الفصل الخامس و العشرون
فى لحظة توقف عندها الزمن، فى ذكرى خالدة فى ذهنيهما لن ينسياها ما حييا، فى سجدة شكر لله عبرت عما بدواخلهما من ثناء و حمد لله على اتمام النعمة، بث كل منهما مشاعر الشكر و السعادة و الفرح بتمام لم الشمل، بكيا و الجبين ساجد و القلب خاشع و الجوارح محلقة فى سماء العشق، شكرا الله و أقرّا بفضله و هما يبكيان من فرط السرور و عدم التصديق، مشهد مهيب تقشعر له الأبدان، شعور جميل لن يعرفه إلا من نال مبتغاه بعد صبر و عناء....و ماذا يريدان بعد ذلك، فهما الآن قد حيذت لهما الدنيا بما فيها.
نهض سفيان من سجوده فنهضت ملك تباعا له و وقفا قبالة بعضهما يتطلع كل منهما للآخر بعينين دامعتين و ابتسامة عاشقة، فقام سفيان بمسح دموعها التى أغرقت وجنتيها بابهاميه و هو يقول مبتسما:
ــ و بعدين!!.. هنخرج ازاى للناس اللى برا دى و انتى معيطة كدا و عينيكى حمرا من كتر العياط، و لا خدودك المقلبظة دى حُمر كدا و عايزين يتاكلوا أكل، و أنا بصريح العبارة بغير أوى..
ضحكت بخفوت ثم قالت:
ــ مش بعيد يفتكروا ان انت ضاربنى بالقلم مثلا.
ضحك بصخب ثم قال من بين ضحكاته:
ــ لا احنا لازم نغسل وشنا قبل ما يشوفونا...لأن شكلنا كدا يدعو للريبة و الشك.
قبضت على كفه و هى تشير باتجاه الباب قائلة بجدية:
ــ طاب تعالى يلا..الحمام جنب القوضة علطول و محدش هياخد باله مننا و احنا بنغسل وشنا...
سارت خطوتين باتجاه الباب بينما هو جذبها ناحيته مرة أخرى و جعلها بمواجهته تماما، ثم اقترب منها و انحنى برأسه على رأسها، مستندا بجبينه إلى جبينها و قال بهمس مثير أثار قشعريرة محببة فى أوصالها:
ــ عايز أقولك أخر كلمتين بس فى الليلة الجميلة دى و اللى ان شاء الله مش هتكون أول و لا آخر ليلة حلوة تجمعنا و ليالينا كلها هتكون أحلى و أحلى.
أومأت بايجاب و هى تبتسم بهيام قائلة:
ــ قول يا حبيبي سمعاك.
استرسل بنفس نبرته الهائمة:
ــ عايز أقولك إن أنا عديت معاكى كل مراحل الحب.. و العشق.. و الغرام.. و الهيام.. و التيم... و أنا دلوقتي فى مرحلة الهوس...ملك...لو فى قيس مجنون ليلى...
فـ "أنا سفيان مجنون ملك".
أغمضت عينيها من فرط النشوة بكلماته الثقيلة فى وزنها، و العميقة فى معناها، و السامية فى مغذاها و تنهدت بعشق خالص قائلة و هى مازالت مطبقة الجفنين:
ــ حرام عليك يا سفيان...قلبى هيقف من كلامك اللى مش قادرة أجاريه أبدا...
فتحت عينيها ثم أردفت بنبرة هائمة:
ــ انت لبق أوى فى حبك ليا و مخلينى عاجزة عن الرد على كلامك اللى دوبنى و توهنى و خلانى أحس إنى ملكة فريدة من نوعي..و كأن مفيش بنت غيرى فى الدنيا دى كلها.
تحسس وجنتيها بأنامله و هو يقول بهمسه المثير:
ــ طاب ما انتى فعلا ملكة...انتى ملكة على عرش قلبى يا ملاكى...
قبّل جبينها ثم ابتعد عنها مقدار خطوة واحدة و قلب ملامحه للجدية قائلا:
ــ يلا نخرج بقى...احنا اتأخرنا أوى و زمانهم برا فاكرين إن إحنا مقطعين السمكة و ديلها.
انفلتت منها ضحكة مدوية ثم قالت و هى مازالت تضحك:
ــ أيوة صح معاك حق..
احتضن كفها الأيسر بكفه الأيمن و سار بها إلى الباب، و عندما هم بفتح الباب، سحبت يدها سريعا من كفه لتسند بها موضع ألم رأسها الذى داهمها بغتة و بدون سابق انذار، مُصدرة أنينا خافتا، الأمر الذى أصابه بالقلق البالغ، فأمسك برأسها و أسندها على صدره و هو يقول بقلق:
ــ مالك يا حبيبتى...ماسكة راسك ليه؟!
زادت وتيرة تنفسها من فرط الألم، فأحس بحركة صدرها المتسارعة صعودا و هبوطا، فازداد قلقه و خوفه أكثر و ضغط على رأسها برفق و هو يعيد سؤاله:
ــ ملك متقلقينيش عليكى...قوليلى مالك و حاسة بإيه.
أجابته بصوت خفيض بالكاد خرج منها:
ــ متخافش يا حبيبي دا صداع خفيف كدا...تقريبا من كتر العياط.
حاصر رأسها بين كفيه و أبعدها قليلا عن صدره ثم قال بخوف:
ــ خفيف ايه بس يا ملك...دا انتى مش قادرة تتكلمى و بتاخدى نفسك بالعافية.
أخذت نفسا عميقا لعله ينظم أنفاسها المتلاحقة قليلا ثم أجابته بابتسامة باهتة:
ــ حبيبي مفيش حاجة صدقنى...بص أنا هاخد قرص مسكن و ان شاء الله هبقى زى الفل.
تنهد بقلة حيلة ثم قال بنبرة حزينة قلقة:
ــ ماشى يا ملك ربنا يستر...أنا هستناكى برا و متتأخريش عليا عشان مقلقش عليكى.
هزت رأسها بإيجاب و هى تجاهد لتبقى على جفنيها منفتحين، فقد فاق الألم احتمالها و جعل من تفتح عينيها أمرا عسيرا، و قالت بذات الإبتسامة الباهتة:
ــ حاضر يا حبيبي متقلقش...اخرج انت للمعازيم زمانهم بيسألوا عليك.
هز رأسه بموافقة ثم قبل مقدمة رأسها و خرج من الغرفة و عينيه متعلقتين بها، و القلق بداخله ينمو و ينهش بصدره بضراوة.
بعد عشر دقائق خرجت ملك بعدما قل ألم رأسها نوعا ما و غسلت وجهها و عدلت من هندام ملابسها، خرجت و اندمجت وسط المعازيم و هى تتظاهر بأنها على خير ما يرام، بينما سفيان نظره مسلط عليها، يرمقها بين الحين و الآخر بنظرات قلقه، يشعر بمحاولاتاها المستميتة لكى تظهر أمام الجميع بأنها بخير و لكن قلبه يشعر بألمها التى تحاول إخفائه، فأحس بوخز حاد بصدره خوفا من تكرار الماضى الأليم مرة أخرى، خاصة و أن الطبيب قد سبق و أخبره بأنها حتى و أن شُفيت من المرض، فإحتمالية إصابتها به مرة أخرى عالية.
انتهت الليلة على خير و قامت ملك بتوديع سفيان و أوصلته إلى الباب، فاستغل الفرصة و قبل ان يغادر قال لها بهمس:
ــ ملك لو تعبانة متجيش الشركة بكرة.
ــ لا يا سفيان أنا كويسة...مش كفاية مروحتش النهاردة.
ــ مش مهم...المهم صحتك..و أنا اللى بقولك متجيش.
أومأت بايجاب لكى تنهى الحوار فى هذا الموضوع قائلة:
ــ خلاص يا حبيبي لو صحيت و لقيت نفسى تعبانة مش جاية.
ابتسم لها بود و راح يتفقد المكان خلفها بعينيه و عندما لم يجد من يراه، قام بتقبيل جبينها ثم فتح الباب و هم بالخروج و لكنه عاد لها مرة أخرى و هى مازالت واقفة خلف الباب تائهة من أثر فعلته المباغتة، فابتسم بمكر ثم جذبها من معصمها حتى ارتطمت بصدره و باغتها بتقبيلها من وجنتها ثم تركها و كأنه لم يفعل شيئا و انصرف سريعا قبل أن توبخه، بينما هى تاهت أكثر و وضعت يدها على وجنتها بصدمة فاغرة الفاه، و بعد دقيقة من الشرود تداركت حالها و ضحكت بخفوت ثم عادت إلى غرفتها و هى تكاد تطير من السعادة.
