![]() |
الفصل الحادى عشر
بينما فى منزل إبراهيم...
اعتادت سلمى على مساعدة شقيقتها فى الأعمال المنزلية بعد انتهائها من عملها، نظرا لتعب داليا الشديد بسبب الحمل، فطلبت منها داليا أن تساعدها فى تحضير الغداء للعائلة بمناسبة زيارة ريان لهم، فوافقت شريطة أن تنصرف قبل قدومه حتى لا تصطدم به و تراه.
و لكن لسوء حظها وصل ريان قبل أن ينتهيا من اعداد الطعام بالكامل، حبست سلمى نفسها فى المطبخ فاضطرت لأن تجلس داليا معها، بينما ريان يجلس مع والديه و سفيان فى الصالون الكائن بالصالة، فإن خرجت من المطبخ حتما سيراها..
بينما ريان أخبرهم بحمل سيرين، و تبادلوا التهنئة و المباركات، و لكنه يجلس على غير هدى، يريد أن يراها بأى طريقة، فاستأذن للدلوف إلى المرحاض المجاور للمطبخ، و ما ان اقترب من المطبخ حتى سمع الحوار الدائر بين الأختين حين قالت سلمى ببكاء:
ــ مش قادرة أنساه يا داليا...مش عايزة أشوفه علشان حاسة إنى هنهار قدامه من كتر شوقى ليه...أنا عايزة أمشى من هنا بسرعة.
ربتت على كتفها بحنان و شفقة ثم قالت لها باقتراح:
ــ بصى اصبرى شوية كدا و بعدين اطلعى فوق هتلاقى مفتاح الشقة فى الباب من برة افتحى و ادخلى اهدى كدا و ريحى أعصابك و بعدين روحى...علشان ماما متشوفكيش و انتى منهارة كدا...ماشى؟!
أومأت لها بموافقة فقد استحسنت رأيها و عزمت على تنفيذه، أما ريان عاد سريعا مرة أخرى لمجلس عائلته قائلا:
ــ بعد اذنكوا يا جماعة أنا هطلع أريح شوية فى شقتى فوق أصل صاحى بدرى و مرهق..
ردت عفاف باستنكار:
ــ.طاب اتغدى الأول يا حبيبى..
ــ لا يا ماما ماليش نفس دلوقتى...لما انزل هبقى اتغدى..
رد إبراهيم بتفهم:
ــ ماشى يا بنى اللى يريحك.
ــ عن اذنكم..
صعد سريعا إلى شقته المقابلة لشقة سفيان و دلفها و هو يكاد يُجن مما سمع منها، إذن هى مازالت تُكِن له حباً فى قلبها و تشتاق إليه و تحاول نسيانه و لم تستطع، مثلها كمثل حاله تماما...إذن لماذا الفراق من الأساس..
استخرج سيجارة محشوة من سترته، ثم نزعها و ألقى بها بإهمال، و أخذ ينفث دخانها بتفكير و حيرة إلى أن بدأ يقل وعيه تدريجياً بسبب تلك السيجارة، و ما إن انتهى منها حتى سمع باب شقة سفيان يُفتح و يُغلق، فخرج من شقته و خطى لشقة شقيقه ثم فتحها بحذر فوجد سلمى فى وجهه.
طالعته بصدمة ألجمتها، بينما هو ينظر لها بعينين مُسْبَلَتين بسبب المخدر، اقترب منها قاطعا المسافة التى تفصلهما فى خطوتين و قبض على رسغها دون أن يتفوه بكلمة، و سحبها خلفه و خرج من الشقة و أغلقها و سار بها إلى شقته و دفعها برفق إلى الداخل و أغلق شقته، و كل ذلك و سلمى فى حالة من الصدمة و الذهول.
وقف فى مواجهتها ثم قال بنبرة جليدية قاتلة:
ــ لما انتى بتحبينى سيبتينى ليه؟!
جحظت عيناها و انحبست أنفاسها من التوتر، ثم ازدردت لعابها بصعوبة قائلة بارتباك:
ــ كـ..كنت بحبك...و من اللحظة اللى فارقتك فيها و انت خلاص بقيت عادى بالنسبالى..
صرخ بها بوجه محتقن من الغضب:
ــ كدااااابة.
اقترب منها حتى قبض على خصرها و قربها منه للغاية تحت ذهولها و استنكارها من فعلته، انحنى عليها قليلا حتى اختلطت أنفاسه بأنفاسها و هو يقول بهمس موجع:
ــ أنا كمان لسة بحبك...أنا بقيت بكره نفسى علشان لسة بتحبك..أنا بعشقك يا سلمى.
اشمئزت ملامحها من رائحة أنفاسه الغريبة و أخذت تدفعه عنها و هى تقول بصراخ:
ــ ريان سيبنى...انت مش طبيعى..انت أكيد شارب حاجة..
امتعضت ملامحه و ضغط على خصرها بقوة حتى آلمها، و صاح و هو يضغط على كلماته بغضب:
ــ أنا شارب المُر و الحنظل بسببك...مش عارف أعيش حياتى زى الناس..خيالك بيطاردنى فى كل مكان و فى كل مناسبة حتى و أنا مع مراتى..أنا بقيت مدمن مخدرات بسببك.
طالعته بعدم تصديق و هزت رأسها بنفى و هى فاغرة الفاه، فذلك الذى أمامها الآن لا يمكن أن يكون ريان الذى أحبته، ريان الرجل الخلوق الملتزم الناضج بما يكفيه درئ أذى تلك السموم عن نفسه، و فى خِضم تأملها له فى هيئته الجديدة، إذ به ينزع ححابها و يحرر شعرها ثم يدس أصابع يده فى خصلاته و يقرب وجهها من وجهه حتى كادا أن يتلامسا و لكنها أبعدت وجهها سريعا قبل أن يتهور و يُقبِلها، فجذبها عنوة إلى حضنه و هو يهذى قائلا:
ــ نفسى أحضنك..سيبينى أحضنك يا سلمى...عايز أحس بيكى..
بينما هى تدفعه بعيدا عنها بكل ما أوتيت من قوة و تضرب ظهره عله يستفيق من هذيانه و يعود لوعيه و هى تصرخ باسمه و تقول:
ــ ريان..فوق يا ريان...سيبنى..اللى انت بتعمله دا حرااام..ريااان.
و لكنه متمسك بها بقوة و كأنه غاب عن الدنيا و لم يعُد يسمعها، بدأت نواقيس الخطر تدق برأسها حين شعرت بأنامله تتحس ظهرها صعودا و هبوطا، و عند هذا الحد و بدأت تهاجمها صورة مشوشة لرجل ضخم ملثم يهجم عليها عنوة و ينتهك جسدها بقسوة و بلا أدنى رحمة، فازدادت وتيرة تنفسها للغاية و تسارعت دقات قلبها و انهمرت العبرات من عينيها بغزارة ثم أطلقت صرخة مدوية فقدت وعيها على إثرها فى الحال.
أعادته تلك الصرخة قليلا إلى الواقع، و هوى قلبه فى قدميه حينما ثَقُل جسدها بين ذراعيه، و بدأ يعود لوعيه رويدا رويدا، فصُعِق من وضعه معها و أخذ يسب و يلعن ذاته أن وصل به الأمر للتحرش بها، التقط حجابها الملقى على الأرض ثم حملها و خرج بها من شقته إلى شقة سفيان المقابلة و وضعها برفقٍ بالغ على أريكة الصالون ثم أخذ يهزها برفق و يضرب بخفة على وجنتيها و جبهتها و لكن بلا جدوى، أحضر كوب من الماء و نثره على وجهها إلى أن بدأت تهز رأسها بضعف و فتحت عينيها ببطئ إلى أن رأته ينظر لها بذعر فانتفصت من نومتها و هى تصرخ به:
ــ أنا بكرهك...بكرهك...انت مش ريان اللى أنا عارفاه...لا انت واحد تانى أنانى و سرسجى.
نظر لها بخذى و شعور الإنحطاط مسيطر على جوارحه ثم قال باعتذار:
ــ أنا آسف يا سلمى...أنا...أنا مكنتش فى وعيى، أنا مش عارف أنا عملت كدا ازاى...سامحينى أرجوكى..
ردت عليه و العبرات تعرف مجراها جيدا على وجنتيها:
ــ ليه يا ريان...ليه توصل نفسك للمخدرات..دا انت عمرك ما دخنت سيجارة عادية، مفيش سبب فى الدنيا يخلى شاب مؤدب و ملتزم زيك يبقى مدمن.
كان يستمع لها و هو مطرق الرأس من الخذى و الندم و لم يقوى على تبرير فعلته، فهى محقة فى ذلك، عندما تناولها فى أول مرة كان يظن أنها ستكون المرة الأولى و الأخيرة، و لكن هيهات..
ــ امشى...امشى يا ريان و انسانى بقى.
اختنق صوتها بالبكاء و هى تقول:
ــ انت بقى عندك بيت و ما شاء الله مراتك حامل و هيكون عندك أطفال...فوق لنفسك و لبيتك و سيب القرف اللى بتشربه دا و انتبه لحياتك الجديدة و ارمينى ورا ضهرك.
قطب جبينه و هز رأسه بأسى و هو يقول:
ــ مش قادر...مش عارف أخرجك من تفكيرى...اللى أنا نفسى أفهمه لما انتى لسة بتحبينى ليه عملتى التمثيلية دى و وصلتينا لطريق مسدود...حاسس ان انتى مخبية حاجة عليا...انطقى يا سلمى...مخبية عليا ايه؟!
هدر بكلماته الأخيرة بانفعال بالغ، بينما هى فقط تطالعه بحزن و حسرة و الدموع تنهمر فى صمت قاتل و لم تقوى على إجابته، مما زاد شكوكه أكثر فى كونها تُخفى سرا كبيرا عنه، فرمقها بغضب دفين قائلا:
ــ ماشى براحتك يا سلمى...بس أنا دلوقتي بقيت متأكد ان فى سر انتى مخبياه عنى و هو سبب انفصالنا...بس انتى اللى بدأتى بالفراق و انتى معاكى حق...لازم ألتفت لبيتى و مراتى، و يا ريت لما أبقى موجود هنا مشوفكيش..
هب من جوارها و سار باتجاه الباب و قبل أن يفتحه عاد خطوة للخلف و قال بنبرة باردة و ملامح جامدة:
ــ اه على فكرة لو سيرين ولدت بنت هسميها چود و لو جابت ولد هسميه چاد.
ألقى بكلماته الناسفة و تركها و غادر الشقة بأكملها، بينما هى انخرطت فى بكاء أشد و اخذت تحدث نفسها بمرارة قائلة:
ــ لو عرفت السبب و اللى حصلى عمرك ما كنت هتجرحنى كدا يا ريان...عمرك ما كنت هتقولى الكلام دا...ااااه...يا رب صبرنى و اخلف عليا بالخير يا رب.
قضى ريان ذلك اليوم معهم بشق الأنفس رغم أنه كان ينوى قضاء يومين ثم عاد إلى شقته بالقاهرة ليلا، عاد و يا ليته ما عاد، فما إن دلف الشقة حتى قابلته سحابة من دخان سجائر التبغ، فانكمشت ملامحه باستغراب و دلف غرفة النوم و صُعق مما رأى، لقد كانت سيرين تدخن بشراهة مع فدوة و كانتا مرتديتين ملابس چينز ضيقة و فاضحة و يبدو كأنهما كانا بالخارج و عادتا لتوهما، هبت كل منهما من الفراش بفزع، و لملمت فدوة أغراضها سريعا و فرت من الغرفة و الشقة بأكملها تاركة صديقتها تواجه مصيرها المحتوم مع زوجها المصدوم.
أخذ يطالعها بصدمة و هو يهز رأسه بعدم تصديق بينما هى عادت خطوة للخلف برعب و ازدردت لعابها بصعوبة قائلة:
ــ ريان متفهمنيش غلط...أنا بس الحمل..ايوة الحمل خلى نفسي تروح للسجاير...فـ فقولت أجربها...دى اول مرة...صدقنى..
اختصر المسافة بينهما فى خطوة واحدة و جذبها بعنف من شعرها و هو يصتك أسنانه من الغضب و هدر بها بصراخ:
ــ اول مرة!!..واضح فعلا انها اول مرة...و بالنسبة للبس دا...كنتى فين؟!...انطقى كنتى فين باللبس الزبالة اللى انتى لابساه دا..ردى عليا يا إما و دينى ليكون النهاردة آخر يوم بينا..
ردت عليه بتردد من بين تأوهاتها:
ــ كنت..كنت..كنت فى الديسكو..
و قبل ان يوبخها أسرعت تبرر:
ــ فدوة...فدوة هى اللى قعدت تقنعنى و تتحايل عليا لحد ما وافقت، بس مكانش ينفع أروح بحجاب و فستان طويل.
طالعها بصدمة أكبر و احتقن وجهه من الغضب و هدر بها و هو يهزها بعنف:
ــ يعنى ايه!!...كنتى بتستغفلينى!...بتخدعينى و بتغشينى! و عاملة عليا الخضرا الشريفة!!..
بينما هى تحاول أن تحرر شعرها من يديه تارة، و تمسك بطنها و تبكى تارة أخرى، إلى أن زج بها بعنف إلى الفراش و نظر لها باشمئزاز ثم قال:
ــ أنا مش هعديهالك كدا...و لولا ابنى اللى فى بطنك كنت طلقتك، بس لو حصلت تانى يبقى انتى كدا ناوية على موتك....و عايزك تنسى إن انتى متجوزة واحد اسمه ريان.
شهقت بصدمة من كلامه و انهارت فى بكاء مرير و انكبت على قدميه تتمسك بهما بقوة و هى تقول بندم و اعتذار:
ــ لا يا ريان...لا علشان خاطري أنا بحبك و مش هتحمل كدا منك...آخر مرة و مش هكررها تانى..و حياتك عندى ما هكررها و مش هخرج باللبس دا تانى صدقنى...بس اوعى تبعد عنى و تهجرنى...أنا أموت من غيرك...خليك جنبى..
زفر بعنف و أخذ يمسح على وجهه و رقبته، لا يدرى أى جُرحٍ سيتحمل، إلى متى ستعانده الأيام... أبعدها عنه ثم قال بجدية:
ــ مش هقدر أسامحك بالسهولة دى...انتى خونتى ثقتى فيكى و عملتى شرخ كبير اوى بينا استحالة يتصلح تانى.
ثم تركها بنحيبها و ندمها و غادر شقته متجها إلى أحد الفنادق ليقيم بها حتى تهدأ أعصابه قليلا و يقرر ماذا سيفعل بعد ذلك.
صنع ذلك الموقف فجوة كبيرة فى علاقته بـ سيرين، رغم محاولاتها المستميتة فى استعادة ثقته مرة أخرى، و زاد الفتور بينهما إلى حد كبير.
بينما على الجهة الأخرى التزمت سلمى بطلبه ألا و هو عدم رؤيتها أثناء زياراته القصيرة لعائلته، و رأت أن ذلك أفضل لهما رغم نيران الاشتياق المنضرمة فى صدريهما.
أما داليا تحاول جاهدة استمالة قلب سفيان، و تتجنب ذِكر سيرة ملك او أى شيئ يخصها يمكن أن يُذكره بها، كما أن سفيان بدأ يتناساها و يلتفت لأسرته خاصة بعد أن وضعت داليا مولودتها و التى أصر على تسميتها "ملك" تخليدا لذكراها، و استقرت أموره مع زوجته و طفلته و احتسب أجر صبره على فقيدته و حسن معاملته لزوجته عند الله.
وضعت سيرين مولودتها بعد داليا بأسبوع واحد و أسماها ريان "چود"...
