أتمنى تكون الإقامة عندنا عجبتك من الليلة إللي فاتت !


انفرجت أسارير "نانسي" و هي تصيح متهللة :


-بتهزر يا عثمان ؟ أي حد يتمنى يقضي يوم واحد في قصر البحيري.. طبعًا الإقامة هنا هايلة. و ماعندكش فكرة مريحة كمان أد إيه.. بس المهم !


و أقبلت عليه بتوؤدة و هي تلاعب خصيلات شعرها المبتلة و تلفها حول أصابعها الرشيقة قائلة :


-ماقولتليش إيه رأيك في لون شعري الجديد ؟


-كويس ! .. أجابها "عثمان" باقتضاب و قد زجرها بنظرة تحذيرية حين رآها مستمرة بالإقبال هكذا و نيتها واضحة بعينيها


-لازم تعرف إن أهم حاجة عندي رضاك. شعري الطبيعي بيعجبني و أنا لوّنته عشانك أصلًا. بس لما لاقيتك ماجبتوش سمعت كلامك و غيرته علطول ...


و توقفت أمامه مباشرةً في هذه اللحظة و هي تستطرد بصوت خفيض :


-لو ليك ملاحظات على أي حاجة فيا مش عحباك ياريت تقول.. أنا يهمني تكون مبسوط معايا


عثمان بحدة : أنا هكون مبسوط طول ما إنتي محترمة هنا و مابتعمليش مشاكل


ضحكت "نانسي" و هي تقول :


-مشاكل ! الله لا يجيب مشاكل يا قلبي. ماتقلقش خالص من ناحيتي ...


و تطلعت إليه بنظراتها الغاوية التي حفظها جيدًا.. و رفعت ذراعها نحوه على حين غرّة ...


إلتقط يدها قبل أن تحط عليه و أعادها إلى جانبها و هو يقول بحزم :


-البيت ده له قوانين.. إن كنتي هاتعيشي فيه يبقى بشروطي.. و أوامري كلها تتنفذ. حتى لو وصلت تستأذني قبل ما تفتحي بؤك بكلمة مهما كانت عادية و تافهة. إنتي فاهمة ؟


ابتسمت "نانسي"... تلك الابتسامة المُضِلّة.. أقبلت عليه باصرار أكبر و تشبثت بكتفيه رغم تشنجه الواضح تحت يديها.. ثم رفعت وجهها حتى لامست ذقنه أرنبة أنفها.. و قالت مستعملة كل سحرها لإمالته فقط :


-أنا طبعًا تحت أمرك.. منغير ما تتعب نفسك و تقول. أنا جاية هنا عشانك.. عملت كل حاجة عشان أوصلك إنت... إنت ماتعرفش إنك كنت حلمي أنا أصلًا.. حتى بعد ما طلقت چيچي !


-نانسي !!! .. نطق "عثمان" من بين أسنانه


رفع يداه و أزال ذراعيها من حوله بقساوةٍ و هو يقول منذرًا :


-إنتي جاية هنا و عارفة كويس إن الجواز ده مش حقيقي. حذاري تحاولي معايا بالطرق دي.. هاتفضلي طول عمرك تحاولي و و لا مرة هاتجيب معاكي


تظاهرت "نانسي" بالبلاهة فورًا و هي تقول :


-مبدئيًا أنا جاية و ماعرفش حاجة من إللي بتقولها دي.. أعرف حاجة واحدة بس. إني مراتك. و زي ما ليك حقوق أنا كمان ليا


عثمان باستهجان : و يا تري إيه الحقوق دي إللي عايزاها مني ؟؟؟


-إنت ! .. قالتها بجرآة كبيرة


-عايزاك إنت.. مش إنت جوزي دلوقتي ؟ إيه إللي يمنعك ؟!!!