بينما سفيان عاد إلى شقته و هو مقسوم لشِطرين، شِطر منه لا يصدق نفسه من السعادة و شطر آخر يكاد يقتله الخوف و القلق عليها،
و بمجرد أن اغتسل و بدل ملابسه، عاد ليتوضأ و صلى صلاة القيام و تضرع إلى الله و هو يبكى أن يحفظ له زوجته و حبيبته و أن يكفيها شر هذا المرض اللعين و أن يكمل فرحتهما على خير، ثم انتهى من صلاته و خلد إلى النوم الذى كان نوما متقطعا، أرقته الأحلام المزعجة و أحاديث النفس المقلقة إلى أن حل الصباح و استيقظ و هو فى قمة الإرهاق و التعب.
صباحا فى الشركة...
كان سفيان جالسا بمكتبه فى المخازن على غير هدى، فقد كان مكتبه بعيدا نوعا ما عن مكاتب الموظفين، يجوب الغرفة ذهابا و إيابا قلقا و توترا على حبيبته التى أرقت نومه و أتلفت أعصابه، فتوقف فجأة و قال لنفسه بصوت مسموع:
ــ "أنا هفضل قاعد قلقان كدا...لا أنا هطلع أشوفها بنفسى و أطمن عليها علشان قلبى يرتاح".
بالفعل فى غضون دقائق كان يسير برواق الطابق الذى تعمل به ملك، فاصطدم بـ داليا التى استوقفته و أدارت دفة الحديث قائلة بنبرة ممزوجة بقليل من الغيرة:
ــ مبروك عليك ملك يا سفيان..
رد بجدية:
ــ الله يبارك فيكي يا داليا... عقبالك...
استرسل حديثه بعتاب قائلا:
ــ انتى ليه مبعتيش ملوكة امبارح كانت تلعب و تفرح وسطنا.
قطبت جبينها باستنكار قائلة بحدة طفيفة:
ــ انا خوفت على نفسيتها لتتأثر و هى شايفة باباها مع واحدة تانية غير مامتها.
أجابها بجدية:
ــ لازم تتعود على كدا، و بعدين أنا كنت عايزها تقرب من ملك و تعرفها أكتر علشان لما تيجي تعيش معايا لو اتجوزتى.
لوت شفتيها لجانب فمها بابتسامة ساخرة ثم قالت:
ــ متقلقش الجيات أكتر...ابقى خودها معاك و انت بتزورها فى بيتهم و خليهم يتعرفوا على بعض.
هز رأسه بتفهم و قال بقلة حيلة:
ــ ماشى يا داليا...أما نشوف آخرتها معاكى..
و فى خضم حوارهما لمحها عماد و هى تتحدث مع زوجها السابق فنشبت بصدره نيران من الغيرة، و قادته قدماه إليهما ليرضى فضوله، فألقى عليهما السلام ثم قال:
ــ ألف مبروك يا سفيان...كان نفسى أحضر حفلة امبارح بس معليش بقى ملحوقة فى الفرح ان شاء الله.
أومأ بابتسامة مجاملة قائلا:
ــ الله يبارك فيك يا عماد...عقبالك.
قالها و هو يشير برأسه إلى داليا، فاتسعت ابتسامة عماد و تنهد بارتياح عندما رأى علامات الخجل بادية على وجهها، فاطمئن قلبه و استبشر خيرا، و عند هذا الحد استأذن منهما سفيان و غادرهما إلى حيث مكتب ملك، بينما عماد سألها بترقب:
ــ أفهم من كلام سفيان إن انتى وافقتي على طلبى؟!
هزت رأسها بموافقة و هى مطرقة الرأس فى خجل، فأردف بسعادة:
ــ طاب آجى أزور الست الوالدة إمتى؟!
رفعت عينيها إليه و قالت بابتسامة بسيطة:
ــ الوقت اللى يناسبك...بس احنا ممكن نقرا الفاتحة بس حاليا و نخلى الجواز قدام شوية...انت عارف ان مفاتش على طلاقى غير ست شهور بس و جوازى بالسرعة دى هيخلى الناس تتكلم عليا و تجيب فى سيرتى.
هز رأسه بتفهم ثم قال بجدية:
ـُ اللى انتى عايزاه يا داليا...أنا شخصيا معنديش أى اعتراض...المهم إنك هتكونى ليا فى الآخر.
نظرت له داليا باستغراب من لهفته و سعادته، شعورا جديدا لم تختبره من قبل، أن تجد حبا و اهتماما من شخص يريدها و يتمناها و يسعى إليها، يجعلها تشعر أنها ملكة فريدة، أنثى من نوع خاص، جوهرة مصونة و درة مكنونة يتمنى لو يمتلكها.
و على الجانب الآخر، التقى سفيان بـ ملك و أقبل عليها متلهفا، و لم تسعه الفرحة حين رآها بخير، فراح يحدثها بنبرة حادة ممزوجة بالقلق:
ــ ملك انتى جيتى ليه؟!..أنا مش قايلك متجيش علشان متتعبيش.
طالعته بملامح مشدوهة قائلة باستنكار:
ــ سفيان انت ليه مكبر الحكاية....مكانوش شوية صداع دول و راحوا لحالهم.
استند بكفيه على حافة مكتبها و انحنى عليها قائلا بحدة طفيفة:
ــ ما انتى لو كنتى فاكرة الأيام اللى عانيتها معاكى و انتى تعبانة و المأساة اللى كنت عايشها كأني أنا اللى كنت مريض مش انتى، مكنتيش هتستغربى أوى كدا و لا كنتى هتحسى إنى مكبر الحكاية.
ظلت تطالعه بعدم استيعاب لثوانى ثم قالت بصوت متحشرج من التأثر:
ــ للدرجادي يا سفيان أنا كنت عبئ عليك؟!
ردد كلمتها باستنكار:
ــ عبئ....بعد دا كله و بتقوليلي عبئ...دا أنا كنت كل لحظة بتمنى أشيل المرض عنك...كانت كل كلمة آه منك بتقطع فى قلبى و بتسحب روحى معاها...أنا هموت يا ملك لو جرالك حاجة أو لو اتصابتى تانى بالسرطان...خلاص قلبى مش هيتحمل وجع عليكى تانى...تعبت...تعبت و جبت آخرى و انتى مستهونة بالموضوع.
أدمعت عيناها من كلماته، و انفطر قلبها على معاناته قبل معاناتها، و نهضت من كرسيها و قبضت على كفيه المستندين إلى المكتب و قالت بتأثر:
ــ ان شاء الله يا حبيبي مفيش حاجة...متقلقش عليا...و أنا آسفة إنى زعلتك بكلامي... مكنتش أفصد أزعلك أو أقلل من معروفك معايا.
زفر بعنف و هو يشدد من قبضته على قبضتيها و يقول بوجع:
ــ معروف ايه بس يا ملك اللى بتتكلمى عنه....أنا كام مرة هقولك إن روحك ساكنة جوايا و حبك بيجرى فى دمى...انتى نفسى يا ملك... فى حد بيعمل معروف فى نفسه؟!
هزت رأسها بنفى و هى تبتسم و قد عجز لسانها كالعادة عن الرد، فشعر بها سفيان و قال بجدية:
ــ هسييبك تكملى شغلك...بس علشان خاطري خلى بالك من نفسك...مش عشانك....عشانى أنا يا ملك.
أومأت بموافقة و هى تقول ببسمة هائمة:
ــ حاضر يا حبيبى...لو حسيت بأى صداع تانى هقولك و هروح أرتاح....خلاص بقى بطل قلق شوية.
ترك كفيها و استعد للمغادرة ثم قال:
ــ ماشى يا ملاكى هصدقك...سلام يا حبيبة قلبى.
ــ مع السلامة يا حبيبي.
خرج سفيان، و جلست ملك مرة أخرى بمقعدها و هى هائمة فى زَبَد عشقه، تتقاذفها أمواج الغرام، و تسبح ببحر الهيام، لتستقر على شاطئ تيمه، فى لوحة فنية متكاملة من أسمى معانى الحب و أقوى درجات العشق تعيشها الآن مع من تربعت على عرش قلبه بقوة و اقتدار.