لم يكد يمر على ولادة سيرين ثلاثة أشهر حتى حملت مرة أخرى، فى بادئ الأمر أصرت على إجهاض الجنين إلا أن ريان منعها من ذلك و أصر على استكمالها الحمل، و كان يترك" چود" عند والدته بالمنصورة تربيها و تعتنى بها بحجة تعب سيرين فى الحمل الثانى و عدم قدرتها على الاعتناء بها، و قد استحسنت سيرين ذلك الأمر، فكيف لتلك المدللة المتحررة أن تربى طفلا و تتحمل مسؤليته، فهى نرجسية الطباع، لا تبالى إلا لنفسها.
تعلقت سلمى بـ "چود" و كانت تأخذها عندها أغلب الأوقات، و كان ذلك بالطبع بدون علم أى من ريان او سيرين، كانت تعاملها و كأنها قطعة منها، و كيف لا و هى قطعة من أغلى و أحب انسان إلى قلبها، فكانت "چود" عِوض الله لها، و تمنت لو تقضى "چود" حياتها كلها بين أحضانها.
مر عام آخر أتمت فيه "ملك" ابنة سفيان عامها الأول، و أيضا "چود"، و وضعت سيرين مولودها الثانى و كان ذكرا و أسماه ريان" چاد"..
و من هنا بدأت علاقة ريان و سيرين تتدهور للغاية بسبب إهمالها فى تربية ولدها الثانى، و فى أغلب الأوقات يخشى على ولده من فرط إهمالها و يأخذه لجدته بالمنصورة يقضى عندها أوقات طويلة كما كان و مازال يفعل مع "چود"، و المدللة لا تبالى و لا تهتم، فقد كان جُل اهتمامها بذاتها و بملذاتها و حسب.
تعلقت سلمى أيضا بـ" چاد" و وهبت نفسها أُمّاً لهما، فلا ينادونها إلا بـ "مامى" بعدما تعلما النطق، و نسيا الطفلان أن لهما أما.
و قد ترهبنت و أغلقت عقلها و قلبها عن فكرة الزواج حتى و إن قبل العريس ظروفها الحالية.
و على الجهة الأخرى تخرجت ملك الكبيرة من معهد الترجمة و عرض عليها أحد أساتذة المعهد المسلمين العمل بمركز الدعوة الإسلامية بـ برلين، كمترجمة للنصوص و الأحاديث و الشريعة الإسلامية عامة من اللغة العربية إلى الألمانية، و ذلك للألمان المعتنقين الإسلام حديثا، و قد رحبت بذلك و حمدت الله أن اصطفاها لهذا العمل الدعوى الذى أكثر ما يتمناه أى مسلم او مسلمة، عملا بقول الرسول (صلى الله عليه و سلم) "لإن يهدى الله بك رجلا للإسلام خير لك من الدنيا و ما فيها."
و قد اجتهدت فى هذا العمل و كانت تمتاز بسهولة توضيحها و شرحها للأمور الصعبة باللغة الألمانية كما لو كانت ألمانية المنشأ و ليست عربية.
عودة من الماضى(أخيراً)...
يا سنين واخدانى و كمان واخداه
من بعده بعانى أكبر معاناة
حكاياته معايا أنا منستهاش
و الشوق جوايا ناره مبتهداش
ما إن اخترقت أذنيه كلمات تلك الأغنية حتى توقف بغتة عن ثرثرته مع سائق التاكسى فى أحوال التعليم فى مصر، و زاغ بعينيه بشرود و قد تحولت ملامحه للأسى، الأمر الذى لفت انتباه السائق و أثار فضوله فقال له بمزاح:
ــ ايه يا أستاذ؟!..هو تامر حسني جيه على الجرح و لا إيه؟!
أجابه بنبرة ممزوجة بالوجع:
ــ دا جيه على الجرح أوى و فتحه كمان.
هز السائق رأسه بتعاطف قائلا:
ــ معليش...مسير الحى يتلاقى..
لوى شفتيه لجانب فمه بابتسامة ساخرة يشوبها الوجع قائلا:
ــ مش لو كان حى!!
بدت على السائق علامات الحزن و الشفقة عندما فهم معنى كلامه ثم قال:
ــ لا إله إلا الله...وجعتلى قلبى و الله يا أستاذ..ربنا يرحم موتانا جميعا.
تنهد سفيان بوجع قائلا بصوت متحشرج:
ــ يا رب...ربنا يرحمك يا ملك.
فى تلك الأثناء رن هاتفه برقم أبيه فأجابه على الفور و رد عليه أبوه قائلا:
ــ انت فين يا سفيان..
ــ انا عندى حصة برايفت فى حى غرب يا حاج و راكب التاكسى أهو و رايح.
ــ طيب اتصل بولى أمر الطالب و اعتذر منه و ارجع على البيت حالا..
قطب جبينه باستغراب و سأله بقلق:
ــ خير يا حاج في حاجة؟!
ــ عمك اسماعيل راجع من ألمانيا و كلها ساعة و يوصل و لازم نكون فى استقباله.
اتسعت ابتسامته بسعادة قائلا:
ــ بجد يا بابا...أخيراً.
ــ أهو يابنى...لما آن الأوان.
ــ فرحتنى و الله يا بابا...حاضر مسافة السكة و هتلاقينى عندك..سلام.
اغلق الخط ثم نظر للسائق قائلاً بسعادة:
ــ و الله ياسطى انت فيك حاجة لله.
ــ مش قولتلك مسير الحى يتلاقى..بس حضرتك قايل إنه الله يرحمها يعنى..
ــ ما هو دا ياسطى من ريحة المرحومة..
ــ اااه..طيب ألف و ارجع يعنى..
ــ اه يا ريت ياسطى الله يكرمك..
يتبع....
مع تحياتي/ دعاء فؤاد
الفصل الثاني عشر
عاد سفيان إلى منزله فوجد أبيه فى انتظاره، ألقى عليه السلام و جلس معه بالصالون.
كان إبراهيم يجلس بكرسيه بتوتر شديد و قد بدت علامات القلق عليه بوضوح، الشيئ الذى أثار ريبة سفيان و قال له باستغراب:
ــ مالك يا حاج؟!.. شكلك مش مبسوط برجوع عمى و لا ايه؟!
ازدرد لعابه بصعوبة ثم قال بتردد:
ــ عمك واصل من امبارح يا سفيان..
جحظت عيناه من الدهشة و سأله بملامح مشدوهة:
ــ طاب و حضرتك مقولتليش ليه و كان قاعد فين؟!
دلفت داليا بصينية الشاى و من خلفها صغيرتها و وضعتها على الطاولة و جلست بجوار زوجها، رمقها إبراهيم بتوتر ثم قال:
ــ أصله ما جاش لوحده..
ضحك سفيان و قال بمزاح:
ــ اتجوز هناك واحدة أجنبية يعنى و جايبها معاه؟!... طاب و ماله... حقه بردو..
ازدرد لعابه بصعوبة و قد اصفر وجهه من فرط القلق ثم قال بترقب:
ــ لا... جايب معاه.. مـ ملك..
شهقت داليا بصدمة و حينها تأكدت أن من رأتها بالمول أمس هى ملك ابنة عمها اسماعيل، بينما سفيان لم يستوعب بعد كلامه و سأله بعدم اقتناع:
ــ ملك مين؟!
اخذ ينقل بصره بينه و بين داليا بتوتر ثم قال بترقب:
ــ ملك بنته..
صدمة....صدمة بالغة خيّمت على جوارحه، لم يصدق بعد و لم يفهم بعد أى ملك يقصد، و ماذا عن السنوات التى عانى فيها الأمرين و شرب فيها كؤس اللوعة و العذاب، أكان ينعى و يرثى حبيبة مازالت على قيد الحياة!!
اقترب إبراهيم من ولده المصدوم و قال بنبرة معذبة ممزوجة بتأنيب الضمير:
ــ عمك كلمنى من تلت تيام و قالى إنه راجع فى زيارة بعد ما ملك صممت إنها تزورنا، كلمت ام سيد و نضفت البيت و عملتلهم أكل و سابته فى التلاجة، وصل امبارح الصبح و انت كنت نايم، و ريح شوية كدا و خرجوا العصر يفرجها على البلد، بس من ساعة ما قالى انه راجع معاها و أنا مش عارف أقولك ازاى و منمتش طول الليل من التفكير، فى الآخر قولت مبدهاش بقى..
هز رأسه بعدم تصديق و مازالت الصدمة بادية على وجهه:
ــ أنا مش فاهم أى حاجة...يعنى ملك مماتتش...طاب لو عايشة ليه مرجعتش من كام سنة فاتت!..لسة فاكرة ترجع دلوقتي!..طاب ليه عمى كدب علينا؟!..بابا انت كنت عارف انها عايشة..؟!
هز رأسه بإيجاب دون رد، فنظر سفيان لـ داليا و قال:
ــ و انتى كمان كنتى عارفة؟!
هزت رأسها بنفى و قالت:
ــ لا يا سفيان...انا زيك تمام معرفش حاجة.
ضيق عينيه بترقب قائلا:
ــ أومال ليه امبارح قعدتى تقوليلى لو ملك لسة موجودة هترجعلها و كأنك عارفة انها لسة عايشة؟!
أجهشت داليا فى البكاء و قالت من بين شهقاتها:
ــ شوفتها امبارح فى المول و مكنتش مصدقة انها هى...و حسيت انى فـ مصيبة كبيرة لو كانت هى بجد..
دفن وجهه بين كفيه و استند بكوعيه على فخذيه و هو يكاد يُجن مما سمع، و كل ما يجول بخاطره الآن، لما لم تعد لأجله، ألم تعد تحبه، أيعقل أن تكون قد لفظته من قلبها و أصبح لها كأى شخص عادى أو مجرد ابن عمها و حسب؟!..
استرسلت داليا قائلة ببكاء:
ــ بس...بس كلمتنى و شافتنى و لا كأنها تعرفنى و دا اللى خلانى أشك انها ممكن تكون واحدة شبهها.
رفع سفيان رأسه من بين كفيه و نظر لها باستغراب إلى أن قال إبراهيم:
ــ ما أنا نسيت أقولك إنها لما فاقت من الغيبوية لاقوها فاقدة الذاكرة، و مش فاكرة أى حاجة، و لحد دلوقتي لسة مش فاكرة حد، و أبوها هو اللى حكالها عننا و مفهمها ان انت و أخوك كنتوا زى إخواتها...
قال عبارته الأخيرة بنبرة ذات مغذى و هو يضغط على كلماته، فوصل مغذاه لسفيان، و أحس بوخز حاد فى قلبه عندما تخيل أن ملك لا تتذكره من الأساس و أنها لن تعرفه...كيف هذا؟!...أيعقل؟!..يا حسرتاه على حب اندثر مع اندثار ذاكرتها و كأنه لم يكن.
قطب سفيان جبينه باستنكار قائلا بحدة ممزوجة بوجع:
ــ طاب ليه كدبتوا عليا؟!..ليه عمى يعمل فيا كدا...فى حد فى الدنيا يفول على بنته بالموت؟!...ازاى عمى يعمل كدا...فهمنى يا بابا أنا هتجنن..
تنهد أبوه بعمق و قال بحزن:
ــ دى حكاية يطول شرحها يا سفيان و لما ييجى هو بنفسه هيحكيلك...بس بلاش يابنى عتاب دلوقتي...سيبهم يرتاحوا و يهدوا شوية و بعدين نتعاتب زى ما انت عايز..
نهضت صغيرته و جلست على قدميه و كأنها تقول له "ها أنا ذا يا أبى، لا تفكر فى ملك أخرى غيرى...أنا ملكتك الأولى و الأخيرة" فجذبها إلى أحضانه و اعتصرها بين ذراعيه حتى آلمها و كأنه يستغيث بها لكى لا يرى سواها، لكى يُبقى على صغيرته بكنفه و ألا يلتفت لغيرها و ينهار عشه الصغير الذى أسسه و اشتد بنيانه حين أتت صغيرته و أنارت دنياه بعدما أعتمت بعد فقدانه لملكته الأولى.
لم يعد يقوى على الصمود و التظاهر بالثبات أكثر من ذلك، يريد أن يبكى و يرثى حاله، فكيف له بعدما عرف أنها مازالت حية، كيف سيعيش و كأنها لم تعد، كيف سيُكمل حياته و هى أمامه، لن يكون بمقدوره التعامل معها على أنها إبنة عمه و حسب، ليتها لم تعد، فقد تأقلم مع غيابها بعد معاناة، و تحمل ما لايمكن تحمله من مشاعر كاذبة مع زوجته، فكم كان تمثيل الحب و الراحة أمرا عسيرا، و لكن ليس لها ذنب بذلك.
رد سفيان أخيرا بصوت متحشرج من أثر الصدمة:
ــ طاب احنا اللى هنروحلهم البيت و لا هما اللى هييجوا؟!
أجابه والده بجدية:
ــ لا هما زمانهم جايين دلوقتي، و أخوك ريان كمان زمانه على وصول. ..
لم يكد ينهى حديثه حتى طرق أحدهم الباب، ففتحت داليا الباب و كان الطارق ريان و معه سيرين و ولديه، و دلفوا جميعا بعدما تبادلوا التحية و جلسوا فى انتظار قدوم اسماعيل و ملك...
اتصلت داليا بـ سلمى و أخبرتها بالموضوع منذ بدايته، اندهشت سلمى للغاية و أحست بنيران الشوق المنضرمة بصدر سفيان و التمست له العذر و أشفقت عليه كثيرا، فهى أول من انكوى بنيرانه و ذاقت ويلات الفراق.
بعد قليل أتت سلمى و معها والدتها و ما إن عبرت باب الشقة إلى الداخل حتى صرخ چود و چاد و نادوها بلقب "مامى" أمام مرئى و مسمع والديهما المشدوهين من فعلتيهما، و ركض الطفلان إليها و انحنت و حملتهما و هى فى قمة سعادتها و اخذت تقبلهما و هى تقول:
ــ كدا يا چوچو.. شهر بحاله ماشوفكوش فيه... هانت عليكم مامى سلمى..
تعلق الطفلان برقبتها و كأنهما قد وجدا ضالتيهما، بينما سيرين كانت تشتعل بمكانها من الغيرة، و ترمقها بنظرات مغتاظة و هى تصتك فكيها غضبا و غلا، بينما ريان كان يتابع المشهد بدهشة و سعادة فى آن واحد، و ابتسامة هائمة لاحت على ثغره فيمن عشقها حتى النخاع، و تمنى فى تلك اللحظة بالذات لو كانت هى أمهما الحقيقية، و حقق أحلامهما التى رسماها سويا فى الماضى، لكان أسعد إنسان فى الوجود..
اقتربت من مجلسهم و ألقت عليهم السلام متحاشية النظر فى وجه ريان، فحتما ان نظرت له بعد غياب عامين رغم زياراته المتكررة ستفضحها نظراتها المشتاقة، فجلست فى مقعد بعيدا عنه و الطفلان على رجليها..
ظلت سيرين تطرق الأرض بقدميها بتوتر و غضب إلى أن خرجت غيرتها عن السيطرة، فهبت من مقعدها و وقفت قبالة سلمى و جذبت الطفلان من يديهما و هى تقول:
ــ بعد اذنك عايزة ولادى..
طالعتها سلمى ببرود قائلة بنبرة استفزازية:
ــ أنا ما أخدتهمش منك على فكرة... هما اللى بيحبونى و بيجروا عليا كل ما يشوفونى.