ابتسم "عثمان" و هو يسخر منها :


-جوزك آه.. بس لأ يا نانسي. إللي بتلمحي له ده مش هايحصل. أنا عمري ما هالمسك


يستشيط محياها غضبًا عند سماع رده، لكنها تتدارك أمرها بسرعة و تقتسر إبتسامة باردة و هي تقول بخبثٍ :


-تراهن يا عثمان ؟


ضحك باستخفاف قائلًا :


-ما قولتلك ربنا هداني و توبت عن حاجات كتير.. لكن مش مشكلة. أراهنك على دي.. بس لو ماحصلش !


صمتت "نانسي" لبرهة... ثم قالت بهدوء واثق :


-قدامك شهر من دلوقتي.. لو ماعرفتش أجيبك هنا في السرير ده. هاسلمك إللي ماسكاه على عمك. و هاخرج من حياتك للأبد


توسع بؤبؤي عينيه ثانية من الزمن بعد أن قالت له ذلك... ليرفع يده و يمد لها إصبع الخنصر قائلًا :


-Deal !


استجابت للتأكيد على ميثاقها و رفعت يدها بدورها شابكة خنصرها بخنصره و هي تقول :


-Deal.. Deal يا عثمان !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! ...................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ...

( 35 )


_ غضوب ! _


أمام بناية شاهقة.. هنا بهذا الحي الساحلي الراقي _ سان ستيفانو _ والذي يقع شرق عروس البحر الأبيض المتوسط.. توقفت سيارة "نبيل الألفي" فهرول صوبها حارس الأمن من فوره ...


كان "نبيل" يخفض زجاج النافذة القاتمة بجواره و هو يهتف مخاطبًا الحارس الشاب :


-الشنط ورا. ورا يا مصطفى.. خدها من الصندوق و طلعها قدام باب الشقة


الحارس طائعًا بتهذيب :


-تحت أمرك يا نبيل بيه !


يضغط "نبيل" على زر معيّن لفتح صندوق السيارة الخلفي حتى يتمكن الحارس من نقل الحقائب... ثم يلتفت أخيرًا نحوها !!!


-هالة !


على ما يبدو أنها لم تكن على وعي تام بالواقع.. إذ جلست من بداية الطريق في هذا الوضع المتخشّب، كما لم تنبس ببنت شفة.. حتى عندما ناداها خالها الآن.. لم يكن هناك ما يشير و لو من بعيد بأنها تنصت أو تبصر.. و كأنها منحوتة صمّاء.. تمامًا ...


-هالة !! .. كرر "نبيل" ندائه و هو يمسك بذراعها هذه المرة و يهزها بلطفٍ


إنتفضت "هالة" في هذه اللحظة و إلتفتت نحوه في الحال ...


-نعم يا خالو ! .. تمتمت بتعبير مبهور ينم عن عمق استغراقها في اللا وعي لمدةٍ طويلة


نظر لها "نبيل" بريبة قائلًا بصوته القوي :


-مالك يا هالة ؟ إنتي كويسة ؟!


أومأت "هالة" و هي تقول بهدوء :


-آها يا خالو طبعًا.. I'm fine


نبيل بتشكك : أومال إيه الحالة إللي إنتي فيها دي !!


-حالة إيه ؟


-من ساعة ما ركبتي معايا و إنتي ساكتة و مسهمة طول الطريق.. في حاجة و لا إيه ؟؟


نفت "هالة" على الفور :


-مافيش لأ.. هايكون في إيه يعني ؟ أنا بس يمكن بفكر شوية في إللي هايحصل بعد الخطوة الجريئة إللي أخدتها إنهاردة


نبيل بحزم : هايحصل كل خير يا حبيبتي. أنا مش عايزك تفكري في حاجة أساسًا. طالما كلمتيني و فوضتيني يبقى سبيني أنا أتعامل و أتصرف في كل حاجة لوحدي


أجفلت "هالة" و هي تقول بقلقٍ :


-هاتعمل إيه يا خالو ؟!