يتبع......
مع تحياتي/دعاء فؤاد
الفصل السادس و العشرون
مرت ثلاثون يوما كان سفيان يعمل فيها على قدمٍ و ساق، حتى ينتهى من اعداد الشقة الجديدة قبل موعد الزفاف المحدد، كانت مقابلاته مع ملك قليلة نظرا لشدة انشغاله ما بين الشقة و مسؤليته الشاقة فى الشركة، و فى أغلب الأحيان يكتفى بالتحدث معها عبر الهاتف.
أما ملك فقد كانت منشغلة أيضا بتجهيز متطلبات الشقة و بقية أغراضها من الملابس و المفروشات و غيرها، و قد ساعدتها سلمى كثيرا فى ذلك.
ما زالت شكواها من الصداع مستمرة و لكنها أبت أن تخبر أى من أبيها أو سفيان حتى لا تُثير قلقهما، و اكتفت بتناول الأقراص المسكنة كلما داهمها هذا الصداع اللعين.
اليوم هو يوم الزفاف المنتظر المقام فى أحد أشهر القاعات النيلية بمدينة المنصورة، أجواء من السعادة العارمة أحاطت بالعروسين، بدا سفيان و كأنه عريسا للمرة الأولى، و لما لا فهو لم يتخطى بعد التاسعة و العشرين من عمره، فقد تزوج من داليا فى سن صغيرة عقب تخرجه من الجامعة بأشهر قليلة.
بينما ملك العروس الملائكية غمرتها الفرحة و حملتها على أجنحة الحب محلقة بها فى سماء حبيبها و زوجها الذى انتظرت اقتران اسمه بإسمها طويلا، و ها قد آن الأوان.
استمر الحفل إلى قبيل منتصف الليل تقريبا، حضره أفراد العائلتين عدا داليا و أمها، و جميع موظفي الشركة من أكبر موظف إلى أصغر عامل، استمرت المراسم حتى أحست ملك بقليل من الصداع فطلبت من سفيان انهاء الحفل بحجة أنها مرهقة قليلا من زحام اليوم بما فيه من قضاء فترة طويلة بمركز التجميل و قضاء فترة أخرى فى جلسة التصوير، فرحب بذلك الطلب، فهو ينتظر اللحظة التى سينفرد فيها بها و يُقفل عليهما باب واحد، ليختلى بها و يغرقها معه فى بحور عشقه و يذيقها من حلاوة حبه و حنانه.
و أخيرا وصلا شقتيهما و بعد التهانى و المباركات من شقيقه و والديه، دخلت ملك الشقة أولا تبعها سفيان و أغلق الباب و استند بظهره إليه من الداخل، و أخذ يتطلع إليها بهيام و عدم تصديق فى آن واحد، و البسمة العريضة مرتسمة على ثغره.
ترك مكانه و تقدم منها بخطوات بطيئة بينما هى تقف على بعد خطوات منه و هى مطرقة الرأس فى خجل، و كلما اقترب منها كلما تسارعت نبضات قلبها خجلا و رهبة من الموقف برمته، حتى وقف قبالتها و رفع وجهها براحتى يديه التى حاصرت وجنتيها لتكون بمواجهته، ثم انحنى عليها و قبل ما بين عينيها بحركة بطيئة ثم عاد ينظر لها بتمعن لكل تفصيلة من ملامحها الجميلة و قال لها بهمس مثير:
ــ مبارك عليا أحلى عروسة فى الكون كله.
ابتسمت بخجل و قالت:
ــ مبارك عليا انت يا أطيب و أحن سفيان فى الدنيا.
اتسعت ابتسامته بعشق قائلا:
ــ انتى الطيبة اتخلقت من قلبك و الحنان اتخلق لروحك الحلوة...انتى رفيقة دربي فى الدنيا و حورائى فى الجنة بإذن الله يا ملك.
تنهدت بهيام أمام تيار عشقه الجارف و أخذت تهز رأسها بيأس من نفسها و هى تقول:
ــ أنا فعلا لسانى عاجز عن الرد...مش عارفة أجارى كلامك اللى أشبه بالشِعر، مبعرفش أقول كلام جميل زيك كدا بس قلبى مليان حب ليك يكفينا العمر كله و يفيض.
جذبها برفق بالغ إلى صدره و أخذ يمسد على حجابها الأبيض اللامع و هو يقول مبتسما:
ــ عارف يا ملك...عارف و حاسس بكل اللى فى قلبك لأنه ميزيدش أبدا عن اللى شايلهولك فى قلبى من سنين...ميهمنيش تجارينى فى الكلام لأن كلامى ليكى نابع من صميم قلبى و بعبرلك بيه عن حبى و مش مستنى منك أى رد...أنا أقول و انتى تسمعى...مش عايز منك أكتر من كدا...ابتسامتك الجميلة دى بتوصلى كل الردود اللى بيكون نفسك تقوليها...روحى حاضنة روحك و بتحس بيها أوى يا أغلى من روحى.
تنهدت ملك بعمق و رأسها مستقر على صدره و راحت تشدد من تشبثها بسترة حلته من الخلف كرد فعلى طبيعى بعد استماعها إلى كلماته المُسكرة، فاتسعت ابتسامته أكثر بعد فعلتها و استند بذقنه إلى رأسها و قال بحنو:
ــ تعالى يلا نغير هدومنا دى علشان نتوضا و نصلى و نبدأ حياتنا بالدعاء علشان ربنا يباركلنا فى أيامنا.
تركت سترته و ابتعدت عنه قليلا و تطلعت إليه بابتسامة مشرقة و قالت:
ــ ماشى يلا....بس...احم..ممكن تساعدنى فى فك الحجاب؟!...أصله مليان دبابيس كتير أوى.
ــ بس كدا!!..انتى تؤمرينى يا نور عيني.
قبض على كفها و سارا إلى غرفة النوم و أجلسها أمام المرآة و بدأ فى استخراج الدبابيس واحدا تلو الآخر، إلى أن أزال الحجاب تماما، ثم قام بفك عقدة شعرها لينسدل أمامه على ظهرها، متطلعا إليه بإعجاب واضح، فأمسك رأسها بين يديه و انحنى ليقبل شعرها و قال بابتسامة معجبة:
ــ ها كدا مهمتى خلصت و لا لسة عايزة مساعدة تانية؟!
أخذت تفرك كفيها بتوتر و هى تقول بتردد شديد:
ــ ها..اممم...اه.
ضيق جفنيه بترقب قائلا:
ــ عايزانى أفتحلك السوستة بس مكسوفه...مش كدا؟!
هزت رأسها بموافقة دون أن ترد و هى فى قمة خجلها، فابتسم بسخرية من خجلها و شرع فى فتح سحاب الفستان و ظل يعبث به و يحركه صعودا و هبوطا فى بادئ الأمر و كأنه معطل، ليُثير خجلها أكثر و يرى توترها مستمتعا بذلك الأمر، فقالت له بحدة طفيفة و وجنتيها تشتعلان من الخجل:
ــ سفيان انت بتعمل ايه؟!
أجابها ببراءة مصطنعة و بنبرة ماكرة:
ــ مش عارف... السوستة معلقة مش راضية تفتح.
تأففت بتذمر و لكنها صدقته و جلست مستسلمة له تمام و هو يبتسم بمكر محاولا كبت ضحكته بصعوبة، إلى أن رأف بحالها و فتحها بالفعل و بدأ يظهر أمامه ظهرها العارى، حيث كان الفستان من النوع المغلق و بأكمام طويلة، انحبست أنفاسه ما إن رأى بشرتها الناعمة، و بمجرد أن شعرت بأنفاسه تلفح بشرة ظهرها قامت منتفضة من المقعد و استدارت له و هى تقبض على مقدمة الفستان من الأمام حتى لا يسقط أمامه و قالت بتوتر و خجل:
ــ خلاص.. كدا كفاية...أنا.. أنا هعرف أكمل لوحدى.
طالعها بابتسامة ماكرة و لم يتحرك قيد أنملة، بل نزع عنه سترة حلته ثم فك أزرار كمه و قام بثنيه عدة ثنيات ثم بدأ فى نزع رابطة العنق تلاها فك أزرار قميصه واحدا تلو الآخر، كل ذلك تتابعه بعينين متسعتين من الصدمة، و عند قرب انتهائه من فك ازرار القميص تركت فستانها متناسية إمكانية سقوطه و أشارت بكفها أمام وجهه و هى تقول بهلع:
ــ انت...انت بتعمل ايه؟!..انت قولت هنصلى الأول.
