القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية سل الغرام كامله من بارت 26 حتي بارت 30 بقلم الكاتبه مريم غريب

 ( 26 )


_ دعوة ! _


للمرة الثانية يتهرب منها بشقَّ الأنفس... لا يجرؤ على مواجهتها بالحقائق.. و في نفس الوقت لا يتحمل أن يقسو عليها هكذا.. لقد كابدت معه الكثير.. أو بمعنى أصح كابدت بسببه الكثير


لقد بدأ يشعر بالفعل بأنه غدار كما وصفته.. فما الذي يمكن أن يكونه بعد ما فعله بها ؟ أخذها إلى الجنة.. و منحها أجمل الأيام و الليالي الرومانسية الحميمية..أمطرها بعاطفته الرجولية الحادة اللذيذة.. ثم فجأة و بدون سابق إنذار سحب البساط من تحت قدميها.. لتهوى إلى الأرض بمنتهى القسوة و تنكسر


أجل.. لقد كسرها مرةً أخرى... يعترف بذلك.. و يعرف أنه بصدد خسارتها إن لم يفصح لها عن كل شيء.. رغم أنه ليس واثقًا إذا كانت ستتقبل قراره لو عرفت القصة كلها.. لا يريد أن يغامر بشيء.. و أيضًا لا يمكن أن يسمح لها بالتخلّي عنه... ليست هي فقط التي تحبه.. هو يحبها.. بل يعشقها بجنون و كأن العالم خلى من النساء و الحسناوات فلم تبقى إلا هي !


لا بد أن يجد حلًا.. لا يستطيع أن يتركها حزينة و كسيرة... لعله لم يكن متأكدًا من صدق مشاعرها تجاهه طوال تلك السنوات الثلاثة المنصرمة.. لكنها قد أعترفت له للتو في زلة غضب بأنها أحبته حقًا بملء جوارحها... إذن لا ينبغي أن يفرط في هذا الحب.. لا يتعيّن أن تكرهه بعد كل ذلك ....


كان "عثمان" في طريقه للعودة إلى غرفة أمه بعد أن ترك زوجته في حالة يرثى لها.. لكنه لم يكد يقطع نصف المسافة.. ليستوقفه صوت الخادمة فجأة :


-عثمان بيه !


إلتفت "عثمان" نحو الصوت هاتفًا بكل ما فيه من حنقٍ :


-نعم ! خير ؟!!!


لوهلة ارتعبت الخادمة الشابة من ردة فعله، لكنها بلغته في الأخير و هي تتراجع قليلًا مطرقة الرأس :


-الأمن بيسأل حضرتك. في ضيف مستني برا على البوابة يدخلوه و لا لأ ؟


عثمان عابسًا : ضيف ! ضيف مين ؟ إسمه إيه ؟؟


-قال إسمه أدهم.. أدهم عمران !


-أدهم عمران ! .. تمتم "عثمان" مكررًا الاسم و هو يحاول أن يتذكر أين سمع به


لتنفرج قسماته المتقلصة بعد لحظة واحدة و هو يهتف :


-آه أدهم عمران.. إبن عم مراد. خليهم يدخلوه طبعًا. بسرعة


-يا بيه هو طالب يشوف حضرتك برا على البوابة.. بيقول مش هايقدر يدخل


عادت ملامحه تعبس من جديد و هو يغمغم لنفسه :


-إيه ده ! إيه حكاية ده كمان !!


و لم يمكث محله طويلًا، تجاوز الخادمة نحو الدرج، هبط للأسفل بخفة و مشى مهرولًا صوب الخارج.. أستطاع أن يلمحه من بعيد، ذاك الرجل الحليم نبيل الأخلاق، حتى وجهه عبر تلك المسافة منيرًا بشوشًا يبث الطمأنينة و الراحة النفسية بالقلوب إلى أقصى الحدود


لقد حاز على تقدير و احترام "عثمان" لشخصه بالفعل، فهو رجل يأمنه المرء على حياته إن وصل الأمر دون أن يوجس منه طرفة عين ...


-دكتور أدهم ! .. هتف "عثمان" فور وصوله عند البوابة الرئيسية للقصر


أشار لأفراد الأمن ليفتحوها بسرعة و هو يقول مبتسمًا :


-أهلًا أهلًا يا دكتور.. خطوة عزيزة. نورت اسكندرية و جليم كلها


رد "أدهم" الابتسامة و هو يقول بصوته العميق :


-أهلًا بيك يا أستاذ عثمان. متشكر أوي الله يعزك إنت. اسكندرية منورة بأهلها و الله !


كان "عثمان" يشمله بنظرة فاحصة سريعة، اطمئن عندما رآى مزاجه المعتدل و ملابسه العصرية الأنيقة المؤلفة من سروال من القطن الثقيل و كنزة صوفية بيضاء أضفت عليه بهاءًا و فخامة أكثر... على الأقل فطن من ابتسامته بأن صديقه بخير، و أن تلك الزيارة حميدة.. كما يرى ...


-لأ حقيقي شرفتني مفاجأة حلوة أوي ! .. قالها "عثمان" عند زوال الحائل المعدني بينهما


أقبل عليه و صافحه بحرارة، بينما يقول "أدهم" بلطف :


-ألف شكر.. أنا سعيد إنك بخير و أحوالك تمام إن شاء الله


-الحمدلله !.. ثم تنحى "عثمان" قليلًا و هو يحثه :


-إتفضل طيب يا دكتور أدهم.. ماينفعش تفضل واقف على الباب كده


-لا و الله يا أستاذ عثمان مش هقدر. أنا بس كنت بقضي أجازة هنا بقالي إسبوع و مروح ف قلت أعدي عليك. أصل عندي خبر مهم أعتقد إنه يهمك


عثمان باهتمام : خير يا دكتور ؟!


أدهم بابتسامة : خير إن شاء الله.. صديق عمرك يا سيدي. مراد بيه عقد قرانه على أختي الكبيرة كمان اسبوعين. قلت مايصحش ماتبقاش جمبه حتى لو هو مش بيتواصل معاك في الفترة الأخيرة دي


دهش "عثمان" كليًا و هو يقول :


-مراد ! مراد هايتجوز ؟!


أوما "أدهم" له :


-أيوة يا سيدي هايتجوز. بعد فترة قصيرة قعدها معانا نشأت روابط الإعجاب بينه و بين إيمان أختي و قرر يخطبها. بس لأن أنا مش بعترف بالخطوبة و لا فترات التعارف صممت على كتاب الكتاب أول ما جه يطلبها مني و سمعت موافقتها هي كمان. أعمل إيه بقى قفل و متعصب زي ما بيقولوا


و ضحك بخفة، ثم استطرد بجدية :


-أنا عارف إن العلاقات بينكوا بقت حساسة. لكن إللي شجعني أجيلك و أطلب منك طلب زي ده لما حسيت من كلامي معاه إنه لسا باقي عليك و مش حابب يخسرك.. خدها عليا كلمة مراد بيعتبرك أكتر من أخ يا أستاذ عثمان


تشكلت الابتسامة على ثغر "عثمان" شيئًا فشيء، ليقول تاليًا بلهجة أكثر إلحاحًا :


-طيب إتفضل أدخل يا دكتور. ما هو أنا مش هاسيبك تمشي كده إستحالة.. على الأقل تتغدا عندنا و تاخد الواجب التمام. إنت أكيد ما سألتش مراد عن بيت البحيري !


قهقه "أدهم" قائلًا :


-لا و الله منغير ما أسأله بيشكر فيكوا و بيقول عليكوا عيلته التانية.. بس أعذرني فعلًا مش هقدر. أصل معايا مراتي و ولادي !


و أشار للوراء حيث سيارته الكبيرة التي كنفت بداخلها زوجته و ثلاث ذكور توائم هم أطفاله ...


ألقى "عثمان" نظرة مستطلعة صغيرة حيث أشار، لكنه عاود النظر إليه و أصر قائلًا :


-يا دكتور أهلًا بيك و بمراتك و ولادك في إيه حد قالك إننا بخلا ؟ أنا ماليش دعوة حضرتك هاتروح تجيبهم و هاتدخلوا و مش هاتمشي قبل ما تتغدا


كاد "أدهم" يفتح فمه ليعترض مجددًا، فاستبقه "عثمان" و هو يقول بصرامة :


-ده أخر كلام عندي و مش هاتنازل عنه !


__________________


في مركز التحاليل الشهير، و الذي لا يبعد كثيرًا عن محل اقامتها الجديد.. أنهت "هالة" كافة الفحوصات الطبية، و تم أخذ عيّنات الدم منها، ثم أودعت استمارة بأسمها على أن تحضر الأسبوع المقبل لتستلم النتائج


كان "فادي" إلى جوارها، في كل خطوة لم يتركها أبدًا.. حتى خرجا معًا من البناية الشاهقة، همّ "فادي" باخراج هاتفه ليطلب سيارة تقلهما إلى المنزل


لكن "هالة" أمسكت بيده فجأة قائلة :


-لأ يا فادي.. بليز ماتطلبش عربيات. أنا زهقانة و عاوزة أتمشى لحد البيت. ممكن ؟


ابتسم "فادي" لها و قال :


-ممكن طبعًا !


و مد يده السليمة لها.. بادلته الابتسامة و مدت يدها فورًا لتشبك أصابعها بأصابعه... أخذها "فادي" متجهًا بها نحو الكورنيش، حيث العراء التام و البحر يحاصرهما، و هواء شمس تموز الدافئة بصورة نادرة في هذه المدينة خلال هذا الوقت من العام.. بدا "فادي" سعيدًا و هو يرى ابتسامتها تنير وجهها الجميل هكذا


لا يمكن أن يكون أحدًا أكثر سعادة منه أصلًا، و كأن الله يعوضه.. إذ وقعت المعجزة و غرقت "هالة" بحبه.. و أيضًا صارت تنفذ كل طلباته و أوامره دون أن شكوى أو تذمرٍ أو حتى تكبر كما كانت في بادئ علاقتهما


ثيابها المحتشمة، و وجهها الخالِ من مساحيق التجميل، و التهذيب الذي لقنّها إياه.. لم تنحرف عن شيء واحد مِمّ قال، لقد صارت كما تمنى أن تكون تمامًا، لا ينقصها سوى الحجاب لتكون ملكًا له بالكامل، له وحده من دون الناس... لكنه لا يريد أن يقفز بها تلك القفزة الكبيرة الآن.. فهي أمست امرأة مطيعة و محببة.. لا يريد أن ينفَّرها منه بعد كل ذلك.. لا يريد أن يعودا إلى نقطة الصفر من جديد


إنها تجتهد لتكسب رضاه، و لتبقَ على هذا النحو، كل شيء سيأتي تدريجيًا.. يكفيه هذا القدر من الطاعة و السعادة الآن، لا يجوز أن يطمع في المزيد فيخسر ما حصل عليه كله مرةً واحدة ...