بينما الطفلان أبيا أن يستجيبا لأمهما و تمسكا بـ سلمى أكثر، فاغتاظت سيرين للغاية و حملتهما عنوة و هما يبكيان و جلست مرة أخرى بمقعدها، بينما ريان مشدوها لا يصدق أن طفليه متعلقين بـ سلمى إلى هذا الحد، الأمر الذى زاده سرورا و ارتياحا.
بعد دقائق قليلة طُرِق الباب، فهوى قلب سفيان فى قدميه، و ارتفعت حرارة جسده من فرط التوتر، و زادت وتيرة تنفسه، يود أن يهرب إلى أى مكان قبل أن يراها، فحتما لن يستطيع السيطرة على أعصابه التالفة و ربما يفعل ما لا يُحمد عقباه.
فتحت عفاف الباب، و كان الطارق اسماعيل، دلف إلى مجلسهم و سأله إبراهيم باستغراب:
ــ أومال فين ملك يا اسماعيل؟!
ــ طاب سيبنى أسلم على حبايبى الأول يا أبو ريان و بعدين نتكلم..
سلم عليهم جميعا و احتضن الشباب بشوق بالغ و بعدما انتهى قال بجدية:
ــ ملك مستنيانى تحت.. أنا جيت أنا الأول علشان أتأسفلكم على كدبى عليكم بس انا لاقيت ان دا الأحسن للكل خاصة إن ملك فقدت الذاكرة و مش فاكرة أى حد منكم، و ليا رجاء عندكم... مش عايز حد يفكرها بأى حاجة حصلت زمان، كفاية عليها اللى شافته لحد ما ربنا قومها من الغيبوبة بالسلامة، ملك اتغيرت و بقت حاجة تانية... كبرت و درست و اشتغلت كمان، و متعرفوش أنا مبسوط قد ايه بحياتها الجديدة و هى كمان مبسوطة، لولا إن هى صممت إنها تتعرف عليكم علشان ماتشيلش ذنب قطيعة الرحم.
ردت عفاف بسعادة:
ــ متقلقش يا أبو ملك..إحنا كمان بنحبها و يهمنا مصلحتها فوق كل شيئ... اتوكل على الله و انزل هاتها... دى وحشتني أوى.
أومأ بشبه ابتسامة و القلق مسيطر على جوارحه، يخشى لحظة لقائها بـ سفيان، فحتما ستشعر به خاصة و أنه كان دائما يراودها بأحلامها.
بينما سفيان طالعه بغضب دفين، فـ لأول مرة يشعر أنه يمقت عمه الحبيب، و ما ان خرج عمه من باب الشقة حتى انحبست أنفاسه و ارتفع ضغط الدم بعروقه، يتمنى لو تنشق الأرض و تبتلعه قبل أن يراها و ينفضح أمر اشتياقه الدائم لها.
هبط إبراهيم للطابق الأرضى حيث تنتظره غاليته و أخذها و صعد بها إلى شقة عمها، دلفا سويا فنهض الجميع من مجالسهم و تقدمت منهم ملك بخطى خجلى و أبيها بجوارها، ألقت عليهم السلام بصوتها الرقيق:
ــ السلام عليكم..
ردوا جميعا السلام بصوت واحد، بينما قال أبوها بابتسامة واسعة:
ــ ادى يا ستى قرايبنا و حبايبنا اللى نفسك تشوفيهم من زمان و نبدأ بالراس الكبيرة...عمك ابراهيم..
اقبلت عليه و انحنت لتقبل يده بينما هو يمتنع إلا إنها أصرت على ذلك فأخذ يمسح على حجابها بحب و هو يقول:
ــ لسة قلبك طيب و حنينة زى ما انتى يا ملك.
أجابته بابتسامة جميلة:
ــ ربنا يخليك ليا يا عمو و يبارك فيك.
استأنف اسماعيل قائلاً:
ــ و دى يا ستى طنط عفاف مرات عمك إبراهيم..
اغرورقت عينا عفاف بالدموع فهى لا تصدق أن ملك التى تربت على يديها و أمام عينيها لا تتذكرها و لا تعرفها، و جذبتها إلى أحضانها و هى تبكى و تربت على ظهرها بحنان و تسمعها من كلمات الحب و المديح، فتأثرت ملك بكم الحب و المشاعر الفياضة التى أغدقتها عليها، و بعد فترة أبعدتها عن حضنها بشق الأنفس، و ها قد حان دور سفيان لكى يُعرفها أبوها عليه، فقد كان واقفا بأنفاس منحبسة و اعصاب تالفة، يتظاهر بالثبات و كم كان ذلك الأمر شاقا عليه..
وقفت قبالته و قال ابوها بقلق داخلى:
ــ احم..و دا سفيان ابن عمك إبراهيم..
أماءت له بابتسامة أطاحت بعقله و كادت تفقده ثباته، يتأمل ملامحها بلاوعى، فقد نضجت بدرجة كبيرة، فالتى تقف امامه الآن ليست ملك ابنة الثامنة عشر عام ذات الجسد النحيل و الملامح الباهتة، بل على العكس تماما، ازدادت جمالاً و أنوثة و صَقُل قوامها، و عيناها.. و آهٍ من عينيها اللاتى ازدادت سحرا و جمالا بلونهما الخلاب الذى تغير من الأخضر الباهت إلى مزيج من الأخصر و العسلى، سحرهما يخطف العقل و القلب.
لم يقوى على الكلام، يشعر و أنه قد فقد أحباله الصوتية و انما فقط رد لها الإماءة بملامح واجمة حتى أنه لم يستطع أن يبتسم فى وجهها من فرط المشاعر الجياشة الثائرة بوجدانه، بينما هى بمجرد أن تاملته لوهلة أحست بارتجافة بقلبها، أحست أن كيانها يهتز و كأنها رأته من قبل، شعور غريب خيّم عليها لم تستطع تفسيره، و لكنها تجاوزته و وقفت قبالة داليا فقطبت جبينها باستغراب قائلة:
ــ مش انتى اللى شوفتك امبارح فى المول؟!
هزت داليا رأسها بالإيجاب دون أن تنبس ببنت شفه، فأردف اسماعيل قائلاً:
ــ دى يا ستى داليا جارتنا و فى نفس الوقت مرات سفيان...ما أنا حكيتلك عنها.
هزت رأسها بتذكر ثم سلمت عليها و هى تشعر تجاهها بغيرة غير مبررة، و داليا أيضا تبادلها الشعور بالغيرة، و الخوف من المستقبل يكاد يفتك بها فتكا.
ما إن انتهت ملك من التعرف علـى بقية أفراد العائلة حتى هب من مجلسه بغتة، فهو لم يعد يحتمل البقاء أمامها و هو يتعين عليه ألا ينظر لها و يروى عطش عينيه منها، و استأذن منهم قائلا بملامح واجمة:
ــ بعد اذنكم يا جماعة عندى حصة برايفيت مينفعش تتأجل...حمد الله على سلامتكم يا عمى.
و سار باتجاه الباب تحت نظراتهم المتعجبة، و لم يكد يفتح الباب حتى نادته ملك بنبرتها الرقيقة:
ــ سفيان استنى لحظة.
اعتصر جفنيه بألم بالغ، فكم اشتاق لسماع اسمه بصوتها، و هاهي تُصعب عليه الأمر و تصغط على جرحه أكثر و تذكره بما حاول كثيرا نسيانه.
استدار لها و هو مازال بجوار الباب، فنهضت و سارت له و وقفت أمامه وقالت ببراءة:
ــ لحظة بس..
دست يدها فى حقيبة يدها التى تحملها على كتفها و استخرجت منها ورقة و أعطتها له قائلة:
ــ ممكن بس تجيبلى الأقراص دى، اصل محتاجاها ضرورى و ملاقيتهاش امبارح فى الصيدليات اللى جنبنا هنا.
بينما هو تاه فى ملامحها الجديدة و نطق بلاوعى و بهمس مثير للأعصاب:
ــ ملك...
بينما هى تجمد جسدها و طالعته بملامح مشدوهة عندما سمعت اسمها منه، تلك النبرة التى تتردد بأذنيها دائما، فأردف قائلا بنفس الهمس و بنبرة مترجية:
ــ انتى بجد مش فاكرانى يا ملك؟!.. مش فاكرة سفيان؟!
بينما هى مازالت تطالعه بتمعن تقارن بينه و بين من يؤرق منامها، و سفيان هائما فى لون عينيها الجديد فابتسم رغما عنه من اعجابه بشدة جاذبيتها، و ما إن ظهرت غمازتيه حتى اتسعت عيناها على آخرها و بدأت تساورها الشكوك بكونه هو من أحبته من خلال أحلامها، و من المؤكد إنه تربطهما علاقة ما فى الماضى قبل فقدانها الذاكرة، و هناك فى الصالون المواجه لباب الشقة تجلس على غير هدى، تشرئِب برقبتها كل لحظة و أخرى لترى ملامحه و هو يتحدث معها، فلاحظها إبراهيم و اضطر لأن ينادى سفيان انقاذا للموقف و قال له بصوت مرتفع من مكانه:
ــ سفيان... هاتلى علاج الصغط بالمرة و انت جاى..
انتبه سفيان لموقفه اخيرا و تنحنخ بحرج قائلا:
ــ احم..حاضر يا حاج..
ألقى عليها نظرة أخيرة و تركها بصدمتها و انصرف، بينما هى عادت لمكانها بخطى تائهة و ذهن شارد.
بعد وقت قليل التموا جميعا حول مائدة الطعام و قد كانت الأجواء مشتعلة بالغيرة من قبل داليا و ملك من ناحية، و سيرين و سلمى من ناحية أخرى.
عند الغروب استأذن اسماعيل للعودة إلى منزله لكى يرتاحا قليلا، و غادرت أيضا سلمى بعدما أغدقت چود و چاد بوابل من القبلات تحت نظرات سيرين الغاضبة و نظرات ريان السعيدة، و ما إن خرجت حتى قبضت سيرين على كف ريان و قالت له بغضب دفين:
ــ يلا نطلع احنا كمان شقتنا.. خلينا نرتاح شوية.
رد ريان ببرود:
ــ خدى الولاد و اطلعى انتى... أنا هخرج شوية..
اصتكت فكيها من الغضب فقد ظنت أنه سيذهب خلف غريمتها، و قالت بنبرة محملة بالغيرة:
ــ لا يا ريان...انت هتطلع معانا..
طالعها بحدة و صرخ بها:
ــ انتى بتؤمرينى؟!..اطلعى يلا ومالكيش دعوة بيا..أنا مش ههرب متخافيش..
نظرت له بغضب بالغ و لم تنبس ببنت شفه، ثم أخذت طفليها و صعدت لشقتها.
بينما سفيان لم يَعُد بعد، الأمر الذى أصاب داليا بالقلق البالغ فاتصلت به عدة مرات و لكنه لا يجيب، اتصلت من هاتف والده و لكن أيضا بلا جدوى، فذهبت لـ ريان قبل أن يخرج و طلبت منه أن يتصل به أو يبحث عنه، فقد بلغ منها القلق مبلغه، و نصال الغيرة و الخوف من فقدانه تُمزق فى قلبها تمزيقا.
اتصل به ريان عشرات المرات إلى أن أجابه اخيرا بنبرة حزينة:
ــ أيوة يا ريان..
رد ريان بلهفة:
ــ يا أخى حرام عليك موتنا عليك من القلق.. انت مختفى فين يا بيه؟!
أجابه بنبرة متحشرجة خافتة:
ــ أنا على السطوح يا ريان.
هز ريان رأسه بغيظ ثم قال بحدة:
ــ و مبتردش على تليفونك ليه يا بنى ادم انت؟!
أطبق جفنيه بنفاذ صبر قائلا:
ــ ريان أنا مخنوق و مش طايق نفسي و لا قادر أتكلم أصلا مع أى حد..
ريان بحزن:
ــ اقفل أنا طالعلك..
أغلق ريان الخط ثم اتجه مباشرة لسطح المنزل قبل أن تراه داليا و تُدخله فى سين و جيم..
عندما صعد إلى السطح وجد سفيان متكئا بذراعيه على السور المقابل لشرفة ملك و هو شارد الذهن مهموم الملامح، اتكئ على السور بجواره ثم قال بتعاطف و اشفاق:
ــ و بعدين يا سفيان...ناوى على ايه؟!
أجابه بنبرة أليمة و نظره مسلط على شرفتها:
ــ مش عارف...مش مصدق اللى بيحصلى دا...حاسس ان أنا فى كابوس..منك لله يا عمى اسماعيل..قلبتلى حياتى بعد ما كنت خلاص اتأقلمت على غيابها..
رد عليه ريان بتساؤل:
ــ انت زعلان انها لسة عايشة؟!
هز رأسه بنفى قائلا:
ــ بالعكس أنا مبسوط ان ربنا كتبلها الشفا حتى لو مش فكرانى...بس ليه يخبى علينا و يكدب علينا الكدبة السودا دى؟!..أنا كان عندى استعداد أستناها العمر كله طول ما هى عايشة...أنا جوايا نار يا ريان..محتار ما بين مراتى و بنتى و بينها...اختيار صعب أوى اوى...أنا هتجنن..
ربت على كتفه بمواساة و هو لا يدرى أيواسيه أم يواسى نفسه ثم قال بملامح منكمشة من فرط الألم:
ــ حاسس بيك و بالنار اللى جواك...احنا الاتنين بنشرب من نفس الكاس...أنا كمان حبيبتى قدامى و مش طايلها.
نظر له سفيان باستغراب قائلا:
ــ انت لسة بتفكر فى سلمى؟!
أجابه بنبرة حزينة:
ــ ما غابتش عن تفكيرى لحظة، و حاسس ان فى سر هو اللى خلاها تبعد عنى و نفسى أعرفه...
ازدرد سفيان ريقه و لم يُعقب، و أطبقت عليهما برهة من السكون قطعه ريان قائلا بابتسامة هائمة:
ــ بس أكتر حاجة مخليانى مرتاح نفسيا ان الولاد بيحبوها، لا و كمان بيقولولها مامى... اهو على الأقل لاقوا أم تحبهم بجد...
رد سفيان بجدية:
ــ ربنا يخليلهم مامتهم..
لوى شفتيه لجانب فمه بابتسانة ساخرة قائلا بتهكم:
ــ مامتهم؟!..هى فين مامتهم دى!!..دول هما آخر اهتماماتها...الحياة بينا بقت صعبة اوى و شبه مستحيلة..
رد عليه سفيان بلوم:
ــ مش دا كان اختيارك يا ريان...و قولت بنت متربية و عاقلة و ناضجة وا وا وا..
انكمشت ملامحه بندم قائلا:
ــ اكتشفت انها كانت بتمثل عليا و شوفت وشها الحقيقى بعد الحواز... لولا الولاد كنت طلقتها و خلصت...بس صعبانين عليا، مش عايزهم يتبهدلوا بينى و بينها.
تنهّد سفيان بقلة حيلة قائلا:
ــ ادعيلها ربنا يهديها..
زفر ريان بعنف عله يتخلص من بعض الهموم التى أثقلت صدره ثم قال بوجع:
ــ يا رب... يا رب..
قضيا الشقيقان فترة لا بأس بها فوق سطح المنزل، كل منهما ينظر للقمر و كأنه يبث فيه همومه و أحزانه، ربما يحمل عنهما و لو القليل، ثم هبط كل منهما إلى شقته حيث تنتظره زوجته..
يتبع....
مع تحياتي/ دعاء فؤاد
الفصل الثالث عشر
فى منزل اسماعيل...
