سكريبت ماوراء الصمت الحلقه الاولى حتى الحلقه الحاديه عشر بقلم الكاتبه آلاء محمد حجازي حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات
سكريبت ماوراء الصمت الحلقه الاولى حتى الحلقه الحاديه عشر بقلم الكاتبه آلاء محمد حجازي حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات
اتجوز مين يا ماما؟! دي جاهلة!
أنا! أنا اللي الناس بتحسب له كلمته، أقوم أتجوز واحدة ما تعرفش تقول جملة صح؟
هو أنا ناقص فضيحة يا ماما؟
أنا عايز واحدة تعلّي اسمي مش تنزّله.
واحدة أتكلم معاها تحاورني، مش تفضل تبصلي وتضحك كأنها مش فاهمة حاجة!
أنا عايز شريكة تفهم عقلي، مش واحدة كل همها اللبن اتغلى ولا لأ!
الأم بهدوء وحزن:
يا ابني دي بنت عمك… وما عادش لها حد غيرنا من بعد ما أبوها توفى.
دي أمانة يا معتز، أمانة لازم نحافظ عليها.
معتز بقسوة وسخرية:
أمانة؟!
يعني عشان أمانة أتجوز واحدة جاية من ورا الجاموسة؟!
يا ماما دي ما تشرفنيش… ولا تشبهني…
أنا طول عمري بتعب عشان أكون في مكان، مش عشان أرجع للتراب اللي طلعت منه!
كنت راجعة البيت، شقة عمي.
وقفت عند الباب، همدي إيدي على المفتاح… بس وقفت.
صوته كان واضح جدًا من جوّه، بيكلم ماما سعاد مرات عمي.
أتجوز مين يا ماما؟ دي جاهلة!
أنا مش ناقص أتشرف بواحدة جاية من ورا الجاموسة!
وقفت مكاني كإني اتشلِيت.
الكلمة دي وجعتني أكتر مما توقعت، يمكن عشان طالعـة منه هو.
أنا فرح… من المنصورة.
أبويا توفى من تلات شهور، وجيت أقعد مع مرات عمي بعد ما أصرت عليا.
ست طيبة جدًا، حنونة بطريقة تخليك تنسي الوجع.
كانت أحن عليّ من أمي الله يرحمها، وعمري ما حسّيت إني غريبة عندها.
بس النهارده… وأنا واقفة على باب الشقة، حسّيت فعلاً إني غريبة.
الكلمة دي كسرت فيّ حاجة، مش عشان هو قالها،
لكن عشان الشخص اللي كنت شايفاه محترم ومتعلم، طلع تفكيره سطحي كده.
أكتر حاجة وجعاني كانت إني كنت معجبة بشخص شبه ده.
مش عارفة كان إعجاب ولا حب يمكن ما كانش أي حاجة أصلاً، لكن اللي أكيد إنه خدعني بصورة قدام نفسي.
كنت بشوف فيه عقل وهو كان فارغ من جوّه، كنت بشوف فيه ذوق وهو كان بس لعبة مظهر.
بس خلاص…اللي سمعته كفّى.
مسحت دموعي بإيدي وقلت لنفسي بهدوء:
ماشي يا معتز…
هوريك أنا الجاهلة اللي بتتكلم عنها دي.
سعاد بعصبية وهي بتحلف:
والله العظيم يا معتز…لو ما أتجوزتها لتكون ابني ولا أعرفك!
في اللحظة دي، الباب اتفتح بهدوء…
فرح دخلت، وشها هادي، ملامحها متماسكة، بس جواها نار.
ولا حد فيهم أخد باله إنها كانت واقفة من الأول.
ما كنتش عايزاها تحلف…
أنا مش قليلة عشان حد يحلف عليا عشان يرميني على ابنها.
ولا عايزة أتجوز واحد يبصلي كأني حمل تقيل أو واجب لازم يتخلص منه.
أنا مش قليلة…
ولا هقبل أكون اختيار بالغصب.
قلبها كان بيخبط في صدرها، بس مش من كسوف… من وجع الكرامة.
بصت لهم بسرعة، من غير كلام، وراحت على أوضتها بخطوات هادية.
