القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية نبض قلبي لاجلك الفصل 21و22 علي النجم المتوهج



الفصل الواحد و العشرون
مازلنا بحفل افتتاح الشركة حيث الأجواء المفعمة بالحماس و السعادة، و كانت ملك من أبرز السعداء بعدما انتزعت داليا عنها الشعور بالذنب، و أثارت حبها الكامن لـ سفيان، فبعد أن تركتها ظلت تنظر له بشغف بعدما كانت تتجنبه للغاية و كأنه ليس من حقها الاقتراب منه، عقابا لنفسها على ذنب لم تقترفه.
و على الجهة الأخرى لاحظ سفيان نظراتها الشغوف له، فأصابته الدهشة البالغة من التحول المباغت فى تصرفاتها تجاهه، و لكنه تظاهر باللامبالاة التزاما بقناع الصرامة و البرود الذى تَقنَّع به فى الفترة الأخيرة.
بعد تفكير طويل و حيرة بالغة قررت ملك الذهاب إليه و تلطيف الأجواء بينهما بعد ستة أشهر من الجفاء، و لم تكد تخطو باتجاهه خطوة واحدة حتى استوقفها الأستاذ قاسم قائلا بابتسامة معجبة:
ــ ملك.
ناظرته بجدية قائلة:
ــ أيوة يا أستاذ قاسم...أى خدمة!!
اتسعت ابتسامته أكثر عندما تطلعت إليه بعينيها الخلابتين و هام بهما و بفرط جمالهما حتى تاهت منه الكلمات، الأمر الذى أثار دهشتها بالتزامن مع ضيقها من تأمله لها، فأردفت بتذمر:
ــ كنت عايز حاجة يا أستاذ قاسم؟!
تدارك حالة التيه التى أصابته و أجابها بنبرة رقيقة نوعا ما:
ــ ألف مبروك علينا افتتاح الشركة.
اغتصبت ابتسامة على ثغرها مجيبة:
ــ الله يبارك فى حضرتك يا أستاذ قاسم.
انكمشت ملامحه بضيق قائلا بتقطيبة بسيطة:
ــ ما بلاش أستاذ دى...أنا مش كبير اوى على فكرة...يعنى من سن ريان تقريبا...و بتهيألى يعنى انك بتناديله من غير ألقاب.
جزت على أسنانها بحنق ثم قالت من بين أسنانها:
ــ بس ريان ابن عمى و زى أخويا بالظبط....ميصحش منى أناديلك كدا من غير ألقاب.
و فى خضم حوارهما كان سفيان يراقبهما بعينين تقدحان شررا، و سريرة تشتعل غيرة و غضبا، لم يتحمل النظر لهما اكثر من ذلك فتوجه بالحديث لـ ريان قائلا بحدة طفيفة:
ــ شايف اللى اسمه قاسم دا بيعمل ايه؟!..يعنى أروح دلوقتى أديله بوكسين فى وشه عشان يحترم نفسه شوية.
وجه ريان نظره ناحيته فلاحظ اندماجه فى الحديث مع ملك، فلاحت منه ابتسامة ساخرة ثم نظر لـ سفيان الساخط قائلا بنبرة متهكمة:
ــ يعنى انت واخد بالك أوى من قاسم اللى بيكلم ملك اللى هى أصلا متخصكش، و مش واخد بالك من عماد اللى مش مبطل ضحك و هزار مع مراتك يا أستاذ سفيان؟!
حول نظره ناحية داليا و عماد، فلم يثير مظهرهما أى شعور بالغيرة او الضيق و كأنه أمرا عاديا بالنسبة له، ثم عاد لـ ريان و قال بعدم اكتراث:
ــ داليا دلوقتي بقت حرة نفسها و ماليش أى حكم عليها، و اللى بيربطنى بيها ملك بنتى و بس.
رفع ريان حاجبيه باندهاش قائلا بسخرية:
ــ على أساس ان ملك تخصك و ليك حكم عليها؟!
رد عليه بحدة و اندفاع:
ــ ملك تخصنى من اليوم اللى حبيتها فيه، من و هى لسة فى أولى ثانوى لما كنت بذاكرلها و بديها دروس....و قريب أوى هتبقى مراتى.
أردف ريان باستنكار:
ــ مكانش دا كلامك يعنى من يوم ما طلقت داليا...ايه اللى خلاك تغير رأيك فجأة كدا؟!
سلط نظره عليها و هى تتحدث مع قاسم ثم قال بشجن واضح فى نبرة صوته:
ــ دا كان مجرد موقف أخدته منها بس علشان أحفظ كرامتى قدامها...انما أنا مستحيل هتنازل عنها...و بعدين أنا خايف افضل أكابر قصادها لحد ما اللى اسمه قاسم دا يحوم حواليها و يخطفها منى و هو شكله كدا واد نحنوح و بياع كلام.
انفلتت من ريان ضحكة مدوية رُغما عنه و قال من بين ضحكاته المتلاحقة:
ــ ما تتنحنح ياخويا زيه...بدل ما يشقطها منك.
اتسعت عيناه بشر قائلا بغيظ:
ــ دا أنا كنت شقطت رقبته....
عاد بنظره لها مرة أخرى و أخذ يتمتم بوعيد:
ـ"ماشى يا ملك...أنا هعرفك ازاى تتكلمى و تبتسمى مع حد غيرى"
و عندما نفذ صبره و فاق الأمر إحتماله، تقدم منهما حتى وقف بمحاذاة قاسم و قال له بابتسامة حانقة:
ــ منور المكان يا أستاذ قاسم...
ثم رمق ملك بنظرات متوعدة، فابتسمت رغما عنها على مظهره المستشيط، الأمر الذى زاد من حنقه أكثر بينما الآخر لم يفهم حرب النظرات المشتعلة بينهما، و استمر فى التحديق الأبله بها.
أخذ سفيان يمرر أصابعه بين خصلات شعره بعصبية، يريد ان يصفع ذلك الأبله حتى يستفيق، فاضطر إلى أن يقبض على رسغها و يجرها خلفه و هو يقول بابتسامة سمجة:
ــ عن اذنك أصل عمى عايزها...
ثم نظر لها بشر قائلا:
ــ تعالي ورايا..
سارت معه باستسلام إلى أن ابتعدا قليلا عن مرئى أعين الناس، إلى حيث المصعد، فنزعت رسغها من قبضته قائلة بحدة:
ــ و بعدين معاك يا سفيان!!..أنا حذرتك ميت مرة من إنك تمسك ايدى كدا.
رد عليها بغضب و انفعال:
ــ و بالنسبة لوقفتك مع الأستاذ الرخم دا و ضحكك معاه، دا عادى؟!
هزت كتفيها لأعلى بعشوائية قائلة:
ــ أنا مكنتش بضحك معاه...احنا كنا بنتكلم عن الشركة و الشغل.