-مش عارفة إنت ليه صممت نروح سنتر التحاليل ده ! .. قالتها "هالة" و هي تتناول من يده كأس المثلجات الذي أحضره لها من داخل أشهر متجر للحلوى بالمدينة


تأبطت ذراعه الاصطناعية حتى يتمكن هو من تناول كأسه بيده الأخرى، بينما يرد عليها بلهجة حازمة :


-الدكتور إللي جه كشف عليكي قال لازم تعملي تحاليل عشان نطمن. إنتي ماكنتيش حاسة بنفسك ؟ إنتي كنتي تعبانة أوي و نزفتي كتير أوي


-ما أنا قولتلك دي حاجة طبيعية لما بكون متوترة في الفترة دي بتحصلي. و الدكتور بردو قالك ممكن يكون النزف راجع للــMood إللي كنت فيه


نظر لها "فادي" و قال بصوت شديد اللهجة :


-و الله أنا ماتعودتش أسيب حاجة للاحتمالات. أنا ليا إللي شوفته بعيني. منظرك يوميها مش رايح من بالي و أنا مش هاستريح إلا لما أطمن عليكي


منحته "هالة" ابتسامتها الحلوة و هي تقول برقة :


-بتخاف عليا بجد يا فادي ؟!


لانت نبرات صوته و هو يقول مؤكدًا لها :


-طبعًا.. بخاف عليكي أومال هخاف على مين ؟؟


إزدادت "هالة" إلتصاقًا به و همست أمام وجهه بحرارة :


-بتحبني ؟


لولا أنهما يسيران وسط الناس لكان أجابها على هذا السؤال و برهن لها بطريقة من شأنها ألا تثير شكوكها أبدًا مرةً أخرى ...


لكنه اكتفى بإيماءة صغيرة و هو يشيح بنظراته عنها للأمام منتبهًا للطريق، و قال بنفس الوقت :


-بحبك يا هالة.. دي حقيقة مش عايزك تشكي فيها لحظة. إنتي أول و أخر حب في حياتي.. عمر ما في بنت قدرت تأثر عليا أو تشدني ليها زي ما عملتي إنتي. أنا من أول نظرة عرفت إني هاحبك مهما حاولت أقاوم المشاعر دي. كانت هاتغلبني.. و ده فعلًا إللي حصل و بيحصل كل مرة بتبقي جمبي. مابقدرش أبعدك أو أبعد عنك كتير. بقيتي جزء مني مش ممكن أستغنى عنك !


شعر برأسها تميل على كتفه، فعلت زاوية فمه بابتسامة مستكينة.. بينما تغمغم له و هي مشغولة بتناول قطعة المثلجات اللذيذة :


-طيب بمناسبة الكلام الحلو ده.. ممكن أطلب طلب كمان لو مش هضايقك ؟


فادي بحنان : طلبين ياستي مش طلب واحد.. أؤمريني !


-ممكن نروح إنهاردة القصر ؟ أنا نفسي أشوف ديالا أوي يا فادي. دي أول مرة أكون أنطي و بعدين إحنا من ساعة ماتجوزنا ماروحناش خالص. ف بالمرة نروح نشوفهم كلهم و نبارك لصافي و صالح على البيبي.. هه. قلت إيه ؟


صمت قصير.. ترقبت "هالة" خلاله غير واثقة... لتسمع صوت زوجها يقول فجأة :


-موافق.. بس بشرط !


رفعت رأسها عن كتفه لتتطلع إليه ...


-شرط إيه ؟


نظر لها من طرف عينه قائلًا :


-تقعدي تتفرجي معايا على الماتش قبل ما نروح.. و تشجعي بحب و حماس كمان


علّقت "هالة" على كلامه بضحكة قوية، ليزجرها فورًا و هو يقول :


-إيه ده صوتك يا هانم.. قولتلك ضحكتك دي ماتعلاش كده في الشارع. ماتبتسميش أصلًا طول ما إحنا ماشيين في الشارع


كبحت "هالة" ضحكتها على الفور و قالت :


-آسفة آسفة ماكنش قصدي.. أوكي يا فادي. هقعد أتفرج معاك على الماتش و هاشجع فريقك كمان رغم إني بشجع نادي تاني بس عشانك أعمل أي حاجة


عادت البسمة تغزو شفاهه من جديد، ليتنهد بعمق و يقول :


-تمام.. إتفقنا. بعد الماتش نروح نزور أهلك !


__________________


جلست الأسرة الصغيرة في ضيافة "عثمان البحيري".. إذ قبل "أدهم" دعوته تحت إصراره الشديد، فذهب و أحضر زوجته و أطفاله، و ها هم تقريبًا يملأون مقاعد الصالون الصغير المطل على الواجهة الوسطى لحديقة القصر المنيف


كانت الزوجة.. و هي تكون "سلاف" كما أشار لها "أدهم" خلال التعارف... كانت تجلس إلى جوار زوجها، لم يكن يبدو منها شيئًا إذ كانت منتقبة، و لم يحاول "عثمان" من الأساس التدقيق فيها و لو للحظة


لكن كان يرمق الصغار بنظرات اعجاب و لسانه لا ينفك عن الترديد :


-الله أكبر.. ما شاء الله.. ربنا يبارك فيهم و يخليهم ليك يا دكتور !


-الله يخليك يا أستاذ عثمان تسلم ! .. قالها "أدهم" بكياسته المعهودة


-هما آه توائم بس مش متطابقين.. أساميهم إيه قولتلي ؟


أجابه "أدهم" و هو يشير بالترتيب :


-آدم.. نور.. عبد الرحمن !


عثمان بابتسامة : ربنا يحفظهم. أنا كمان عندي يحيى بس أصغر شوية


-الله يباركلك فيه و يجعله من الصالحين. إن شاء الله تشوفه في أعلى المراتب


-آمين يارب !


لاحظ "عثمان" من جانب عينه حركات الزوجة العصبية التي تقوم بها خلسة من حينٍ لآخر، فلم يقاوم فضوله و نظر لها.. ليجدها توخز زوجها بكوعها بينما يحاول هو تهدئتها عبثًا ...


-هو في حاجة يا دكتور ؟! .. تساءل "عثمان" بريبة


نظر "أدهم" له و قال متحرجًا :


-لا أبدًا يا أستاذ عثمان مافيش. سلامتك


عثمان بقلق : أصلي حاسس إن المدام مش مرتاحة أو مضايقة من حاجة !


لم يكد "أدهم" يرد على كلماته، ليقفز فجأة صوت الزوجة الناعم بشيء من الحدة :


-بصراحة آه.. أنا مضايقة !!


-سلاف ! .. غمغم "أدهم" محذرًا


تدخل "عثمان" بلطفٍ :


-ثواني بس من فضلك يا دكتور.. شوفها مالها لو في حاجة نقدر نعملها !


قال "أدهم" محاكيًا لطف الأخير و لكن بطريقة لا تخلو من الحرج :


-مافيهاش حاجة و الله. هي بس طبعها كده.. أو بقت كده بسبب مواقف حصلت معانا في الماضي


عبس "عثمان" مرددًا :


-أنا مش فاهم قصدك !


تنهد "أدهم" و هو يرمق زوجته بنظرة معاتبة، ثم نظر إلى "عثمان" ثانيةً و قال :


-المدام يا سيدي بقت ارتيابية زيادة عن اللزوم من ناحية أي حاجة تخص الولاد. مش قادرة تنسى موقف حصل كده في أول جوازنا. أعمال و سحر و دجل و الكلام الفاضي د آ ا ..


-كلام فاضي !!! .. قاطعته "سلاف" هاتفة باستنكار


-دلوقتي بتقول كلام فاضي ؟ أومال ساعتها ماقولتش كده ليه ؟؟!!!


أطبق "أدهم" جفونه ضائقًا ذرعًا بما تغعله زوجته أمام الرجل الغريب عنهم، ليسارع "عثمان" إلى القول و قد فهم ما تعنيه كلماتهم :


-حصل خير يا دكتور.. مافيش حاجة يا مدام. اطمني. إنتي عندك حق طبعًا تخافي من الحسد و الحاجات دي خاصةً لو كان ليكي تجربة زي ما قال الدكتور..أنا عاذرك و الله و متفهم لأن أبويا الله يرحمه كان بيؤمن بالحسد جدًا لدرجة إنه كان بيخاف يبصلي أو يبص لأختي كتير و إحنا صغيرين. لكن صدقيني و الله أنا مش قصدي أحسد الولاد. أنا بس معجب بيهم أوي و غصب عني حابب أبصلهم. أول مرة أشوف توائم أكتر من إتنين. و لو نظراتي مضايقكي مش هابص خلاص


صدرت عنها نهدة مطوّلة، ثم انبعث صوتها أكثر لينًا من وراء حجاب وجهها القاتم :


-أنا آسفة لحضرتك.. مقصدش حاجة إنت والد طبعًا و مش هايبقى قصدك تحسد. بس أنا إللي بقيت حساسة من ناحيتهم زي ما قال أدهم. و الله مابقتش أخرج بيهم بقالي فترة طويلة لأنهم هما كمان حساسين و بيتعبوا بسرعة.. آسفة مرة تانية


عثمان مبتسمًا : و لا يهمك طبعًا.. و ربنا يحفظهملك و يخليكي ليهم


-اللهم آمين ! .. ثم رفعت رأسها ملقية نظرة شاملة حولهم و هي تقول :


-أومال فين مراتك يا أستاذ عثمان ؟ ياريت لو نتعرف عليها يعني و كمان سمعتك بتقول عندك ولد.. فرصة يقعد مع الولاد شوية و يلعبوا !


أجفل "عثمان" أمام عرضها هذا.. لبرهة جلس عاجزًا عن الرد... حتى أنقذه ذلك الصوت فجأة !!!!!!!!!!!!!!!!!! ............................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ...

( 27 )


_ لمن الغلبة ! _


رفعت رأسها ملقية نظرة شاملة حولهم و هي تقول :


-أومال فين مراتك يا أستاذ عثمان ؟ ياريت لو نتعرف عليها يعني و كمان سمعتك بتقول عندك ولد.. فرصة يقعد مع الولاد شوية و يلعبوا !


أجفل "عثمان" أمام عرضها هذا.. لبرهة جلس عاجزًا عن الرد... حتى أنقذه ذلك الصوت فجأة :


-مساء الخير حبيبي !!!


لم يكن مرتاحًا إلى الدرجة المرجوة.. فالصوت الذي سمعه في هذه اللحظة ليس لأحدٍ من شأنه أن يكون منقذًا له في هذا الوضع على الاطلاق.. بل العكس !


حاول "عثمان" أن يتماسك قدر استطاعته و هو يقوم من مكانه و يلتفت بهدوء ليواجه "نانسي" ...


-نانسي ! .. قالها "عثمان" بصوتٍ جاف و هو يرمقها بنظرة زاجرة


ابتسمت له بوداعة و كأن علائم غضبه الدفين لا تهمها في شيء... في الجهة الأخرى كان "أدهم" يغض من بصره محركًا شفاهه بعبارات الاستغفار الخافتة، فقد باغتته تلك السافرة و لم ينأى بنظراته بعيدًا عنها باللحظة المناسبة، لكنه يفعل الآن بينما زوجته على عكسه ...


انخرطت "سلاف" بالتفرس في تلك المرأة المتبرجة باصراف و التي لا تخلو ملابسها الفاضحة من الجرأة، لقد كانت مثلها تقريبًا فيمَ مضى، قبل أن تلتقي بزوجها و إبن عمتها.. لكنها أبدًا لم تصل إلى هذا الحد من الوقاحة في المظهر، كانت ترمقها باستنكار حقيقي، فستان أحمر لا يستر بقدر ما يكشف و زينة وجه صارخة في وضح النهار... أهذه زوجة مضيفهما حقًا !!!


-خير يا نانسي ؟ .. كانت لهجة "عثمان" تحذيرية أكثر منها متسوضحة


لكنها لم تأبه أيضًا، بل و نظرت نحو ضيوفه قائلة بصوتها الناعم :


-كل خير حبيبي.. مش تعرفني طيب على ضيوفك !