بعدما عادت ملك إلى منزلها انتابتها حالة من التيه و الشرود، فقد احتل سفيان جُل تفكيرها، تسأل نفسها لما كان يتطلع إليها بشغف هكذا دون الآخرين، لماذا هو بالذات قال لها(انتى بجد مش فكرانى)، ترى كيف كانت علاقته بها فى الماضى، تعلم أمر كذب أبيها عليهم و من المؤكد أن تلك الكذبة قد أثرت على مجرى حياة من تعلق قلبه بها و تعلق قلبها به...أيعقل أن يكون هو حبيبها فى الماضى أثناء مرضها؟!...و عند هذا الحد و بدأ قلبها ينبض بعنف و كأنه سيهرب من مخضعه..بدأت عيناها تغرورق بالدموع...فها قد وجدت ضالتها و ليتها ما وجدتها...فالحبيب الذى لطالما حلمت به و انتظرت لحظة لقائه متزوج و لديه طفلة...
دلف إليها أبوها الغرفة لكى يطمئن عليها، فرآها بحالة ترثى لها، فتقدم منها و جلس بجوارها و أحاط كتفيها بذراعه و هو يقول بحنو:
ــ مالك يا حبيبتى؟!
نظرت له بملامح متجهمة و عينين دامعتين و سألته بلوم جارح:
ــ ليه يا بابا؟!..ليه تكدب عليهم الكدبة دى و تفرق بينى و بين سفيان.
جحظت عيناه صدمة من حديثها و سألها بترقب:
ــ ملك..انتى افتكرتى.!!..الذاكرة رجعتلك؟!
أجابته بحدة طفيفة:
ــ لا يا بابا مش فاكرة...بس قلبى اللى فاكر..قلبى اللى كان بيقولى دايما أنا مش فيكى...أنا ف مكان تانى...و النهاردة بس عرفت قلبى كان فين....
أجهشت فى بكاء مرير جعله يشعر بتأنيب الضمير و قالت من بين شهقاتها العالية:
ــ ليه تعمل فينا كدا...مين قالك انى طالما فقدت الذاكرة إنى هنساه هو كمان...طاب مفكرتش فيه هو؟!..كل اللى فكرت فيه الشقة الحلوة و الشغلة المرتاحة و الدنيا اللى بدأت تضحكلنا فى الغربة؟!..انت دمرتنا...دمرتنا و قلبتلنا حياتنا اللى كنا بنتمتى نعيشها مع بعض و فى بيت واحد....أنا متأكدة إن كان فى بينا وعد بكدا...و متأكدة كمان ان كلكم عارفين حكايتنا حتى مراته اللى كانت بتبصيلى طول الوقت بغيرة.
أطرق اسماعيل رأسه بخذى و ندم ثم قال:
ــ انا سبق و حكيتلك اللى حصل كله من ساعة ما سافرنا ألمانيا لحد ما رجعنا تانى و عديتى الموضوع عادى و مكانش مهم اوى بالنسبالك...ايه اللى غير رأيك دلوقتي؟
هزت رأسها بعدم تصديق و هى تقول:
ــ انت مقولتليش انى سايبة هنا روح و قلب متعلقين بيا و متعلقة بيهم...كنت فاكرة ان ماليش فى الدنيا غيرك..قولت كفاية عليك شيل الهم و البهدلة اللى شوفتها معايا و التمستلك العذر...بس دلوقتي و بعد ما شوفت سفيان حاسة ان سكاكين بتقطع فى قلبى...
قالت عبارتها الأخيرة بصراخ مزق نياط قلبه و جذبها إلى حضنه و هو يبكى و يقول:
ــ سامحيني يا بنتى حقك عليا... أنا كنت عايزك تنسى الماضى باللى فيه و تعيشى حياة جديدة و الفرصة جاتلى هناك على طبق من دهب... مالكيش نصيب فيه يا حبيبتى... صدقينى مالكيش فيه نصيب..
هزت رأسها بإيجاب و هى ما زالت تبكى قائلة:
ــ أيوة... نصيب.. النصيب..
عندما هبط سفيان إلى شقته و دلفها وجد داليا تجلس فى الصالة بإنتظاره و يبدو على ملامحها القلق و الغضب فى آن واحد، ألقى عليها السلام ثم سألها:
ــ فين ملك؟!
أجابته بوجوم:
ــ نامت.
هز رأسه بموافقة ثم تخطاها و دلف غرفة نومه دون أن يُزد حرفا واحدا، الأمر الذى أشعل فتيل حنقها و غيرتها الثائرة، و هبت من مجلسها و دلفت خلفه بخطى غاضبة، فوجدته يبدل ملابسه إلى ملابس النوم فقالت له بحدة:
ــ انت هتعمل ايه؟!
أجابها ببرود:
ــ زى ما انتى شايفة كدا...بغير هدومى علشان أنام..
جزت على أسنانها بحنق قائلة:
ــ هتنام دلوقتي؟!...دى الساعة لسة ٩.
زفر بملل ثم قال بحدة:
ــ داليا لو سمحتى سيبينى دلوقتي.
اقتربت منه حتى وقفت قبالته و قالت بعصبية:
ــ لا يا سفيان...مش هسيبك تنام قبل ما تقولى ناوى على ايه بعد رجوعها و موقفك ايه منها.
استكمل ارتداء ملابسه بملامح شاردة و لم يرد عليها، فاغتاظت منه أكثر و قالت بحدة:
ــ رد عليا يا سفيان...أنا لازم أعرف راسى من رجليا و الليلادى.
جلس بحافة الفراش و دفن رأسه بين كفيه بتفكير و لم يرد أيضاً، طال انتظارها لرده، فلكزته من كتفه و احتدت نبرتها بانفعال:
ــ انت ساكت ليه؟!..أفهم ايه أنا من سكوتك دا؟!
هب من جلسته بانفعال قائلا بعصبية:
ــ معرفش...معرفش..
صُدِمت داليا من رده، فهى كانت لا تريد منه هذه الإجابة، بل كانت تنتظر إجابة حاسمة بإختياره لها و لإبنته، تنتظر أن يحتويها بين أحضانه و يختارها هى بدون أدنى تفكير أو حيرة، و لكن إجابته تلك جعلت آمالها و توقعاتها تتهاوى إلى القاع، إذن هناك احتمال و لو صغير بإمكانية عودته لها....بعد مدة من الصمت و الذهول قالت بنبرة خاوية:
ــ لما تعرف ابقى تعالى قولى...أنا لا يمكن أقعد معاك لحظة واحدة بعد الرد دا.
ثم اتجهت إلى خزانة ملابسها و استخرجت منها حقيبة صغيرة ضبت بها بعض الملابس تحت نظراته الخاوية، حتى إنه لم يحاول إثنائها عن فعلتها أو يسترضيها و يعتذر لها، مما زادها ذلك الأمر قهرا و حنقا، خرجت من غرفتها و سارت لغرفة صغيرتها و أخذت لها بعض الملابس و حملتها على كتف و الحقيببة على الكتف الآخر و تركت الشقة و العبرات تنزل من عينيها فى قهر صامت..
بينما سفيان بعدما سمع صوت الباب يُقفل، هب إلى الخزانة و أخذ يضرب رأسه بها و هو يصرخ بعصبية:
ـُ فوق...فوق يا سفيان بيتك بينهار...فوووق.
ابتعد قليلا عن الخزانة ثم أخذ ينظم أنفاسه المتلاحقة و يسيطر على أعصابه التالفة و هو يستغفر ربه بخفوت و يستعيذ بالله من الشيطان الرچيم، ثم خرج إلى شرفة غرفته يراقب زوجته و ابنته التى ابتعدت كثيرا عن مرئى عينيه و اقتربت من منزل والدتها، فى ذات اللحظة خرجت ملك إلى شرفتها فرأته ينظر إلى نقطة ما، فنظرت بنفس الإتجاه و صُعقت من المشهد الذى رأته، فيبدو أنها قد عادت و جلبت معها الوقيعة بين هذين الزوجين، الأمر الذى أثار شعورها بالذنب و الضيق البالغ من نفسها، فنظرت له بعتاب و قد فهم نظراتها، فالمسافة التى تفصلهما قصيرة لا تزيد عن ثمانية أمتار، و لكنه لم يبالى بنظراتها، و إنما فقط يشعر باشتياق بالغ لها، و عطش لملامحها أجحف عينيه، يريد أن يرويها حتى تكتفى و هو يعلم أنه لن يكتفى أبدا منها، لقد نسى العالم بما فيه و نسى حياته التى انقلبت رأسا على عقب، و زوجته الغاضبة المقهورة، فقط من مجرد طلة منها من شرفتها، ماذا إذن لو رافقته لبقية حياته، حتما سيتحول عالمه إلى جنة معها و ماذا يريد أكثر من ذلك.
ابتسم لها رغما عنه بينما هى طالعته بغضب و حاولت قدر الإمكان أن تتظاهر بعدم الإهتمام لأمره حتى تُثنيه عن هيامه بها و لا تكون سببا فى هدم عُشه الزوجى، و دلفت سريعا إلى غرفتها و قلبها يكاد ينخلع من مكانه من فرط الحسرة على حبيب امتلكته أخرى و أصبح لا يحق لها.
بينما سفيان خيَّم عليه حزنا أكبر من تجاهلها له، و شعر بالإحباط و لم يصدق أن ملك حبيبته لا تتذكره و تتعامل معه و كأنها لا تعرفه و لم تره من قبل.
أما داليا وصلت منزل والدتها، و ما ان دلفت بحقيبة ملابسها حتى ألقتها و ركضت إلى حضن أمها تستنجد به و تبكى بحسرة حتى أعياها البكاء، و بعدما هدأت قليلا قالت لها فاطمة بحزن:
ــ ايه اللى حصل بس يا بنتى؟!
أجابتها و هى تبكى:
ــ اللى كنت خايفة منه حصل يا ماما...بقوله انت ناوى على ايه...بدل ما يقولى مالناش دعوة بيها و أنا مش هخرب بيتى علشان خاطرها بيقولى معرفش...معناها ايه معرفش دى يا ماما.؟!..
قالت عبارتها الأخيرة بصراخ و نحيب و هى تضرب على فخذيها بحسرة، فراحت أمها تزجرها بحدة:
ــ و انتى يا خايبة سيبتيله البيت عشان تخليله الجو و تديله فرصة يفكر فيها أكتر...هتفضلى طول عمرك متسرعة كدهوه...المفروض كنتى فضلتى قاعدة على قلبه و تخليه قدام عنيكى عشان عينه متزوغش عليها مش تسهليله الأمور..
كفكفت عبراتها و هى تقول:
ــ لا يا ماما سفيان ميعملش كدا...سفيان أعقل من إنه ينتهز فرصة غيابى و يعمل معاها علاقة...لا لا لا...دا بيخاف من ربنا و استحالة يعمل كدا..
قالت عبارتها الأخيرة و كأنها تحاول اقناع نفسها التى تأثرت بكلام أمها، فلكزتها أمها مسترسلة:
ــ لا يا حبيبتى...سفيان دلوقتي تحت تأثير الصدمة و ممكن يعمل أى حاجة و يطلعلها مليون مبرر...اخذى الشيطان يا داليا و ارجعى لجوزك و اتمسكى بيه و فهميه ان انتى مش هتسمحيله يهد بيتكم بالسهولة دى...و صدقيني يا بنتى هى أزمة هتاخد وقتها و هتعدى و يمكن ملك الجو ميعجبهاش هنا و ترجع ألمانيا تانى و كأن مفيش حاجة حصلت..
شردت داليا فى حديث والدتها المقنع و أومأت بأمل قائلة:
ــ يا رب يا ماما...يسمع منك ربنا..
ابتسمت الأم بحنان ثم قالت:
ــ طاب قومى يا حبيبتى خدى حاجتك و ارجعى بيتك و اخذى الشيطان..
أجابتها بترجى:
ــ طاب سيبينى أبات الليلادى بس على ما أعصابى ترتاح شوية و هبقى أرجع الصبح ان شاء الله..
ربتت على فخذها بحنان:
ــ ماشى يا حبيبتى اللى يريحك...اهى لوكا نامت على الكنبة أهى...شيليها بقى و نيميها جوا..
داليا:
ــ حاضر يا ماما...
فى صباح اليوم التالى...
كان سفيان واقفا أمام باب شقة عمه و بيده ملف به أوراقاً ما، تردد كثيرا أيطرق الباب بنفسه و يعطيه لها أم يرسله مع أى احد غيره، و لكنه فى الأخير حسم أمره و طرق الباب لعله يراها و يروى عينيه منها حتى و لو لثوانٍ معدودة..
فتحت له ملك فارتبكت من مثوله المُهلك أمامها، بينما هو كلما رأى عينيها الخلابتين لا يستطيع أن يُخفى بسمته، كادت أن تبتسم و لكنها منعت نفسها بشق الأنفس و قالت بنبرة باردة:
ــ أيوة؟!
صُدِم سفيان من ردها البارد و قال باستنكار:
ــ أيوة؟!...انتى بتقوليلي أنا كدا؟!
لوت شفتيها لجانب فمها بابتسامة ساخرة و قالت بتهكم:
ــ ليه.. هو محرم حضرتك انى أقولك أيوة؟!
هز رأسه بعدم تصديق قائلا بتقطيبة بسيطة:
ــ ملك انتى عمرك ما كلمتنينى كدا...انتى لما كنتى بتشوفينى كنتى بتدارى وشك من الخجل و صوتك بيطلع بالعافية من الكسوف...انتى ملك تانية غير اللى أنا عارفها و حبتـ...
بتر كلمته و لم يكمل بينما هى أجابته بجدية رغم مشاعر الحنين الثائرة بقلبها:
ــ بالظبط كدا...انت جاوبت على نفسك...ملك اللى كانت بتتكسف منك كانت لسة طفلة بنت ١٧ سنة، مكانتش بتتعامل مع حد غيرك انت و شوية من جيرانها، كانت علاقتها محدودة و متعرفش حاجة عن فن التعامل مع الناس، انما ملك اللى قدامك دلوقتي بقت بنت ناضجة عندها ٢٣ سنة، اتعلمت و اشتغلت و اتعاملت مع أشكال و ألوان من الناس و شخصيات كتير من جنسيات مختلفة...طبيعى دا يكون ردى عليك دا غير إنى أصلا مش فاكرة أنا كنت بكلمك ازاى؟
هز رأسه بتفهم و مازالت ملامحه متجهمة من أثر الصدمة ثم قال بغيظ مكبوت:
ــ ماشى يا ملك...هحاول أصدقك، و لو انى حاسس ان قناع البرود اللى انتى لابساه دا مخبية وراه ملك اللى أنا عارفها كويس أوى..
ارتبكت من كلامه فقد صدق حدسه و بالفعل تحاول جاهدة التظاهر باللامبالاة فى حضرته و لكنها سرعان ما استعادت برودها و قالت:
ــ كنت عايز حاجة؟!
امتعضت ملامحه بضيق ثم قال بنفاذ صبر:
ــ طاب أنا هفضل واقف على الباب كدا كتير؟!
أفسحت له المجال على مُضض ليدخل، فهى تخشى أن يهوى ثباتها و يكشف أمر حنينها له، و لكنه دلف و جلس بالأريكة القريبة من الباب و جلست قبالته قائلة بجمود:
ــ على فكرة بابا لسة نايم...يعنى يا ريت تقول بسرعة انت عايز ايه علشان ميصحش قعدتك معايا كدا لوحدنا.
زفر بعنف و هو يهز رأسه بحنق ثم قال:
ــ ملك انتى مش فاكرة أى حاجة؟!...أى كلمة قولتيهالى..اى وعد وعدتيهولى؟!
ارتجف قلبها و اهتزت مقلتيها لتهدد بنزول دموعها ما إن استشعرت الأمل و الرجاء فى كلماته و نظرة عينيه، و أجابته بصوت متحشرج:
ــ لا...مش فاكرة أى حاجة..