هز كتفيه لأعلى بعدم اكتراث و زم شفتيه قائلا بلامبالاة:
ــ عادى..
احتدت نبرتها بانفعال صارخة به:
ــ هو ايه اللى عادى...نسيت كلامك برا و انت بتقول نبدأ حياتنا بالدعاء و الصلاة علشان ربنا يباركلنا؟!
لوى شفتيه لجانب فمه بابتسامة ساخرة ثم قال ببرود:
ــ و أنا لسة عند كلامى..
قطبت جبينها باستغراب من تناقض كلامه مع فعله، فابتسم على مظهرها ثم قال بمكر:
ــ أنا بخلع الجاكيت و بشمر كمى علشان أعرف اتوضى...مش معقول يعنى هتوضى بجاكيت البدلة...و لا انتى دماغك راحت لفين.
ارتخت ملامحها قليلا بارتياح ثم أردف بجدية:
ــ أنا خارج أتوضى فى الحمام على ما تكونى غيرتى هدومك...و بعدين هبقى اغير انا و نصلى جماعة ان شاء الله.
غمزها بعين واحدة و تركها بصدمتها و خرج إلى المرحاض، فنظرت إلى أثره بابتسامة خجلى و وقفت أمام المرآة و راحت تضرب رأسها و هى تلوم و توبخ حالها قائلة:
ــ يخربيتك يا ملك انتى مخك راح فين..
صفى النية..ها...صفى النية.
ثم شرعت فى تبديل الفستان مرتدية بيجامة حريرية محتشمة إلى حد ما، و خرجت إلى المرحاض لكى تتوضأ، فخرجت من الغرفة فى نفس لحظة خروج سفيان من المرحاض، فابتسم لها بحب و اعجاب ثم قال:
ــ هغير و أجيلك.
أومأت له بموافقة دون رد و بعد دقائق كان يؤمها مصليا بها صلاة العشاء ثم صليا ركعتين شكر لله و بعدما انتهيا وضع يده على رأسها مرددا دعاء الزواج: "اللهم انى أسألك خيرها و خير ما جُبلت عليه، و أعوذ بك من شرها و شر ما جُبلت عليه" ثم استرسل دعواته بدوام الصحة لها و السعادة و البركة لهما و أن يرزقهما الله بالذرية الصالحة.
نهض من جلسته و أنهضها معه، ثم قام بفك حجاب إسدالها و جسدها يرتجف من فرط الرهبة، فأحس باهتزاز جسدها أمامه، فقبض على كفيها و قال لها بعتاب:
ــ فى واحدة تخاف من حبيبها اللى بيعشقها و مستعد يفديها بروحه؟!
ازدردت لعابها بصعوبة ثم قالت بتوتر:
ــ سفيان..أنا..أنا...مش عارفه أشرحلك ازاى...بس أنا مكسوفة أوى.
ابتسم بحنو قائلا:
ــ طاب ما أنا عارف إنك بتتكسفى...
احتضنها باشتياق و حب ثم قال و هى بين ذراعيه:
ــ أنا كفاية عليا أوى انك بقيتى ملكى و من حقى ألمسك و أخدك فى حضنى و أنام...يكفينى إن عينى تشوفك ليل و نهار و فى أى وقت....إنك اتكتبتى على اسمى و هتقضى معايا اللى باقى من عمرى...مش عايز أكتر من كدا يا ملك صدقينى...عمر ما كان حبى ليكى حب رغبة أو حب شكل او جسم...لا لا...دا عشق روح لـ روح...قلب لـ قلب...عشق سفيان لـ ملك.
تنهدت بارتياح و هى تبتسم بسعادة ثم ابتعدت عنه قليلا لتنظر فى عينيه بعمق قائلة بعشق جارف:
ــ أنا كل لحظة بتعدى عليا بحبك أكتر و أكتر و أكتر.
جذبها مرة أخرى إلى صدره و شدد من احتضانها ثم ابعدها قليلا و قال بنبرة مرحة:
ــ مش هتقلعى الإسدال دا بقى..؟!
أومأت و هى تبتسم بخجل ثم قامت بنزعه و ألقته على أقرب كرسى لها، فباغتها بحملها بين يديه فى حركة سريعة منه، و هى تصرخ من فرط الفزع من فعلته المفاجئة، ثم خبأت وجهها فى عنقه و هى تلف ذراعيها حوله، بينما هو يضحك بسعادة عارمة و سار بها إلى غرفة النوم.....
مرت أيام عديدة و هما ينعمان بالحب و الاحترام المتبادل حتى انتهت إجازتهم و عادا مرة أخرى إلى عملهما بالشركة.
بينما على الجهة الأخرى كان عماد قد قام بخطبة داليا من خالها أحمد المقيم فى مدينة الأسكندرية و اتفقا على الزواج بعد ثلاثة أشهر.
أحب عماد داليا كثيرا، و كان دائما يغدقها بوابل حبه و عشقه، كان يُكثر من زيارتها و يقتنى لها أثمن الهدايا، و لم ينسى ملك ابنتها من الهدايا و الاهتمام، الأمر الذى زاد من احترام داليا له و بدأ ينمو داخلها اعجابا واضحا تجاهه يوما ما سيتحول لحب، فقد جعلها تدرك أنها ارتكبت أكبر خطيئة فى حق ذاتها حين سعت للزواج ممن لا يشعر بها و لا يراها من الأساس، ادركت أن الأنثى غالية يجب أن يسعى إليها الرجل، و أن يبذل لها الغالى و النفيس حتى ترضى عنه و تخضع له، أدركت أن الرجال قوامون على النساء حتى فى إسداء الحب، فالرجل باهتمامه و حنوه اللامتناهى للمرأة يستطيع أن يكسب قلبها، بل تهديه له بطيب نفس، بعكس المرأة، فمهما قدمت من حب و اهتمام فـلن تجد مقابل من الرجل طالما أن قلبه فى مكان آخر.
شعرت داليا أن الله عوضها عن حب سفيان بحب عماد، فياله من عوض ستظل تشكر الله عليه ما تبقى من حياتها.
مر شهران على زواج سفيان و ملك....
فى إحدى الأيام داهمها أثناء عملها بالشركة صداع فتاك جعلها تتصل بسفيان و تخبره بأنها ستعود إلى المنزل مبكرا عن موعدها المعتاد بحجة انشغالها بالأعمال المنزلية و قد أذن لها.
فى طريق العودة دلفت احدى الصيدليات و اشترت منها اختبار حمل و من ثم عادت لشقتها سريعا و بالكاد استطاعت استخدامه من شدة ألم رأسها حتى أنها تركته فى المرحاض و لم تنتظر رؤية النتيجة، فقد كاد ان يُغشى عليها من فرط الألم.
استندت على الحائط و هى ممسكة برأسها إلى أن وصلت لأقرب أربكة بصالة الشقة و ألقت بجسدها عليه بإهمال.
لحظات و كان الباب يُطرق، فارتعدت أوصالها خشية أن يكون الطارق سفيان و ان يراها بهذه الحالة السيئة، و لكن ما طمئنها قليلا أنه يفتح بنسخة مفاتيحه و يدخل مباشرة دون أن يطرق الباب، فنهضت من جلستها و استندت على الحائط إلى أن وصلت لباب الشقة و قالت بصوت متعب:
ــ مين؟!
رد الطارق:
ــ افتحى يا ملك أنا سلمى.
تنهدت بارتياح ثم فتحت الباب بهيئتها المذرية، فاضطربت سلمى لمرآها بهذه الحالة و أسندتها سريعا و دلفت و اغلقت الباب و هى تقول بعتاب و قلق:
ــ أنا قلبى كان حاسس...بقى كدا يا ملك...مفيش فايدة فيكى أبدا...انتى ساكتة على نفسك ليه بس.
ما إن جلست على الأريكة حتى تحدثت بصوت مرهق للغاية:
ــ خايفة...خايفة اوى يا سلمى لأرجع لنقطة البداية.
امتعضت ملامح سلمى بألم من أجلها و أخذت تربت على ظهرها باشفاق قائلة:
ــ يا حبيبتى ربنا يحفظك و يكفيكى شر المرض دا تانى...بس واجب بردو تطمنى علشان لو فى حاجة تعالجيها و هى لسة فى أولها.