فتحت الباب بهدوء وقلت:
– السلام عليكم.
ضحكت ضحكة خفيفة كده وأنا داخلة، بس أول ما دخلت حسّيت إن في نظرات عليا.
مش عارفة ليه، بس كنت حاسة إن كل اللي في الأوضة بيبصلي.
أنا يمكن مش جميلة الجمال اللي يخلي الناس تتقلب،
بس الحمد لله، عارفة إن عندي ملامح حلوة، ربنا مديها لي.
قمحاوية كده، بشرتي دافية، وملامحي هادية، وعيوني محدش عارف يحدد لونها بالضبط.
مش شبه حد، بس برضه شبه الكتير.
سعاد مرات عمي أول ما شافتني قامت بسرعة:
– فرح! حمد لله على السلامة يا حبيبتي،
ده معتز ابن عمك، رجع من اسكندرية الحمد لله.
بصيت له وابتسمت ابتسامة بسيطة:
– ازيك يا معتز، عامل إيه؟
هو ما ردش أول لحظة، واقف كده سرحان،
لحد ما سعاد ضربته بكوعها في دراعه وقالت له وهي بتضحك:
– يا واد رُد!
ضحك ضحكة باهتة وقال:
– ازيك يا فرح، عاملة إيه؟ كبرتي.
ضحكت بخفة وأنا شايلة الشنطة من على كتفي وقلت له:
– كله بيكبر يا ابن عمي.
وبصوت هادي كده قلت:
– عن إذنكم، هادخل أستريح شوية.
دخلت الأوضة، بس قلبي لسه واقف عند الباب…
مش عشان هو، لأ،
عشان الكلمة اللي قالها قبل ما أدخل… جاهلة.
وأنا ناوية أوريه بنفسه مين هي الجاهلة.
------------------
علي الغدا قعدنا على السفرة، الأكل كان محطوط والجو ساكت،
مفيش غير صوت الملاعق بيخبط في الأطباق.
كنت باكل في هدوء، وبحاول أتجاهل وجوده،
بس هو اللي قرر يفتح الكلام.
قال وهو بيبصلي بنص ابتسامة فيها سخرية:
– صحيح يفرح لما جيت مكنتيش هنا، كنتي فين النهارده يا فرح؟ وكمان شكلِك مهمومة قوي.
رفعت عيني عليه بهدوء وقلت:
– كنت بقابل واحدة صاحبتي يا معتز.
ضحك بخفة وقال وهو بيقطع العيش:
– صاحبِتك؟ وإنتِ بقى تعرفي ناس من هنا؟ من القاهرة كمان؟
نزلت المعلقة بهدوء، ومسحت بإيدي على الفوطة،
وبصيت له بثبات:
– أيوه، أعرف يا دكتور، الدنيا مش مقفولة على قاعة المحاضرات اللي حضرتك فيها.
في ناس برضه بتفهم، حتى لو ما معاهاش لقب.
سكت المكان كله،
مرات عمي بصت له بحدة، وهو حاول يخبي ارتباكه في لقمة تانية.
بس نظراته اتغيرت،و ملامحه اتغيرت لحظة،
زي اللي اتفاجئ إن "الجاهلة" ردّت عليه بالعقل مش بالصوت.
رجعت أكلي تاني كأني ما حصلش حاجة،
بس قلبي كان بيغلي،
مش من كلامه…
من نفسي إزاي كنت في يوم معجبة بشخص تفكيره بالشكل ده.
اللحظة دي بس، كانت كفاية أعرف أنا مين… ومين اللي فعلاً لازم يتكسف من نفسه.
قمت من السفرة بخطوات سريعة،
ما كنتش قادرة أكمّل لحظة واحدة هناك.
دخلت أوضتي، وقفلت الباب ورايا بإيدي،
بس قلبي كان بيدق بسرعة،
زي اللي بيهرب من حاجة وجواه وجع مش عارف له اسم.
قعدت على السرير شوية، وبعدين قمت أتنفس عند الشباك.
الهواء كان ساكت، بس صوتهم لأ.
صوت معتز كان واصل لحد عندي واضح…
كان بيكلم صاحبه في البلكونة، وضحكته تقطع الهدوء.