كان يعلم بأنها تستفزه.. أدرك هذا منذ رآها، لكنه آثر ألا يمنحها الفرصة خاصةً أمام ضيفيه، فأبتسم لها و يشير ناحية "أدهم" و زوجته قائلًا :


-ده دكتور أدهم عمران صديقي.. و دي مراته مدام سلاف. و دول ولادهم


-Hello ! .. هتفت "نانسي" ملوّحة بيدها


-Pleasure to meet you !


لم يرف لـ"أدهم" جفن أبدًا، بينما برز صوت "سلاف" مخاطبًا "عثمان" مباشرةً :


-هي دي مراتك يا أستاذ عثمان ؟ دي أم يحيى ؟!


همّ "عثمان" بالالتفات نحوها ليرد على السؤال، لكن "نانسي" قاطعته مسرعة و هي تميل مسندة ذقنها فوق كتفه :


-لأ يا مدام مش مراته.. أنا خطيبته. بس هاكون مراته قريب أوي. و أكيد حضرتكوا أول المعزومين على الفرح. مش كده يا قلبي !


كانت أعصابه على المحك الآن.. لكنه تمكن من اغتصاب ابتسامة صغيرة و هو يتوجه بالاعتذار من "أدهم" :


-دكتور أدهم أستأذنك بس أغيب دقيقتين. أنا آسف مش هتأخر و الله !


رد "أدهم" مشيرًا بيده دون أن يحاول التطلع إليه :


-إتفضل يا أستاذ عثمان. خد راحتك


عثمان بإيماءة قصيرة :


-متشكر أوي.. عن إذنكوا !


و تحرك من فوره متوجهًا إلى خارج الصالون و هو يجتذب "نانسي" خلفه من ذراعها بلا تحفظٍ ...


-ينفع إللي عملتيه ده يا سلاف ؟!! .. قال "أدهم" ذلك عندما اختفى مضيفهم بعيدًا


أدارت "سلاف" رأسها و نظرت له من خلال فتحتي النقاب و هي تقول بجفاف :


-عملت إيه يا أدهم ؟


أدهم عابسًا : لما تقولي للراجل بخاف من الحسد و بخاف على ولادي و و و.. هو ماله يا حبيبتي بالأمور دي ؟ 100 مرة أقولك إحنا متحصنين بالله و مش بنخطي خطوة بولادنا إلا بذكره. إنتي مش مؤمنة و لا إيه يا أم البنين ؟؟؟


سلاف بغلظة : بقولك إيه يا أدهم متحاولش معايا بطريقتك دي. إنت عارفني بتعامل إزاي مع الناس. لكن بصراحة الراجل ده أنا مش مستريحاله.. إنت شوفت البنت إللي جت دلوقتي و خدها الله أعلم على فين ؟!!


زفر "أدهم" بقوة مرددًا :


-أستغفر الله.. يا حبيبتي بلاش كلام يزعل ربنا منك. إنتي مش سمعتيها بودانك و هي بتقولك خطيبته ؟ و بعدين إحنا مالنا أساسًا دي خصوصيات و إنتي من الناس إللي مابتحبش حد يدخل في خصوصياتها.. و لا إيه ؟


صمتت "سلاف" و لم ترد عليه، بقيت تنظر إليه فقط.. فزم فمه مستنشقًا نفسًا عميقًا، ثم قال بلطفٍ :


-بصي يا حبيبتي. الراجل صاحب مراد و أكتر من أخوه. أنا جيت أعزمه على الفرح عشان مراد مايحسش إنه لوحده في اليوم ده.. يا سلاف الله يكرمك هما ساعتين زمن هانتغدا و هنمشي. مايصحش نزعل الناس مننا. إنتي عارفاني مابحبش أدخل بيوت حد و ماكنتش مخطط للظرف ده. بس اهو حصل غصب عني. هاناخد واجبنا و نروح.. خليكي هادية بالله عليكي بقى.. خلاص إتفقنا ؟


هزت "سلاف" رأسها بعدم رضا، ثم أشاحت عنه مصوّبة نظراتها نحو أطفالها ...


_________________


دفع "عثمان" بها داخل إحدى الغرف الخاصة بالطابق السفلي، ولج بعدها فورًا و أغلق الباب وراءه.. ثم استدار لها و هو يرتعش من قمة الغضب ...


مكث صامتًا للحظات، و تحرك فجأة تجاهها حيث قطع المسافة بينهما في خطوتين.. لم تهتز "نانسي" لاقترابه الشديد منها و لو لطرفة عين.. بل أنها رفعت وجهها حتى اختلطت أنفاسهما و قالت بصوتٍ هامس :


-وحشتني يا عثمان.. مع إنك سايبني قبل النهار ما يطلع بالظبط. يا خبر.. أومال لما نتجوز هاعمل إيه ؟ I think إني مش هاسيبك تبعد عني لحظة !


-إيه إللي جابك يا نانسي ؟؟ .. قالها "عثمان" بخشونة


دفعت "نانسي" بشعرها المسدل فوق عينيها للخلف و مالت صوبه مطوّقة خصره بذراعيها و هي تقول بغنج :


-ما قولتلك يا حبيبي. وحشتني.. و بعدين جيت أطمن على وضعي. إنت لسا ما أعلنتش خطوبتنا لأهلك و لا إيه ؟


أبعدها "عثمان" عنه بقسوة دون أن يؤذيها، ثم قال بفظاظة :


-وضع إيه إللي جاية تطمني عليه مش فاهم ؟ أنا مش سيبتك إمبارح و إحنا مسويين كل حاجة ؟ قولتلك زفت الجواز هايتم يوم الخميس.. قلت و لا ماقولتش ؟؟؟


أومأت "نانسي" قائلة بفتورٍ :


-قلت يا قلبي.. بس أنا فكرت إن أهلك محتاجين يشوفوني خلال الوقت ده كام مرة على الأقل يتعودوا عليا عشان نعرف نتعامل بسهولة مع بعض.. Specially مراتك. مش هاتبقى ضرتي ؟!


و كبتت ضحكة ساخرة ...


أغمض "عثمان" عيناه و تنفس بعمق ليهدئ نفسه، نظر لها ثانيةً و قال بصوت أجش :


-بصي.. مبدئيًا و عشان تبقي عارفة. مراتي بالذات خط أحمر. نصيحة مني.. إوعى تحاولي بس تحتكي بيها بأيّ شكل. لو حسيت بحاجة مش تمام. و إنتي فاهمة قصدي. شغل الضراير زي ما قولتي صدقيني مش هاكون متساهل معاكي أبدًا.. خليكي دايمًا فاكرة إنك إنتي إللي جيتي عليها. و إن لولا الظروف ماكنتيش هاتعتبي البيت ده و لا تتَّاوي تحت سقفه ليلة واحدة.. فاهمة ؟


كانت تسمتع إليه ببرودة أعصاب، لترد عليه فور انتهائه بنفس الاسلوب المستخف الواثق :


-أنا طبعًا فاهمة.. زي ما إنت فاهم بالظبط. فاهم أنا ماسكة استقرارك إللي فرحان بيه أوي إزاي و آ ا ...


أجفلت لثانية واحدة، عندما قاطعها ضاحكًا و هو يقول :


-تعرفي الممتع في اللعبة دي كلها إنك متخيلة نفسك بجد ماسكة حاجة على عيلتي. أو ماسكاني من إيدي إللي بتوجعني مثلًا !


ثم تحوّلت نظراته و لهجته معًا إلى درجة شديدة القتامة من الحدة :


-لأ يا شاطرة فوقي.. إنتي واقفة قصاد عثمان البحيري. و أظنك عارفة كويس مين عثمان البحيري و عمل إيه في أختك و ممكن يعمل فيكي إيه إنتي كمان. البؤ الحمضان إللي قولتيه بتاع إمبارح ده و لا يهز مني شعرة لعلمك. و الفيديو إللي معاكي لو عايزة ترفعيه من دلوقتي على الـPorn sites نفسها Go ahead يا بيبي. مايخصنيش أصلًا و مايمس إسمي أنا لو من بعيد حتى.. إن كنت وافقت على ابتزازك ليا و هاتجوزك زي ما طلبتي ف أنا مش هاعمل كده إلا عشان ولاد عمي بس. عشان صالح و هالة مايشوفوش أبوهم بعد العمر ده متورط في قرف مع واحدة قذرة زيك. و كمان عشان أجيب أخرك يا نانسي.. لأني واثق إن ده مش كل إللي رجعتي عشانه !


ظلت ترمقه بنظراتٍ خالية من التعبير لبضعة لحظات.. ثم أومأت برأسها مرارًا و هي تقول بجفاء :


-أوكي يا عثمان.. فهمتك. أنا ماشية دلوقتي و لما تجهز إبقى كلمني.. مستنياك.. باي !


و تجاوزته نحو الخارج بخطوات شبه مهرولة و كأنها تلوذ بالفرار... حقًا فرار !!!


استدار "عثمان" محدقًا في إثرها و الابتسامة تتراقص على محياه.. أخيرًا يبتسم من قلبه لأول مرة منذ وقعت تلك الكارثة، فقد كانت الغلبة له هذه المرة.. له وحده !!!!!!!!!!!!!!!!!!!! ............................................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ...


بعتذر لقصر الأحداث الليلة، بإذن الله الجزء التاني #للبارت هايكون أكبر، إنتظروه بكرة في نفس المعاد إن شاء الله 

( 28 )


_ مثل ملاك ! _


لم تجلس دقيقة واحدة منذ العودة إلى البيت.. كانت في حالة نشطة غريبة... ربما كانت مسرورة لأنها ستذهب لزيارة منزل عائلتها.. لعلها افتقدت الجميع هناك.. و لعلها أيضًا متلهفة لاستعراض علاقتها الزوجية السعيدة مع "فادي" أمام الجميع و خاصةً أمام "عثمان".. إبن عمها الذي قدمت له نفسها مرارًا على طبقٍ من ذهب، لكنه في كل مرة يأبى و يعرض عنها بقساوةٍ


في الحقيقة هو لم يعد يهمها.. و لا بأيّ حالٍ من الأحوال... أدركت هذا بعد كل الذي فعله بها، و الغدر الذي رأته منه و الخداع المبين.. لقد أعماها حبها إليه لذلك لم تستطع رؤية نواياه الحقيقية.. لكنه أصبح فصلًا من ماضيها.. فصلًا.. فصلًا لم تنهيه بعد... لكنها بصدد ذلك !!!


كانت "هالة" تباشر باعداد غرفة المعيشة بطريقة تناسب ذوق زوجها حتى يجلس مستمتعًا بمشاهدة المباراة المرتقبة، و أيضًا كانت تقوم بتحضير بعض المأكولات الخفيفة و المسليات ريثما يعود "فادي" من الخارج ...


لكنه تقريبًا قد عاد.. إذ هدر صوت جرس الباب في هذه اللحظة، لتترك "هالة" ما بيديها و تهرول ناحية الباب و هي تهتف :


-أيوة.. أيوة أيوة حبيبي جاية أهو ..


و فتحت مبتسمة ...