-هاجبلك حقك ! .. قالها "نبيل" بثقة، و أردف بصوت أجش :


-هاربيلك عيلة البحيري دي.. واحد واحد و بصغيرهم قبل كبيرهم. كفاية عليهم كده. بلاويهم كترت أوي أصلًا في الآواخر و أنا كان زيي زي الكل بقول أنا مالي.. مايخصنيش. لكن إنتي يا هالة تخصيني. لغاية عندك إنتي أتدخل و أتدخل أوي. لا يمكن أسمح لحد فيهم يستغلك أو يستخدمك لأي غرض كان.. من هنا و رايح أنا فوق راسهم


كانت "هالة" تشحب بالتدريج، إلى أن فرغ "نبيل".. فأرتفعت يدها إلى فمها و أخذت تعض على أصابعها لا شعوريًا و هي تقول :


-يعني إنت كده خلاص هاتروح القصر ؟؟؟


نبيل متبسمًا بلؤم :


-طبعًا هاروح.. هاسيبك و أطلع دوغري على هناك


-كله بالسرعة دي !!!


نبيل و هو يهز كتفيه :


-إيه إللي يخليني أستنى ؟ بقى ليا رجل هناك.. مش بس هناك. في الشركة كمان


إبتلعت ريقها بصعوبة و هي تحدق فيه عاجزة عن الرد... ليقول تاليًا و هو يرفع كفه ليحتوي جانب وجهها :


-أنا مش عايزك تفكري كتير أو تقلقي من حاجة.. أنا بقيت في الصورة. يبقى تطمني خالص.. محدش هايقدر يدوسلك هلى طرف طول ما أنا موجود. كل إللي هايعوز منك حاجة غصب عنه هايجي يقف قدامي أنا الأول. و أنا بقى هاعرف شغلي كويس مع الكل.. ماتخافيش


ثم دس يده الأخرى بجيب سترته... و أخرج سلسلة مفاتيح ذهبية و ناولها إياها قائلًا :


-دي مفاتيح الشقة و عربية صغيرة كده جبتهالك و حطتها في جراج العمارة. عشان لو حبيتي تتحركي في أي مكان أو تنزلي تتمشي و تشمي هوا. زي ما إنتي شايفة أخترتلك مكان مميز و جميل و كمان بيطل على البحر. إنتي أساسًا بتحبي سان ستيفانو مش كده ؟


لم تقوَ "هالة" على الكلام فأجابته بإيماءة خرساء، ليضيف بابتسامة وديعة :


-عمومًا إنتي مش بعيدة.. جليم تاخدلها فركة كعب زي ما بيقولوا. إذا حصل أي ظرف يحتاج لوجودك في القصر أو وجودي جمبك هنا هانكون سوا مسافة السكة. أنا مش هاسيبك لوحدك أبدًا


بعد عناء المحاولات.. تمكنت "هالة" من تكوين الرد الآن فقالت بلهجة متثاقلة الأحرف قليلًا :


-Thanks يا خالو !


نبيل و هو يربت على شعرها بحنان :


-you're welcome يا روح خالو !


_______________


-يا حبيبتي كده تبردي ! .. قالتها "فريال" برقتها المعهودة و هي ترى "سمر" تتخلى عن وشاح كتفيها لتدثر به صغيرها


إبتسمت "سمر" و هي تضم "يحيى" الغافي إلى صدرها بعد أن أحكمت حوله الوشاح، ثم نظرت إلى جدته قائلة :


-طالما نام يبقى لازم يتغطى.. جسمه بيهدا و بيحس بالبرد أكتر. و اليومين دول خريف و في لسعة خفيفة في الجو. مش عايزاه يتعب


فريال و هي ترمق الصغير بحنان :


-ننادي الدادة تجبلة الـBlanket ( بطانية ) بتاعته. إنتي بردو مش لازم تتعبي. هو محتاجلك.. و باباه كمان محتاجلك !


و هنا أدركت "سمر" الحقيقة من وراء دعوة تلك السيدة اللطيفة للفطور الصباحي... تريد أن تتحدث حول علاقة إبنها بزوجته الأولى !


لتجاريها إذن ...