قال بنبرة فيها استهزاء واضح:
– اسكت يا عم،مش أمي كانت هتجنني النهارده.
وعايزاني أتجوز واحدة جاهلة، جايه من ورا البهايم،
ولا تعرف تتكلم حتى.
ضحك صاحبه وقال:
– طب عملت إيه؟
معتز كمل بنفس النبرة المتعجرفة:
– خلاص يا عم، خلعت منها قبل ما أمي تحلف عليا اني اخدها غصب عني.
بس بغبائها كالعادة، فتحت الباب ودخلت كأنها فاهمة كل حاجة.
سكت لحظة، صوته بقى أهدى،
وقال بخفة فيها لمحة غرور:
– بس الغريبة بقى… إنها مش وحشة.
يعني لو كانت متعلمة، والله يمكن كنت فكرت.
ضحك هو وصاحبه بعدها،
ضحكة خفيفة…
بس بالنسبالي كانت أقسى من ألف كلمة.
وقفت ورا الشباك، جسمي ثابت بس دموعي نازلة بهدوء،
من غير صوت، من غير نفس.
مسحت دموعي، وبصيت للسما،
وقلت لنفسي بهدوء، بنبرة وعد:
هتشوف يا معتز… هتشوف مين فينا اللي جاهل.
-----------------
بس الغريبة بقى… إنها مش وحشة.
يعني لو كانت متعلمة، والله يمكن كنت فكرت.
ضحك هو وصاحبه بعدها،
ضحكة خفيفة…
بس بالنسبالي كانت أقسى من ألف كلمة.
وقفت ورا الشباك، جسمي ثابت بس دموعي نازلة بهدوء،
من غير صوت، من غير نفس.
مسحت دموعي، وبصيت للسما،
وقلت لنفسي بهدوء، بنبرة وعد:
هتشوف يا معتز… هتشوف مين فينا اللي جاهل.
تاني يوم كنت نزلت بدري عن كل يوم.
كان الجو فيه نسمة كده خفيفة، بس جوّايا نار.
لبست عادي جدًا، بس يمكن لأول مرة ركزت إن شكلي مترتب… يمكن عشان هو يشوفني ويعرف إن "الجاهلة" بتفهم تختار لنفسها كويس.
وأنا خارجة من باب العمارة، لقيته واقف عند عربيته، بيكلم حد في التليفون.
لما شافني، قفل المكالمة وقال بنبرة فيها سخرية باردة:
– رايحة فين يا فرح؟
قلتله بهدوء:
– مشوار
ضحك وقال:
– تعالى أوصلك، أحسن تتوهي… انتي ما تعرفيش هنا الطرق كويس.
سكت لحظة، وبعدين كمل وهو بيركب نضارته الشمس:
– ولا أكتبلك العنوان في ورقة؟صح انتي مش بتعرفي تقري
بصيت له لحظة، ابتسامة صغيرة طلعت غصب عني.
– لا يا معتز، بعرف أقرأ… وأفهم كمان.
وبعدين كملت وأنا ماشية قدامه بخط ثابت:
– بس شكلك أنت اللي ما بتفهمش.
اتحركت بعدها من غير ما تبص وراها.
هو وقف بيتابعها وهي ماشية، النظرة في عينه متلخبطة بين غيظ واستغراب.
ضحك بسخرية وهو بيتمتم لنفسه:
– أهو ما بقاش غير الجاهلة اللي تتكلم.
ركب عربيته، بس عينه لسه على الاتجاه اللي راحت فيه.
وسكوت بسيط مر، كأنه جوّاه صوت صغير بيقول عكس اللي لسه نطقه، بس هو كتمه بسرعة.
------------------
مشيت من قدامه بخطوات سريعة، قلبي بيخبط في صدري، مش من خوف… من قهر.
الهوا كان سخن، بس أنا كنت بردانة من جوّا.
شارع ضيق، زحمة، دوشة، وأنا مش مركزة خالص…
كل كلمة قالها لسه بترن في وداني.
كنت ماشية بسرح، لحد ما فجأة خبطت في حد.
– خلي بالك يا آنسه.
رفعت عيني، لقيته شاب لابس شيك بس نظرته فيها غِرور، من النوع اللي يحسسك إنه شايف نفسه أحسن من الكل.