هز رأسه يمنة و يسرة بعدم تصديق و هو يقول:
ــ مش قادر أصدقك...شايف فى عنيكى حب و شوق مش عارفة تخبيهم...عيونك بتصرخ و كأنها بتنادينى بس انتى بتحاولى تبينى إنك مش فاكرانى مش عارف ليه؟!
اجابته بلهفة:
ــ أنا مبكدبش عليك...أنا فعلا فاقدة الذاكرة و مش فاكراك بس...
سكتت و هى تفرك يديها بتوتر فحثّها سفيان على إكمال كلامها:
ــ بس ايه يا ملك...كملى..
بدأت تجهش فى البكاء ثم قالت:
ــ قلبى حاسس بيك...ساعة ما شوفتك قلبى كان هيخرج من مكانه و حسيت إحساس غريب و كأن فى رابط قوى بينا و كأنى عارفاك من سنين...سيطرت على قلبى و تفكيرى من أول نظرة، انت أصلا مفارقتنيش طول الخمس سنين اللى فاتو، لأنك كنت بتجيلى فى أحلامى دايما بس صورتك مش واضحة، و بابا كان بيقولى دى مجرد أحلام...مقاليش ان فى حد بيحبنى و أنا بحبه، و أنا صدقته لحد ما شوفتك..
دفنت رأسها بين كفيها و بكت بشدة، و هو يناظرها تارة بسعادة لأن قلبها مازال محتفظا بحبه، و تارة بحزن لضياع فرصة اجتماعهما كزوجين.
ظل يتطلع لها بعشق جارف إلى أن هدأت تماما و جففت وجنتيها من الدموع فباغتها بقوله:
ــ ملك...تتجوزيني؟!
نظرت له بصدمة بعدما اتسعت عيناها على آخرهما و احتدت نبرتها بانفعال قائلة:
ــ انت مجنون!!...أنا استحالة اوافق على الجنان دا...أنا معنديش أدنى استعداد إنى أكون سبب فى خراب بيت زوجة مالهاش أى ذنب فى إحساسى ناحيتك..
أجابها بحدة أكبر:
ــ المفروض انتى اللى تكونى مكانها دلوقتي..لو مكانش عمى كدب علينا استحالة كنت هرتبط بداليا حتى لو مكنتيش هترجعى تانى..بس على الأقل عارف انك موجودة و مسيرنا هنتقابل.
ردت عليه بانفعال:
ــ لا يا أستاذ يا متعلم...مفيش حاجة اسمها المفروض...فى حاجة اسمها القدر و النصيب...حتى لو انت عارف انى عايشة و لو مفيش لينا نصيب فى بعض استحالة كان هيحصل.
هب من كرسيه بعصبية و صاح بها بصوت مرتفع و قد نفرت عروق رقبته للغاية:
ــ بس أنا لسة بحبك...و عايزك ليا...هنسى اللى فات و خلينا نبدأ من جديد و نتجوز..
قال عبارته الأخيرة برجاء إلا أنها هبت هى الأخرى و صرخت به:
ــ مينفعش...مينفعش..انت متجوز و معاك طفلة...يعنى ليك حياتك و رسالتك اللى لازم تكملها على أكمل وجه...انسانى و كمل حياتك من غيرى زى ما أنا هكمل من غيرك.
اقترب بوجهه من وجهها للغاية و هدر بحدة:
ــ اذا كان منستكيش من خمس سنين و المفروض انك ميتة، هنساكى ازاى دلوقتي بعد ما عرفت انك عايشة؟!..انتى بتطلبى منى المستحيل.
أجهشت فى البكاء مرة أخرى و هى تقول:
ــ يا ريتنى ما رجعت...أنا هسافر تانى...هسافر و استحالة هفكر أرجع هنا تانى.
تلك المرة أثارت غضبه للغاية فلم يشعر بنفسه إلا و هو يقبض على كتفيها بشدة و يهزها بانفعال و يهدر بغضب:
ــ إياكى يا ملك...انتى عايزة تموتيني؟!..كفاية عذاب بقى..كفاية فراق حرام عليكي...الخمس سنين اللى فاتوا كانوا أسوأ خمس سنين عدوا عليا فى حياتى...كنت حاسس بحسرة و أنا متجوز غيرك...كان نفسى بنتى تكون منك...مستكترة عليا إنى أشوفك قدامى و أكلمك و أملى عينى منك؟!
أنزلت يديه عن كتفيها ثم ردت عليه ببكاء:
ــ سفيان ارحمنى...كلامك دا بيقطع فى قلبى..بس هو نصيبنا كدا و لازم نرضى بيه..
أومأ برأسه ثم قال بتصميم:
ــ عايزك بس تفكرى فى طلبى...أنا مش هطلق داليا...يعنى هتجوزك عليها...يعنى انتى مش هتكونى سبب فى خراب بيتى زى ما انتى فاهمة...و ان شاء الله هعدل بينكم..
طالعته بغيظ و غضب فيبدو أنه فقد عقله تماما لكى يتفوه بهذا الهراء، و إن وافقته فحتما ستكون مجنونة مثله، و لكنها أومأت بالإيجاب لكى تُنهى ذلك الحوار العقيم ثم قالت بجدية:
ــ انت كنت جاى ليه؟!
سكت قليلا يتذكر إلى أن انتبه أخيرا للملف الذى بيده و قال:
ــ أنا كنت جاى أديكى الملف دا...فيه شهادة الثانوية العامة و أوراقك اللى كانت فى المدرسة، أنا اللى سحبت ملفك من المدرسة و احتفظت بيه لما كنتى لسة فى الغيبوبة، فقولت أجيبهولك يمكن تحبى تقدمى فى الجامعة و تكملى تعليمك هنا.
هزت رأسها بتفهم و اخذت منه الملف و هى تشكره ثم قال لها:
ــ أنا همشى و هستنى ردك.
امتعض وجهها بحنق أخفته سريعا ثم أومأت له بابتسامة مصطنعة و تركها و انصرف بأمل جديد فى إمكانية اجتماعه بها كزوجة.
عاد سفيان إلى شقته و فوجئ بـ داليا جالسة بالصالة تنظر له بغضب و الشرر يتطاير من عينيها و لكنه بادلها بنظرة باردة و قال لها:
ــ حمد الله على السلامة.
هبت من جلستها و سألته بهدوء ما قبل العاصفة:
ــ كنت فين يا سفيان؟!
وقف قبالتها و سألها بتحدى:
ــ و انتى من امتى بتسألينى السؤال دا؟!
ردت بانفعال:
ــ سفيان..متجاوبش السؤال بـ سؤال.
اومأ لها ببرود قائلا:
ــ كنت عند عمى اسماعيل علشان أدى ملك شهادة الثانوية العامة بتاعتها.
جحظت عيناها من بروده و فعلته الاستفزازية و قالت بقهر:
ــ انت كمان روحتلها لحد عندها يا سفيان؟!..لا و كمان بتقولى عادى و لا كأنك عملت حاجة غلط.
هدر بها بعصبية:
ــ يعنى المفروض أكدب عليكى؟!..تمام...بعد كدا هكدب علشان تكونى مرتاحة.
انهمرت الدموع من مقلتيها و هى تقول له بنبرة عاتبة:
ــ سفيان انت اتغيرت معايا كدا ليه؟!..طاب أنا ذنبى ايه فى كدب عمك عليك؟!..انت بتعاملنى و كأنى طرف فى الكدبة دى و بتعاقبنى عليها.
أطبق جفنيه يعتصرهما بحزن بالغ و قال بنبرة معذبة:
ــ داليا انتى مش حاسة بيا..انتى كل اللى همك نفسك و بس...أنا حاسس انى فى كابوس مش عارف أصحى منه...عارف ان مالكيش ذنب بس ف نفس الوقت مش قادر أنسى ان انتى اللى جيتى بيتنا و طلبتى أتجوزك و أمى و أبويا أقنعونى و مقدرتش أرفض طلبهم، أنا حاسس فعلا ان انتى طرف أساسى فى فراقى عن ملك، لأنى متأكد ان لولا اللى انتى عملتيه مكنتش اتجوزت لحد دلوقتي، و مكانش فى أى حاجة هتمنع جوازى من ملك بعد ما رجعت..عارف ان كلامى هيجرحك أوى، بس أنا كمان مجروح أكتر منك، و من كتر ما أنا موجوع مش فارق معايا وجع اى حد...
ألقى بعبارته الأخيرة و تركها إلى غرفة نومه، تركها تنظر فى أثره بذهول، حقا لقد جرحها جرحا صعب اندماله، جُرح عميق للغاية، لا تدرى كيف يمكنها أن تغفر له ذلك الألم الذى خلّفه بقلبها.
بينما هو نام بفراشه و هو يشعر بوخز حاد فى قلبه بعدما ألقى على مسامعها من كلمات ذابحة، يشعر بالذنب و الغضب من نفسه، فرغم عدم محبته الخالصة لها إلا أنه لم يدع لها فرصة لتشعر بذلك، بل كان يُحسن معاملتها كما لو كان يعشقها بالفعل، كان يُسمعها معسول الكلام كذبا، فهو يعلم ان الكذب حلال فى هذه الأمور، و لكن الآن انقلب حال قلبه الذى صفعه الواقع المرير صفعة أطاحت بالرحمة و المودة التى كان يحويها لها، لقد أصبح قاسيا...قاسيا إلى أقصى حد، حتى أنه لم يعد يعرف نفسه.
نامت داليا تلك الليلة بجوار صغيرتها، فقد بنى سفيان بينهما حاجزا منيعا بعد عباراته اللاذعة لا تعلم متى ستتخطاه.
يتبع.....
مع تحياتي / دعاء فؤاد
الفصل الرابع عشر
فى مساء اليوم التالى شعر ريان بالضيق و الإختناق من أفعال زوجته الهوجاء، فمنذ أن أتت معه و هى قابعة بالشقة و لا تريد مساعدة والدته فى اعداد الطعام و لا حتى الجلوس معهم و كأنهم ميكروبات تخشى عدواهم، و مهما يوبخها أيضاً لا تستجيب، إلى أن نفذ صبره و ترك لها المنزل بأكمله و هبط للأسفل، سار فى الطريق بلاهدف أو وجهة محددة، إلى أن وجد حاله قريب من المشفى و اصطدم بـ سلمى التى كانت عائدة لتوها من مناوبة الظهيرة، فسار بإتجاهها حتى وقف بمواجهتها قائلا بحدة:
ــ انتى راجعة بالليل لواحدك ليه؟!
هزت كتفيها بعدم اكتراث مجيبة:
ــ عادى أنا متعودة على كدا..
رد بجدية:
ــ طاب امشى معايا هوصلك.
هزت رأسها بنفى قائلة برفص قاطع:
ــ لا شكرا.. مش محتاجة حد يوصلنى... أنا عارفة طريقى كويس..
نظر لها بعينين متسعتين من الغضب و قال بغضب مكتوم:
ــ امشى معايا بالذوق بدل ما أعلى صوتى و الناس كلها تتفرج علينا...
تأففت بضيق و سارت معه باستسلام، فهى تعرف أنه عنيد و لا يأبه لشيئ...
خيّم عليهم الصمت لحوالى خمس دقائق، إلى أن باغتها قائلا و هو ينظر للطريق أمامه:
ــ وحشتيني..
ازدردت لعابها و لم ترد فاسترسل حديثه قائلا بوجع:
ــ ليه عملتى فينا كدا.؟!..ايه هو السر الخطير اللى انتى مخبياه و خلاكى تسيبني؟!
لم تنظر له و لم ترد عليه، فقط كلماته تُمزق بقلبها و تُحرك الحزن الكامن بصدرها.
استرسل بمزيد من اللوم و العتاب:
ــ كان زمانا متجوزين من أربع سنين فاتو... كان زمان چود و چاد ولادنا أنا و انتى..
عند هذا الحد و خارت قواها و انهارت أعصابها و صرخت به بصوت مرتفع:
ــ لو كنا اتجوزنا من اربع سنين استحالة هيكون فى چود و چاد و لو عيشنا مع بعض ميت سنة...ارحمنى بقى و ابعد عنى...
ثم تركته بذهوله و تحركت بخطى سريعة أشبه بالركض، و العبرات تنهمر من مآقيها بحسرة، و هو محدق بأثرها بأنفاس متلاحقة و قلبه يكاد يهرع من صدرعه من فرط الصدمة، يحاول استيعاب معنى كلماتها و هو يهز رأسه بعدم تصديق، فلحق بها سريعا إلى منزلها و لكنها سبقته و دخلته قبل أن يلحق بها، طرق الباب ففتحت له فاطمة و تعجبت من ملامحه المنفعلة و وجهه المحمر، و أجزمت أنه سبب بكاء ابنتها التى عادت من عملها للتو.
دلف ريان و أغلق الباب تحت نظرات فاطمة المترقبة و قال لها بانفعال:
ــ أنا عايز أعرف كل حاجة...أنا مش متحرك من هنا غير لما اعرف السبب اللى خلاها تسيبنى من خمس سنين..
ازدردت فاطمة لعابها بتوتر ثم قالت:
ــ اهدى بس يابنى كدا و صلى على النبى...خلاص بقى يا ريان اللى فات مات و انت دلوقتي بقيت راجل متجوز و معاك ولادك ربنا يخليهملك..
استرسل بنفس الحدة:
ــ بقولك أنا مش ماشى من هنا غير لما أعرف الحقيقة...بنتك بتقولى لو كنا اتجوزنا مكانش هيبقى فى ولاد...أنا عايز أفهم دا معناه ايه؟!
أطرقت فاطمة رأسها بحزن بالغ و لم تقوى على الرد، الشيئ الذى أثار غضبه أكثر و هدر بانفعال:
ــ حد يرد عليا و يفهمني...
بينما سلمى تستمع له من غرفتها و هى تبكى بنحيب، فاضطرت فاطمة أن تخبره ببعض الحقيقة فقالت له بنبرة حزينة:
ــ أنا هقولك علشان قلبك يرتاح و تفهم كل حاجة...
نظر لها بترقب و خوف فى آن واحد إلى أن أردفت بوجع:
ــ بعد ما انت سافرت البعثة بـ ٦ شهور، سلمى عملت حادثة و هى راحة الشغل بالليل و الحادثة عملتلها نزيف شديد من الرحم و لما اتنقلت المستشفى الدكاترة عملولها استئصال للرحم علشان ينقذوها من النزيف و الدكتور حسام هو اللى عملهالها و كان عارف ظروفها، و بعد ما فاقت قعدت تعيط و صممت إن محدش يعرفك و إنها هتفسخ الخطوبة بأى حجة علشان متحطكش فى اختيار صعب، و لا تحس بكسرة النفس لو انت سيبتها للسبب دا، و لا تحس بالذنب لو كملت معاك و تحرمك من الخلفة...و كلنا وعدناها ان محدش هيقولك و الباقى انت عارفه.
صدمة...صدمة موجعة ضربت رأسه بلا رحمة، يشعر أن الدنيا تهيم به و تصفعه بقسوة، حتى اغرورقت عيناه بالعبرات و قال بصوت متحشرج:
ــ كل دا يحصلها و أنا نايم هناك على ودانى...لا و كمان ظلمتها و سمعتها أسوأ كلام ممكن تسمعه، و اتجوزت غيرها و عيشت حياتى و هى موجوعة و أنا مش حاسس!!...طاب ليه تخبى عليا!!.ليه مسابتليش فرصة أختار...ليه اختارت هي بالنيابة عنى...لييييه!!