-باباه عمره ما كان محتاجلي يا فريال هانم ! .. تمتمت "سمر" بهدوءٍ و ثبات


-بالعكس.. أنا متأكدة إن شوية شوية هايستغنى عن وجودي خالص


عاتبتها "فريال" فورًا :


-أخس عليكي يا سمر.. ليه بتقولي كده ؟ من إمتى عثمان إستغنى عنك عشان يعملها دلوقتي ؟!


نظرت "سمر" لها و ردت بمرارة :


-إنتي مامته و مربياه.. أكيد عارفة طبعه. هو بيمل بسرعة.. قالهالي بنفسه في بداية علاقتنا


فريال بثقة : بيمل فعلًا.. أيوة عارفة ده كويس. بس عمره ما يمل منك.. تعرفي ليه يا سمر !


نظرت لها بصمتٍ و لم ترد.. فأجابت "فريال" بنفسها :


-لأنه بيحبك.. إبني بيحبك يا سمر. و لما أنا أقولك حاجة زي دي لازم تصدقيني. أنا عمري كدبت عليكي في حاجة يا حبيبتي ؟


هزت "سمر" رأسها سلبًا، فاستطردت "فريال" مبتسمة :


-يبقى عمري بردو ما هكدب عليكي دلوقتي.. طيب إنتي تعرفي إن آ ا ...


-صباح الخير !


قاطعهما فجأة هذا الصوت الرجولي الغريب ...


كانت "سمر" أول من بوغتت لسماعه، إضطربت كثيرًا لدرجة عجزت عن إبداء أيّ ردة فعل... بينما سمعت "فريال" تقول بصوت متوتر هي الأخرى :


-نبيل ! نبيل الألفي.. أهلًا. أهلًا و سهلًا يا نبيل ...


كانت "سمر" تخطط للنهوض الآن، لكنها قلقة.. لو قامت أمامه يراها هكذا، مكشوفة له أكثر بالقصير الذي ترتديه.. بينما يركز "نبيل" عليها بالفعل... لم يكن منتبهًا مئة بالمئة إلى "فريال".. لكنه أضطر لمصافحتها أولًا، دون أن يحيد بنظراته عن زوجة إبنها :


-أهلًا بيكي يا فريال هانم.. أهلًا !


لعل "فريال" لم تلاحظ نظراته الفاخصة لزوجة إبنها، لكن "سمر" شعرت بها جيدًا و لاقت صعوبة أكبر في القيام.. كانت تجلس كالصنم، حتى رأسها منكسة لا تجرؤ على رفعها، كل ما استطاعت فعله هو الإنصات فقط ...


-رجعت إمتى من إيطاليا ؟ .. تساءلت "فريال" محاولة توفير مساحة أكبر لـ"سمر" حتى تتصرف


تنهض بسرعة أو تفعل أيّ شيء، لكنها لم تفعل !!!!!!


_______________


أمضى "عثمان" بعض الوقت برفقة عروسه الجديدة.. "نانسي الحداد"... و لكن بالطبع.. كان وقتًا يخلو تمامًا من أيّ حميمية


حيث استغل الفرصة في التعرف أكثر عليها و معرفة بعض التفاصيل عن حياتها الشخصية قبل أن يلتقي بها مجددًا على شاكلتها الجديدة المنحرفة... لكنها لم تطلعه على الكثير من الأمور.. كلها أشياء عادية من السهل أن يعرفها الجميع من أحدٍ غيرها.. كما لاحظ أيضًا شيئًا من الاقتضاب باسلوبها، و كأنها تخشى التطرق و التعمق بالحوار معه، بدا له الأمر كما لو أنها تخفي عنه سرًا.. مِمّ حمسه و أزاد فضوله أكثر... لقد حسم الموقف بالفعل.. هذا السر أيَّما كان.. سيعرفه !


-و يا ترى مين بياخد باله من چيچي دلوقتي ؟!


كانت تفعل تسريحتها المفضلة Wave ( تموجات الشعر ) عندما طرح عليها هذا السؤال ...


أطفأت المصفف كي ما يستطع سماعها و ردت بلهجتها الفاترة :


-I think قولتلك إنها في مصحة نفسية في أمريكا !