-بابي ! .. صاحت "هالة" متفاجئة


تشكلت الابتسامة على ثغرها مرةً أخرى و هي ترتمي بين أحضان أبيها قائلة :


-إيه المفاجأة الحلوة دي ؟ إنت عارف إن فادي كان هايجبني عندكوا إنهاردة ؟ بس إنت سبقتني و جيت عندي الأول.. مش مشكلة نمشي سوا كلنا


بدأت "هالة" تشعر بخطبٍ ما بوالدها، بالأخص عندما ظل صامتًا هكذا... إرتدت عنه للخلف قليلًا و قالت و هي ترمق وجهه الشاحب بقلق :


-بابي ! إنت كويس ؟ في حاجة حصلت ؟!!


و بالصدفة لمحت بطرف عينها تلك الحقيبة الكبيرة أسفل قدميه.. أخفضت "هالة" نظراتها لترى أخرى مثلها بالجانب الآخر و لكن أصغر حجمًا ...


-مافيش حاجة يا حبيبتي إطمني ! .. قالها "رفعت" لما لاحظ نظراتها و انقباض ملامحها


تطلعت "هالة" إليه، بينما يستطرد بابتسامة طبيعية :


-أنا بس مسافر إنهاردة. طالع على لندن ف قلت أجي أشوفك و أسلم عليكي قبل ما أروح المطار


عبست "هالة" بقلق أكبر و هي تسأله :


-مسافر ؟ مسافر ليه ؟ مسافر فجأة يا بابي.. ليه ؟؟!!!


رفعت بلطف : طيب تعالي ندخل و نتكلم جوا يا حبيبتي. أنا لسا قاعد معاكي شوية.. يدوب سلمت على أخوكي و مرات عمك و شوفتهم كلهم و بعدين أستأذنتهم. قولتلهم هاروح أقضي الوقت إللي باقي كله مع هالة.. إنتي عارفة غلاوتك عندي عاملة إزاي غير أي حد ..


و بالفعل ولجا معًا إلى الداخل، و نقل "رفعت" حقائبه بالمدخل بجوار الباب.. ثم مشى مع إبنته نحو الصالون المقابل، جلسا متلاقصين تقريبًا و قد جللت الصدمة معالم "هالة" إلى حدٍ ما.. و كأنها قد بوغتت بقسوة... مجددًا !!!


-إنت هاتسيبني و تمشي ؟ .. تساءلت "هالة" بآلية و هي ترنو لوالدها بنظراتٍ حديدية


مسح "رفعت" على رأسها بحنو و هو يقول :


-لأ طبعًا.. أنا عمري ما أسيبك. دي هي مجرد فسحة.. إيه يعني ؟ مش من حقي ؟ خصوصًا بعد ما بقيت لوحدي تقريبًا.. أخوكي إتجوز و خلف و بقى له حياته. و إنتي كمان إتجوزتي. و بكرة هايبقى عندك ولاد و هاتنشغلي بحياتك أكتر


هالة بغصة مريرة :


-أنا عمري ما أنشغل عنك.. إحنا طول عمرنا مع بعض يا بابي. عمري ما سيبتك. حتى لما كنت متجوزة مراد و سافرت معاه. ماكنتش بتسيبني و كنت علطول بتجيلي


إزدرد "رفعت" ريقه بتوتر و قال محاولًا الابتسام :


-ما أنا هاكون معاكي بردو. هابعتلك تجيلي إنتي و جوزك في الاجازات. انتي عارفة إنك ممكن تجيلي في أي وقت أصلًا.. نص ساعة بالطيارة ممكن تيجي تفطري معايا و ترجعي مع وقت رجوع جوزك من الشغل !


و ضحك بخفة ليروّح عنها هذا الضيق و العبوس، لكنه لم يفلح.. فأطلق نهدة عميقة من صدره و قال و هي يربت على يدها الملقاة بحجرها :


-هالة.. مش عايز أمشي و إنتي مضايقة. أنا قولتلك مسافر عشان أفصل شوية و أستجم.. الموضوع مش غريب يا حبيبتي. أنا طول عمري بسافر. ماقعدتش في بلدي أكتر ما قعدت برا


و هنا خانها تماسكها و فرت دمعة حارة من عينها و هي ترد عليه بصوتٍ متهدج :


-بس كنت معاك.. طول عمري و أنا معاك إنت. أنا ماشوفتش مامي و مش فاكرة شكلها و لا ريحتها حتى.. لكن فاكراك إنت. إنت بس يا بابي !


-أووف يا هالة أوووف !!! .. غمغم "رفعت" بنبرة معذبة


شدها لصدره و أطبق عليها بين أحضانه بقوة و هو يهدئها قائلًا :


-بس يا حبيبتي.. بليز بلاش عياط. أنا مافيش حد ممكن يوجع قلبي غيرك.. كل إللي بتمناه إن أشوفك كويسة و مبسوطة. أنا عملتلك كل حاجة. أو عملتلك كل إللي أقدر عليه.. نفسي ألاقي مردود تعبي عليكي السنين دي كلها. نفسي تثبتيلي إني ماضيعتش عمري عليكي في الهوا !


تنهدت "هالة" بحرارة فتشنج جسمها قليلًا.. ثم رفعت وجهها لتنظر إلى أبيها متمتمة و الدموع تسيل من عينيها الجميلتين :


-خلاص يا بابي.. سافر. سافر و إتفسح و عيش حياتك.. ماتشغلش بالك بيا


أمسك "رفعت" وجهها بين يديه و هو يقول بلهجة خفيضة مؤكدًا :


-إنتي أكتر حاجة ممكن تشغلني.. ماعنديش أغلى منك يا هالة. فاهمة و لا لأ ؟؟


حدقت فيه عبر نظراتها الكسيرة.. ابتسمت بسخرية واضحة.. فتزعزع ثبات أبيها للحظة... لينتبها معًا في اللحظة التالية إلى وصول "فادي" المفاجئ


ترك "رفعت" إبنته و إستدار قليلًا حين أغلق باب الشقة و رافقه صوت "فادي" المنشرح :


-الله ! رفعت بيه عندنا.. إيه المفاجأة الحلوة دي يا أهلًا و سهـ آ ا ..


و بتر عبارته.. عندما شاهد زوجته تجلس وراء أبيها و كأنها كفّت للتو من نوبة بكاء، إذ بدت منهارة للغاية ...


-هالة !!! .. هتف "فادي" و هو يلقي الأغراض التي كان يحملها في يديه فوق الطاولة بإهمال


مضى صوب زوجته و جلس على طرف المقعد المجاور لها و قال و هو يمد يده السليمة ليزيح خصلات شعرها المبعثرة عن وجهها :


-مالك يا حبيبتي ؟ إنتي كنتي بتعيطي ؟ إيه إللي حصل ؟؟؟


أتاه الرد من "رفعت" على الفور مطمئنًا :


-مافيش حاجة يابني.. هي كويسة ماتقلقش. أنا بس جيت أودعها قبل ما أسافر ف ماستحملتش. خصوصًا إن سفري جه فجأة. يدوب قررت من يومين و محدش كان يعرف إلا إنهاردة.. كده كده مابحبش لحظات الوداع. بس هالة وضع مختلف. طول عمري مش بتحرك في مكان إلا بيها عشان كده كان لازم أجي أشوفها. الله أعلم هانزل تاني بعد أد إيه !


كان "فادي" خلال استماعه لتفسير "رفعت" قد إنتقل إلى جوار زوجته، حيث صارت بينه و بين والدها.. أمال رأسها على صدره و أخذ يمسد على كتفها بحنان و هو يقول :


-خلاص يا هالة.. إهدي يا حبيبتي. عاملة كل ده عشان باباكي مسافر ؟ طيب ما أنا معاكي أهو. أنا عمري ما هاتحرك من جمبك و لا أروح أيّ مكان. و إللي إنتي عايزاه أنا هاعملهولك.. بس ماشوفكيش في الحالة دي أبدًا ..


كان "رفعت" يراقبهما مبتسمًا برضا... كما كان إطمئنانه عظيمًا.. فقد استطاع أن يرى رآىَ العين استقرار إبنته و محبة زوجها الواضحة.. في كل الأحوال هي فقط من كانت تشغل باله و الخوف يتملكه من ناحيتها


لكنه الآن صار مرتاحًا.. "فادي" سيعتني بها، و أخيها، و "عثمان" أيضًا إن لزم الأمر ...


_______________


كانت أمه هناك... عندما عاد رأها تجالس ضيوفه و قد كانت بمفردها دون أن تصحب معها طفله كالمعتاد.. لم يخفى عليه توترها الذي حاولت مدارابإبتسامتها الرقيقة


لكنه أقبل عليهم و هو يهتف بصوته العميق و في نفس الوقت محافظًا على ابتسامته الدبلوماسية المعهودة :


-كنت لسا هاعتذر عن الشوية إللي غيبتهم. بس خلاص طالما جيت و لاقيت فريال هانم بنفسها مكاني كأني كنت موجود و أكتر ..


و أضاف معرفًا حين وصل عند أمه و انحنى ليقبل رأسها :


-دي أمي يا دكتور. و أغلى حاجة في حياتي كلها.. و دول ضيوفنا يا فريال هانم. من طرف مراد


أومأت له "فريال" و هي تخصه وحده بنظرتها الصلدة القاسية :


-أيوة يا حبيبي عارفة.. لسا متعرفين حالًا و عرفت خبر جواز مراد بردو.. يا محاسن الصدف و الله. زي بعض دايمًا إنت و صاحبك من و إنتوا في التختة. و لا إيه يا عثمان ؟


فهم "عثمان" ما ترمي إليه جيدًا، لكنه تجاوز تلميحاتها و قال مشيرًا نحو ضيوفه :


-و أنا راجع وصيت الطباخين يحضروا أحسن غدا ممكن يتعمل عشان حد مهم و عزيز زي الدكتور أدهم و حرمه و أولاده.. بس تحت اشرافك هاكون مطمن أكتر يا فريال هانم


فريال بنعومة : ماتقلقش خالص يا حبيبي.. عندي. إطمن.. و كلنا هانكون موجودين طبعًا. ما عدا سمر. المسكينة تعبانة و مش هتقدر تسيب أوضتها.. و عمك رفعت كمان.. أظن ماعرفتش إنه قرر يسافر فجأة الليلة دي !


بقى "عثمان" هادئًا في مواجهة كلمات أمه التي لم تعمد إلا لإثارة حفيظته.. لكنه لطالما كان منيعًا ضد المثيرات بكافة أنواعها، فقابل كل تصرف و كل كلمة منها برحابة صدر و دون أن تهتز ابتسامته طرفة عين ...


-أستاذ عثمان !


للمرة الثانية ينقذه أحدهم من حوارًا بمثابة المأزق ...


إلتفت "عثمان" إلى صوت السيدة "سلاف".. كان زوجها ينظر إليها باهتمام لما تريد قوله تاليًا، بينما يرد عليها "عثمان" بتهذيبٍ :


-تحت أمرك يا مدام إتفضلي !


سلاف باسلوبها الواثق :


-ممكن أشوف أم يحيى.. فريال هانم قالت قبل ما حضرتك تيجي إنها مريضة. تسمحلي أزورها ؟


و هنا ارتبك "عثمان" لأول مرة طوال هذا اليوم، خاصةً عندما لاحظ زوجها يتململ في جلسته و كأنه يرغب بتوبيخها لطلبها لكنه لا يستطيع في وجودهم.. سمعها تكرر عليه نفس الطلب مرةً أخرى و بإلحاح أشد :


-زيارة المريض صدقة و واجب يا أستاذ عثمان.. أنا عايزة أشوف أم بحيى و أطمن عليها إذا سمحت !