خرجت سلمى و ردت عليه ببكاء:
ــ و أديك عرفت أهو يا ريان...و الحمد لله ربنا رزقك بأولاد و عرفت معنى انك تكون أب و حسيت بالنعمة دى...ممكن تقولى بقى لو كنا اتجوزنا و قبلت بوضعى دا كان هيبقى احساسك ايه و انت عارف انك مستحيل هتكون أب؟!
ألجم ذلك السؤال لسانه و لم يقوى على الرد أو بالأحرى شُلَّ تفكيره و لم يجد ردا مناسبا، فلاحت منها ابتسامة ساخرة ممزوجة بالوجع و قالت:
ــ شوفت؟!..مش عارف ترد....علشان تعرف ان عاجلا أو آجلا كنا هننفصل بس أنا اختصرت علينا الطريق...و مع ذلك متعرفش أنا مبسوطة قد ايه ان ربنا رزقك بالذرية، و حاسة كأنهم ولادى أنا، و بحبهم على قد محبتى ليك... للمرة المليون بقولك انسانى بقى يا ريان و طلعنى من دماغك و انتبه لولادك و بيتك، و يا ريت دا يكون آخر كلام بينا و تلتزم بيه زى ما أنا نفذت طلبك من سنتين و موريتش وشى ليك فى أى زيارة منك لعيلتك...
ألقت بعبارتها الأخيرة و عادت إلى غرفتها و أغلقتها و تركته ينظر فى أثرها بحزن و إشفاق بالغين، ثم اولاها ظهره و غادر المنزل دون أن يُزد حرفا واحدا و هو فى حالة يرثى لها، فقد ازدادت محبته لها أضعافا، فأى حبٍ هذا الذى يجعلها تضحى بسعادتها و هنائها بحبيبها من أجله و من أجل عدم حرمانه من الأبوة، حقا لقد علت فى نظره علو السماء و أصبحت له كالنجمة اللامعة التى تزين سماء عشقه، و لكن وااأسفاه من طول المسافة بينهما، فمن يستطيع الإمساك بنجمة لامعة بين الغيامات.
مرت أيام عديدة، توترت خلالها علاقة سفيان و داليا للغاية، ازدادت الصدامات و المشكلات بينهما، حتى أن أكثر الليالى ينام كل منهما بغرفة منفصلة عن الآخر، بينما ملك كانت تقاوم حبها الشديد له، و تصد محاولات تقربه منها، أو حتى مجرد فتح أحاديث معها، حتى يفقد أمله فى امكانية ارتباطهما و هو لا يكل و لا يمل.
أما ريان علاقته مع سيرين كما هى لم تتقدم و لم تتأخر، إلا أنه أكثر من زياراته لمسقط رأسه بعدما علم السر الذى أخفته سلمى عنه، و كان بكل زيارة يُحضر ولديه معه و يأخذهما ليقضيا الزيارة كاملة مع سلمى فى منزلها، حتى أنها أصبحت تنسق معه الزيارات لكى تحصل على إجازة من عملها حتى يتسنى لها قضاء وقت الزيارة بالكامل معهما، و أحيانا تطلب منه تركهما معها و لا يمانع.
و فى آخر زيارة له، وصل المنصورة فى الصباح و ذهب بولديه عند سلمى، و لم يمر اكثر من ساعة حتى أتاه اتصال من أحد زملائه بشركة حماه أخبره أن الشرطة داهمت الشركة تبحث عن مجدى لتورطه فى تجارة المخدرات، و لا أحد يعلم مكانه كما أن هواتفه مغلقة، انتفض ريان مذعورا و ترك ولديه لدى سلمى و استقل سيارته و انطلق عائدا إلى القاهرة.
أثناء الطريق اتصل بأرقام مجدى ولكن جميعها مغلقة، اتصل بـ سيرين لعلها تعرف مكانه و لكنها أيضاً لا ترد فيبدو أنها ما زالت نائمة.
ظل على هذا الحال إلى أن وصل لشقته و فتحها بخفة، فمنذ تلك الليلة التى اكتشف بها أنها تخدعه و تتظاهر بالصلاح، و قد فقد ثقته فيها تماما و اعتاد على فتح الباب بهدوء و بطريقة مفاجئة حتى يرى ما إن كانت تفعل شيئا مُخلا، بعدما تمكن منه الشك بطريقة مريبة.
أغلق الباب بهدوء و دلف بخطى بطيئة و لكنه توقف فجأة حين سمع صوت مجدى يأتى من غرفة الصالون و الذى كان بابها مواربا قليلاً..
اقترب من الباب للغاية حتى أصبح الصوت واضحا له و استمع لمجدى و هو يقول بحدة:
ــ سيرين اتصرفي...انتى لازم تكلمى ريان..هو الوحيد اللى هيقدر يطلعنى من المصيبة دى.
ردت سيرين باستنكار:
ــ ايه اللى انت بتقوله دا يا بابى...انت عايزنى أقوله انك بتتاجر فى المخدرات؟!..دا لو عرف مش بعيد يطلقنى..
هز رأسه بنفى قائلا بأمل:
ــ أنا متأكد إنه هيساعدنى...دا أنا ولى نعمته و صاحب فضل كبير عليه، و ريان ابن أصول و مش هيسيبنى أدخل السجن.
زفرت بملل ثم قالت:
ــ بابى أنا معنديش استعداد أخسر ريان...أنا أصلا بسايس فيه علشان حياتنا تستمر...سورى يا بابى أنا بحبه و مش هسمح لأى حد يضيعه من ايدى مهما كان التمن..
احتلت الصدمة جوارحه و نظر لها مشدوها و هو يقول بذهول:
ــ انتى بتقوليلي أنا الكلام دا!!...انتى نسيتى لما كنتى فى ليفربول و كل شوية تكلمينى و تعيطى و تقوليلي ساعدنى يا بابى أنا عايزة ريان ليا بأى طريقة؟!..و أنا بعدها علطول كلفت راجل من بتوعى يراقب خطيبته لحد ما فى ليلة انتهز الفرصة انها كانت ماشية لواحدها فى الشارع و خطفها و اغتصبها و بهدلها و خلاها لا تنفع لجواز و لا لخلفة، و أعتقد إنى حكيتلك على الخطة دى و انتى كنتى مبسوطة و شجعتينى على كدا، أنا اللى خليت ريان يبقى ليكى، أنا اللى عملته رجل أعمال و عرفته على ناس تقيلة مكانش يحلم بس يكلمهم، لولا أنا كان زمانك لسة بتعيطى و بتدورى على طريقة يتجوزك بيها....نسيتى كل دا؟!...و جاية دلوقتي تفضليه عليا.؟!.
طالعته بتحدٍ سافر و بنظرات وقحة قائلة:
ــ انت عملت كدا علشان دا واجبك تجاه بنتك، واجبك متخليهاش عايزة حاجة، و بالنسبة للى انت عملته لريان، فـ دا بسبب ذكائه و شطارته، و لولا كدا مكنتش خليته رئيس مجلس الإدارة... يعنى من الآخر كدا مالكش أفضال عليا...
صدمة....خذلان...انكسار...هذا هو حال مجدى الآن بعدما سمع من ابنته المدللة و التى لم يرفض لها طلبا قط، حتى انقلب سحره عليه، و أصبحت ابنة جاحدة لا تأبه له و لا تهتم إلا لحالها فقط، فقد زرع فيها الأنانية و حب الذات و ها هو يجنى حصاد ما زرع..
أما ريان خارج الغرفة استمع لكل شيئ، سمع تفاصيل تلك الجريمة الشنعاء التى فعلوها بحبيبته، شعر حينها أنه يختنق، أن الدنيا تهيم به و تتقاذفه يمينا و يسارا، أن روحه تُسحب منه و كأنه يحتضر، اصفر وجهه و تعرق جبينه، حتى أنه لم يقوى على مواجهة هاذين المجرمين، و خرج سريعا من تلك الشقة الملعونة بمن فيها، و هبط عبر الدرج رغم وجود المصعد و استقل سيارته و انطلق بها بأقصى ما لديه من سرعة، لا يدرى إلى أين يذهب، و لا ماذا يفعل، لقد فقدت حبيبته أعز ما تملك و كان هو السبب الرئيسى فيما حدث لها، لقد جعلته سيرين كالدمية تتلاعب به كيفما شاءت و روَّضته لصالحها بدون أدنى شكٍ لديه فيها.
قاد سيارته بأعصاب تالفة حتى أنه كاد أن يفعل عشرات الحوادث لولا ستر الله و حفظه، يقود بلا وجهة، و هو يقبض على تارة القيادة بغضب و عصبية حتى كاد أن يقتلعها من مكانها، طالت مدة قيادته حتى أعيته، و وجد حاله على الطريق الصحراوى...
أوقف السيارة على جانب الطريق وسط الكثبان الرملية، و ترجل منها ثم استند برأسه على القائم الخارجى و هو يضربه بكفه بغضب و يصرخ:
ــ يا كلاب...مش هرحمكوا...مش هسيب حقها...وصل بيكوا الغل انكوا تعملوا فيها كدا...ااااه...سلمى حبيبتى حقك عليا...أنا السبب يا سلمى..أنا السبب...أنا السبب..
ظل يكرر هاتين الكلمتين إلى أن خارت قواه و سقط على الأرض من فرط الإعياء، و بعد أن استعاد بعضا من ثباته، استخرج هاتفه من جيبه و اتصل بـ سفيان و عندما أجابه قال بصوت متحشرج من فرط الإرهاق:
ــ سفيان...الحقنى..أنا فى مصيبة يا سفيان..
هوى قلبه فى قدمه و قال بذعر:
ــ ريان انت فيك ايه...ايه اللى حصل؟!
عاد برأسه للخلف مستندا على السيارة و رافعا بؤبؤ عينيه إلى السماء و هو يقول بعدم تصديق:
ــ أنا عرفت مين اللى اغتصب سلمى و بهدلها لحد ما نزفت و وصلت للى وصلتله.
اتسعت عينا سفيان على آخرهما و صاح به بعدم تصديق:
ــ انت بتقول ايه؟!..دى..دى القضية اتحفظت ضد مجهول لأن مكانش فيه شهود على اللى حصل و هى نفسها مش فاكرة اللى حصل لحد دلوقتي.
ازداد ألم قلبه و تمزقت روحه أضعافا حتى صارت أشلاءً بعد ذلك التصريح الذى يسمعه لأول مرة، فأطبق جفنيه يعتصرهما و العبرات تنزل من عينيه بالتزامن مع وتيرة تنفسه التى زادت بشكل ملحوظ ثم قال:
ــ مش هتصدق مين اللى عمل فيها كدا...لو مكنتش سمعت بودانى استحالة كنت هصدق..
حثه سفيان على الاسترسال بلهفة قائلا:
ــ مين يا ريان؟!...انطق..
انفرجت شفتاه عدة مرات إلا أنه لم يستطع أن يتفوه بإسميهما، الأمر الذى أثار عصبية سفيان و فضوله القاتل و صرخ به مرة أخرى:
ــ ريااان...انطق..قول مين اللى عمل فيها كدا..
بدأت تعلو شهقاته الأليمة ثم قال بصوت متحشرج بالكاد تخطى حنجرته:
ــ سيـ..رين..و...أبو..ها.
جحظت عيناه و انحبست أنفاسه من فرط الصدمة، و لم يستطع أبدا أن يستوعب تلك الحقيقة، و أخذ يهز رأسه بعدم تصديق و هو يقول مشدوها:
ــ إزاى؟!...وقت الحادثة انت كنت لسة فى البعثة و مكانش فى أى علاقة بينا و بينها و لا هى تعرفنا و لا احنا نعرفها، و أظن انها متعرفش سلمى و لا شافتها قبل الوقت دا..و بعدين..و بعدين هتعمل كدا ليه؟!...ايه اللى هتستفاده من كدا؟!
اعتصر جفنيه بحسرة و هو يقول:
ــ الحكاية طويلة و أنا مش قادر أتكلم...أنا هتجنن..حاسس ان أنا عاجز و مش عارف أعمل ايه..
رد سفيان بجدية و حزم:
ـُـ ريان الكلام مش هينفع فى التليفونات...انت فين دلوقتي..
أجابه بصوت ضعيف:
ــ مش عارف...أنا..أنا حاسس إن أنا تايه..
سفيان بجدية:
ــ ريان فوق شوية و اعمل اللى هقولك عليه...اركن عربيتك على جنب و اقفلها كويس و وقف أى تاكسى أو حتى ميكروباص خليه يوصلك المنصورة، و اديله مبلغ كويس علشان يوافق، و أنا هستناك فى نادى الجزيرة و أول ما توصل رن عليا و أنا هقابلك...تمام؟!
هز رأسه بضعف و هو يقول:
ــ حاضر يا سفيان...
اجابه بقلق خفى:
ــ خلى بالك من نفسك و متفكرش ف أى حاجة لحد ما توصل بالسلامة.
ازدرد لعابه بصعوبة ثم قال بنبرة خافتة:
ــ حاضر...ربنا يستر.
و بالفعل فعل ريان كما نصحه شقيقه و ركب سيارة أجرة أقلته حيث ينتظره سفيان.
بعد مرور حوالى ثلاث ساعات أو يزيد، التقى ريان بشقيقه و هو فى حالة مذرية من شعر أشعث و ملابس غير مهندمة و ملامح باهتة، فأخذه سفيان إلى أحد الطاولات المنعزلة بالنادى و جلسا سويا ثم بدأ ريان يقص عليه ما سمعه على لسان حماه و زوجته النرجسية، فاتضحت الصورة كاملة أمام سفيان و ازدادت صدمته فقال بذهول:
ــ معقول فى شر و غل كدا...الناس دى ايه؟!..مفيش فى قلوبهم رحمة!!..يعنى كل ذنبها إنها حبيبتك و خطيبتك؟!
بينما ريان دفن رأسه بين كفيه و استند بكوعيه إلى الطاولة و هو تائه حد الثمالة، و ظل على هذا الوضع لبرهة إلى أن قال سفيان:
ــ احنا لازم نرجع حق سلمى طالما عرفنا اللى عملوا فيها كدا..
رفع رأسه له و طالعه بعينين حمراوتين قائلا:
ــ أقولها ايه يا سفيان؟!..أقولها مراتى و أبوها هما اللى عملوا فيكى كدا علشان يفرقوا بينا و أتجوز الشيطانة دى؟!..أقولها انى السبب الأول و الأخير فى اللى حصلك؟!..قولى أقولها ايه يا سفيان؟!
هدر بعبارته الأخيرة و هو يضرب بكفه الأيمن الطاولة بعصبية و قد برزت عروق رقبته و وجهه للغاية من فرط الانفعال، ثم بكى و جسده ينتفض من شدة البكاء، فهب سفيان من كرسيه و وقف بجانبه و اخذ يربت على ظهره بمواساة قائلا:
ــ اهدى يا ريان...الناس بتتفرج علينا.
استخرج منديل قماش من جيب سترته و اخذ يجفف عينيه و جنتيه إلى أن هدأ قليلا و أردف بتيه:
ــ انا محتار و مش عارف أتصرف ازاى...طاب لو قدمنا بلاغ فى سيرين و ابوها و اتهمناهم بالتورط فى خطف سلمى و اللى حصلها، هنثبت دا ازاى؟!...طاب ولادى هيكون شكلهم ايه و مامتهم مسجونة؟!.. و لما يكبروا شوية و يعرفوا انها مجرمة هتكون حالتهم عاملة ايه؟!.. و موقفهم ايه منى؟!.. يا ترى هيكرهونى لانى السبب فى سجنها؟!. طاب كلام الناس... و سمعتهم... و حاجات كتير اوى بفكر فى عواقبها لما هتجنن، و فى نفس الوقت نار قايدة جوايا عايز انتقم منهم و مسيبهمش يتهنوا و هى مدمرة من كل النواحي بسببى و بسببهم..