أخذت تهز رأسها بموافقة و لم تقوى على الرد، فقد اشتد بها الألم، فنهضت سلمى سريعا تبحث عن الأقراص المسكنة إلى أن وجدتها و تناولت منها ملك قرصا ثم مددت جسدها على الأريكة و سلمى تجلس قبالتها تراقبها بقلب منفطر و إشفاق بالغ.
بعد مرور أكثر من نصف ساعة بدأ ألم رأسها يقل نوعا ما، و عادت لتحدث سلمى حتى تطمئنها عليها بعدما بلغ منها القلق و الخوف أقصاه، فقالت بضعف:
ــ سلمى انتى كنتى جاية ليه أصلا؟!
ــ أنا كنت بنشر هدوم فى البلكونة و شوفتك و انتى راجعة بدرى عن ميعادك و كنتى ماشية بتطوحى و كنتى هتقعى، فقلقت عليكى و قولت أجيلك أشوف ايه الحكاية و اللى حسبته لقيته.
تنهدت بتعب ثم قالت:
ــ حبيبتى يا سلمى...انتى أختى اللى أمى ماجبيتهاش.
سكتتا قليلا ثم قالت ملك و كأنها تذكرت شيئا ما لتوها:
ــ سلمى أنا جبت اختبار حمل و عملته و سيبته فى الحمام...مقدرتش أستنى لما أشوف النتيجة...ممكن تجيبيه لو سمحتى..
ابتسمت سلمى بسعادة و قالت:
ــ حاضر يا حبيبتى ثوانى..
ذهبت سلمى و أحضرت الاختبار و الابتسامه الواسعة تزين محياها و قالت بسعادة بالغة:
ــ ألف ألف مبارك حبيبة قلبى...دا سفيان هيفرح أوى.
تجهمت ملامحها و اغرورقت عيناها بالعبرات، فطالعتها سلمى باستغراب قائلة:
ــ مالك يا ملك...انتى مش مبسوطة وولا ايه؟!
أجهشت ملك بالبكاء و هى تقول:
ــ أنا مش عارفة أفرح إنى حامل و لا أزعل إنى مريضة بالسرطان...و سفيان...هقوله أنهى خبر الأول.
ــ يا بنتى انتى بتقدرى البلا قبل وقوعه ليه بس...مش يمكن يكون صداع لأى سبب تانى؟!.
أجابتها و هى تبكى:
ــ أنا قلبى حاسس إنه مش صداع عادى أبدا يا سلمى.
ــ خلاص يبقى نقطع الشك باليقين و نروح نكشف النهاردة...
ــ طاب هقول ايه لـ سفيان؟!
ــ قوليله انك عندك ألم فى معدتك بقالك فترة و تعبك جامد النهاردة و أنك هتاخدينى معاكى و أنتى بتكشفي.
سكتت مليا تفكر بكلام سلمى ثم أومأت بقلة حيلة و قالت:
ــ ماشى يا سلمى... بس هنروح لدكتور مين؟!
ــ هنروح للدكتور ناجى اللى كان متابع حالتك زمان قبل ما تسافرى ألمانيا.
ــ يعنى انتى عارفة مكان العيادة.
ــ أيوة يا ملك...أنا كنت روحت معاكى قبل كدا كذا مرة.
ــ اعذرينى يا سلمى... أنا مش فاكرة أى حاجة و لا حتى الدكتور ناجى دا.
ربت على كتفها بحنو قائلة:
ــ و لا يهمك يا حبيبتى... أنا هسيبك دلوقتي علشان أجهز الغدا على ما يكون ريان و سفيان رجعوا من الشركة و بعدين نبقى نمشى... تمام؟!
أومأت بابتسامة قائلة بامتنان:
ــ ماشى يا سلمى...أنا مش عارفة أشكرك ازاى.
هزت رأسها بيأس قائلة بعتاب:
ــ هتقوليلى بردو شكر و كلام فاضى من دا... قومى يا بنتى ربنا يهديكي شوفى هتعملى ايه؟!
ضحكت ملك بخفوت ثم نهضت من جلستها تلتها سلمى و ذهبت كل منهما لتجهيز وجبة الغداء.
كانت سلمى تقف بمطبخها منشغلة البال شاردة الذهن فى حال ملك، حتى أن ريان دخل إليها المطبخ و لم تشعر به من شدة شرودها، الأمر الذى أثار دهشته البالغة، و لم تنتبه له إلا حينما أحاط خصرها بذراعيه من الخلف، و قال لها بابتسامة حانية:
ــ حبيبى سرحان فى ايه؟!
استدارت له و طالعته بابتسامة باهتة استشعر من خلالها حزنها الدفين، الأمر الذى أثار قلقه البالغ، فترك خصرها و أحاط وجنتيها بكفيه قائلا بقلق:
ــ مالك يا سلمى...ايه اللى مزعلك يا حبيبة قلبى؟!
اغرورقت عيناها بالدموع و هى تقول بنبرة باكية:
ــ ملك صعبانة عليا أوى يا ريان.
رد بفزع:
ــ مالها ملك فيها ايه؟!
ــ تعالى نطلع نقعد برا و أنا هحكيلك.
خرجا و جلسا على الأريكة بالصالة، فقالت سلمى بنبرة باكية:
ــ ملك بقالها فترة كبيرة بيجيلها صداع شديد و النهاردة اكتشفت انها حامل، و عندها احساس قوى ان الكانسر رجعلها تانى... تصور لما شوفتلها الاختبار و قولتلها انها حامل مفرحتش بالعكس زعلت و عيطت كمان.
تجهمت ملامحه بصدمة، سرعان ما تحولت للحزن و الاشفاق قائلا:
ــ لا حول و لا قوة إلا بالله....اه يا ملك مش مكتوبلك تفرحى و لا ترتاحى...و لا سفيان.. دا ممكن يروح فيها.
بكت سلمى و قالت و هى تشهق من البكاء:
ــ عارف...رغم الابتلاء اللى أنا فيه و حرمانى من نعمة الانجاب، بس حاسة ان ملك رغم ان ربنا كرمها بالحمل بس ابتلائها أشد منى....الله يكون فى عونها...شافت كتير أوى و اتحملت كتير، و الظروف دايما معانداها... حتى لما اتجوزت اللى بتحبه مالحقتس تفرح معاه.
قالت كلماتها الأخيرة ثم انخرطت فى بكاء مرير تتمزق له نياط القلوب، فجذبها ريان إلى صدره و أخذ يربت على ظهرها بمواساة قائلا:
ــ اهدى يا سلمى...دا قضاء ربنا و مينفعش نعترض عليه...يمكن يكون اختبار ليها علشان ربنا يشوف هتصبر و لا لأ و بإذن الله أزمة و هتعدى زى اللى قبلها.
أجابته من بين شهقاتها برجاء:
ــ يا رب يا ريان...يا رب.
تنهد بحزن بالغ و هو يتمتم:
ــ يا رب هون عليها ابتلائها و اربط على قلب سفيان و صبره...اللهم آمين.
بينما عند سفيان فتح باب شقته بمفتاحه الخاص و سار إلى الطاولة الكائنة بمنتصف الصالة و وضع مفاتيحه و هاتفه عليها، فلمح ذلك الاختبار، فأمسكه و رفعه أمام عينيه و أخذ يديره بين أصابعه يتفقد النتيجة، فأجزم أن النتيجة إيجابية عندما تذكر داليا حين أطلعته على اختبار حملها بابنته ملك، فارتسمت علامات السعادة الغامرة على قسمات وجهه و رفع عينيه إلى السماء يحمد الله على تتويج نعمة زواجه منها بالانجاب، و لكنه أقر فى نفسه أن يتظاهر بعدم معرفته لذلك الأمر حتى تخبره هى بذاتها.
ناداها من مكانه فخرجت له من المطبخ و هى تتظاهر بقدر الإمكان بكونها بخير، و أقبلت عليه بابتسامة مشرقة بثت الراحة و السعادة فى أوصاله، فتح ذراعيه لها على آخرهما حتى ارتمت بين أحضانه و قالت بحب:
ــ حمد الله على سلامتك يا حبيبى.
قبل جبينها ثم قال:
ــ الله يسلمك يا ملاكى...ها يا ستى خلصتى شغل البيت اللى كان مضايقك دا؟!