– آسفة، ما كنتش باخد بالي.
وهو اتلفتلي وقال بنبرة فيها ثقة تقيلة كده:
– خدي بالك يا آنسه، الناس هنا ما بتستحملش حد يزقّهم كده.
قلت بغضب:
–ما قولت آسفة مرة، وما كنتش واخدة بالي هي حكاية.
بصلي من فوق لتحت بنظرة سريعة وقال وهو بيبتسم نص ابتسامة مستفزة:
– لا واضح إنك واخدة بالك قوي…
نازلة كده لافّة ومتفخمة وبتقولي ما كنتش واخدة بالي؟
وقفت في مكاني، الدم ضرب في وشي.
قلتله بحدة وأنا ماسكة الشنطة:
– قصدك إيه بكلمة متفخمة؟
ضحك وقال وهو بيهز راسه:
– يعني شيك… لبسك جامد وملفوف على الآخر،
الناس هنا عينيهم مش متعودة على المنظر ده، فا خدي بالك.
رديت بسرعة بعصبية:
– شكراً على النصيحة يا أستاذ…
قاطعني وهو بيرفع حاجبه:
– ياسين… المعلم ياسين.
لا عادي، بس المره الجاية خدي بالك… مفيش داعي تتخبطّي عشان تلفتي الانتباه.
اتسعت عينيا، وبصيت له بجمود:
– واضح إن عندك مشكلة في احترام الناس.
ضحك بخفّة:
– لا أبدًا، بس انتي اللي شكلك متوترة… لو محتاجة حد يهديك، أنا فاضي.
شدّيت نفسي وعدّيت جنبه من غير ما أرد،
بس وأنا ماشية سمعته بيقول لنفسه بصوت مسموع كفاية يخترقني:
– لا، دي بنت تقيلة… شكلها مش سهلة.
وقفت مكانها، اتشدّت الكلمة في ودنها زي الشرارة،
لفّت له بنظرة حادة وقالت:
– إيه؟ قصدك إيه بالكلام ده؟
_بقولك خالي بالك علي اول الشارع مطب.
– شكراً على النصيحة.
لفّت تمشي،
وهو واقف سابها تمشي خطوتين،
وبعدين قال بصوت هادي كده بس مليان ثقة ولمعة خفيفة في عينه:
– بس جامدة… وملفوفة.
وقفت في مكانها،
الكلمة نزلت تقيلة في ودنها كأنها خبطت في جدار،
لفّت له ببصة حادة وقالت بنبرة فيها غضب مكتوم:
– إيه؟!
ابتسم وقال بهدوء:
– ولا حاجة… ملاحظة بس.
قالها ومشي،
وسابها واقفة مكانها،
إيديها بتتشبك من العصبية،
بس قلبها دقّ دقة غريبة… مش عارفة غضب ولا توتر.
كتمت غيظي، وكملت طريقي، بس جوايا نار…
نار من كل راجل فاكر إنه أعلى، أو أحق، أو أذكى.
والنار دي كانت أول شرارة خلتني أقرر إني مش هسيب حقي، لا منه، ولا من اللي قبله.
بعد دقايق، وهي ماشية في الشارع لوحدها،
افتكرت طريقته وغمزته،
حطت إيدها على وشها وقالت في سرّها بضحكة خارجة غصب عنها:
– قليل الأدب… بس فعلاً دمه خفيف.
وبعدها هزّت راسها وهي بتحاول تبطل تفكر فيه،
بس في قلبها، كانت عارفة إن المشهد ده مش هيتنسي بسهولة.
------------------------
وأخيراً وصلت.
المشوار ده كان شكله مش هيخلص أبداً،
بس أول ما البوابة الكبيرة للجامعة ظهرت قدامي حسّيت براحة غريبة.
مكنتش متخيلة إن اليوم ده هييجي بالشكل ده،
ولا إن الخطوة دي هتكون بداية جديدة في حياتي كلها.
الناس رايحة جاية،
وجو الجامعة له رهبة كده ما تتوصفش،
بس أنا كنت ماشية بثقة رغم كل اللي جوايا.