رد سفيان بحزن:
ــ ريان اهدى شوية و متحملش نفسك ذنب انت معملتهوش...انت كنت بتتعامل معاهم بحسن نية بس هما اللى طلعوا أندال و شياطين أعوذ بالله منهم و من اللى زيهم.
صرخ بعدم وعى:
ــ انا كنت مغفل...كنت غبى...مشيت على الخطة اللى رسموها تمام و بالحرف، و انا زى الأهبل و مشكتش لحظة فيهم.
سكت سفيان قليلا يفكر بحيرة إلى أن قال بجدية:
ــ انت كلامك كله مظبوط يا ريان، و أنا من رأيي تخرج سيرين من دايرة الانتقام علشان خاطر الولاد، و نتهم أبوها بس و كأن سرين متعرفش جريمة أبوها، و ان هو اللى خطط لكدا علشان تتجوز بنته و تشتغل عنده و يستفيد من أفكارك و ذكائك فى الشغل و تبقى تحت طوعه..و سيرين أقل عقاب ليها انك تطلقها و تاخد منها الولاد و تحاول تثبت انها مهملة و غير أمينة على الأولاد علشان تنقلهم من حضانتها لحضانتك، و كدا يبقى احنا رجعنا و لو جزء بسيط من حق سلمى و اللى عمل فيها كدا يتعاقب.
هز ريان رأسه بموافقة و هو يشعر أنه مقيد و غير راضٍ عن هذا العقاب، بل يريد لتلك الشيطانة عقابا أقسى من ذلك و لكن ولديه الحبيبين كانا لها نجاة من الهلاك المحقق، و بعد وهلة من التفكير و التردد قال باستسلام و قلة حيلة:
ــ مفيش قدامى غير كدا للأسف...بس المشكلة ان الحادثة عدى عليها اكتر من خمس سنين، و مش عارف أبدأ منين و لا هقدر ألاقى أدلة أدين بيها الحيوان اللى اسمه مجدى و لا لأ.
ربت سفيان على فخذه و قال له بيقين:
ــ ان شاء الله هتلاقى و ربنا هيسهلك الامور، زى ما خلاك توصل فى الوقت المناسب علشان تعرف الحقيقة، أكيد هيدلك على دليل ادانته بأمر الله.
تنهد ريان بعمق مطلقا زفرة طويلة محملة بكم هائل من الحزن، الحسرة، و الشعور بالعجز و الألم لأجل حبيبة تحولت لضحية فى أقل من غمضة عين لأجل ماذا...لأجل إيقاعه بشباك حقيرة نرجسية مثل سيرين.
عاد ريان مرة أخرى إلى القاهرة بسيارة أجرة، و فى الطريق اتصل بـ سلمى و طلب منها بقاء ولديه معها الفترة المقبلة لأنه مشغول للغاية و لن يستطيع العودة لأخذهما، و لأول مرة يُصرح لها بأنه لا يَأمن سيرين عليهما نظرا لعدم عنايتها بهما و كثرة تواجدها خارج المنزل، الأمر الذى أثار ريبة سلمى و استغرابها و لكن الأمر مر عليها، فهى قد التمست فيها تلك الصفات فى المرات القليلة التى التقت فيها بـ سيرين.
بينما سفيان تَكتَّم على الأمر و عاد مرة أخرى إلى عمله بمحل والده و هو فى حالة من الإشفاق على كل من سلمى و ريان..
يتبع....
مع تحياتي / دعاء فؤاد
الفصل الخامس عشر
أغلق سفيان المحل فى المساء و عاد إلى منزله و عندما اقترب من بوابة المنزل لمحها تطل عليه من شرفتها و لكنها اختفت سريعا عندما شعرت أنه قد رآها، فابتسم بهيام ثم غير وجهته إلى منزل عمه و دق باب الشقة و لكن لحظه العَثِر عمه من فتح له..
تنحنح سفيان بحرج ثم قال:
ــ السلام عليكم يا عمى...احم..أنا...أنا كنت عايز اتكلم معاك فى موضوع مهم.
أفسح له المجال ليدخل و هو يقول:
ــ اتفضل يابنى...تعالى نقعد هنا أحسن.
أشار له على الأريكة القريبة من الباب و جلسا سويا، فأدار سفيان دفة الحديث قائلا بتوجس:
ــ عمى اسماعيل أنا جاى أطلب ايد ملك..
قطب اسماعيل جبينه بتفكير ثم سأله بترقب:
ــ تطلب ايدها لمين؟!
سفيان بتوتر:
ــ ليا يا عمى..
هب اسماعيل من جلسته بعصبية و هو يقول بحدة:
ــ انت مجنون؟!..انت عايزنى أجوز بنتى البكر لواحد متجوز و مخلف؟!..لييييه؟!..من قلة العرسان؟!
هب سفيان هو الآخر من جلسته بعدما أثارت كلمات عمه غضبه المكبوت ثم رد عليه بصياح:
ــ و مين السبب فى اللى احنا وصلناله دلوقتي؟!...لو كنت عارف ان ملك عايشة مستحيل كنت هتجوز...انت عارف و الكل عارف إنى بحبها و كنت ناوى أتجوزها بعد ما ترجع من ألمانيا.
فى تلك الأثناء خرجت إليهم ملك و قد استمعت لحديثهم المُحتد، فأشار إليها سفيان بسبابته و هو يقول بنفس الحدة:
ــ حتى هى...رغم انها مش فاكرة أى حاجة من الماضى بس لسة حاسة بيا و بتحبنى، أنا متأكد إن حبها ليا أشد و أقوى من ما كان زمان...
سار إليها خطوتين حتى أصبح بمواجهتها تماما ثم قال لها بنبرة مترجية:
ــ ملك...أنا سيبتك كتير تفكري فى موضوع جوازنا، و انتى كنتى بتتهربى منى...طالما بتحبينى بتتهربى منى ليه؟!..أنا مش هسمحلك تتجوزى غيرى يا ملك..
جذبه اسماعيل بغضب من كم قميصه و هو يصيح به:
ــ هو احتكار و لا ايه؟!...سفيااان..اقصر الشر و ابعد عن بنتى...دى لسة فى عز شبابها و معنديش استعداد ادفن شبابها بالحيا مع واحد متجوز و مخلف...هو انا اتهبلت يا ناس علشان أجوز بنتى الوحيدة اللى طلعت بيها من الدنيا على ضُرة...
زادت وتيرة تنفسه للغاية من فرط الغضب و هتف به بانفعال:
ــ قولتلك انت السبب...انت السبب..ذنبى و ذنب سنين القهر و الحزن اللى عيشتهم فى رقبتك انت يا عمى...و عاجلاً أو آجلا ملك ليا...فاهم؟!..ملك ليا.
ثم ألقى نظرة أخيرة متحدية على كل منهما و غادر بخطى سريعة غاضبة و صفع الباب خلفه.
بينما اسماعيل ألقى بجسده باهمال على الأريكة و هو فى حالة من الذهول، فذلك الذى كان يصرخ به منذ قليل، لم يكن سفيان الذى عهد فيه الرزانة و الوقار و احترام الكبير، ماذا دهاه؟!..لما أصبح بهذه القسوة و الغِلظة؟!..أيعقل أن تكون تلك الكذبة البيضاء كما يظن قد أثرت عليه إلى هذا الحد؟!..و حولته إلى وحش كاسر لا يأبه لأحد؟!...بلى.. فلا يشعر بحرارة النار سوى من قبض على جمرتها..
بينما ملك عبرات الحسرة تنزل من مآقيها فى صمت قاتل..لقد طفح بها الكيل..فلا راحة فى فراقها عنه، و لا راحة فى إرتباطها به، فكلاهما جحيم...
اقتربت من أبيها المصدوم و جلست بجواره و قالت ببكاء:
ــ بابا...احنا لازم نرجع ألمانيا تانى...لازم نبعد يمكن سفيان يطلعنى من دماغه.
نظر لها بتمعن و لمحة الحزن التى كست ملامحها و عيناها التى تنطق بعشقه، فأشفق عليها و أحس بأنه كم هو أب جائر، دهس قلبها تحت نعليه و لم يبالى له، فأجابها أخيرا بنبرة معذبة:
ــ أنا حاسس إن أنا ظلمتكم أوى يا ملك...عمرى ما تخيلت إن الأمور توصل لكدا...مكنتش أتصور إن ممكن سفيان يتدمر بالطريقة دى، كنت فاكره اتجوز و عايش حياته زى أى شاب فى سنه، كنت فاكر إنه هينساكى و حتى لو رجعتى هتكونى عادية بالنسباله...بس الموضوع طلع كبير أوى...طلع أصعب مما تخيلت...و انتى...حاسس بكسرة قلبك و نظرة الحزن اللى مبتفارقش عنيكى...حاسس إن ناقصك كتير اوى من غيره..بس..بس متهونيش عليا أجوزك على ضُرة، انتى تستاهلى شاب عاذب تبقى انتى اول فرحته و كل حياته، مش واحد مقسوم بين اتنين.
أطبقت جفنيها تعتصرهما بحسرة و هى تتنهد بحزن ثم قالت:
ــ متقلقش يا بابا...أنا متأكدة إن داليا مش هتوافق على الوضع دا، و أنا معنديش استعداد أكون سبب فى طلاقهم....بس معتقدش إنى هقدر أرتبط بواحد غيره...على الأقل فى الوقت الحالى...صعب...صعب أوى يا بابا.
جذبها إلى حضنه و ربت على ظهرها بحنان و نصال الندم تمزق بقلبه لتجعله نسائر يصعب التئامها.
بينما سفيان دلف شقته بقلب مثقل بالهموم، و ملامح منكمشة من الحزن، فوجد داليا تجلس بانتظاره فى الأريكة المقابلة لباب الشقة، و تنظر له بلوم، فقد أهملها إلى أقصى حد، و أصبح لا يكترث لحزنها و ألمها و غيرتها المستعرة بصدرها كالجحيم، لقد تغير كثيرا رغم تمسكها به و محاولات التقرب منه حتى تحافظ على هدوء بيتها و تستعيد استقراره مرة أخرى، و لكن سفيان منذ أن عادت ملك و هو فى وادٍ آخر.
أغلق الباب و ألقى عليها السلام و جلس بجوارها و نظر لها بتمعن، هو مشفق عليها و يدرى أنه لا ذنب لها، و لكنه مشفق على حاله و حال حبيبته أكثر...
أخذ نفسا عميقا استعدادا لخطورة حديثه القادم معها ثم قال بجدية و حزم:
ــ داليا...أنا أخدت قرارى فى علاقتى بـ ملك..
ابتسمت داليا بأمل فقد ظنت أنه اختارها هى و فضلها عليها و لكن زالت بسمتها سريعا و أحلت الصدمة محلها حين قال:
ــ أنا هتجوز ملك...و قبل ما تقولى أى حاجة اسمعينى للآخر و بعدين قولى اللى انتى عايزاه....
هزت رأسها بإيجاب و ما زالت تحت تأثير الصدمة و عدم الاستيعاب:
ــ أنا مش هستغنى عنك انتى و بنتى...انتى أساس البيت دا و بنتى حتة منى استحالة تتربى بعيد عنى، بس فى نفس الوقت مش قادر أستغنى عن ملك و لا عارف أطلعها من دماغى..حاولت...حاولت كتير أعدى يومى عادى من غير ما أفكر فيها أو أحنلها بس فعلا مش عارف..مش عايز أشيل ذنوب بسببها أكتر من كدا...علشان كدا مفيش قدامى غير إنى أتجوزها، و وعد منى يا داليا هعدل بينكم فى المعاملة و المبيت و فى كل حاجة و...
قاطعت كلامه قائلة بجمود:
ــ إلا الحب...مش كدا؟!
ازدرد لعابه بتوتر ثم قال:
ــ حتى لو مفيش بينا حب، بس فى مودة و رحمة...
لوت شفتيها بابتسامة ساخرة قائلة بتهكم:
ــ امممم...المودة و الرحمة اللى من ساعة ما ملك هانم رجعت و انت محيتهم من قاموسك...مش كدا؟!..و لا ناسى الكلام اللى انت قولتهولى يوم ما جات، الكلام اللى دبحنى بسكينة تلمة، و الذنب اللى شيلتهولى بدون وجه حق...
هبت من جلستها و ربعت ذراعيها أمام صدرها قائلة بجدية و حزم متحاشية النظر بعينيه:
ــ قبل ما تعمل أى خطوة فى جوازك منها تكون طلقتني...أنا مش هقبل أكون على الهامش أو أتحط فى مقارنات مع واحدة تانية لمجرد إن فى طفلة بينا...و دا آخر كلام عندى...
ثم تركته بحيرته و همومه التى أثقلت كاهله، و دلفت غرفة صغيرتها كعادتها الأخيرة و استلقت بجوارها و انخرطت فى بكاء مرير تنخلع له القلوب حزنا و إشفاقا..
فى شقة ريان بالقاهرة...
خرج مجدى من شقة ابنته و الدنيا تميد به، استقل المصعد و هو لا يصدق أن هذا هو رد فعل ابنته التى أفنى عمره لأجلها، لقد أصرت سابقا على عدم زواجه بأخرى بعدما انفصل عن أمها و استجاب لها بطيب خاطر و لم يعاندها، لم تطلب منه شيئا قط صعبا كان أم سهلا، حراما كان أم حلالا إلا و فعله لها، لقد كانت قرة عينه و كنزه الثمين و جوهرته النفيسة، لكن ماذا يعنى هو لها!!...فلم يكن لها سوى عصا سحرية، بنك للأموال، أو انسان آلى فقط ينفذ ما تريد و إن عارضها تُلقى به فى أقرب سلة مهملات.
لم يكد يعبر بوابة العقار حتى وجد رجال الشرطة يُداهمونه و يمسكون به و أحد الضباط يقول له:
ــ أهلا مجدى بيه...دوختنا عليك يا راجل...انت مطلوب القبض عليك بتهمة الإتجار فى المخدرات و الادوية الممنوعة....
و ها هى الصدمة الثانية، لقد عزم على الهرب سريعا خارج البلاد و لكن الشرطة كانت أسرع منه، و تم القبض عليه و نقله إلى قسم الشرطة التابع لدائرته للتحقيق معه فى التهم المنسوبة إليه.
أما ريان عاد إلى الطريق الذى ترك به سيارته و حمد الله أنها مازالت بمكانها، استقلها سريعا و عاد بها إلى شقته بالقاهرة..
بعد حوالى ساعة من القيادة وصل شقته و دلفها بهدوء كعادته، فوجد سيرين تسير بالممر الطويل المؤدى إلى غرف النوم، تجوبه ذهابا و إيابا بتوتر شديد و هى تدخن بشراهة، حتى أنها لم تنتبه لدلوفه، صفع الباب بعنف فانتبهت له و ازداد توترها و ارتباكها و لم تستطع التخلص من السيجارة و لا من سحابة دخانها التى عبأت جو الشقة، تقدم منها ببطئ مهلك و هو يطالعها باحتقار و عينيه يتطاير منهما الشرر، بينما هى تسير بالخلف حتى اصطدمت بالحائط و استندت عليه و هى تقول بخوف:
ــ ريان...أنا..أنا بس كنت متوترة شوية علشان كدا قولت اجرب سيجارة يمكن..يمكن تهدينى شوية..بس..
استمر فى تقدمه حتى جذبها من شعرها بعنف بالتزامن مع صرخاتها، ثم قال لها بهدوء ما قبل العاصفة:
ــ معادش يهمنى...تشربى سجاير..تشربى خمرة، ان شالله حتى تشربى مخدرات..عارفة ليه؟!