أومأت و هى مستندة برأسها إلى صدره قائلة:
ــ أيوة خلصت كل حاجة...بس كنت عايزة أقولك على حاجة.
اتسعت ابتسامة سفيان بسعادة غامرة ظنا منه أنها ستخبره بخبر حملها و قالت بترقب:
ــ أنا اتفقت مع سلمى تيجى معايا نروح نكشف عند دكتور باطنة أصلى بقالى فتره معدتى تعبانى و مش قادرة أكل كويس.
هز رأسه بتفهم ظنا منه أنها تريد أن تفاجئه بعدما تتأكد من الطبيب بعد الكشف، و قال مبتسما بسعادة:
ــ ماشى يا حبيبتى اللى انتى عايزاه...انا معنديش أغلى منك يا ملك.
ابتسمت له بعشق بالغ و فى ذات الوقت كان القلق و الخوف ينهشان بصدرها نهشا، و لكنها كم حاولت اقناع ذاتها بأن كل شيئ سيسير على خير ما يرام.
يتبع.....
مع تحياتي/دعاء فؤاد
الفصل السابع و العشرون و الأخير
بقلب خفّاق و جسد مرتجف و ملامح مترقبة و جبين متعرق، تجلس ملك قُبالة الطبيب ناجي الذى انتهى لتوه من إجراء كشفٍ شامل عليها، و ها هو يفكر من أين يبدأ لها سرد توقعاته المؤسفة حول شكواها المستمرّة من الصداع، و لكنه أمر لا بد منه، فبعد قليل من الحيرة أردف بأسف:
ــ للأسف يا ملك احتمال كبير جدا يكون الصداع دا نتيجة خلايا سرطانية بتهاجم المخ، بس اللى هيطمنا هى الأشعة...هتعمليلى أشعة رنين مغناطيسي على المخ حالا، علشان لو لا قدر الله طلعت توقعاتى صحيحة نبدأ فورا فى العلاج لأن أى تأخير مش فى مصلحتك.
اغرورقت عيناها بالدموع و تحشرجت نبرتها بالبكاء، و لكنها حاولت قدر الإمكان أن تتماسك و تصمد أمام تلك الحقيقة المريرة، فابتلعت غصة أليمة توقفت بحلقها و قالت بأسى:
ــ يعني هاخد علاج كيماوى تانى يا دكتور؟!
زم شفتيه بأسف و هو يوميئ برأسه قائلا:
ــ مفيش قدامنا حل تانى....أتمنى بس إنه لو كانسر يكون فى مراحله الأولى علشان نقدر نسيطر عليه.
أغمضت ملك عينيها بألم و حسرة، فقد كاد قلبها أن يتوقف من فرط الصدمة رغم سابق توقعها، و لكنها كانت تُمنى نفسها بأنها ربما تكون مخطئة، بينما سلمى ترمقها بعينين دامعتين حزنا عليها و تألما لأجلها، و قالت لها بنبرة حزينه:
ــ مستنية ايه يا ملك؟!... قومى بسرعة نروح نعمل الأشعة.
بادلتها ملك بنظرة يائسة و ملامح بائسة و كأنها تقول لها"و ما الجدوى....لقد انتهيت و هوت أحلامى لسابع أرض".
فهمت سلمى نظرتها الخاوية فنهضت من مكانها و جذبتها من معصمها و هى تصرخ بها بإصرار:
ــ قومى يلا يا ملك...متستسلميش لليأس و تخليه يتمكن منك..."لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون".
دعم كلامها الدكتور ناجى قائلا بنصح:
ــ مدام سلمى معاها حق يا ملك...الوقت لسة فى ايدينا و ان شاء الله خير...
وقفت ملك و قالت و هى تشهق ببكاء:
ــ استغفر الله العظيم...رب لا أسألك رد القضاء و لكنى أسألك اللطف فيه.
ربتت سلمى على كفها قائلة بحنو:
ــ أيوة كدا يا ملك...هو دا اللي المفروض نقوله فى شدة زى دى...ربنا يفرج كربك يا حبيبتى و يهون عليكي مصابك...و مين عارف يمكن ميكونش فيه حاجة..
هزت ملك رأسها بإيجاب ثم نظرت للطبيب قائلة بامتنان:
ــ شكرا يا دكتور...ان شاء الله هعمل الأشعة و أرجع لحضرتك تانى..
أومأ الطبيب قائلا بجدية:
ــ تمام و أنا فى انتظارك...بس اوعى تأجلى الأشعة يا ملك.
أجابته بنبرة ضعيفة خافتة:
ــ هعملها حالا ان شاء الله.
استدارت الفتاتان باتجاه الباب لتغادرا، و لكن ملك توقفت فجأة حين تذكرت تلك المضغة العالقة بأحشائها، و هتفت بذعر:
ــ الحمل!...الحمل يا سلمى.
كممت سلمى فمها بيدها و شهقت بصدمة، فعادت ملك مرة أخرى للطبيب تسأله بهلع:
ــ دكتور ناجى انا نسيت أقول لحضرتك إنى حامل.
اتسعت عيناه على آخرهما ثم سألها بترقب:
ــ حامل فى الشهر الكام؟!
ردت سلمى بدلا عنها:
ــ هى لسة عارفة النهاردة يا دكتور..يعنى تقريبا كدا فى بداية الشهر التانى.
تجهمت ملامح الطبيب بحزن بالغ ثم قال لها:
ــ اتفضلوا اقعدوا تانى.
جلستا كل بمقعدها مرة أخرى فى انتظار ما سيقوله الطبيب، الذى سكت مليا ثم قال بجدية:
ــ دلوقتي الاختيار فى ايدك انتى...أولا الأشعة مش هينفع تعمليها و انتى حامل، و فى نفس الوقت الأشعة دى هى الفيصل اللى هيخلينا نشخص حالتك صح، ثانيا لو ثبت فعلا إن الكانسر رجع تانى بردو مش هينفع تاخدى العلاج الكيماوى مع الحمل، يعنى فى كلتا الحالتين الحمل فى خطر و غالبا لازم تنزليه قبل ما نبدأ فى أى خطوة.
انكمشت ملامح ملك بألم بالغ و حسرة قاتلة و الدموع تنحدر من مقلتيها و هى لا تشعر بها، ارتجفت شفتاها و تعلقت غصة أليمة بحلقها ابتلعتها بصعوبة ثم قالت بتحسر:
ــ و لو عايزة أكمل الحمل و بعدين أبقى أكشف و أتعالج ايه اللى هيجرى؟!
رد الطبيب بنبرة حازمة:
ــ يبقى انتى كدا بتحكمى على نفسك بالموت.
أجابته بحدة طفيفة جراء جرحها الوَعِر:
ــ بس احنا مش متأكدين ان دا كانسر...ما يمكن يكون فى سبب تانى...أضحى بابنى علشان شوية احتمالات يا تطلع صح يا تطلع غلط؟!
رمقتها سلمى باندهاش من حدتها التى لم تعهدها فيها من قبل و همست لها قائلة:
ــ ملك اهدى شوية...الدكتور عايز مصلحتك.
طالعها باشفاق بينما استرسل بنبرة يشوبها الجدية و الترهيب:
ــ ملك الأعراض اللى انتى بتقوليها دى بتأكدلى إن دا كانسر بنسبة ٥٠٪، و متستهونيش بالنسبة دى، بس فى كل الأحوال مينفعش أشخص بدون أشعة.
دفنت ملك وجهها بين كفيها و أجهشت فى بكاء مرير مزق نياط قلوبهم، فجسدها بأكمله يرتجف، و شهقاتها تعلو و تأِن من الحزن و الألم، فبكت سلمى على حالها و انفطر قلبها لأجلها و نهضت لتأخذها بين أحضانها و ربتت على ظهرها بمواساة و هى تقول:
ــ ملك متخافيش احنا جنبك و معاكى مش هنسيبك، و بكرة لما تخفى ان شاء الله ربنا هيعوض عليكى بالذرية الصالحة..أهم حاجة صحتك دلوقتي...سفيان مش حمل فراق تانى يا ملك...المرادى ممكن يروح فيها بجد.
علت شهقاتها أكثر على ذكر سفيان و ازداد ارتعاش جسدها، فنظرت سلمى للطبيب و قالت بحرج:
ــ احنا آسفين يا دكتور ان احنا معطلينك.
أماء لها برأسه قائلا بسعة صدر:
ــ و لا يهمك يا مدام سلمى...أنا مقدر طبعا الحالة اللى هى فيها.