في وضع نادرٍ كهذا، لم يعرف "عثمان" كيف يتصرف.. فنظر إلى أمه مستجديًا منها مساعدة أو حتى الرد نيابة عنه... لكنها و بمنتهى البرود و الهدوء أشاحت عنه و قامت و هي تقول ببشاشة :


-عن أذنكم.. هاروح أشوف أخبار المطبخ بس. مش هتأخر !


_____________________


مرّ الوقت.. قليلًا ...


حتى و لو كان مروره ثقيلًا.. حتى و لو كان كالكابوس، منذ متى لم تكن حياتها كلها كالكابوس ؟ لقد عاشت في مأساة طوال عمرها، لم ترى يومًا هنيئًا.. إلا معه هو.. لسخرية القدر كانت أجمل أيام حياتها تلك التي عاشتها معه


و لكن لماذا ؟ هل لأنه ثريًا ؟ لأنه ذا سطوة و نفوذ ؟ لأنه يملك الدنيا و بامكانه تحقيق أحلامها قاطبةً و المستحيلة منها أيضًا ؟ .. هل أحبته من أجل أمواله حقًا كما صرح لها ذات مرة في إحدى المشاجرات بينهما خلال فترة ما بعد حادث أخيها مباشرةً !


إنها لا تعلم مدى صحة إدعائه هذا.. لعلها كانت تراه طوق نجاة لها و لأخويها، مرساة تنقذها من دوامة الفقر و الذِلة التي كادت تغرق فيها و تهلك قبل أن تراه و يسجلها بقائمته.. على رأس أولوياته


صحيح أنها لم تغرق بفعل الفقر، إذ نجح فعلًا بإنتشالها منه هي أخويها و رفعهم جميعًا إلى مستوى لم تكن تجرؤ على الحلم به لنفسها فقط.. لكنه أيضًا نجح و بجدارة في أن يجعلها تغرق بمحض إرادتها بمستنقع آخر، كانت تظنه حتى وقت قريب جدولًا عذبًا من الغرام و العشق.. إلى أن أفاقت متأخرًا و اكتشفت بأنه لم يكن سوى خداع.. مرارة و غدر أهلكت فيهم نفسها بنفسها عن جهالة


و لكن هل فات الأوان ؟ هل فقدت ذاتها و أصبحت دميته التي يروق له أن يلهو بها ساعة يشاء ؟ .. يا لروعة الوصف


إنها حقًا كالدمية.. منذ تعرفت عليه... اشتراها أولًا، ثم بدأ يفعل بها كل ما يشتهي.. يكسوها و يعريها.. يزينها و يشوهها... و في الأخير.. ها هو قد كسرها.. مع أنها ليست المرة الأولى.. فمتى إذن.. متى سيُلقي بها بالنفاية ؟ أو يدعس عليها بقدميه و يمر فوق حطامها ناسيًا أمرها إلى الأبد ؟ ما الذي ينتظره ليقدم على تلك الخطوة النهائية ؟ لقد مضى وقت طويل بالنسبة لرجل سريع الملل مثله !!!


كانت "سمر" لا تزال على حالها منذ تركها زوجها بالغرفة ...


كانت لا تزال تفترش الأرض بجسمها المتكور، كانت في أقصى حالات ضعفها، ضعفها الذي لطالما أجاد إستغلاله ضدها جيدًا.. و الذي لم تعد تأبه إذا رآه عليها الآن


لا مزيد من التظاهر بالقوة أو ما شابه.. لقد خسرت كل شيء، حتى ابنها، لا تملك فيه شعرة، رغم أنها أمه التي حملته و ولدته... لكن كونه إبن "عثمان البحيري" لا يعطي لأحدٍ غيره و عائلته امتيازات عليه حتى و لو كانت هي !


من مكانها... إلتقطت "سمر" صوت صرير خفيف لباب الغرفة، لكنها لم تعير ذلك أدنى اهتمام و قد اعتقدت بأن أيًّما كان الذي دخل عليها الآن سيتسبب في جلبة لمرآها هكذا


لكن لا شيء.. لم يحدث أيّ شيء، و بقت الأجواء هادئة ...


حتى شعرت فجأة بظل كبير يميل صوبها، و بكفٍ رقيقة تحط فوق كتفها... كانت موقنة بأن هذا الذي يصير معها.. كل هذا اللين و الدفء المفاجئ لا يمت لعائلة "البحيري" بصلة


لذلك دفعها فضولها للاستدارة و إلقاء نظرة مستطلعة ...


تفاجأت حين رأت هذا السواد، و ربما انقبض قلبها لوهلة.. لكنها ما لبثت أن اطمئنت عند رؤية ذلك البريق الفيروزي اللامع عبر فتحتي حجاب الوجه المسدل فوق رأس تلك المرأة الغريبة !!!


ثوانٍ و وجدت "سمر" لسانها ينطق من تلقاء حاله :


-إنتي مين ؟!


كان صوتها بالكاد يخرج واضحًا لشدة الدموع الحبيسة التي زاحمته بداخلها ..


في هذه اللحظة ارتفعت يد المرأة، لتكشف عن وجهها الأشبه بقرص البدر المنير.. ابتسمت لها بوداعة و قد بدت لها مثل الملاك، دون أدنى مبالغة ...


-أنا سلاف ! .. قالتها المرأة بصوتها العذب و هي تمد يديها لتساعدها على القيام


و بالفعل... عاونتها باصرار حتى وضعتها في سريرها و هي تربت عليها متمتمة بلطفٍ :


-ألف سلامة عليكي يا أختي.. ربنا يكشفه عنك إن كان ضر أو ضيق.. أنا عارفة إللي في صدرك و تعبك يبقى إيه. بس إنتي أده يا أم يحيى !


نظرت لها "سمر" عندما نادتها بتلك الكُنية بالذات ...


-قولتي إيه ؟!! .. رددت "سمر" مقطبة بشدة و عيناها تلتمعان بالدموع


خلعت "سلاف" قفازها السنيك و مسحت على رأسها بالبسملة، ثم قالت بابتسامتها اللطيفة المهدئة :


-قلت يا أم يحيى.. مش ده إسم إبنك ؟ ربنا يجعله قرة عين و بار لأمه. و يحفظه و يبارك لك فيه و يجعله من أهل الصلاح و التقوى.. قولي أمين يا أم يحيى ..


كل الكبت الذي مارسته على نفسها خلال تلك الساعات المنصرمة، جاءت هذه و بكبسة زر أبطلته... ليفلت ثباتها و تتحرر الدموع من مآقيها، فتنهار رامية بنفسها بين ذراعي تلك الغريبة و هي تجهش بالبكاء


بكاء كثير و حار... خالت بأنه لن ينتهي أبدًا، و مع ذلك لم تتخلى عنها الأخيرة و بقيت إلى جوارهة تؤازها... و كأنها ملاكًا بحق.. ملاكًا أرسلها الله إليها في هذا اليوم و هذه الساعة بتدابيره و حكمته العظيمة.. و كأنها مكلفة بابلاغها تلك الرسالة... التي لم يكن مفادها سوى التأكيد بأنها ليست وحيدة..و ليست بعزلاء كما ظنت أمام سطوة زوجها و سلطته... لطالما كانت هناك دائمًا قوى علية لا تقهر أبدًا تهتم لأمرها و ترعاها كما في كل الأوقات منذ وجدت على ظهر هذه الحياة.. حتى في ذلك الوقت الذي اعتقدت بأنه لا ناصر لها و لا مغيث من نوائب الدهر المدمرة.. لربما كان هذا إختبارًا و كان عليها أن تصبر قليلًا... و أيضًا ربما هذا كله تكفيرًا عن خطيئتها و جريرتها بحق نفسها.. ربما .... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! .................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ...

( 29 )


_ مشاعر ! _


بضعة أيام قليلة.. مرت هكذا ...


لكن في ظل تلك الظروف و الوقائع الصادمة كانت كالدهور.. لم يكن التعايش مع هذا الكم من القرارات المجحفة سهلًا.. على الإطلاق


إنما اضطر الجميع إلى تقبل الأمر الواقع و الحقيقة المقررة، بالرغم من صمت كبير العائلة مقامًا و ليس سنًا "عثمان البحيري".. بعد أن أعلن عن خبر زواجه و بعد العاصفة التي زعزعت استقرار منزل العائلة كله و هددت بالتفكك للبعض... هدأ كل شيء فجأة.. حتى الزوجة.. "سمر"... لم يُسمع لها حسًا البتة، كان كل شيء على ما يرام بشكل يثير الريبة، مارس الجميع حياتهم بشكل طبيعي بعد رحيل "رفعت" الذي ما كان بالخطب الجلل بالنسبة لأفراد العائلة، حيث كان دائم الهجرة و السياحة بالبلاد، كلهم تابعوا حياتهم الطبيعية، عدا "عثمان" و "سمر".. لم يكونا كذلك


بل كان كلٌ منهما على حدة منذ ذلك النهار... لم يقرب "عثمان" غرفة النوم أبدًا، و بدورها "سمر" لم تخرج من هناك، قرابة الثلاث أيام و هذا الوضع قائمًا، و الغريب أنه لم يتجاسر على إتخاذ أيّ خطوة للإقتراب منها، و كأنه خائفًا من مواجهتها مرةً أخرى ..


و لكن أليس هو الذي فعل كل ذلك ؟ و هو أيضًا الذي ألقى عليها الخبر المفجع الذي من شأنه أن يحطم قلب أيّ امرأة و يمزقه إلى أشلاء ؟ .. مِمّ يخاف إذن ؟ لقد رفعت المسكينة الراية البيضاء و أطبقت فاها و رضت بحكمه الظالم و القهر الذي فرضه عليها دون شرح أو مبرر واحد فقط !


ماذا تفعل و عمّا تتنازل هذه المرة ؟ .. لقد استنزفها بالكامل ...


_______________


تلك المواجهة الأخرى كان لا بد منها.. لم يكن بإمكانه أن يعرض عن الشرح لوالدته بالذات... رغم أن الشرح صعب حتى لها هي.. لكن لا مفر أمامه.. أساسًا لم تكن لتسمح له بإلمضي إلى تلك الخطوة الأخيرة دون أن تفهم


و هذا ما حدث ...


كان جناح أبويه يعج بصياح أمه الجهوري، بينما كان يقف هو أمام الشرفة العريضة أمام أشعة شمس الظهيرة، عاقدًا يديه خلف ظهره، يستمع إلى التوبيخ القاسٍ الذي أخذت تكيله له السيدة "فريال" دون أن يبدي ردة فعل


حتى أتمت عبارتها الأخيرة و هي تقترب منه و تقف خلفه مباشرةً تتوهج غضبًا :


-ما إنت لازم تعرف ده كويس.. أنا عمري ما هاسمحلك تروح و تعمل إللي إنت ناوي عليه ده منغير ما أفهم. لازم تقولي أسبابك يا عثمان !


أطبق "عثمان" جفنيه بشدة و هو يسحب نفسًا عميقًا مهدئًا أعصابه التي لا تنفك والدته عن استثارتها... ثم إلتفت نحوها ببطء و هو يقول بهدوء :


-نعم يا ماما !

أؤمريني.. عايزة تعرفي إيه بالظبط ؟!


فريال بحدة : هاتتجوز على مراتك ليه يا عثمان ؟ سمر عملت إيه تستاهل عليه تصرف زي ده منك ؟ فهمني من فضلك !!!