بينما هى تناظره بخوف و عينين جاحظتين ثم قال بصراخ و هو يهزها بعنف:
ــ علشان انتى مجرمة حقيرة مش هستغرب منك أى حاجة...اللى تفرق بين اتنين بيحبوا بعض و بطريقة قذرة زى اللى عملتوها مع سلمى مستغربش منها أى حاجة...انتى استحالة تكونى من جنس البشر...انتى شيطانة...شيطانة.
ثم ألقى بها بقوة على الأرض تحت صراخها و استغاثتها، و صدره يعلو و بهبط بشدة من فرط الغضب و الانفعال، بينما هى لم تجد من الكلام ما تقوله فقط تبكى و تصرخ، إلى أن نظّم أنفاسه المتلاحقة ثم قال لها بحدة:
ــ سيرين هانم انتى طالق...كان نفسى أعاقبك أسوأ عقاب بس ولادك نجدوكى منى...ولادى اللى مش هتشوفيهم تانى بعد كدا...عارفة ليه؟!..لأنى هتجوز سلمى و هقدم لها چاد و چود هدية كتعويض عن الجريمة اللى عملتوها فيها و حرمانها من نعمة الخلفة، و هما أصلا بيحبوها أكتر منك و بيقولولها مامى، شوفتى بقى!!...شوفتى نتيجة غلك و طمعك و شرك انتى و أبوكى؟!..فى الآخر انتى طلعتى الخسرانة و هى كسبت كل حاجة...
كانت تستمع له بعينين جاحظتين و أنفاس متلاحقة من الصدمة، و ما إن انتهى حتى هبت من جلستها على الأرض و بدأت تتمسك به بقوة و تهزه و هى تقول بصراخ هستيرى:
ــ لاااااا...انت مش هتسيبنى و تروحلها...انت ملكى أنا..ليا أنا...أنت بتاعى أنا..
أمسكها من ساعديه و هو يطالعها باحتقار أشد قائلا:
ــ هو دا كل اللى همك؟!.. و ولادك اللى بقولك مش هتشوفيهم مش فى حساباتك خالص..
بينما هى استرسلت صراخها و كأنها لم تسمعه و قالت بهوس:
ــ لو سيبتنى هقتلك...هقتلك و هقتلها...فاهم...هقتلكوا كلكوا...
بدأت تردد تلك الكلمات بهياج عصبى شديد و هى تضرب بكفيها على صدره بغل، حتى خرجت عن السيطرة، فأخذ ريان ينظر لها بملامح مشدوهة و هو يهز رأسه بعدم تصديق و يقول لها:
ــ انتى مش طبيعية...انتى انسانة مريضة...انتى مستحيل تكونى طبيعية أبدا...
بينما هى مستمرة فى هياجها و لم يستطع إسكاتها إلى أن اهتدى لفكرة ما، فأمسك رأسها بين كفيه و ضربها برأسه بقوة حتى فقدت وعيها و سقطت بين يديه مغشيّا عليها.
حملها إلى غرفة النوم و وضعها على الفراش، ثم اتجه إلى الخزانة و استخرج منها حقيبة سفر كبيرة، و لملم بها جميع ملابسه و أغراضه و أوراقه الضرورية و لم يترك بها أى أغراضا تخصه، و خرج من الشقة تاركا نسخة من المفاتيح فى الباب من الخارج، فربما تعود لهياجها مرة أخرى عندما تستفيق، و يحاول أحد الجيران مساعدتها و السيطرة عليها.
حمل الحقيبة إلى المصعد و استقله للطابق الأرضى، إلى أن حملها مرة أخرى للسيارة و انطلق إلى وجهة جديدة، حيث ذهب إلى أحد المحاميين المعروفين ليساعده فى فتح ملف قضية سلمى من جديد و إعادة التحقيقات.
عودة مرة أخرى لمدينة المنصورة....
بعدما غادر سفيان شقة عمه، اتفقت ملك مع والدها على ضرورة حجز تذاكر العودة فى الغد قبل أن يفقد سفيان عقله و يخسر زوجته و ابنته بسببها، و قد استحسن أبوها ذلك الأمر و رحب به.
خيّم الليل الحزين على المدينة، و ملك قابعة بغرفتها ممسكة بجواز السفر الخاص بها، تديره بين كفيها بشرود، تفكر تُرى كيف ستعود لألمانيا و تُكمل حياتها هناك بعدما عثرت على دُرة قلبها المفقودة، و قرة عينها المكنونة و التقت بمالك قلبها، حتما ستصبح أمورها أسوأ من ذى قبل، ففى السابق و قبل أن تلتقى بـ سفيان كانت تُقنع نفسها أن هوسها بفارس أحلامها مجرد هلاوث و أحاديث نفس، و ليس لها أى أساس، و كانت تستطيع تناسيه و قتما شاءت و تتذكره أيضا إذا أحبت.
ظلت على هذا الوضع لفترة طويلة حتى أعياها التفكير و خرجت لشرفتها تستنشق هواءا عليلا، فوجدته واقفا هناك بشرفته و تبدو على ملامحه الوجوم و الشرود...ويحِك يا ملك!!.. لقد خَرِبت حياته و ازدادت مشكلاته بسببك، فزادها ذلك الأمر إصرارا على العودة من حيث أتت و دلفت سريعا قبل أن يخرج من شروده و يراها.
فى القاهرة...
يجلس ريان بمكتب المحامى المعروف أسعد شوكت، و قد شرح له ملابسات القضية بالتفصيل و لم ينسى حرفا واحدا، و بعدما انتهى من سرد جريمة حماه، هز المحامى أسعد رأسه بتفكير و بعد مدة قليلة من التركيز قال بطريقة رسمية:
ــ بص يا ريان بيه...بما إن الجناية دى فات عليها خمس سنين، و مفيش شهود شافوا الوقعة، و الأصعب من دا كله إن المجنى عليها أصيبت بصدمة نفسية خلتها مش فاكرة أى تفاصيل أو خيوط نمسكها و نمشي وراها، فالقضية دى مفيش ليها غير حل واحد بس..
هز ريان رأسه بترقب قائلا:
ــ حل ايه دا يافندم؟!
استرسل المحامى بجدية:
ــ إن مجدى يعترف بنفسه بالجريمة.
فغر فاهه قائلا باحباط:
ــ و احنا هنخليه يعترف على نفسه ازاى...مستحيل هيعمل كدا طبعا و يدخل نفسه السجن.
أجابه المحامى بابتسامة ماكرة قائلا:
ــ دلوقتي حضرتك بتقول إنه اتقبض عليه فى قضية اتجار بالمخدرات، و طبعا بما إنك زوج بنته و رئيس مجلس إدارة شركاته، فأكيد هيتصل بيك و هيطلب منك تساعده بطريقة او بأخرى، دورك هنا بقى تفتح معاه تفاصيل الجناية بتاعت الأنسة سلمى و تواجهه بيها و تستدرجه فى الكلام و تحاول تخليه يقر بالجريمة، و هنا بقى هنسجل المكالمة و هنطالب بإعادة فتح القضية و نقدم التسجيل كدليل مادى ملموس مع تقارير المستشفى وقت الجناية....بس قبل دا كله لازم ناخد إذن من النيابة بتسجيل المكالمة علشان تعتمدها فى التحقيقات..
نهض ريان من كرسيه قائلا بحماس:
ــ طاب يا ريت نبدأ فى الإجراءات بسرعة...مفيش قدامنا وقت كتير و لسة هنسافر المنصورة علشان نجيب إذن النيابة.
نهض المحامى من كرسيه و هو يقول بجدية:
ــ طيب يا ريان بيه...أنا مضطر اسند القضايا اللى معايا لواحد من الأساتذة اللى شغالين تحت ايدى و أسافر معاك.
أومأ ريان بامتنان قائلا:
ــ أنا متشكر لحضرتك جدا يا أستاذ أسعد، و إن شاء الله هدفع لحضرتك اللى تطلبه و زيادة بس أجيب حق سلمى من المجرمين دول...
هز رأسه بتفهم و غادرا المكتب سويا و أخذه ريان بسيارته منطلقين إلى نيابة المنصورة.
بالفعل تم فتح ملف القضية و حصل ريان على إذن من النيابة بتسجيل مكالماته مع مجدى و قد ساعده بعض رجال الأعمال المؤثرين الذين تَعرّف إليهم أثناء تعاملاته المالية بالمجموعة فى تسهيل الحصول على ذلك التصريح...
عاد المحامى إلى مكتبه بالقاهرة، بينما ريان عاد إلى شقته بمنزل والده حاملا حقيبة ملابسه و صعد بها تحت أنظار والديه المتفاجئين من أمر هذه الحقيبة الكبيرة، و لكنه كان مرهقا للغاية و وعدهم بالرد على تساؤلاتهم فى الغد.
بمجرد أن دلف شقته رن هاتفه برقم مجدى فابتسم بارتياح، فها قد حان وقت ظهور الحقيقة و الإنتقام لحبيبته، فأجابه بنبرة باردة:
ــ أيوة يا مجدى باشا..
رد عليه بلهفة و جزع:
ــ ريان أنا فى مصيبة و مفيش حد هيساعدنى غيرك..أرجوك انا فى القسم و عايزك تجيلى و تجيب معاك محامين المجموعة.
رد عليه بنبرة شامتة:
ــ و أساعدك بمناسبة ايه؟!
تجمد جسده و رد عليه بصدمة:
ــ بمناسبة انك جوز بنتى، و إن أنا اللى خليتك بيزنس مان معروف و عرفتك على ناس مكنتش تحلم تعدى بس من جنبهم...
أجابه بملامح منكمشة من الألم و نبرة موجعة:
ــ ما أنا دفعت التمن يا مجدى بيه و مالكش حاجة عندى..
رد مجدى بغضب:
ــ ممكن أعرف ايه التمن اللى أنا أخدته منك؟!
رد عليه بصراخ:
ــ أخدت منى حبيبتى و خطيبتى...خطفتها و سلطت عليها كلب زيك اغتصبها و بهدلها علشان يحرمها من الخلفة و يكون فى سبب قوى يمنعها من الجواز...طاب ليييه؟!..انت مفيش فى قلبك رحمة...كل دا ليييه؟!
رد عليه مجدى بنبرة خافتة مشدوها:
ــ انت عرفت ازاى؟!...ماهو استحالة تكون سيرين اللى قالتلك..
رد عليه بنفس نبرته الموجعة:
ــ سمعتك النهاردة و انت عندها و بتستنجد بيها و بتفكرها بأفضالك عليها و عليا...بنتك اللى اتخلت عنك فى أول مطب يا مجدى باشا.
تنهد مجدى بحسرة ثم قال بجمود:
ــ أومال كنت هتتجوزها ازاى و انت كنت بتقولها انك بتحب خطيبتك، كنت هخليك تحت طوعى ازاى و أربطك بيا من كل النواحى...مكانش فى قدامى حل تانى...بس تصدق النهاردة بس ندمت إنى عملت كدا..
لوى ريان فمه بابتسامة ساخرة مجيبا بشماتة:
ــ ربنا مبيضيعش حق مظلوم يا مجدى باشا...اشرب...اشرب من كاس العذاب اللى شربتنا منه...اه و بنتك طلقتها و مش عايز أى حاجة تربطنى بمجرم زيك...و من غير سلام.
أغلق الخط و تنهد بارتياح، فقد أقر مجدى بجريمته فى المكالمة و لم يُنكرها، و نوى أن يقدم التسجيل للنيابة فى الصباح...ثم خلد إلى النوم بعد تفكير طويل بمُعذِبته المُعذَّبة حتى غط فى سُباتٍ عميق من فرط الإرهاق...
فى اليوم التالى....
ذهب ريان إلى سرايا النيابة و قدم التسجيل و تم إرفاقه بملف القضية و انصرف على أن يعود مرة أخرى عند استدعائه من قِبل النيابة، و اتصل بالمحامى أسعد و طلب منه متابعة التحقيقات خطوة بخطوة.
بينما داليا، ما أن أشرقت الشمس حتى لملمت أغراضها و معها أغراض صغيرتها و تركت الشقة أثناء نوم سفيان و ذهبت لمنزل أمها، فهى لم تعد تطيق البقاء معه بعدما أخبرها بنيته الزواج من ملك.
أما إسماعيل فقد توجه لأقرب مكتب جوازات و شرع فى إجراءات العودة لـ ألمانيا، و حجز تذكرتين فى الطائرة المتجهة لـ برلين بعد يومين.
لم يتفاجأ سفيان برحيل داليا من الشقة، فقد توقع ذلك الأمر، و أصبح فى وضعٍ لا يُحسد عليه، لا يدرى أيهما يُرضى..أيُرضى زوجته على حساب سعادة قلبه و قلب مليكته، أم يرضى قلبه على حساب سعادة زوجته و ابنته...
توضأ و صلى ركعتين قضاء حاجة لعل الله يختار له ما فيه الخير و الصلاح، ثم امسك هاتفه و اتصل بـ داليا كمحاولة منه للتصالح معها و إبداء تمسكه بها و ببيته الذى بنياه سويا...بعدما فتحت الخط قال لها بحدة:
ــ داليا انتى مشيتى ليه؟!
أجابته بنبرة ساخرة:
ــ و الله؟!..انت مش عارف أنا مشيت ليه؟!..كنت مستنى منى إيه بعد ما قولتلى إنك هتتجوز عليا؟!...المفروض كنت أباركلك و أجى معاك أخطبهالك كمان...مش كدا؟!
زفر بعمق و هز رأسه بيأس قائلا برجاء:
ــ داليا أنا لسة باقى عليكى و متمسك بيكى لأقصى درجة، و مش ناوى أتخلى عنك صدقينى..فكرى بعقلك مش بقلبك و اختارى الإختيار اللى مش هتندمى عليه بعد كدا...أنا عايز بنتنا تتربى فى وسطنا يا داليا.
احتدت نبرتها بانفعال قائلة:
ــ بنتك لما تتربى بعيد عنك بس فى جو هادى من غير مشاكل و شايفانا بنتعامل مع بعض باحترام، أحسن ما تتربى بينا و احنا كل يوم فى مشاكل و زعل و خناقات بسبب ملك اسماعيل.
رد عليها بنبرة مغتاظة:
ــ و ليه نعمل مشاكل أصلا!!...أنا قولتلك إنى مش هفرق بينكم، مش هحسسك إنى متجوز غيرك..يبقى هتيجى منين المشاكل؟!
أجهشت فى البكاء و هى تقول بقهر دفين:
ــ راعى مشاعرى شوية يا سفيان...أنا واحدة بتحب جوزها اللى هو أصلا مش حاسس بيها، لا و كمان عايز يتجوز عليها، هو أنا ايه عشان أتحمل دا كله، لا أنا دمى مية و لا أنا لوح تلج عشان أعيش بالشكل دا و اسكت.
هز سفيان رأسه بقلة حيلة قائلا:
ــ داليا أنا هسيبك تهدى أعصابك و تفكرى كويس، و يا ريت تحطى مصلحة بنتنا فى اعتبارك و عايزك تكونى متأكدة إنى هكون أسعد انسان فى الدنيا لو كملتى معايا لآخر العمر...أنا شاريكى و شارى العشرة اللى بينا..
أومأت باستسلام لكى تنهى الحوار قائلة:
ــ طيب يا سفيان....ربنا يقدم اللى فيه الخير..
شعر ببعض الارتياح و أجابها بابتسامة بسيطة:
ــ و نعم بالله...خلى بالك من نفسك و من ملوكة و سلميلى على ماما و سلمى..
اومأت قائلة بوجوم:
ــ حاضر...مع السلامة.
يتبع....
مع تحياتي/ دعاء فؤاد
تعليقات
إرسال تعليق