-So ( وبالتالي ) !


نظرت بالمرآة لإنعكاس جسمه المسترخي ورائها فوق السرير و قالت :


-So مش محتاجالي و لا محتاجة حد غير الدكاترة إللي معاها. و رغم كده عمتي بتروح تزورها من وقت للتاني مع إن الزيارات مابتفيدهاش بردو


عثمان عابسًا : أعتقد أختك هاتكون محتاجالك إنتي.. كان لازم تعيدي حساباتك قبل ما ترجعي. أو على الأقل كنتي فضلتي جمبها لحد ما تتخطى إللي هي فيه


ابتسمت "نانسي" ساخرة، و إستدارت نحوه معلّقة :


-look who's talking !


و أردفت بتعجب : مش چيچي دي إللي خانتك قبل ليلة دخلتكو باسبوع و صورتها و طلقتها و بعتهالنا في نفس الليلة بفستان الفرح و فضحتها و فضحتنا معاها ؟ .. إزاي بتتكلم عليها بالرقة دي دلوقتي ؟ و مهتم بأزمتها كمان.. كأنك يعني مش السبب !!!


صدرت عنه نهدة عميقة و هو ينتصب واقفًا بتكاسل و يقول ببرود :


-أولًا الموضوع ده منتهي بالنسبة لي من لحظة ما طلقت أختك.. مابقتش تهمني. ثانيًا هي عملت كده و هي مرتبطة بيا و كانت مكملة و فاكرة إنها شاطرة و بتعرف تخدعني. فكان لازم أخد حقي منها. لأني ماتعودتش أسيب حقي.. لو كانت جت و صارحتني بعملتها حتى لو قبل كتب الكتاب بساعة. عمري ما كنت هأذيها و كنا هاننفصل بشياكة. كنت هقول دي إنسانة صريحة على الأقل.. لكن مشكلتها معايا إنها حبت تلعب على الحبلين. من جهة تكون مع الشخص إللي بتحبه. و من جهة تتجوز واحد تاني مناسب لوضعها و مستواها. بس أنا مش مركب آرابل قدامك طبعًا و أكيد شكلي مايديش إني ممكن أسمح بـ××××× زي كده !


-بس إتجوزتني ! .. قالتها و هي ترمقه بتحدٍ


-إتجوزتتي رغم إنك عارف إني كنت على علاقة بعمك.. و غير عمك كمان. يعني يمكن أنا بالنسبة لك أسوأ من چيچي.. مش شايف نفسك متناقض أوي يا عثمان ؟!


كان مغمضًا عيناه بشدة بينما تلقي هذه الكلمات على مسامعه... إنتظر حتى تأكد بأنه تجاوزها كلها، ثم باعد بين جفونه و نظر إليها قائلًا بصوتٍ حاد :


-فيكي شوية من أختك يا نانسي.. تفكيركو واحد تقريبًا. إنتي كمان فاكرة إنك علمتي عليا.. بصي يابنتي. و إسمحيلي أقولك يابنتي لأن فرق السن بينا مش صغير أبدًا.. إنتي جايز. لأ أكيد ×××××× زي ما إنتي عارفة نفسك كويس و بتحاولي تأكديلي على المعلومة دي كل شوية. و كوني إتجوزتك مايعبنيش. طبعًا بتسمعي كتير عن رجال أعمال و مشاهير بيتجوزوا ستات أغلبهم سمعتهم مش تمام. بس لفترات. و لغرض المتعة و بيبقى زي عقد كده. شوية و بينتهي و كل واحد بيروح لحاله.. إنتي ممكن تعتبري جوازنا كده يا نانسي. بس لازم بردو تصدقي إن الناس هايشوفوه كده.. دي نصيحة مني. إنتي يابنتي لسا صغيرة. شوفتي كتير و فعلًا صعبانة عليا.. حرقة دم زيادة مش حلوة عشانك. ياريت تفكري في كلامي كويس و تعقلي !