هز رأسه عدة مرات بسخريه قائلا:
ــ امممم......واضح جدا من نظراته إنكم كنتوا بتتكلموا فى الشغل....انتى مكنتيش شايفة كان بيبصلك ازاى؟!
اصتكت فكيها بغيظ من تحكمه الزائد بها ثم صاحت بانفعال:
ــ و انت مالك...انت بتدخل ليه أصلا...ما يمكن يكون فى بينا استلطاف و مين عالم يمكن الاستلطاف يتحول لجواز.
عند هذا الحد و لم يستطع السيطرة على غضبه الجامح، فأسرع من الخطى نحوها فعادت بظهرها إلى الخلف حتى التصقت بالجدار خلفها، ثم اقترب منها للغاية و صرخ بها دون أن يلمسها:
ــ جواز ايه اللى انتى بتتكلمى عنه!!....انتى ملكى أنا يا ملك...مش هسيبك تروحى لغيرى...انتى فاهمة!!
تمعن النظر فى عينيها قليلا و هى تناظره بملامح مشدوهة ثم قلل من حدة نبرته قائلا بخفوت:
ــ مينفعش العيون الجميلة دى تسحر حد غيرى...الملامح البريئة دى يتغزل فيها غيرى...روحك الحلوة دى متسكنش غير روحى..
قلبك الطيب ميحبش غير قلبي..انتى كلك على بعضك ملكية خاصة بيا أنا و بس.
ضغط على حروف كلماته الأخيرة و كأنه يُلقنها لها حتى تترسخ بذهنها و تضعها نُصب عينيها.
بينما هى ارتخت ملامحها، و البسمة شقت وجهها دون أن تشعر، فقد أذابتها كلماته حتى غرقت بنهر عشقه العذب، و جعلتها تحلق بسماء هيامه الصافية، و تَيّمَتها فيه عشقا و غراما فى غضون ثوانٍ قليلة، فتراقصت نبضات قلبها بين أضلعها معلنة هيمنته الكاملة عليه دون منازع.
ظل محدقا بها ينتظر منها ردا، و لكنه لم يجد منها سوى التيه و الشرود جوابا، فابتسم حتى ظهرت غمازتيه، فانحبست أنفاسها أكثر، و ازدردت لعابها بصعوبة اعجابا بجاذبية بسمته التى أهلكتها، و تداركت حالتها سريعا فدفعته من صدره بعيدا عنها ثم مرت بجانبه دون أن تنبس ببنت شفه، و قبل ان تبتعد قبض على معصمها، فوقفت و هى تنظر ليده بحنق و لكنه تجاهل حنقها مردفا بذات الابتسامة:
ــ قولى لعمى إنى هجيلكم الليلادى أطلب ايدك منه.
ازداد ارتباكها و خجلها أكثر، فترك يدها ثم فرّت بخطى متعجلة و وجنتيها متوهجتان بحُمرة الخجل.
بينما سفيان استند بجسمه إلى الحائط مكانها تماما و شرد فى طيفها و ما زالت الابتسامة الهائمة مسيطرة على ثغره، و اخذ يتمتم بهمس:
ــ أخيرا يا ملك!!...أخيرا حلم عمرى هيتحقق.
و على الجهة الأخرى كان ريان واقفا مع سلمى يتحدثان عن الشركة و مستقبلها و السعادة تغمرهما، فتجهمت ملامحها على حينِ غُرة، الامر الذي أصاب ريان بالدهشة و سألها بترقب:
ــ مالك يا سلمى!...وشك اتغير فجأة كدا ليه.؟!.
و قبل ان ترد عليه، وصله صوت أنثوي ناعم يقول بميوعة:
ــ هاى ريان بيك.
بالطبع هو يعرف صاحبة هذا الصوت تمام المعرفة، و علم حينها سر تجهم سلمى، فتأفف بضجر ثم التفت إليها قائلا بغضب مكبوت:
ــ انتى ايه اللى جابك؟!..أنا مش حذرتك قبل كدا من إنك تورينى وشك تانى؟!
رسمت ابتسامة سمجة على ثغرها و راحت تنقل بصرها بينه و بين سلمى ثم قالت بدلال:
ــ جاية أبارك لأبو أولادى على الشركة الجديدة...إيه فيها حاجة دى؟!
شدد من قبضة يده بعصبية و هو يجز على أسنانه ثم قال:
ــ الله يبارك فيكى يا ستى...شاكرين أفضالك..مع السلامة بقى.
زمت شفتيها بغضب مصطنع قائلة بنبرة عاتبة:
ــ اخس عليك يا ريان...انت بتطردنى؟!...دا بدل ما تقولى مكانك موجود فى الشركة يا سيري..
طالعها بجحوظ قائلا بسخرية:
ــ نعم يا روح بابا؟!
هزت رأسها ببراءة مصطنعه مسترسلة بنفس الغنج:
ــ امم...بتهيالى مش هتلاقى حد أحسن منى يدير معاك الشركة...و لا انت ناسى إن احنا زمايل بعثة واحدة و واخدين نفس الشهادة؟!
صاح بها بغضب مكتوم حتى لا يسمع الحضور صياحه:
ــ لاااا...دا انتى كدا زودتيها أوى...هو أنا اتجننت أشغل واحدة زيك معايا.
سلطت نظرها على سلمى التى تراقب الموقف بانتباه شديد ثم قالت بنبرة ذات مغذى و هى تشير برأسها إليها:
ــ يعنى دا آخر كلام عندك؟!
احمر وجهه غضبا من تلميحاتها السخيفة ثم التفت لـ سلمى قائلا بهمس:
ــ سلمى لو سمحتى بصى على الولاد كدا...مش شايفهم و قلقان عليهم.
اومأت سلمى بضيق، فهى قد فهمت أنه يريدها ألا تسمع أكثر من ذلك و لكنها استجابت له على مضض عازمة على استجوابه لاحقا....
بعدما تأكد من تمام ابتعادها عنهما وجه حديثا لاذعا لـ سيرين قائلا بخفوت حاد:
ــ اسمعى يا مدام سيرين...اذا كنتى فاكرة إنك هتقدرى تبتذينى بجريمتك انتى و أبوكى، يبقى انتى متعرفينيش، و متعرفيش ريان لما بيقلب بيبقى شكله إيه...و أحسنلك بلاش تعملى نفسك ذكية عليا أنا بالذات لأنك هتندمى و هتخسرى كتير أوى.
رفعت حاجبيها قائلة بسخرية و استهزاء:
ــ و يا ترى بقى شكل سيادتك التانر عامل ازاى؟!