نظر "عثمان" لها و أجابها بنفس الهدوء :


-ماعملتش حاجة.. بس أنا مضطر


إنفعلت "فريال" من جديد :


-يعني إيه مضطر ؟ يعني إيه قولي ؟ إيه إللي يغصبك تتجوز على مراتك و كمان إللي هاتتجوزها أخت طليقتك ؟ ده كمان لسا سمر ماتعرفش المعلومة دي.. لو عرفتها هايحصل إيه ؟ إنت بتعمل كده ليـــه ؟ رد عليـــا ماتسبنيـش تايهـة و مصـدومـة فيـك كــده !!!


-عشان أنا السبب يا فريـال هـانـم !!!! .. صاح "عثمان" بعنف شديد و قد تصاعدت الدماء كلها إلى وجهه


تسمرت أمه بمكانها و هي تسأله مستنكرة :


-إنت السبب في إيه يا عثمان ؟ إتكلم و قولي.. إنت السبب في إيه ؟؟!!!


قال "عثمان" بخشونة و عيناه تعبران أخيرًا عن مكنون صدره الذي حرص منذ البادئ على إخفائه حتى عن نفسه :


-القلم جالي من حتة تانية آه.. عن طريق أقرب الناس ليا. لكن كان لازم يحصل.. لأني كنت أعمى. أعمى و ماكنتش هاشوف إلا بالطريقة دي يا ماما. أنا دمرت حياة ناس كتير و كلهم كانوا أضعف مني. حتى سمر.. في فترة كنت حاطتها تحت رجلي و دايس. منغير إحساس بالذنب. منعير ندم.. بس فوقت متأخر و رجعتها


عبست "فريال" قائلة :


-و أديك أهو هاتخسرها.. هاتخسرها للأبد عشان كلام أنا مش فاهمة منه أي حاجة !!

قلم إيه إللي جالك من أقرب الناس ليك ؟ و إيه علاقة نانسي الحداد باحساسك بالندم ؟ إنت عملت فيها إيه ؟ الفيديو بتاع أختها مش إنت إللي نشرته.. و بعدين ربنا أكيد له حكمة في كده. ربنا مش بيشيل ستره عن حد إلا إذا كان يستحق عقابه. لو فاكر إنك مذنب في حق چيچي و ممكن تعوضها سمعتها عن طريق جوازك من أختها تبقى غلطان. بالعكس.. الناس مش هاتفهم كده. و سمر عمرها ما هاتفهم كده. سمر لو عرفت أصلًا إن عروستك هي أخت طليقتك كل إللي هايجي في بالها حاجة واحدة بس.. عثمان للدرجة دي كان بيحب چيچي. عشان كده إتجوز أختها. عشان تفضل تفكره بيها.. إنت إزاي مش مستوعب تباعيات قرارك ده و تأثيره على أسرتك !!!


نظر "عثمان" إليها بعينين ضيقتين، ثم قال بعد برهة بصوت خالٍ من التعابير :


-أنا مش هاتجوز نانسي عن حاسس بالذنب تجاه چيچي.. أنا هاتجوز نانسي عشان نانسي. و إنتي أول و أخر واحدة تسمعي مني الكلام ده يا فريال هانم !


لم تقوَ "فريال" على الرد.. بقيت جامدة في مكانها، كانت مشدوهة لدرجة أنها لم تنفعل عند سماع عبارته الصادمة ...


لكنها ما لبثت أن عادت إلى الحياة و سألته بصوت أكثر هدوءًا :


-إنت معقول حبيتها ؟ حبيت نانسي ؟ طيب و سمر يا عثمان ؟!!!


قدح الغضب في داخله فجأة و من جديد.. لتجده يصيح في المقابل بغلظة كبيرة :


-سمر زي ما هي يا فريال هانم.. و لا مليون واحدة تاخد مكانها جوا قلبي. أنا مابحبش نانسي. قلبي لو كان ملك ست فهو ملك سمر و بس.. و جوازي من نانسي مجرد شكليات و بناءًا على رغبتها هي في الأصل


هزت "فريال" رأسها للجانبين و هي تقول :


-أنا.. أنا مش فاهمة حاجة. مش فاهمة أي حاجة آ ا ..


-يبقى ماتتعبيش نفسك ! .. هتف "عثمان" مقاطعًا بحزمٍ


-الجواز هايتم.. بس مافيش أي حاجة هاتتغير. كله هايفضل في مكانه


انبعثت أنفاسها لاهثة و هي تقول بلهجة أقرب إلى الانهيار :


-كله في مكانه إزاي ؟ سمر مش هاتسكت.. هاتمشي. المرة دي هاتمشي و هاتاخد يحيى معاها. أنا مقدرش أعيش منغير يحيى. مقدرش يا عثمان حرام عليك إللى بتعمله فينا !


و هطلت دموعها بغزارة شديدة ...


قطع "عثمان" المسافة بينهما في خطوة و ضم أمه إلى صدره، أخذ يمسح على رأسها بحنو و هو يتمتم بصرامة ليطمئنها :


-ماتخافيش يا ماما.. إوعى تخافي أو تقلقي. سمر مش هاتمشي. و محدش هاياخد يحيى منك.. أوعدك !


_______________


في منزل "فادي حفظي"... تقف "هالة" بغرفة المطبخ، أمام منضدة بجوار الموقد


كانت تباشر بتقطيع الخضروات فوق قطعة الرخام، بينما يعمل "فادي" ورائها و يساعدها بالمساهمة في اعداد صنفٍ من أصناف وجبة العشاء و هو يقول :


-بقالك كام يوم يعني مش بتطلبي مني نزور بيت أهلك يا هالة ؟ من ساعة ما باباكي سافر.. إنتي مش بتحبي تبقي هناك و هو مش موجود و لا إيه ؟!


تنهدت بثقل، ثم ردت و هي تُلقي بطبق الخضروات بقِدر الحساء الأبيض المغلي :


-لأ يا حبيبي مش الفكرة.. كل الحكاية بس إني شايفاك تعبان في شغلك و بترجع هلكان. مش بحب أتقل عليك بطلباتي !


كانت على دراية تامة بِما يدور بمنزل عائلتها، و نبأ زواج "عثمان" المزعوم.. كانت تعلم أن الغد ليلة عرسه، فقد أخبرها شقيقها.. و الغريب أنها استقبلت الخبر بردة فعل طبيعية للغاية، حتى عندما علمت بهوية الفتاة التي سيتزوجها... تفاجأت قليلًا، لكنها سرعان ما أدركت بسخرية بأن هذا هو "عثمان".. هذا إبن عمها... أيّ شيء متوقع منه خاصة أطواره و أساليبه الغدارة.. كل صفات مألوفة و فُصَّلت على قياسه


كان كل همها الآن ألا يصل شيء من هذا لـ"فادي".. على الأقل حتى يتم ما تريد... فها هي.. تقريبًا شارفت على نيل مرادها.. لم يتبقى الكثير !!!


-طيب ما أنا بكرة أجازة !


أفاقت على صوته في هذه اللحظة، فاستدارت ناحيته بينما يستطرد و هو يعد الأطباق و يغرف بعض الأطعمة :


-تعالي نروح بعد العشا شوية.. سمر و ملك وحشوني أوي. و بعدين أنا مش عارف قلقان على سمر ليه.. بقالي يومين بكلمها و صوتها مش عاجبني


تناولت "هالة" منشفة اليدين الصغيرة من أمامها و مسحت يديها بسرعة، ثم تركتها جانبًا و مضت صوب "فادي" قائلة بتظاهرٍ متقن :


-خير يا حبيبي.. إنت علطول قلقان كده ؟ أكيد مافيش حاجة. هي تلاقيها مشغولة بيحيى أو عثمان أو حتى ملك. إنت عارف مسؤولياتها بقت كتير مش زي الأول


مط "فادي" فمه للأسفل و هو يقول :


-مش عارف يا هالة.. أنا أصلي بحس بسمر أوي. دايمًا بعرفها من أقل حاجة. من صوتها. من وشها. أقل حركة بقدر أعرف منها هي مضايقة و لا كويسة


-حبيبي قولتلك ماتقلقش نفسك ! .. قالتها "هالة" و هي تقبض على كفه و تشد عليه بقوة، و أردفت بجدية :


-لو كان في حاجة كانت قالتلك.. مافيش أي سبب يخليها تخبي عنك. إنت أخوها و كل عيلتها. مين غيرك ممكن تحكيله و يسمعها ؟ ماتفكرش كده تاني. هي أكيد لو فيها حاجة هاتجري عليك أول واحد صدقني


كانت عبسة متململة قد تشكلت على جبينه و قد بدا أيضًا غير مرتاحًا.. لتهرع "هالة" إلى استخدام أكثر أسلحتها فتكًا بزوجها.. ألا و هو الدلال ...


فألقت بذراعيها حول عنقه و تعلقت به و هي تزيد إلتصاقًا بجسمه قائلة برقة بينما يتصلب كل عصب بأوصاله الآن تحت تأثير حرارتها :


-و بعدين تعالى هنا.. إنت عاوز تقضي ليلة أجازتك برا ؟ إذا كنت أنا بستنا الأيام دي بفارغ الصبر عشان بكون معاك أطول وقت. و لا إنت ابتديت تزهق مني ؟!


ابتسم "فادي" على الفور و قال و هو يشد ذراعه السليمة حولها :


-أنا أزهق بردو. و منك إنتي ؟ مستحيل ! .. و أضاف و هو يقبّل أنفها و شفتها العلية بتقربٍ مدروس :


-أنا ببقى قاعد في الشغل.. كل إللي شاغل بالي إمتى الساعات تعدي بسرعة.. عشان أرجع البيت و أشوفك بس... قولتلك يا هالة.. أنا مابقتش أقدر أبعدك عني.. و لا حتى أبعد !


-حبيبي ! .. غمغمت "هالة" و تستسلم لقبلته المتلهفة تاليًا


و بعد أن ضمنت استسلامه الكامل هو الآخر.. ابتعدت قليلًا و هي تقول بخبثٍ :


-يبقى نتعشا و نقضي الليل كله سوا. و بكرة بطوله بردو سوا.. عارف لو شوفتك اتحركت من جمبي هاعمل فيك إيه ؟!


ضحك "فادي" و أنفاسه الملتهبة تضرب بشرتها بحماسة و هو يقول :


-و أنا بعد كلمتك دي أقدر أفكر أسيبك لحظة أصلًا ؟ أنا معاكي أهو. مش متحرك خطوة منغيرك. لازق فيكي كده خلاص !


و ضحكا معًا، ضحكات ما لبثت أن خالتطها مشاعرهما المتأججة و طغت عليها.. إذ صحيح... هناك ثمة جزء منها يتوق له و لقربه بهذا الشكل... جزء تعجز كليًا عن مقاومته أو قمعه.. فلا ترى سوى القبول به و التعاطي معه.. تمامًا كما تفعل الآن !


_______________


بعد صراع طويل و شاق مع نفسه... أخيرًا يقرر "عثمان" الذهاب إليها.. أخيرًا يقدم على تلك الخطوة... يمضي لمواجهتها بعد مرور أيامٍ من الجفاء و الاختفاء خشية إلتقاء النظرات و التواجد بمفردهما داخل مساحة محدودة !!!


لكنه يفعلها الآن ...


و الحقيقة أنه دهش.. بالفعل... حين ولج لم يتوقع أن يرى هذا.. مرح و بهجة يشيعان داخل الغرفة بشكلٍ أذهله !