أنهى كلامه و ختمه بابتسامة معابثة، ثم أخذ يقترب منها وئيدًا.. إنحنى بجزعه صوبها ليقبل رأسها قبلة أبوية محضة و هو يغمغم :


-يلا أنا خارج دلوقتي. خدي راحتك بقى. البيت بيتك ! .. و غمزها بعينه


ثم ولّى مغادرًا دون أن يخفى عليه الانطباع و الأثر الصادم الذي سببه لها بكلماته.. على كل حال... هو لم يتفوّه سوى بالحقائق.. لا بد أنها تدرك ذلك بطريقةٍ ما، لكنه يتفهم بأن سماعه منه مختلفًا و صادمًا كما شعرته للتو بالضبط ....


كان يقطع الردهة الطويلة الواصلة بين الطابق السفلي _ الذي قرر أن تسكن "نانسي" أحد غرفه بعيدًا عن عائلته _ و بين الدرج المؤدي للعلية... كان سيصعد.. لولا أن لمح في طريقه من خلال واجهة البهو الداخلي المصنوعة من الزجاج الشفاف.. غريبًا !


رجلًا غريب.. يقف هناك وسط حديقة المنزل أمام زوجته و أمه... زوجته... "سمر" أيراها بوضوح أم يختلط عليه الأمر... لقد كانت من دون حجابها.. بل.. و كان جسمها نصف مكشوفًا !!!!


لم يشعر "عثمان" تاليًا بنفسه إلا و هو ينطلق مسرعًا باتجاههم... كان يركض فعليًا و الدماء تندفع حارة من قلبه المشتعل إلى شرايينه لتسبغ الحمرة على جلده.. و إزداد الأمر سوءًا عندما أصبح قريبًا و صار بامكانه رؤيتها بوضوح... الآن لم يكن لديه ذرة شك.. كانت بالفعل سافرة.. متبرجة أمام رجلًا غريب ....


-سـمــــــــــــــــر !!!!!!


صيحته العنيفة هبطت عليهم كالصاعقة.. بإستثناء الرجل الذي لم يهتم بالتعرف إليه حاليًا... و كانت السيدة "فريال" أشد خوفًا من "سمر" إزاء شكله الخطير


تصرفت عفويًا و مدت يديها آخذة الصغير "يحيى" من بين يديها، بينما تحوّل لون "سمر" إلى الصفرة الفاقعة من شدة رعبها خاصةً حين أقبل عليها زوجها مزيحًا يد الرجل التي امتدت تلقائيًا لمصافحته ...


مد يده و إنتزعها من مكانها بعنفٍ شديد، جرها من ذراعها على الفور أمامه محاولًا مداراتها قدر المستطاع.. توجه بها نحو المنزل في إثرهما نظرات كلًا من "فريال" و "نبيل"


حتى إختفيا عن الأنظار.. عاود "نبيل " النظر إلى مضيفته عاقد الحاجبين... فلم يسع "فريال" إلا التبسم له و التصرف بأقل قدر من الارتباك و هي تدعوه أخيرًا للجلوس :


-إتفضل يا نبيل.. إتفضل أقعد !


_______________


أطلقت "سمر" زفرة متألمة مع تزايد ضغط قبضته حول كفها، لكنها تحمّلت لإدراكها الخطأ الجسيم الذي وقعت فيه و تركته يأسر أناملها بين أصابعه القاسية إلى أن ترى مآل هذا الموقف الأسود ...


لتجده يدفع بها فجأة داخل إحدى غرف الطابق السفلي، صرخت متآوهة فقط عندما ارتطمت بمنضدة ضخمة وضعت في ترتيب غريب لديكور الغرفة


إستدارت نحوه على الفور و هي تلصق ظهرها بألواح الخشب المصقولة، و حاولت جاهدة إخفاء اضطرابها و خوفها منه و هي تصيح :


-إيه الهمجية إللي إنت فيها دي ؟ إنت فاكرني بهيمة عشان تسحبني بالشكل ده لحد هنا ؟ ناقص تعمل إيه تاني.. هاتمد إيدك عليا بقى !!!