ضيق عينيه قائلا بتوعد:
ــ تمام طالما مصرة تشوفيه اسمعى بقى و ركزى كويس...لو مبعدتيش عن طريقى و طلعتينى من دماغك، أنا اللى هحطك فى دماغى و هعيشك فى جحيم...انا عارف عنك كل حاجة و أولهم شقتى اللى انتى حولتيها لشقة دعارة انتى و فدوى صاحبتك، و اللى انتى متعرفهوش إنى مركب كاميرات فى قوضة النوم، و فيديوهاتكم القذرة معايا...كنت عامل نفسى مش عارف و ساكت و عامل حساب لأم اولادى و مش عايز أفضحها، علشان متكونيش وصمة عار فى حياتهم...بس انتى كدا جبتى آخرك معايا و مش هيهمنى أى حاجة بعد كدا...أصلا الولاد مش عارفينك و ميشرفهمش إن يكون ليهم أم زيك...ها أقول على البلاوى التانية و لا كفاية عليكى كدا النهاردة!!
توترت اوداجها و جحظت عيناها و شحب وجهها من فرط الرهبة و الصدمة، فقد كانت تظن أن ما تفعله من اعمال مخلة للآداب لن يصل إليه، و لكن حدث ما كانت تخشاه، فازدردت لعابها بصعوبة ثم أردفت بتوتر و هى تتلعثم فى حروفها:
ــ طـ طيب..يا..ريان..أنا...أنا كنت مفلسة..و..و كنت عايزة..فـ فلوس بأى طريقة..و..و..
استوقفها باشارة من كفه ثم أردف باحتقار:
ــ بس...مش عايز أسمع منك أى مبررات...لأنك ببساطة لا تعنينى بأى شيئ..انتى اللى هتشيلى شيلتك...و يلا من هنا و مش عايز أسمع صوتك النشاذ دا تانى و لا أشوف السحنة الزبالة دى هنا..فاهمة!!
أطرقت رأسها بانكسار ثم استدارت لتغادر المبنى بأكمله و هى فى حالة من الذل و المهانة ترثى لها.
بينما ريان ظل يراقبها بابتسامة انتصار إلى أن خرجت من المبنى تماما، و حينها زفر بعنف متنفسا بارتياح و كأنه أزاح عن كاهله جبالا من الهموم.
أقبلت عليه سلمى و بيديها الولدان و نظرت له بغموض تحاول أن تستشف سر الفرحة البادية على وجهه، و ما اذا كانت متعلقة بغريمتها أم لا، و لكنه التقط منها الولدان بابتسامة واسعة و أخذ يُقبلهما و يحتضنهما ثم قال لهما و كأنه يختبرهما:
ــ حبايب قلبى بتحبوا مامى قد إيه؟!
بتلقائية و ببراءة طفولية اتجهت انظارهما إلى سلمى و هما يبتسمان، فـ ردت چود برقة بالغة و نظرها مسلط عليها:
ــ أنا بحب مامى قد البحر و قد السما و قد الدنيا و قد...
قاطعها ريان و هو يضحك بسعادة:
ــ ايه دا كله...أومال خليتيلى أنا ايه؟!
نظرت له بعدم فهم فاسترسل قائلا:
ــ طاب بتحبى بابى قد ايه؟!
ضيقت عينيها بتفكير ثم قالت ببراءة و هى تشير بكلتا سبابتيها إلى عينيها:
ــ قد عينيا الاتنين دول يا بابى...
ضمها إلى صدره بحب خالص و هو يقول بعاطفة جياشة:
ــ انتى عيون بابى و روحه و قلبه كمان.
شعر چاد بغيرة طفولية فأدار وجه أبيه إليه قائلا:
ــ و انا تمان(كمان) يا بابى بحبت(بحبك) قاااااد تدا(كدا)... و فرد ذراعيه على امتدادهما.
فضحك كل من سلمى و ريان ثم التقطت چاد من على ذراع أبيه و اخذت توزع قبلاتها على وجهه ثم سألته بترقب:
ــ طاب و مامى بتحبها قد ايه؟!
قلد شقيقته فى حركة عينيها بتفكير ثم قال ببراءة و هو ينظر لذراعيه بحيرة:
ــ امممم...بحبت(بحبك)...قاااااد تدا(كدا)..
ثم فرد ذراعيه اكثر من ذى قبل...
زم ريان شفتيه بغيرة مصطنعة ثم قال:
ــ بقى كدا يا چاد!!...بتحب مامى أكتر منى!!
احتضن چاد سلمى بأقصى قوته و هو يقول:
ــ أنا بحب مامى تتير(كتير) تتير(كتير).
اتسعت ابتسامة ريان و تنهد براحة، فقد أثبت ولداه ولائهما التام لـ سلمى، الأمر الذى جعله يشعر بسعادة غامرة و أزاح عن كاهله الشعور بالذنب و التقصير معهما كونه قد حرمهما من أمهما الحقيقية.
انتهى الحفل قبيل العصر بقليل و نبه ريان على الموظفين الجدد ضرورة الالتزام بمواعيد العمل، على أن يتم البدء فى الصباح الباكر.

فى المساء اجتمع سفيان بوالديه و شقيقه فى شقة أبيه، فأدار دفة الحديث قائلا بجدية:
ــ أنا عايز اعرفكم إنى هروح لعمى أطلب ايد ملك منه.
لم تتغير تعابير اوجههم كثيرا و كانهم توقعوا ذلك، فقال إبراهيم:
ــ و انت هتروح لواحدك؟!
أومأ بايجاب مردفا:
ــ أنا هروح دلوقتي لواحدى أفاتحه فى الموضوع و بعدين أتفق معاه على يوم نروح كلنا و نقرا الفاتحة و نتفق على باقى التفاصيل.
هز إبراهيم رأسه و قد كسى الوجوم ملامحه، فسأله سفيان بترقب:
ــ مالك يا حاج...شكلك كدا عايز تقول حاجة.
ــ و الله يابنى أنا حاسس إن عمك مش هيوافق.
احتدت نبرته بانفعال قائلا بحدة طفيفة:
ــ و مش هيوافق ليه بس يا بابا...كانت حجته الاول إنه مش عايز ملك تكون زوجة تانية، و اهى الحجة خلصت...لسة هيتحجج بإيه تانى؟!
ربتت عفاف على فخذه بحنو و هى تقول:
ــ يمكن أبوك قصده يعنى إنه عايز يحوزها لشاب يكون عاذب مسبقلهوش الجواز قبل كدا.
انتفخت اوداجه غضبا قائلا بعصبية:
ــ هو بالذات المفروض ميعترضش نهائى، لأنه السبب الرئيسى فى كل اللى حصل، و لولا اللى عمله كان زمان ملك هى الأولى و الأخيرة.
وضع ريان ذراعه على كتفه قائلاً بهدوء:
ــ هدى نفسك يا سفيان...مش عايزين نسبق الأحداث يا جماعة...قوم اتوكل على الله و روحله، و اللى فيه الخير يقدمه ربنا ان شاء الله.