حيث طفله الذي تجاوز مرحلة الحبو و صار بإمكانه الوقوف و المشي على قدميه.. و "ملك".. تلك الطفلة التي ساهم بتربيتها بطريقةٍ ما بل و يكنّ لها محبة و غلاوة.. و زوجته ...


كان ثلاثتهم يركضون وراء بعض بفسحة دائرية تتوسط الجناح.. كانوا يلعبون كما يرى.. فـ"سمر" تعصب عينيها و تتظاهر بأنها على وشك القبض على طفلها أو أختها، و هؤلاء لا يسعهما إلا الركض هربًا منها و الضحك


و في غمرة اللعب... كان "عثمان" يقترب منهم على مهلٍ، و بدون أن تدرك "سمر" بأنه هنا، جاءت لتلتفت فجأة، اصطدمت به بقوة و كادت تسقط فوق ظهرها ..


لولا ذراعه التي امتدت بسرعة البرق و أمسكت برسغها و شدتها صوبه، لترتطم بصدره، و فورًا ترفع يدها لتزيل العصابة عن عينيها ...


حبس "عثمان" أنفاسه لوهلة، حين تشابكت أعينهما لأول مرة منذ ليالٍ طوال.. و آهٍ كم اشتاق لتلك العيون الخضراء الوساع،و تلك الرائحة التي تنبعث من جسمها صاعدة إلى أنفه... رائحة سائل الاستحمام المفضل لديها _ خوخ و فانيلا _ أيّ الخشونة و النعومة، الأنوثة و البراءة في آن


لطالما كانت بريئة و دائمًا ما يفضلها هكذا.. و لا يريد أن يغير فيها شعرة !


-عثمان !.. هتفت "سمر" متفاجئة


و كأن ظهوره أمامها الآن أخر ما توقعت حدوثه، فسارعت بالابتعاد عنه فورًا و هي تقول بلهجةٍ فاترة :


-أهلًا.. وشك و لا القمر. لسا فاكرني !


حمحم "عثمان" و هو يودع يديه بجيبي سرواله بانطباعٍ مسترخٍ، ثم قال بصوتٍ ثابت :


-أنا من إمتى نسيتك يا سمر ؟ أنا علطول فاكرك. و لا إنتي إللي نسيتي ؟؟


-لا أبدًا مانسيتش ! .. غمغمت "سمر" و هي تشمله بنظرة غريبة لم يفهمها


و استدارت لتتابع لعب الطفلين قائلة :


-خير.. كنت جاي عاوز حاجة ؟


تضايق "عثمان" من ردة فعلها الباردة و كلماتها و حركاتها و كل شيء.. فقال بانزعاج واضح :


-هو أنا محتاج إذن يعني عشان أدخل أوضتي لمراتي ؟ إيه سؤالك ده !!


رمقته "سمر" بنظرة جانبية و قالت :


-أنا مقصدش طبعًا.. ده بيتك و دي أوضتك. و أنا مراتك و تحت أمرك في أي وقت !


نظر لها بدهشة للحظات.. ثم فقد تماسكه هذا على حين غرة و قبض على ذراعها مجتذبًا إياها صوبه... تأوهت "سمر" من خشونته معها، لكنه لم يعبأ و قال من بين أسنانه و هو يطبق أصابعه حول لحم ذراعها أكثر :


-بلاش الاسلوب ده يا سمر.. لو في حاجة في قلبك من ناحيتي طلعيها أحسن و بلاش نلعب على بعض كده. أنا مابحبش اللف و الدوران و إنتي عارفة !!!


-إنت إتجننت يا عثمان نزل إيدك ! .. زجرته "سمر" بعبارتها التحذيرية و هي تشير برأسها نحو الطفلين و تكبت صيحة ألم بجهد مضنٍ


كانا الطفلين على وشك الانتباه للمشاجرة الكلامية بين الزوجين، لكنه سرعان ما سيطر على أعصابه و أفلتها مشيرًا بكفاه أمام عينيها و هو يقول :


-تمام.. هديت أهو. ممكن تتكلمي بقى ؟!


-تكلم أقول إيه ؟ .. تساءلت "سمر" بغرابة و هي تدلك ذراعها موضع الألم بأصابع يدها الأخرى


- هو إحنا لسا هانتكلم ؟ ما خلاص.. إنت قلت كل حاجة


عثمان باستنكار : سمر أنا هاتجوز بكرة !


-بالسلامة !


حملق فيها بصدمة حين قالت ذلك.. و قال غير مصدقًا :


-قولتي إيه ؟!!


كررت "سمر" ببساطة شديدة :


-قلت بالسلامة.. يعني عادي بالنسبة لي. روح إعمل إللي إنت عايزه و مع السلامة زي ما بيقولوا. مافيش حاجة هاتتغير لو عملت كده.. لو قلقان من ناحيتي.. لأ إطمن. أنا كويسة. و هافضل عايشة معاك عادي. و مع إبني... في أكتر من كده ؟ محتاج تسمع حاجة تاني ؟؟


و بقيت محلها لثوانٍ تحدق فيه بقوة دون أن يرف لها جفن... ثم أولته ظهرها و عادت للطفلين لتستأنف المرح و اللعب معهما


بينما لم يطيق أن يراها تتبارد و تفعل كل هذا أمامه و كأنه حقًا لا يمهما كما نجحت و أوصلت له الرسالة توًا... إستدار من فوره و غادر الغرفة في إثره شياطينه و مشاعرها غير المبالية !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! .............................................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ...


بإذن الله #البارت التالي كبير شوية و أنا بشتغل عليه من دلوقتي، إذا مانزلش بكرة إنتظروه بعد بكرة يالكتير ❤

( 30 )


_ لعنات ! _


كانت البرودة تتنامى بينهما و التباعد في زيادة... هذه المشاعر كلها و هذا الهجران بالذات كانوا أشد وطأة عليه و على قلبه أكثر من أيّ شيء آخر.. بالآونة الأخيرة لم يستطع سوى أن يسأل نفسه فقط.. إلى متى ؟ إلى متى يستمر هذا العبث بحياته ؟ لكنه لا يتمكن من العثور على جوابًا محدد !!!


لأكثر من ثلث ساعة.. وقف "عثمان" بغرفة مكتبه، يطالع بذلة الزفاف المخصوصة التي تفاجأ بها تصل إلى بيته في طرد مع أحد العاملين بأفخم دار أزياء بالبلدة كلها... كان يرمقها فوق مشجب السترات تارة و يقلب بين أصابعه الكارت الذي استلمه من الشاب أيضًا تارةً أخرى


يعيد قراءة الكلمات الرقيقة المنمقة و يقرأ التوقيع المختصر بمشاعر مشحونة تعصف بداخله و تغير بصدره.. أيّ شيء يذكره بموعد الليلة و الحدث السودوي المرتقب يبث فيه قدرًا هائلًا من الحنق لا يمكن تخيله.. بالرغم من أنه مقبلًا على ذلك بارادته... لكنه لا يدري لماذا يشعر بأنه يحتال عليه.. هذا أسوأ شعور بالنسبة له على الاطلاق، يطيق كل شيء و لا يطيق هذا تحديدًا ....


كان غضبه آخذًا في التفاقم أساسًا منذ مدة.. حتى فقد السيطرة الآن فجأة، و أستل هاتفه من جيب سرواله بعصبية.. أجرى الاتصال بها فورًا... ليصيح بحدة ما أن سمع صوتها على الطرف الآخر :


-ممكن أفهم إيه الزفت إللي باعتاهولي على البيت ده ؟؟؟


ترد "نانسي" بهدوء متفاجئ :


-إيه يا عثمان ! مالك متنرفز كده ليه ؟ أنا بعتلك هدية فعلًا.. بس ماكنتش متخيلة إنها ماتعجبكش للدرجة دي. أو ماتحبهاش أصلًا


-حد قالك إني ناقص هدوم أو بشحت ؟؟؟


-إهدا بس. ليه الانفعال ده كله مش مستاهلة. دي Special Piece يا حبيبي. و لولا أنا متأكدة إنك مش هاتهتم بتفاصيل زي دي ماكنتش عملت كده. و بعدين إنت صممت مانعملش فرح و أنا وافقت و احترمت رغبتك و اتنازلت عن حاجة مهمة زي دي عشان ماتضيقش مني. أنا يهمني رضاك يا عثمان !


مسح "عثمان" على وجهه بعصبية و هو يطرد زفرة نزقة من صدره، ثم قال بصوتٍ أجش :


-بصي أولًا.. بطلي تعملي عليا الشغل ده. أنا مابحبوش ..


-شغل إ آ ا ...


-إسمعيني و ماتقطعنيش !!! .. صرخ مقاطعًا بعنف شديد عبر الهاتف


ليطبق السكون من طرفها على الفور، بينما يستطرد بغلظةٍ :


-ماتنسيش نفسك يابنت رشاد الحداد. إوعي تنسي لحظة إنتي مين و أنا مين.. و قبل ما تخطي البيت ده الليلة دي افتكري بس إنتي دخلتيه إزاي و ليه.. إنتي لو كنتي قدامي ببلاش ماكنتش أوطي راسي عشان أشوفك أصلًا. بدلة إيه إللي بعتاها يا شاطرة و فرح إيه إللي بتكلميني عنه ؟ إنتي فاكرة جوازنا ده جواز ؟ ده أنا و رحمة أبويا في تربته هاخليكي تمشي تكلمي نفسك. مش إنتي عايزة تبقي مراتي ؟ مش عايزة تيجي تعيشي في بيتي ؟ يا أهلًا بيكي.. بس تبقي جدعة لو استحملتي لحد الأخر. فاهماني كويس ؟!!!


و صمت ليلتقط أنفاسه قليلًا.. و في نفس الوقت شعر بشيء من التفوق عليها و قد شفى قدرًا من غليله، ليضيف بلهجته الصلدة مختتمًا خطابه التهديدي الذي و لا ريب أصابها بالذعر و الخوف منه الآن :


-سلام يا عروسة.. أشوفك الليلة. بس هاتيجي لحد عندي لوحدك طبعًا. زي أخواتك إللي كنت بتسلى معاهم قبل ما ربنا يهديني و أتجوز.. زيهم بالظبط يا نانوسا !


و أغلق معها ملقيًا بالهاتف من يده بتهور... لم يعبأ لمصيره مطلقًا، بل استدار موليًا صوب الخارج، حيث قصد من فوره طريق المؤدي للدرج و منه للطابق المستقل و الأخير الخاص به وحده، و حاليًا به و بزوجته أيضًا، المرأة الوحيدة التي يحب و الوحيدة التي يتوق لوصالها و قربها الدائم


كان سيره حثيثًا، أقرب إلى الهرولة، و كان لا يرى أمامه من شدة إنفعالاته المتضاربة ...


دفع "عثمان" بباب الغرفة بقوة، و لحسن حظه كانت زوجته بمفردها.. إذ رأها تنتفض في مكانها عندما وجدته يقتحم الغرفة بهذا الشكل


تسمر بمحله لبرهةٍ و هو يرمقها بنظراته المتأججة.. كانت أمامه هناك... تجلس مقابل منضدة الزينة.. تمشط شعرها الرطب... فكما يبدو.. أنها فرغت للتو من غُسلٍ كامل.. تلك المنشفة الكبيرة التي لفت بها جسمها كانت مشبعة بقطرات الماء مِمّ شكل تهديدًا بسقوطها مع أيّ احتكاك بسيط !!!