طلعت على الدور التاني، وقفت قدام مكتب كبير مكتوب عليه رئيس القسم،
خبطت بخفة، ودخلت أول ما سمعت اتفضلي،
كان فيه راجل في الخمسينات تقريبًا، لابس بدلة رمادية ونظارة،
رفع عينه أول ما شافني وابتسم وقال بنبرة فيها احترام واضح:
– آه، أخيراً وصلتِ.
احنا كنا مستنيينك من بدري.
ابتسمت بخجل وقلت:
– متشكرة جداً يا فندم، الطريق كان زحمة شوية.
ضحك وقال:
– عادي يا بنتي، أهم حاجة إنك وصلتِ بالسلامة.
بسم الله ما شاء الله، واضح إننا هنضيف اسم تقيل للمكان.
ضحكت بخفة وأنا مش فاهمة يقصد إيه بالضبط،
بس قبل ما أسأل، كمل كلامه:
– على العموم، الملفات كلها اتراجعت، وشهادتك تشرف…
والكل هنا متحمّس يشوف شغلك بنفسه.
سكت لحظة وبص لي بهدوء وقال:
– وطبعاً البقاء لله في والدك،
كان راجل محترم، وسمعته سابقة.
ابتسمت ابتسامة صغيرة رغم الدموع اللي كانت بتحاول تطلع،
وقلت بهدوء:
– الله يرحمه… هو السبب إني وصلت هنا.
هز راسه وقال بلُطف:
– مكانه في الجنة إن شاء الله،
وروحي شوفي المكان، زملائك مستنيينك…
وفيه واحد هيتولى يعرفك بكل حاجة.
خرجت من المكتب وأنا مش عارفة ليه قلبي بيدق كده،
بين رهبة المكان وفرحة صغيرة…
بس كان عندي إحساس إن اليوم ده مش عادي أبداً.
خرجت فرح مع الدكتور اللي كان بيورها الكلية، الجو حرّ خفيف بس في الهوا ريحة جديدة… ريحة بداية.
كانت ماشية جنبه بخطوات ثابتة، بتحاول تحفظ الطرق والممرات الطويلة، وأصوات الطلبة والموظفين حوالين منها.
الدكتور كان بيشرح بهدوء:
– هنا قسم المحاضرات، وهنا المعامل، ودي قاعة الاجتماعات.
هي كانت بتهز راسها بابتسامة مهذبة، بس عقلها لسه مش مستوعب إنها فعلاً وصلت.
قالت لنفسها بصوت واطي:
– اللهم لك الحمد يا رب… كل ده تعب أبويا ما راحش هدر.
الدكتور وقف عند مدخل الدور التاني وقال:
– استأذنك ثانية يا فرح، هروح أجيب ملف من المكتب اللي جنبنا وأرجعلك فورًا.
ابتسمت وقالت:
– حاضر يا دكتور، خُد راحتك.
وقفَت على جنب، تبص حوالين المكان الجديد…
الناس، الأسماء على الأبواب، اللافتات اللي مكتوب عليها قسم الهندسة المعمارية
كل حاجة كانت شكلها مهيب أوي…
فضلت تبص حوالين المكان،
المبنى فخم، والهدوء اللي فيه مهيب كأن كل حاجة فيه ليها وزنها.
لمحت طلبة ماشيين، أصوات خطواتهم بتتداخل،
لحد ما الباب اللي وراها اتفتح فجأة…
وصوت رجولي جه من وراها، ساخر، بارد، وبيقطّع زي السكينة:
– هو إيه اللي جابك هنا يا فرح؟
اتجمدت مكانها.
صوت ما كانتش متخيلة تسمعه في المكان ده أبداً.
لفّت ببطء،
ولما شافته… قلبها وقع مكانه.
معتز.
بنفس الملامح اللي وجعتها قبل،
بس دلوقتي ملامحه فيها مزيج غريب من التعالي والاستغراب.
ضحك بسخرية، وقال بصوت عالي كفاية إن كل اللي حواليهم يسمع:
– هو انتِ بتعملي ايه في جامعة؟!