تنهد سفيان بعمق ثم وجه حديثه لوالديه باعتذار:
ــ أنا آسف يا بابا إنى عليت صوتى عليك...بس كل ما بفتكر اللى عمى عمله فينا بتعصب.
هز أبوه رأسه بتفهم قائلا برزانة:
ــ عذرك معاك يابنى...قوم يلا روح و ربنا يجعلكم من نصيب بعض يا رب.
نهض سفيان من جلسته ثم انحنى على يد أبيه و قبلها و من ثم يد أمه ثم استأذنهم إلى حيث منزل عمه.
قبل أن يذهب لهم، ذهب إلى أحد متاجر الهدايا و اشترى علبة من الشيكولاتة الفاخرة و باقة من الزهور القيمة ثم عاد إلى منزل عمه مرة أخرى.
طرق الباب، فـ فتحت له ملك و بدت على ملامحها علامات الدهشة و التعجب فقال لها بتساؤل:
ــ ايه مستغربة ليه؟!..كنتى فاكرانى بهزر..؟!
ازدردت لعابها بصعوبة من فرط التوتر و قالت بتلعثم:
ــ انت...انت متصلتش بـ بابا ليه قبل ما تيجى.
قطب جبينه باستنكار قائلا:
ــ أنا هستأذن قبل ما آجى بيت عمى اللى هو المفروض فى مقام أبويا؟!
و قبل أن ترد وصل إلى سمعه ضحكات عمه مع شخص آخر آتية من غرفة الصالون، فسألها بتوجس:
ــ انتوا عندكم ضيوف و لا ايه؟!
توترت ملك أكثر قائلة:
ــ ها..لأ..اه..
ــ اه و لا لأ...و بعدين مالك كدا واقفة مش على بعضك...؟!
سلط نظره على باب غرفة الصالون ثم قال بترقب:
ــ هو مين اللى قاعد جوا مع عمى؟!
انفرجت شفتيها لتجيبه، و لكن صوت قاسم و هو يتحدث قد اخترق آذانهم قبل أن تنطق، فعضت شفتيها بتوتر و هى تراقب انفعالاته و تعابير وجهه و التى كانت لا تبشر بالخير أبدا.
بينما هو انتفخت أوداجه من فرط الغضب ثم ألقى بالهدايا التى كان يحملها أرضا و جذبها إليه من معصمها و اخذ يهزها و هو يصيح بها:
ــ انتى بتتحدينى يا ملك!!..عايزة تجنينينى!!..انتى عايزة توصلى لإيه بالظبط؟!
اخذت تبعد قبضته عنها و هى تتأوه بألم ثم قالت:
ــ سفيان افهم...أنا اتفاجئت زيك بالظبط...مكنتش اعرف انه ناوى على كدا.
هز رأسه بسخرية و هو يقول بتهكم مرير:
ــ اه فعلا...بدليل الاستلطاف اللى يمكن يتحول لجواز...مش كدا؟!
ــ لا لا انت فهمت غلط...أنت اللى استفزتنى و خلتنى اقول الكلام دا...بس مكانش من قلبى صدقنى.
ترك معصمها أخيرا ثم اخذ يمرر أصابعه بين خصلات شعره بعصبية محاولا تهدئة نفسه، إلى أن قال بتهديد و وعيد:
ــ اسمعى...الحيوان اللى جوا دا ترفضيه بالذوق...لأنى لو دخلتله دلوقتي هضربه و مش هخلى فى جسمه حتة سليمة، و انا اللى مانعنى عنه صحوبيته لـ ريان و كمان عامل اعتبار للشراكة اللى بينا...مفهوم..!
هزت رأسها عدة مرات بموافقة و هى تكتم بسمتها بصعوبة، و لكنه لاحظها، الأمر الذى زاده غضبا، فهدر بها بحدة طفيفة:
ــ انتى بتضحكي علي ايه؟!...عاجبك الموقف اللى احنا فيه دا..؟!
لم تستطع كبت ضحكتها أكثر من ذلك، فأطلقت لها العنان ثم قالت من بينها:
ــ أصل...أصل الموقف يضحك اوى...عريسين فى ساعة واحدة!!..
ثم انخرطت فى نوبة أخرى من الضحك، فابتسم عليها متناسيا غضبه و انفعاله، بل تناسى الموقف برمته و تاه فى ضحكتها التى لطالما اشتاق لرؤيتها، فباغتها بقوله بهمس مثير:
ــ وحشتنى ضحكتك اوى يا ملك..فاكرة لما كنتى بديكي الدرس و كل ما أحس انك توهتى أقفل الكتاب و اقعد أقولك نكت و تضحكى لحد ما عنيكى تدمع؟!
تحولت ملامحها للأسى بغتة، و هزت رأسها بنفى ثم قالت بحزن:
ــ للأسف مش فاكرة..
اخذ يسب نفسه بخفوت أن كان سببا فى حزنها، فهو قد نسى انها فاقدة للذاكرة، فغير مجرى الحديث ليخفف عنها قائلا بحب:
ــ ان شاء الله هنعمل سوا ذكريات أحلى من اللى فاتت بكتير أوى...لأنك هتكونى حلالى و هنعيش مع بعض أحلى قصة حب هنفضل نحكيها لولادنا و أحفادنا و...
قاطع ثرثرته نداء عمه على ملك، فعادت ملامحه للغضب مرة أخرى ما إن سمع صوته ثم قال لها بتحذير:
ــ ملك...زى ما قولتلك..تمام؟!
أومأت بابتسامة قائلة برقة:
ــ تمام...متقلقش..
ــ يالهوى على الرقة...لا بقولك ايه اركنى الرقة دى على جنب دلوقتي...و عايزك تخشنى قدام الواد اللى اسمه قاسم دا..ماشى!!
ضحكت بخفوت ثم قالت:
ــ امشى بقى علشان أشوف شغلى معاه..
ــ ماشى يا قمر ليلى...هجيلك بكرة...سلام
طالعته بابتسامة هائمة ثم قالت:
ــ مع السلامة.

يتبع.....
مع تحياتي/دعاء فؤاد.
الفصل الثاني و العشرون
أغلقت ملك الباب خلف سفيان و استندت بظهرها إلى الباب من الداخل، و الابتسامة العريضة مرتسمة على شفاها، و ذهنها محلق معه فى سماء العشق، تنهدت بارتياح و سعادة غامرة و هى تتمتم بهمس:
ــ يااااه يا سفيان...أخيرا ربنا هيجمع شملنا...
رفعت بؤبؤيها إلى السماء تتضرع إلى الله برجاء:
ــ يا رب تم فرحتنا على خير و اجمعنى بيه فى الحلال يا رب.