نهضت ملك باندفاع و خرجت من غرفة الكشف بخطوات متعجلة، فلحقت بها سلمى إلى أن غادرتا العقار بالكامل و ركبتا تاكسى عائدتان إلى المنزل.
عند بوابة المنزل استوقفتها سلمى و هتفت بها بجدية:
ــ ناوية على ايه يا ملك..
أجابتها بنبرة باكية:
ــ مضطرة أحكى لسفيان كل اللى حصل عند الدكتور...لازم ياخد قرار معايا...لان اللى فى بطنى دا يبقى ابنه زى ما هو ابنى و من حقه يقرر اذا كان عايزه و لا لأ..
لم تنتظر رد سلمى و صعدت مباشرة إلى شقتها، بينما سلمى تنظر فى أثرها بحزن بالغ و هى تهز رأسها بأسى، ثم صعدت هى الأخرى إلى شقتها.
بمجرد أن فتحت ملك باب شقتها و ولجت إلى الداخل، خرج لها سفيان من غرفة مكتبته، و ما إن رأته حتى خارت قواها و هوى ثباتها الزائف و هرولت إليه ترتمى بين أحضانه، ثم انفجرت فى بكاء و نحيب و جسدها يهتز بشدة بين ذراعيه، الأمر الذى أصابه بالذعر، و بث الرعب فى أوصاله، فشدد من احتضانها و هو يقول بقلق بالغ:
ــ مالك يا ملك... فى ايه.؟!.. ايه بس اللى حصل...؟! بطلى عياط و فهمينى الله يخليكى هموت من القلق.
لم ترد و انما تركت عينيها الذارفتان بغزارة ترد بدلا عنها، مما زاده قلقا و ذُعرا، فأخذ يجذبها بعيدا عن حضنه لكى يحدثها، إلا أنها أبت أن تتجاوب معه، و تشبثت به أكثر و هى تدفن وجهها الباكى فى عنقه و ما زالت مستمرة بالبكاء و النحيب، فلم يجد بدا من حملها على ذراعيه بحركة سريعة باغتتها، و لكنها استسلمت له، و أخذها و سار بها إلى إحدى الأرائك الكيبيرة الكائنة بالصالة و وضع جسدها الممدد عليها برفق بالغ، ثم نزل على الأرض بركبتيه مستندا بذراعيه إلى الأريكة بجوارها، ثم قام بفك حجابها و حرر شعرها من عقدته و قد هدأ بكائها نوعا ما و لكنها مطبقة الجفنين، فأخذ يمسد على شعرها بحنو و هو يقول:
ــ كدا يا ملك تقلقينى عليكى...مالك بس يا حبيبة قلبى...افتحى عينيكى و احكيلى دا أنا حبيبك.
أخذت تجفف دموعها بكُميها، ثم قالت من بين شهقاتها الخافتة و هى تنظر إليه مباشرة:
ــ الصداع اللى كان بيجيلى احتمال كبير يكون كانسر، و الدكتور طلب منى أشعة على المخ، بس أنا لسة عارفة النهاردة إنى حامل و الدكتور قالى اختارى يا إما الحمل يا إما صحتى و يمكن حياتى...
صدمة...صدمة احتلت جوارحه، مع ذهول و عدم تصديق لِما يسمعه بأُم أذنيه، و لكنه حاول أن يتدارك حاله حتى لا يثير حزنها أكثر، فازدرد لعابه بصعوبة متخطيا غصة أليمة عالقة بحلقه و قال بنبرة حاول أن تبدو هادئة:
ــ ان شاء الله يا حبيبتى هيكون خير و الكانسر مش هيرجعلك تانى و هتكونى كويسة...طول ما انا جنبك اوعى تخافى يا ملك و لا حتى من المرض...
أدمعت عيناه و هو يسترسل حديثه بحسرة قاتلة و ألم بالغ:
ــ و حتى لو كان كانسر ايدى فى ايدك و هنحاربه سوا و انتى اللى هتنتصرى عليه فى الآخر ان شاء الله.
ردت عليه بنبرة متألمة:
ــ و ابننا اللى فى بطنى يا سفيان...هنضحى بيه بالسهولة دى؟!
أجابها و هو يزيل دمعة متمردة من عينه قائلا:
ــ ابننا ربنا هيعوضنا بغيره ان شاء الله، إنما انتى متتعوضيش يا ملك و لا بكل بنات العالم و لا بكل كنوز الدنيا...ملك فراقك المرة دى معناها موتـ...
أسرعت بوضع كفها على فمه تمنعه من إكمال حديثه و قالت بلهفة:
ــ متكملش يا سفيان...ان شاء الله هتعالج و هكون كويسة و هنكمل حياتنا سوا و هنجيب ولاد كتير يملوا علينا الدنيا.
أحاط وجنتيها بين كفيه و قال و هو يبتسم بأمل من بين ملامحه الحزينة و قال:
ــ ان شاء الله يا حبيبتى هيكون ابتلاء و ربنا هيجبر خاطرنا و هيعدى.
اومأت و هى تبادله بسمة الأمل، فنهص و اوقفها معه و قال بجدية:
ــ قومى يلا اغسلى وشك و البسى طرحتك تانى على ما أكون انا لبست علشان نشوف دكتور نسا كويس علشان.....علشان ننزل الجنين.
انكمشت ملامح ملك و همت بالبكاء بعد كلامه الأخير، إلا أن سفيان صاح بها بحدة و حزم:
ــ متعيطيش...مش عايز أشوف دموعك دى تانى...قولتلك انتى أغلى عندى من أى حاجة...و بعدين أكيد الجنين لسة مفيش فيه نبض و هيكون الموضوع سهل ان شاء الله.
هزت رأسها بايجاب عدة مرات ثم تركته و توجهت للمرحاض، بينما هو دلف غرفة نومه بتثاقل و ألقى بجسده على الفراش بعدما هوى قناع صموده و ثباته، اهتز جسده و هو يتأوه بألم و حسرة قائلا و هو يبكى:
ــ اه يا ملك...اتحملتى كتير اوى و لسة بتآسى...يا ريتنى كنت مكانك على الأقل كنت اتحملت عنك شوية...
بعد دقائق معدودة نهض من الفراش و اتجه إلى خزانة ملابسه و هو يتمتم بصوت منخفض ندما على ما تفوه به:
ــ أستغفر الله العظيم...يا رب سامحنى و هون عليها و اشفيها يا رب و متوجعش قلبى عليها تانى...اللهم آمين.
بعد مرور حوالى ساعة كان ملك و سفيان يجلسان أمام طبيب الأمراض النسائية بعدما شرح له حالتها و اوضح ضرورة إجهاض الجنين حفاظا على حياتها، و ها هو يكتب الأدوية الموصوفة ثم ناولها لسفيان و هو يقول:
ــ الحمل لسة فى اوله و ان شاء الله هينزل بالأقراص اللى كتبتها دى و مش هنحتاج لعمليات اجهاض.
أومأ سفيان بموافقة و هو يقول:
ــ تمام...متشكر جدا يا دكتور.
الطبيب:
ــ العفو...لو فى أى حاجة اتصل بيا فورا.
اومأ بامتنان ثم قال:
ــ الف شكر يا دكتور....عن إذنك.
أحاط كتفيها بذراعه و أخذها و نزل من العقار، و قبل أن يستوقف سيارة أجرة، قالت له:
ــ هنروح فين دلوقتي؟!
أجابها بجدية:
ــ هنروح دلوقتى نعمل الأشعة اللى دكتور ناجى طلبها قبل ما تتعبى من الاجهاض و منقدرش نروح...و لو استلمنا تقارير الأشعة الليلادى نطلع بيها على الدكتور ناجي و نبدأ فورا فى العلاج... مفيش داعى للتأجيل.
هزت رأسها باستسلام تام، فقبض على كفها بتملك و هو يناظرها بقلب منفطر ثم استوقف سيارة أجرة و انطلقوا إلى مركز الأشعة.
اقترب الليل على الانتصاف و ها هما ملك و سفيان يجلسان أمام الدكتور ناجي و هو يتفحص الأشعة بتركيز شديد، و ما إن انتهى حتى تطلع إليهما بتجهم قائلا بأسف:
ــ زى ما توقعت يا أستاذ سفيان....فى خلايا سرطانية بتهاجم المخ بس اللى مطمنى إنه الحمد لله مش منتشر و لا متشعب، هو بس متركز فى بؤرة معينة و فى الحالة دى العلاج هنلاقى منه نتيجة سريعة...متقلقيش خالص يا ملك...الحمد لله إن احنا هنبدأ العلاج بدرى فى المرحلة الأولى و دا هيوفر علينا كتير جدا.