وسكت لحظة قبل ما يكمل بغلّ:
– هو اللي زيك يعرفوا يعني إيه كلية؟
لو تعرفي هتكوني اتعلمتِ منين؟ من على ظهر الجاموسة؟
ولا جيتي تسألي على شغل في الكانتين ولا السكرتارية؟
الكلمات خرجت منه زي رصاص،
وهي واقفة في مكانها، مش قادرة تتحرك،
كل حرف فيه كان بيخبط في قلبها زي ضربة قديمة بتتجدد.
حاول يضحك وقال وهو بيبص فيها من فوق لتحت:
– يا بنتي اللي زيك مكانهم في الغيط، مش هنا…
الجامعة دي ليها ناسها، مش أي حد يدخلها لمجرد واسطة.
بس قبل ما تلحق ترد، الباب اتفتح والدكتور اللي كان معاها رجع بابتسامة عادية خالص،
مش واخد باله من اللي بيحصل.
قال وهو شايفهم واقفين قصاد بعض:
– آه… باين إنكم اتعرفتوا خلاص.
وبعدين ضحك بخفة:
– طب كويس جدًا، مش محتاج أعرّفكم ببعض.
بس خليني أقولها رسمي كده برضه…
بصّ لها وقال:
– دكتور معتز من أكفأ الناس عندنا، هيساعدك لو احتجتِ أي حاجة.
وبعدين بصّ على معتز وقال:
– يا دكتور معتز، دي
---------------------
طب كويس جدًا، مش محتاج أعرّفكم ببعض.
بس خليني أقولها رسمي كده برضه…
بصّ لها وقال:
– دكتور معتز من أكفأ الناس عندنا، هيساعدك لو احتجتِ أي حاجة.
وبعدين بصّ على معتز وقال:
– يا دكتور معتز، دي الدكتورة فرح، زميلتك الجديدة هنا في القسم.
كأن الوقت وقف.
معتز اتسمر مكانه، ووشه اتبدّل.
كلمة زميلتك وقعت عليه تقيلة،
مستغرب… مش مصدق.
هو بصّ لها بذهول، قالتله بابتسامة صغيرة، بس فيها تحدي واضح:
– تشرفت يا دكتور معتز.
مدّ إيده متردد،
ولما مدت إيدها هي كمان وسلمت بخفة،
قال بصوت واطي، بس نبرته متكسّرة شوية:
– وأنا… تشرفت يا دكتورة فرح.
الدكتور اللي معاهم كمل الكلام وهو مبتسم:
– بجد فرصة سعيدة إنكم زملاء، أنتوا الاتنين عندكم فكر جديد وهيفيد القسم جدًا.
هي اكتفت بابتسامة خفيفة وقالت:
– إن شاء الله يا دكتور، هنعمل اللي علينا.
وبمجرد ما مشي خطوتين بعيد،
كانت النظرات بين الاتنين تقيلة لدرجة الهواء وقف.
هو لسه مصدوم،
وهي… بكل هدوء، لفّت وابتعدت من غير ولا كلمة،
بس خطواتها كانت واثقة، ثابتة،
ولما بدأوا يمشوا ناحية المكتب،
كانت حاسة بنظرات معتز بتطاردها،
كل خطوة منها بتفكره بالجملة اللي قالها من يومين بس:
مش ممكن أتجوز جاهلة
بس دلوقتي، البنت اللي وصفها بالجهل واقفة جنبه…
بنفس الثقة اللي اتمنى يكون عنده نصّها.
هو ما كانش عارف يردّ ولا يتكلم،
ولا حتى يفهم إزاي الدنيا اتقلبت كده.
أما هي… فكل اللي في بالها كان كلمة واحدة بس:
شايف يا معتز؟ الجاهلة طلعت تعرف تدخل الجامعة… وتدرّس كمان.
--------------
دخل البيت و رازع الباب وراه،
وصوته عالي وهو بيزعق:
– ماماااااااااااااا!
طلعت تجري من المطبخ، وقالت بخضة:
– في إيه يا ابني؟ صوتك عالي ليه كده؟
لفّ ناحيتها بعصبية وقال:
– في إيه؟! في إنك كنتي عايزة تلبّسيني واحدة جاهلة!
وجاي النهارده ألاقيها واقفة قدامي في الجامعة!
في الجامعة يا ماما!