أغمضت عينيها بخشوع لبرهة، ثم فتحتهما و من ثم تقدمت من الغرفة حيث يجلس أبوها مع قاسم، و لكنها تعثرت بهدايا سفيان التى ألقاها على الأرض، فانحنت لتلتقطهم ثم استقامت و هى تنظر لهما بتفكير متمتمة:
ــ ايه دا...نسى ياخدكم معاه؟!..هشيلكم فى قوضتى أصل بابا يشوفكم و يفتحلي سين و جيم...
اتجهت إلى غرفتها و احتفظت بالهدية فى خزانتها و أغلقتها جيدا، ثم اتجهت إلى المطبخ و قامت بتحضير كأسين من العصير و من ثم أخذتهما و ذهبت لأبيها.
بمجرد أن دلفت أخذ قاسم يتمعن النظر إليها راسما ابتسامة معجبة على ثغره، قدمت لهما العصير ثم جلست بحوار أبيها.
أدار اسماعيل دفة الحديث قائلا بابتسامة واسعة:
ــ انتى طبعا يا ملك عارفة الأستاذ قاسم عز المعرفة و هو جاى النهاردة يطلب ايدك منى و أنا وافقت.
هبت ملك من جلستها بصدمة قائلة بملامح مشدوهة:
ــ نعم!..وافقت!..علطول كدا من غير ما تاخد رأييى
نهض ليقف قبالتها قائلا بترقب:
ــ و هو الأستاذ قاسم عريس يترفض.
نهض قاسم هو الآخر قائلا:
ــ ملك أنا شاريكى و هكون أسعد واحد فى الدنيا لو وافقتى ترتبطى بيا..
بينما ملك تستمع بملامح جامدة، لا تصدق أن أباها وضعها بهذا الموقف المحرج، فاسترسل أبوها بجدية:
ــ الراجل هيسيب عيلته فى القاهرة و هيشتريلك شقة هنا جنبى علشان خاطرك، و دا غير تعليمه و منصبه فى الشركة ما شاء الله، و أخلاق و رجولة...لسة هتفكرى فى ايه تانى؟!
نظرت ملك لأبيها بلوم بعينين مغرورقتين بالعبرات، و كأنها تخبره بأنها ملكا لآخر و لا يجوز لها أن توافق بغيره، فلاحظ دموعها قاسم و توجه بالحديث لاسماعيل قائلا بحرج:
ــ طيب يا عمى هسيبكم تشاوروا بعض فى الموضوع دا و هستنى رأيك فى التليفون ان شاء الله....عن إذنكم.
انصرف قاسم بخطى سريعة، فقد بدت له حدة النقاش بينهما، و لم يستبشر خيرا من ناحية ملك.
بعدما أوصله اسماعيل إلى باب الشقة و انصرف، عاد مرة أخرى إلى ملك التى كانت تجلس على غير هدى، و تهز قدميها بتوتر شديد، ما إن دلف إليها حتى هبت من جلستها قائلة بحدة طفيفة:
ــ بابا انت ازاى تقول قدامه انك موافق من قبل ما تاخد رأييى.
رد عليها بحدة و انفعال:
ــ و ترفضى ليه ان شاء الله...مش هيجيلك عريس أحسن منه...انتى محدش عارفك و لا فاكرك و لسة هتروحى الجامعة و حلينى بقى على ما يتقدملك عرسان تانيين، و انتى دلوقتى بقى عندك ييجى ٢٤ سنة...لسة هتستنى لما يبقى عندك ٣٠؟!
قطبت ما بين حاجبيها قائلة بدهشة:
ــ بابا انت بتتكلم كدا و كأنك مش عارف ان انا و سفيان بنحب بعض و هيتقدملى علشان نتجوز...!! و لا انت ناسى و لا عامل نفسك مش واخد بالك و لا ايه بالظبط.؟!
صاح بها بغضب جم:
ــ ملك...احترمى نفسك و اتكلمى مع ابوكى بأسلوب أحسن من كدا.
أخذت تهز رأسها بعدم تصديق و تعجب من تجاهله لذلك الأمر، و قالت بملامح متجهمة و بالهدوء الذى يسبق العاصفة:
ــ انت ناوى على ايه تانى يا بابا.؟!..لسة عايز تفرقنا تانى؟!...مش كفاية اللى انت عملته معانا من لحظة ما سافرنا ألمانيا...مش كفاية حرمتنا من بعض لست سنين، و قلبتلنا حياتنا اللى كنا مخططين نعيشها سوا...عارف لو انا كنت مت بجد كان أهون من العذاب اللى أنا عايشة فيه دا...بابا انت بقيت عامل زى القطة اللى أكلت عيالها من كتر خوفها عليهم....معادش عندى كلام تانى أقولهولك و لا عاد عندى طاقة...بس سيبتك لضميرك...عن اذنك..
ألقت بكلماتها الوَعِرة و تركته بشروده و هيمانه و غادرت إلى غرفتها، و ما إن ولجت الغرفة حتى ارتمت على الفراش و انخرطت فى بكاء مرير تتمزق له نياط القلوب.
بعدما هدأت نوبة بكائها قليلا خرجت إلى شرفتها، فتفاجأت بـ سفيان يقف فى شرفته و كأنه كان ينتظرها و يترقب خروجها إليه لكى تطمئنه، و نظرا لقصر المسافة بين الشرفتين و التى لا تتعدى الثمانية أمتار، استطاع سفيان أن يرى ملامحها الباكية بوضوح، الأمر الذى أثار ريبته علاوة على قلقه و أجزم أن هناك خطب جَلَل.
ظل يطرق سور الشرفة بقبضة يده بغضب بالغ و هو يناظرها بحسرة و حنق و هو يتمتم بخفوت:
ــ الله يسامحك يا عمى..يا ترى عملت ايه خلاها تعيط كدا...أنا بدأت أكرهك...
أخذ يمسح على وجهه بكفيه ليقلل من وطأة إنفعاله ثم أصدر صفيرا من فمه لكى تنظر له ففعلت، فأشار برأسه باستفهام، و لكنها فقط تنظر له بملامح حزينة و لا ترد أو حتى تشير برأسها، فقام بدوره بالاشارة لها بيده بعلامة الاتصال بالهاتف، ففهمته و أومأت له بالموافقة، و من ثم دلفت غرفتها تتفقد هاتفها المحمول، و ما هى إلا ثوانٍ حتى دق برقم سفيان، فـ فتحت الخط مجيبة:
ــ ألو...أيوة يا سفيان.
ــ حصل ايه يا ملك خلاكى تعيطى كدا؟!
ــ أنا مكنتش بعيط.
ــ لا كنتى بتعيطى..حصل ايه بس طمنيني.
بدأ صوتها يختنق بالبكاء رغما عنها و قالت:
ــ بابا..بابا وافق على قاسم من غير ما ياخد رأييى.
أطبق جفنيه بعصبية ليتحكم فى عصبيته ثم قال بنبرة غاضبة:
ــ و عمى عايز ايه بالظبط.!!..مش مكفيه العذاب اللى شوفناه بسببه.