-دي أقل حاجة ممكن أعملها دلوقتي !


صدمها رده و أصابها هلع لمرآى إهتزاز جسمه القوي من شدة الغضب.. بينما ينظر إليها بوحشية و حشرجة الهيجان ترتفع بصدره و تدفعه للنطق بشراسة مخيفة :


-يا مدام.. يا محترمة.. يا مـحـجـبــة !!!


قفزت في مكانها مذعورة عندما نطق كلمته الأخيرة بكل هذا الانفعال، بينما يستطرد و هو يشير بسبابته إلى فستانها الرقيق الذي يكشف عن ذراعيها و ساقيها :


-تظهري كده قدام راجل غريب ؟؟؟


تغلّبت "سمر" على خوفها من تحوّله المتفاقم من سيئ لأسوأ و هي تقول بلهجة بها نبرة ارتباك :


-ماكنتش أعرف.. أنا كنت قاعدة مع مامتك. فجأة هو إللي ظهر ماعرفش إزاي.. أنا في كل الأحوال مش هستناك إنت تعدل عليا حاجات زي دي إنت عارفني و عارف مبادئي كويس !


حبست أنفاسها حين لاحظت توقف صوت الهيجان بصدره، ظنت لوهلة بأن غضبه ربما يتلاش الآن.. لكنه خيّب ظنها باللحظة التالية عندما قال من بين أسنانه و قد زادت ارتجافة جسمه :


-عذر أقبح من ذنب.. كمان بتظهري كده و إنتي عارفة إن إبن عمي عايش في البيت ده و بيروح و يجي في أي وقت... تصدقي إنك هاتزعلي مني بجد المرة دي !!!


و لم تفطن تمامًا إلى نيته إلا حين رأته يهم بالانقضاض عليها.. شهقت برعب و هي تسارع بالفرار من فورها... لكنه ما لبث أن لحق بها لحظة وصولها لباب الغرفة، فلوى يدها قبل أن تحط على المقبض و شدّ شعرها بعنف دفعها للإنفجار بالبكاء من الألم و قد صارت غير قادرة على الحراك أو الصراخ !!!


خرج صوتها ذي النبرات الجريحة مفزوعًا فجأة قبل أن يفكر "عثمان" بالانتقال لأيّ خطوة تالية :


-لأاااا.. لأ يا عثمان أرجوك... ماتعملش فيا كده تاني. أرجووك. عشان خاطري ماتعملهاش !


على الفور جمد كفه المرفوع بالهواء عند نطقها بذلك... ليضم قبضته لحظة إدراكه قصدها تمامًا


لا يعلم كيف أفلح بالسيطرة على نفسه... لكنه فعلها الآن.. حررها فجأة و هو يدفعها بعيدًا عنه بقوة صائحًا :


-إبعدي عني.. إخرجي بـرا. بــــراااااااااااا !!!


لم يكررها للمرة الثالثة... فقد إندفعت للخارج بنفس اللحظة.. بالكاد صفقت باب الغرفة خلفها و إستندت إليه لتلتقط انفاسها الضائعة.. لكنها عوض ذلك تصطدم برؤية تلك الفتاة بالخارج أمامها مباشرةً


لم ترها جيدًا بسبب الدموع التي ملأت عينيها و أغرقت وجهها، لكن النظرة التي وجهتها إليها أنبأتها بمن تكون.. و كأن تلك التي مثلت الدفعة الأخيرة لفقدان أعصابها على الأخير


إنفجر نشيجها، علا صوت نحيبها أكثر و هي تفر من أمام هذه أيضًا متوجهة إلى الملاذ الوحيد لها بهذا البيت، غرفة هي كل ما لها، الملاذ الذي بامكانها أن تنهار و تترك العنان لنفسها فيه كما يحلو لها


يا للسخرية... لقد صارت سمتها الضعف حقًا، و الضعف فقط كما هو عهدها دائمًا !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! ....................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ...

تعليقات

التنقل السريع