ازدرد سفيان لعابه بصعوبة بعدما جف حلقه من فرط الصدمات و سأله بترقب:
ــ و العلاج؟!....هيكون كيماوى بردو يا دكتور؟!
أومأ الطبيب بأسف و هو يقول بشفتين مزمومتين:
ــ أيوة يا أستاذ سفيان.
أغمض عينيه و قلبه يخفق بقوة بين ضلوعه من شدة الألم، حين ورد على ذهنه صورتها الذابلة التى خلَّفتها تلك الأدوية اللعينة، ناهيك عن الألم النفسى و الجسدى، بينما هى لا تعى بعد قسوة هذا النوع من العلاجات، فهى لا تتذكر أيامها السابقة أثناء تلقيها له، ربما تلك رحمة من الله و فضل، فهى بذلك ستعانى و كأنها تعانى للمرة الأولى و ليست الثانية، بل الويل لـ سفيان، فهو من عانى معها مأساتها الاولى، و ها هو يعانى معها مأساتها الثانية.
أعطاها الطبيب مدة ثلاثة أيام لحين نزول الجنين ثم البدء فى بروتوكول العلاج الكيميائيّ.
مرت ثلاثة أشهر من الألم و الضعف و الهوان على ملك و سفيان...لقد نحل جسدها حتى صارت أقرب للهيكل العظمى منها للانسان، الجميع حولها، أبوها لا يتركها إلا عند النوم، و سفيان لم يتوانى عن دعمها نفسيا و معنويا، حتى بعدما تغيرت ملامحها، مازال يتغزل بجمالها و لون عينيها الذى عاد مرة أخرى إلى الأخضر الباهت، و لكنه مستمرا فى دعمها و مساندتها إلى أقصى حد.
فى زيارة للدكتور ناجى لمتابعة آخر تطورات حالتها الصحية و مراحل تطور المرض، بعد الإطلاع على الأشعة و التحاليل، ارتسمت ابتسامة على ثغر الطبيب بثت الأمل فى أوصالهم، ثم قال بسعادة غامرة:
ــ ألف مبروك يا ملك...الحمد لله الخلايا الدخيلة تقريبا اختفت.
ابتسمت ملك بسعادة عارمة ثم سألته بتوجس:
ــ يعنى خلاص مش هاخد كيماوي تانى و هرجع تانى زى الأول.
ابتسم الطبيب بود قائلا:
ــ ان شاء الله هترجعي زى الاول و أحسن... بس لسة هنستمر كمان تلات شهور كعلاج تَحَفظى علشان نتأكد تماما انها اختفت و ملهاش جذور نهائي بين خلايا المخ.
تجهمت ملامحها باحباط، فرمقها سفيان باشفاق ثم ربت على كفها بحنو قائلا بابتسامة عذبة:
ــ نحمد ربنا يا ملك على اللى احنا وصلناله...و زى ما الشهور اللى فاتت عدت، الشهور اللى جاية أكيد هتعدى ان شاء الله.
هزت رأسها بابتسامة رضا جعلت السعادة تتسلل إلى جوارحه، غأغمص عينيه و هو يتضرع إلى الله فى سره و يحمده على تمام نعمته.
تزوجت داليا من عماد و سكنت فى شقة قريبة من منزل سفيان كما اتفقت معه مسبقا، و ذلك من أجل الحفاظ على استقرار أحوال ابنتهما فى المعيشة بينهما.
عند انتهاء الدوام بالشركة ذهبت داليا لمكتب زوجها و جلست بالمقعد المقابل له ثم قالت بتوتر:
ــ عماد أنا عايزة أطلب منك طلب؟!
ــ قولى يا حبيبتى سامعك..
ــ أنا عايزة أعدى على ملك مرات سفيان علشان أشوفها و أطمن عليها.
تنهد بضيق ثم قال بحدة طفيفة:
ــ داليا أنا بكون على آخرى و انتى قاعدة فى شقة سفيان...بحس بنار بتغلى جوايا.
هزت رأسها بأسى و قالت بحب:
ــ يا حبيبى انت عارف انى بروح علشان خاطر ملك... دى مهما كانت فى شدة و محتاجة الكل حواليها...و بعدين عايزة أشوف عملت ايه فى كشف النهاردة... يا رب الدكتور يكون طمنها.
سكت مليا ثم وافق قائلا باستسلام:
ــ ماشى يا ستى ربنا يشفيها يا رب...بس متتأخريش..
أومأت بابتسامة عريضة و هى تقول:
ــ ماشى يا حبيبى مش هتأخر... يلا سلام.
ذهبت داليا و اصطحبت ابنتها ملك معها، فقد تعلقت بملك الكبيرة خلال مدة اقامتها مع أبيها بعد زواج أمها...
التم الجميع حول ملك بعد عودتها من العيادة، سلمى و ريان و ولديهما، إبراهيم والد سفيان و زوجته، داليا و ابنتها و معها فاطمة أمها، يجلسون جميعا و الأمل يغمرهم و السعادة تَحُفهم، و لكنها ما زالت خائفة متوجسة من الأيام المقبلة، شعر سفيان بحيرتها و قلقها، فجلس بجوارها و أحاط كتفيها بذراع واحد و هو يقول بسعادة:
ــ ألف حمد الله على سلامتك يا ملاكى.
طالعته بابتسامة عاشقة ثم قالت:
ــ الله يسلمك يا سندى و قوتى...
دارت بعينيها بين وجوه الجالسين ثم قالت بحب و امتنان:
ــ الشدة اللى أنا فيها دى حسستني إنى مش وحيدة فى الدنيا أبدا و إنى مش يتيمة، بالعكس معايا أحلى و أحن أب فى الدنيا، و معايا زوج مالوش مثيل، و عيلته اللى هى عيلتى، و سلمى أختى، و حتى داليا مسابتنيش رغم الخلافات اللى كانت بينا، و ريان أخ بمعنى الكلمة، و طنط فاطمة اللى بتدعيلى من قلبها و كأنى بنتها، حتى ملوكة حبيبة قلبى كانت معايا فى رحلتى و بتسندنى...حسستنى انها بنتى و حتة منى....الحمد لله إن ربنا مطولش الرحلة، أى نعم لسة شوية بس الدكتور طمنا و قال انه خلاص يعتبر خفيت خالص...ربنا يخليكم ليا سند و عزوة دايما يا رب.
أخذ الجميع يرددون فى صوت واحد:
ــ اللهم آمين...
و بعد قضاء سهرة عائلية ممتعة و احتفال بسيط بقرب شفاء ملك، انصرف الجميع و بقيت ملك مع سفيانها.
اغلق سفيان باب الشقة ثم استدار لها بابتسامة عاشقة و أحاط وجنتيها بكفيه و قال بسعادة و بنبرة هائمة:
ــ أخيرا يا حبيبتى الغُمة هتنزاح و هنعيش كويسين و هتكملى معايا بأحسن صحة و حال.
اتسعت ابتسامتها بعشق بالغ ثم لفت ذراعيها حول خصره و استتندت برأسها على صدره و قالت بحب:
ــ الحمد لله يا حبيبى....عقبال ما ربنا يرزقنا بالخلف الصالح...
شدد من احتضانه لها حتى كاد أن يدخلها بين أضلعه و قال:
ــ ان شاء الله يا حبيبتى....و لو إنى كفاية عليا أوى إن ربنا شفاكى....مش عايز غيرك من الدنيا دى يا ملك...انتى دنيتى و جنتى و كل حاجة حلوة فى حياتى....ربنا رزقنى بملكتين... حد قدى؟!...انتى و ملوكة بنتى...أغلى اتنين فى حياتى.
أغمصت عينيها بانتشاء و تنهدت بسعادة من كلماته التى اخترقت صدرها و نفذت إلى قلبها كشعاع من نور، أضاء قلبها و كل جوارحها، فقد نصَّبها ملكة على عرش قلبه، و رفيقة درب فى الدنيا و الآخرة بإذن الله.
تمت بحمد الله.
مع تحياتي/دعاء فؤاد
تعليقات
إرسال تعليق