ردت بصوت متحشرج من البكاء:
ــ أنا قولتله ما فيه الكفاية يا سفيان.
ــ و قالك ايه؟!
ــ معرفش...أنا قولتله اللى فيه النصيب و جريت على القوضة، و كنت مخنوقة و عيطت كتير لحد ما هديت شوية، و بعدين خرجت وقفت فى البلكونه لما انت كنت واقف...و مش عارفة بقى هو هيعمل ايه؟!
ــ طاب افرضى صمم على اللى فى دماغه هتعملى ايه؟!
احتدت نبرتها بانفعال قائلة:
ــ مش هوافق طبعا...انا كنت بسمع كلامه فى كل حاجة، حتى القرارت اللى أخدها ليا بالنيابة عنى كنت بوافقه، و كنت بخاف أزعله و اخد ذنب العقوق..بس لحد هنا و مش هتحمل إنى أكون مع واحد تانى غيرك، خاصة بعد ما كل الأمور اتيسرت و معادش فى أى عوائق أو حواجز بينا.
تنهد سفيان بارتياح بعد تصريحاتها الصادقة و التى أكدت له مدى تمسكها به، و قال بجدية:
ــ أهم حاجة عندى رأيك يا ملك، و طالما انتى عايزانى و متمسكة بيا، ان شاء الله هعمل المستحيل علشان أخلى عمى يوافق بجوازنا..بس انتى خليكي جنبى و معايا.
ابتسمت بهيام ثم قالت بنبرة عاشقة:
ــ أنا معاك يا سفيان و ان شاء الله مفيش حاجة هتفرقنا تانى...أنا أصلا بستقوى بيك.
ابتسم بسعادة قائلا بنبرة يملؤها العشق و الهيام:
ــ و أنا بستقوى بحبك اللى بيجرى فى دمى من سنين، و مقلش أبدا رغم كل اللى حصل و بيحصل...انتى ملكتى قلبى و روحى و حياتى كلها يا ملك.
أخجلتها تلك الكلمات كثيرا، فانعقد لسانها و عجز عن الرد، و بعد وهلة من الصمت قالت بجدية ممزوجة بالخجل:
ــ سفيان خلى الكلام دا بعد الجواز...ميصحش منك كدا.
انفلتت منه ضحكة صاخبة ثم قال من بين ضحكاته:
ــ ملاكى بتتكسف؟!...اممم...ماشى كلامك يا ملك قلبى..
قلب نبرته للجدية قائلا:
ــ سيبينى بس كدا أفكر و أشوف هعمل ايه مع عمى علشان يرضى عليا و يوافق..
أومأت بإيجاب قائلة برقة لا متناهية:
ــ ماشى..فكر براحتك.
ــ طاب أنا هقفل معاكى ازاى بعد الرقة دى كلها؟!
ردت عليه بنبرة تحذيرية:
ــ سفياااان!!
ــ خلاص آسف يا ستى حقك عليا...سلام
ــ مع السلامة.
أغلق الهاتف ثم تنهد بعشق بالغ، فنبرتها الرقيقة و التى يعشقها و يحفظها عن ظهر قلب لأكثر من ست سنوات مازالت تتردد بأذنيه و يدوى صداها بقلبه و وجدانه، فتجعله يعيش حالة من التَيْم يتمنى لو تدوم لآخر الحياة.

بينما اسماعيل انقسم حاله لقسمين، قسم منه يسمع لأوامر عقله و التى تحثه على الموافقة بـ قاسم كونه شاب عاذب لم يسبق له الزواج، على عكس سفيان، علاوة على حالته المادية الممتازة و أخلاقه الحميدة، فلا يوجد أى عيب به يستدعى الرفض، و القسم الآخر يميل إلى قلبه المنفطر على ابنته و الذى يحثه على اعطائها فرصة لتعيش حياتها كما تريد مع من أحب قلبها حتى و هى فاقدة للذاكرة، فـ قلبها لم يستطع نسيانه أبدا و ظل حبه يراودها حتى بأحلامها.
فأصبح فى حيرة شديدة من أمره، و عندما أعياه التفكير صاح بصوت عالى:
ــ يا مثبت العقل و الدين يا رب...يا رب أنا احترت و مش عارف الأحسن ليها فين...يا رب دلنى على الصح.

و فى الجهة الأخرى بشقة ريان..
عندما تأكدت سلمى من استغراق الطفلين فى النوم دثرتهما جيدا و طبعت قبلة حنونة على جبين كل منهما و أغلقت الغرفة ثم سارت إلى ريان الذى كان جالسا بغرفة النوم يتفقد بعض الأعمال على حاسوبه النقال.
بمجرد أن جلست بجواره أغلق الحاسوب و وضعه على الطاولة أمامه، و بابتسامة هائمة جذبها من خصرها لتستقر على صدره، فأخذت تطرق بأصابعها طرقات خفيفة على صدره كناية عن توترها، فشعر بذلك و سألها بتوجس:
ــ حاسس انك عايزة تقولى حاجة!
هزت رأسها عدة مرات بموافقة دون أن تنطق، فأبعدها قليلا عنه و رفع رأسها بمواجهته و قال لها:
ــ قولى يا حبيبتى اللى انتى عايزاه... أنا كلى آذانٍ صاغية.
أخذت نفسا عميقا ثم زفرته على مهل و قالت:
ــ ايه اللى بينك و بين سيرين!!...شوية تكلمها بعصبية و تزعقلها و تكلمها بكره و فجأة ألاقيك مبسوط بعد ما مشيت...حاسة إن فى حاجة غامضة أنا مش فاهماها و مخبيها عنى...صح يا ريان؟!
ازدرد لعابه بتوتر و لكن سرعان ما تظاهر بالثبات قائلا:
ــ حبيبتى كل الحكاية إنى فعلا بضايق من مطاردتها ليا و كل شوية تكلمنى فى موضوع رجوعنا لبعض، و أنا كل مرة بزعقلها و بطردها، بس المرادى بقى انا كنت مبسوط لأنها بعد ما انتى مشيتى قالتلى انها هتتجوز فقولت أحسن عشان تبعد عننا بقى....بس هى دى كل الحكاية.
نظرت له مباشرة فى عينيه تستشف صدق حديثه و لكنه كان ثابتا تماما الأمر الذى جعلها تقتنع نوعا ما.
فهزت رأسها عدة مرات بتفهم و سكتت متغاضية عن الأمر برمته.
بينما ريان أحس بارتياح نوعا ما من سكوتها، و جذب رأسها ليضعها على صدره مرة أخرى و قال بنبرة عاشقة:
ــ حبيبتى لا سيرين و لا عشرة زيها يقدروا يهزوا فيا شعرة....انتى و بس اللى هنا..