-في إيه يا عثمان ؟! .. قالتها "سمر" بتساؤل و هي ترفع يديها لتتشبث بالمنشفة حولها أكثر


كان القلق واضحًا عليها لمرآى تعبير وجهه الغضوب، و تحوّل القلق إلى الخوف عندما شاهدته يصفق باب الغرفة و هو يعبر للداخل و يقطع المسافات بينهما في بضع خطوات.. لم تدرك نواياه الحقيقية إلا حين إشتبكا بلحظة و أخذها في عناقٍ محموم و هو يتناول شفاهها في قبلة عنيفة خالت بأنها سوف تزهق أنفاسها عن آخرها ...


لكنه توقف بعد لحظات قصيرة، و أبعد وجهه قليلًا كي ما يستطيع النظر في عينيها جيدًا و هو يقول عابسًا بشدة و أنفاسه المهتاجة الملتهبة تصفع وجهها :


-إياكي تقوليلي لأ !


و قبل أن يعاود ما كان يفعله توًا، رفعت كفها لتمنع فمه من الإطباق ثانيةً على فمها.. رأت عيناه تتسعان بغضب و تبرز حولها الشعريات الدموية بخطورة... مع ذلك تحدثت بتأنٍ بالغ دون أن يخيفها الوضع أو تحذيره :


-مين قالك أصلًا... إني هاقولك لأ ؟ أنا عمري ما أمنع نفسي عنك. أنا كلي ملكك يا عثمان. و تحت أمرك !


كلماتها.. و الطريقة التي تفوّهت بها أطارت اللُب من عقله و مسحت من ذاكرته كافةً الأفكار المؤرقة، ليجتاحها فورًا، مفرغًا فيها و عليها جام شوقه و ضيقه و يأسه.. و بدورها إستقبلت كل هذا دون أدنى اعتراض، بل أنها في الواقع أظهرت رحابة و تجاوب أذهله هو شخصيًا، لدرجة كاد معها أن يظن بأنه يحلم... لكنه بالفعل كان مثل حلم... حلم جميل كان بحاجة ماسة إليه ....


_________________


-إنتي حقيقي مجنونة ! .. قالتها "لينا"... صديقة "نانسي" المقربة و هي ترمقها بصدمة


بينما ترفع الأخيرة رأسها عن حوض المياه بعد أن أغلقت الصنبور، سحبت منشفة من فوق الرف أمامها و طفقت تجفف شعرها.. ثم اعتدلت في وقفتها و هي تشد قامتها أمام المرأة العريضة المثبتة على الجدار الرخامي


راحت تتأمل في مظهرها الجديد، المتمثل في الصبغة الحمراء الفاقعة التي خلطتها و أفرغتها على خصيلاتها الشقراء بنفسها في تمرد بيّن على نفسها و نقمةً و بغضًا عليه.. ذاك الرجل الذي سوف تمسي زوجته بعد سويعاتٍ قليلة ...


-إيه رأيك يا لينا ؟ .. تساءلت "نانسي" بألية و هي لا تزال تواصل النظر إلى نفسها بقوة و عمق


-حلو الـNew look صح !


لينا باستنكار : حلو إيه ؟ ده Over و شكله بشع عليكي يا نانسي.. ليه عملتي كده ؟ إنتي عارفة بقيتي شبه مين ؟ بقيتي شبه الـWhores بالظبط


تنظر "نانسي" إليها في هذه اللحظة و تقول بجمودٍ :


-و أنا إيه يعني يا لينا ؟ ما أنا أصلًا Whore.. إنتي ماسمعتيش عثمان و هو بيزعق فيا من شوية ؟ ماسمعتيش قالي إيه ؟ طيب نسيتي أصلًا أنا عملت إيه مع عمه ؟ و مع رجالة كتير غيره ؟ نسيتي يا لينا ؟؟؟


نطقت جملتها الأخيرة بصوتٍ أقرب إلى الصراخ ...


أجفلت "لينا" و هي ترمقها بتوتر فجأة، بينما تستدير "نانسي" بكامل جسدها لتواجه صديقتها و هي تصيح بضراوةٍ :


-عثمان البحيري بدأ يعايرني من دلوقتي.. تخيلي ؟ بيستشرف عليا أنا.. عثمان البحيري إللي فضح أختي و طلقها ليلة دخلتها و راح يتجوز عرفي بعدها و بعدين فضح أختي تاني على الملأ... دلوقتي بيمثل عليا دور الفضيلة و الشرف.. عبيط.. أو بيستعبط.. مش مستوعب لسا.. إني وصلت لكل ده بسببه. بيستحلفلي يا لينا. بيستحلفلي !!!!


و حطمت زجاج المرآة بقنينة عطرٍ صغيرة وجدتها بخزانة مفتوحة بجوارها ...


-نـانـســـي !!!


صرخت "لينا" بذعر حين رأت الدماء تتفجر و تسيل من كف الأخيرة، هرعت إليها في الحال.. لتوقفها "نانسي" بإشارة من يدها الأخرى، ثم تقول بينما تتهدل الخُصَل المشتعلة فوق عينيها و فمها الصغير المكتنز :


-مش هو عايز Whore ؟ أنا هاكون كده معاه. أنا هاوريه ! .. و أضافت بتوعد لا يخلو من قهرتها و حقدها :


-هاوريه هو و عيلته كلها.. مابقاش أنا يا عثمان. مابقاش نانسي بنت رشاد الحداد. لو ماجبتش منخيرك الأرض !!!


_______________


أخيرًا... فتحت "سمر" عينيها على الواقع مجددًا، بعد لحظاتٍ من الحميمية و صِلة تحكمها الموّدة العميقة المتبادلة


استغرقت بعض الوقت لتعاود إتصالها بالعالم مرةً أخرى، نشطت حواسها من جديد، فتناهى إلى سمعها صوت تنفسه الثقيل إلى جوارها، و شعرت تاليًا بأنامله تجد طريقها إلى خطوط عنقها الملساء ...


نظرت "سمر" على شمالها.. لترى زوجها الذي كشف عن عضلاته القوية و بشرته البرونزية المحروقة بأشعة الشمس، كان يراقبها و شيء من الألق اللامع عرف سبيل العودة إلى ناظريه الآسرين... كان يرمقها بنظراته المُتيّمة، و كان مثالًا للغواية و الفتنة بقسماته الحساسة المحمرة و شعره المشعث بفوضوية مثيرة


جُلّ ما تطرق إلى ذهن "سمر" و هي تتطلع إليه خلال تلك اللحظات هو سؤالًا واحد فقط...أتراه مخلصًا لها حقًا فيمَ مضى ؟


تساءلت في نفسها عمّا فعله به غيابها خلال الفترة التي قضتها برفقة أخيها بعد الحادث.. رجلًا مثله... يمتلك هذه الشراهة و الشبق المستعر.. هل بقى محرومًا من النساء وفاءًا لحبها كما أدّعى مسبقًا ؟ ألم تكن له نزوة هنا أو هناك و هي لا تعلم ؟ ... بل الله وحده أعلم به.. لو ظلت تبحث عن أجوبة بشأنه طوال عمرها لترتاح فلن تعثر أبدًا، و لن تجد الراحة معه ما بقيت !!!!


-رايحة فين ؟ .. قالها "عثمان" بتساؤل و بنبرته المدوخة عندما حاولت "سمر" النهوض فجأة


قبض على معصمها، فجمدت و هي تشد الغطاء عليها أكثر.. حانت منها إلتفاتة نحوه و هي ترد بهدوء :


-هاقوم أخد شاور تاني. و بعدين هاروح أصحي ملك عشان تعمل الHome work و أروح أشوف يحيى بردو سايباه مع مامتك من الصبح. تلاقيه جننها


ابتسم "عثمان" نصف ابتسامة و هو يقول بتكاسل :


-على قلبها زي العسل يا بيبي.. ده كله إلا يحيى عند فريال هانم. كلنا في كفة و هو لوحده في كفة. تعالي بس إنتي و ماتشغليش بالك !


و حاول أن يشدها لتستلقي على حضنه، إلا أنها أبت و جذبت يدها من يده و هي تقول بصلابة :


-أجي فين ؟ إنت مش خلصت ؟!


و كأنها صبت فوق رأسه دلوًا من الماء المثلج و هو لا يزال نضاحًا بالحمم الملتهب ...


تطلع إليها مصدومًا، و قال :


-خصلت !!!


أومأت "سمر" قائلة :


-أيوة ! مش خلاص نفذتلك إللي جيتلي عشانه و فضلت معاك من سكات ؟ مطلوب مني إيه تاني ؟ أنا ورايا واجبات تانية محتاجة أقوم بيها.. لو سمحت سيبني أشوف إللي ورايا


هب "عثمان" نصف جالسًا في هذه اللحظة، فسقط الغطاء عن صدره تمامًا بينما يصيح :


-إيه إللي بتقوليه ده يا سمر ؟ إنتي في وعيك ؟!!!


سمر بثقة : إنت شايف إيه ؟ أنا سليمة قدامك أهو لسا ماخرفتش


إرتفعت كفه لتطوق ذراعها بقوة مؤلمة و هو يغمغم من بين أسنانه بغضبٍ :


-لأ شكلك خرفتي.. إيه لازمته كلامك ده بعد إللي حصل بينا ؟ عاملة نفسك مش طايقاني ليه دلوقتي ؟؟؟


قالت "سمر" بجدية و دون أن يرف لها جفن :


-أنا فعلًا مش طايقاك.. بس إنت ليك حقوق عليا. و غصب عني لازم أديهالك كاملة


-نعم ياختي ! حقوق ؟!!


-آه حقوق ! .. تمتمت "سمر" بهدوء متحملة الألم الذي يسببه لها في ذراعها، و أكملت :


-إنت ماسمعتش الحديث ده.. النبي عليه الصلاة و السلام قال " إذا دَعا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلى فِراشِهِ، فأبَتْ أنْ تَجِيءَ، لَعَنَتْها المَلائِكَةُ حتَّى تصبح" ؟ يرضيك ربنا يغضب عليا أكتر ما هو غضبان أصلًا ؟؟!


نظر لها ببلاهةٍ و سرعان ما قال بوجهٍ سودته نيران الغيظ :


-إنتي بتلاعبيني يا سمر ؟ دي أخرتها ؟ بتلعبي بيا دلوقتي ؟؟؟


-إف بقى يا عثمان قولتلك سيبني ! .. هتفت بشيء من الانفعال و هي تنتزع ذراعها من بين براثن قبضته بالقوة


تآوهت بألم قليلًا و هي تقوم من جواره لاففة جسمها بغطاء الفراش بينما يراقبها مذهولًا ثم يسمعها تقول و هي تتوجه صوب غرفة الحمام :


-على فكرة أنا هاروح أتغدا عند فادي بكرة لأنه كان مصمم يجي يشوفني.. بس طبعًا أنا مش هقدر أستقبله و إنت لسا عريس جديد و مشغول مع عروستك. خلي عندك علم بكده. هاخد معايا و الولاد و مش هنتأخر إن شاء الله !


و صفقت الباب ورائها... لتظل نظراته معلقة في اللاشيء الذي خلفته... و قد كان كمن تلقى صفعة جديدة أشد قسوة.. صفعة أخبرته بأنه بالفعل قد خسرها... حقًا هذه الم


رة ليس كذبًا !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! ................................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ...

تعليقات

التنقل السريع
    close