و أشار بسبابته إلى موضع قلبه، فقامت بدورها بتقبيل يده المشيرة إلى قلبه و شددت من احتضانه و هى تقول بابتسامة هائمة:
ــ حبيبي أنا واثقة فيك و فى حبك ليا...بس كنت عايزة أسمع منك الكلمتين دول علشان عقلى يبطل تفكير شوية.
ضحك ريان بصخب ثم قال:
ــ لا الله يخليكى اركنى عقلك دا على جنب شوية...انا عايزك تفكرى بقلبك و بس...و اللى قلبك يقولك عليه يبقى هو دا الصح.
طالعته بعشق خالص و هى تتمعن النظر فى عسليتيه بهيام قائلة بنبرة شغوف:
ــ و أنا قلبى بيقولي إنه بيحبك أوى أوى أوى.
احتضنها بقوة حتى كاد أن يدخلها بين أضلعه و هو يقول:
ــ و أنا قلبى كله ملكك انتى و بس...بينبض ليكى وعايش على حبك يا سمسمتى.
قاطع لحظاتهم الرومانسية رنين هاتف ريان، فتطوعت سلمى و قامت من جانبه لتفصله من الشاحن و تعطيه له، و لكنها رأت اسم المتصل و الذى كان الأستاذ أسعد شوكت المحامى، قطبت جبينها باستغراب و لكنها ظنت أنه يعمل بالشركة الجديدة و يهاتفه بخصوصها.
بينما ريان ما ان التقط منها الهاتف و رأى اسم المتصل حتى توترت أوداجه و أصابه الارتباك الشديد، و حاول أن يتدارك حالة التوتر التى أصابته و قال لها بثبات ظاهرى:
ــ أنا هطلع أتكلم فى البلكونه أصل الشبكة هنا ضعيفة...بقولك متعمليلنا فنجانين قهوة من ايديكى الحلوين دول على ما أكون خلصت المكالمة و نشربهم سوا.
ابتسمت بعفوية قائلة:
ــ حاضر من عيوني.
ــ تسلملي عيونك الحلوين.
ما ان خرجت من الغرفة حتى تنفس الصعداء، و عاود الاتصال بالمحامى و خرج إلى الشرفة مجيبا بهمس:
ــ ألو..خير يا أستاذ أسعد.
ــ باختصار كدا يا ريان بيه محتاحين مدام سلمى الأسبوع الجاي فى جلسة الحكم على المتهم اللى عمل فيها كدا.
ــ محتاجينها ازاى يعنى مش فاهم؟!
ــ عايزين شهادتها بنفسها.
صاح به بانفعال دون أن يشعر حتى أن صوته وصلها و هى تعد القهوة بالمطبخ، فقادها فضولها للعودة له لمعرفة سبب انفعاله خشية أن تكون هناك مشاكل بالشركة الجديدة، فوقفت خلفه داخل الغرفة و لم يشعر بدلوفها و قد سمعته يقول:
ــ و أنا هعملها تقارير جديدة ازاى يعنى يا أستاذ أسعد...ما انت عارف انى مخبى عليها و فاهمة ان اللى حصلها دا نتيجة حادثة عربية.
رد أسعد بجدية:
ــ ما هى التقارير دى فات عليها أكتر من خمس سنين و طالما حضرتك مش عايزها تحضر المحاكمة و تشهد بنفسها، يبقى على الأقل تكون فى حجة مقبولة نقدمها للقاضى...على فرض إنها تكون تذكرت اى تفاصيل فى الفترة الأخيرة و طبعا التقارير الطبية الحالية هى اللى هتنفى الأمر دا.
اعتصر قبضة يده بعصبية و أحس أنه قد وقع فى مأذق صعب، فرد عليه بتهكم مرير:
ــ انت عايزنى أقولها تعالى نكشف عليكى علشان نشوف انتى افتكرتي المجرم اللى اغتصبك و لا لأ...!! ما تقول كلام معقول يا أستاذ أسعد.
ما إن سمعت سلمى تلك الكلمات حتى بدأت تهز رأسها بعدم تصديق و هى تتمتم فى نفسها:
ــ "هو بيتكلم عن مين؟!...لا لا أكيد مش أنا...لأ مش أنا...مستحيل"
بينما ريان استكمل حديثه قائلا:
ــ اتصرف يا أستاذ أسعد... ان شاالله حتى تعملها تقارير مزورة...أنا معنديش استعداد أعيشها فى وجع تانى و أنا ماصدقت إنها اتحسنت شوية من غير دكاتـ...
بتر كلمته عندما أتاه صوت ارتطام جسدها بالأرضية الصلبة، فاستدار بهلع و ألقى بالهاتف أرضا و أخذ يتمتم بندم و خوف:
ــ الله بخربيتك يا أسعد الزفت.. حبك تكلمنى دلوقتي...
انحنى عليها ليحملها برفق بالغ ثم وضعها على الفراش و أخذ يضرب على جبهتها برفق و هو يقول بقلق بالغ:
ــ سلمى...سلمى حبيبتى فوقي...سلمى علشان خاطري متقلقنيش عليكى...سلمى.
نهض من جانبها سريعا و أحضر زجاجة صغيرة من الكحول المطهر و قام برش القلقيل منه فى أنفيها، و ما إن داعب الكحول جيوبها الأنفية محدثا هياج بها حتى انتفضت من اغمائتها و إخذت تتنفس بسرعة عالية، فضمها ريان إلى صدره و أخذ يهدهدها و يربت على ظهرها بحنو قائلا:
ــ سلمى..مالك يا حبيبتى فيكى ايه؟!
ابتعدت عنه قليلا و راحت تنظر له بعينين حمراوتين من الغضب، الأمر الذى جعله يبتلع ريقه بتوتر ثم قالت بجمود:
ــ مش عارف فيا ايه يا ريان؟!...انت عارف عنى كل دا و أنا نايمة على ودانى....كلكم كدبتوا عليا و كلكم استغفلتونى.
هدرت بتلك الكلمات بحدة بالغة و هى تجهش بالبكاء، و أخذت تضربه على صدره بقبضتيها و كأنها تعاقبه على كذبه عليها، فقيد قبضتيها بين يديه و قال بجدية شديدة:
ــ و هيفيد بايه كون ان انتى تعرفى من عدمه، فى الآخر النتيجة واحدة... بالعكس كانت نفسيتك هتسوء أكتر، و من رحمة ربنا بيكى إنه محى التفاصيل دى من دماغك علشان تقدرى تعيشى و تكملى...محدش غلط بالعكس دا من حبهم ليكى و خوفهم عليكى عملوا كدا.
نزعت قبضتيها من بين يديه بعنف ثم شردت بعينيها فى اللاشيئ و العبرات تعرف مجراها فى صمت قاتل و بعد برهة من الشرود باغتته بقولها:
ــ طاب ليه؟!
ــ ليه ايه؟!
ــ ليه يعملوا فيا كدا....أنا كنت فى حالى و ماليش علاقة بحد...ايه هدفهم من انهم يدمرونى كدا...اشمعنى أنا بالذات.
تحولت ملامحه للأسى و انفطر قلبه أكثر، فلا أحد سواه سببا في مأساتها الصعبة، و لكنه تدارك حالة الحزن و الشعور بالذنب المسيطر عليه و أجابها بثبات ظاهرى:
ــ أكيد واحد شمام أو مدمن مخدرات مكانش فى وعيه، لاقاكى قدامه فعمل كدا...بس أنا للأسف عرفت متأخر أوى يا سلمى...بس صدقيني بمجرد ما عرفت ماسكتش و صممت أنى أرجعلك حقك، و بقالى أكتر من سنة بدور على المجرم لحد ما الحمد لله الشرطة قبضت عليه و المحاكمة الأسبوع الجاى زى ما سمعتى كدا...
ظلت شاردة و عيناها تبكيان و لم تقوى على الرد، فالصدمة كانت فاجعة، كادت أن تفقدها عقلها، فالتقط كفها و لثمه بعشق بالغ ثم أردف بحب:
ــ سلمى انتى حتة منى، و اللى يمسك يمسنى...و أنا خبيت عليكى علشان مش عايزك تفتكرى و تنكدى على نفسك و ترجعى تعيشى فى نفس المأساة دى تانى بعد ما عدى عليها أكتر من خمس سنين... انسى.. انسى بقى يا حبيبتى و خلينا نكمل حياتنا فى سعادة و رضا بقضاء ربنا و قدره.
نظرت له بعينين مغشيتين بالدموع و كأنها على شفا الانهيار و تستعطفه لتستقوى به، فقرأ ما بيعينيها و جذبها إلى أحضانه، و كانت تلك إشارة لتنفجر فى بكاء مرير مزق نياط قلبه، و استمرت على هذا الحال إلى أن بدأت قواها تخور و صوتها يتحشرج، فحثها على النوم لتهرب فيه من الصدمات التى تصفعها بلا هوادة أو رحمة، و بعد وقت قليل غطت فى السبات، فدثرها جيدا ثم استلقى بجوارها و شرد فى حالها إلى أن غط فى النوم هو الآخر دون أن يشعر.

فى صباح يوم جديد يطل بأحداث غيبية على الجميع...
فى شركة ريان...
كان عماد و داليا يتناقشان فى الخطة المستقبلية التى سيتبعوها فى إدارة قسم الحسابات، و عندما انتهيا، تردد عماد كثيرا لقول شيئ ما و قد بدت علامات التردد على وجهه بوضوح، فقطبت داليا جبينها بتعجب متسائلة:
ــ حضرتك عايز تقول حاجة يا أستاذ عماد؟!
أجابها بارتباك:
ــ ها!!..الحقيقة أه.
ــ اتفضل قول أنا سمعاك.
ابتلع ريقه بتوتر ثم قال:
ــ هو الموضوع اللى كنت عايز أكلمك فيه موضوع شخصي شوية.
هزت رأسها بتفهم ثم قالت بجدية:
ــ تمام...يبقى نتكلم فى البريك ان شاء الله حسب تعليمات رئيس الشركة.
هز رأسه بموافقة و بسمة أمل مرتسمة على ثغره، ثم عاد إلى مكتبه يترقب وقت الراحة بتوتر شديد.
عند منتصف اليوم و فى وقت الراحة، أقبل عماد على داليا بصينية بها بعض الشطائر و كوبين من العصير ثم وضعها على المكتب أمامها و جلس فى الكرسى المقابل لها و قال بابتسامة واسعة:
ــ أنا قولت أجيب غدا بسيط كدا و اهو يبقى في بينا عيش و ملح.
ابتسمت بمجاملة قائلة:
ــ شكرا يا أستاذ عماد...حضرتك صاحب واجب.
امتعضت ملامحه بضيق قائلا:
ــ يا ريت نرفع التكاليف دى...أستاذ و حضرتك...يعنى احنا زمايل شغل واحد.
هزت رأسها بموافقة مردفة:
ــ و الله اذا كان حضرتك هتتقبل الموضوع دا انا بالنسبالي عادى مفيش مشكله.
ــ و أنا متقبله جدا.
ضحكت ضحكة بسيطة ثم قالت:
ــ ها!!..كنت عايزنى فى ايه بقى؟!
عدل من ياقة قميصه ثم أردف بترقب:
ــ بصى من غير مقدمات و كلام كتير، أنا معجب بيكى و عايز أتقدملك.
طالعته بجحوظ و صدمة و انفرجت شفتاها لتتحدث إلا أنه قاطعها قائلا:
ـــ أنا عارف عنك كل حاجة، و عارف ان سفيان يبقى طليقك و عارف ان عندك منه بنوتة، بس أنا كمان عايزك تعرفينى...أنا أرمل..مراتى اتوفت من سنتين و سابتلى بنوتة بردو عندها خمس سنين، و والدتى ربنا يديها الصحة هى اللى بتربيها و بتخلى بالها منها...يعنى أنا شايف إن احنا الاتنين مناسبين لبعض جدا، دا لو مفيش عندك مانع طبعا.
سكتت داليا قليلا لتفكر بحيرة ثم أردفت:
ــ انت فاجئتنى...بس انا مفاتش على طلاقى غير ست شهور بس و بصراحة مكنتش بفكر فى موضوع الجواز دا نهائي و قولت هعيش أربى بنتى و خلاص.
رد عليها محاولا اقناعها بكياسة:
ــ بس انتى لسة صغيرة يا داليا، و مسيرك هتحتاجى راجل تتسندى عليه و يشيل عنك متاعب الحياة شوية...و اكيد سفيان هيتجوز مش هيقعد كدا...يبقى انتى كدا اللى بتجنى على نفسك.
شردت فى حديثه المنطقى من وجهة نظرها، و أكثر ما استفزها فى الكلام هو حتمية زواج سفيان من ملك مستقبلا، فلما لا؟!
ابتسم بسعادة عندما أحس منها الاقتناع بحديثه ثم استرسل بجدية:
ــ أنا مش عايز منك رد دلوقتي...فكرى كويس و هستنى ردك فى أى وقت..و إذا كنتى مش واثقة فيا او مش عارفانى كويس و مقلقة منى...اسألى ريان عليا..زى ما انتى عارفة احنا أصحاب جدا و هو عارف عنى كل حاجة...تمام؟!
هزت رأسها بإيجاب دون أن تنطق و ما زال الشرود و الحيرة مسيطران على جوارحها، فنهض من أمامها و عاد إلى مكتبه و بسمة الأمل و السعادة لم تفارق محياه.

يتبع...
مع تحياتي/دعاء فؤاد

تعليقات

التنقل السريع