اتسعت عينيها وقالت:
– جامعة إيه؟! إنت بتقول إيه؟
– أقولك إيه بس!
اللي كنتي بتقولي عليها غلبانة وأمانة،
طلعت دكتورة!
بتدرّس في نفس المكان اللي أنا فيه!
انتي متخيلة المصيبة دي؟!
قعد على الكرسي بقهر ومسح وشه وقال بصوت كله غليان:
– أنا طول عمري بذاكر وبتعب،
عشان أبقى في مكان محدش يوصل له،
وفي الآخر ألاقيها… هي اللي واقفة جنبي؟
ماكملش جملته…
لأن باب الشقة اتفتح، ودخلت فرح.
وقفت على العتبة بهدوء، لابسة لبسها البسيط،
بس في عنيها ثقة واضحة،
وشايلة شنطة صغيرة بإيدها.
بصّ لها معتز بحدة وقال وهو بيقرب منها:
– أنا عايز أفهم،
إزاي بقيتي دكتورة؟
إزاي؟
مش انتي اللي المفروض جاهلة؟
ولا الجامعات بقت بتقبل أي حد دلوقتي؟
سكتت لحظة، ما قالتش ولا كلمة.
نظرت له بس النظرة اللي وجعت غروره أكتر من ألف رد،
وبهدوء مطلق قالت:
– واضح إن الجهل مش بالشهادات يا دكتور معتز.
بصّ لها معتز بنظرة كلها استفزاز وقال:
–هقرر سؤالي تاني أنا عايز أفهم،
إزاي بقيتي دكتورة؟
إزاي؟
وقفت فرح،
بس المرة دي ما اتأثرتش ولا انهزّت،
العكس تمامًا عينيها كانت هادية،
بس كل كلمة خرجت منها كانت سكينة في غروره:
– على فكرة يا معتز،
الجهل مش دايمًا معناه إن الواحد ما دخلش جامعة،
ولا إنه ما خدش شهادة.
في ناس معاها شهادات بالدكتوراه،
بس لسه مش عارفين يعني إيه احترام،
ولا إزاي يختاروا كلامهم.
اتنفس هو بعصبية، وهي كملت بنفس النبرة الهادية اللي كل كلمة فيها محسوبة:
– الجهل الحقيقي مش في التعليم،
الجهل في التفكير،
في القلب اللي شايف نفسه أعلى من غيره،
وفي العقل اللي شايف الناس درجات.
مش لازم تبقى متعلم عشان تكون راقي،
ولا لازم تبقى فقير عشان تبقى جاهل.
قربت منه بخطوة صغيرة وقالت:
– أنا ما كنتش محتاجة أثبتلك إني متعلمة،
بس يمكن القدر حطّنا في نفس المكان عشان تفهم إن الكلمة اللي بتطلع باستهتار…
ممكن ترجع تضرب فيك أنت، مش في اللي بتقولهاله.
لفّ وشه عنها بغيظ، وصوته علي:
– أنا عايز أفهم برده!
إزاي؟ إزاي بقيتي كده؟
انتي مش كنتِ المفروض جاهلة؟
يعني كل اللي اتقال لينا ده كان كدب؟
سكتت لحظة،
وبصت له بثبات وقالت بهدوء يقطع القلب:
– لا يا معتز، ما كانش كدب.
جدي الله يرحمه كان شايف إن تعليم البنات عيب،
وإن البنت مكانها البيت، مش المدارس.
بس بابا…
بابا ما قدرش يشوفني محرومة من حلمي،
فكان بيعلّمني في السر.
نزلت دمعة صغيرة من عينيها وهي بتكمل:
– كنت بذاكر بالليل من وراه،
وأمي الله يرحمها كانت بتغطي عليّ.
ولما جدي توفى،
فضلنا ساكتين…
ما حدش عرف إني كملت،
ولا إن عندي شهادة،
ولا حتى إن عندي حلم.
رفعت راسها وقالت بصوت قوي جدًا:
– فمتستغربش إنك ما كنتش عارف،
ولا تستغرب إن الجاهلة طلعت دكتورة.
أنا كنت بس بستنى وقتي…
والوقت جه.
اتسمر معتز مكانه،
مش قادر يرد،
وهي عدّت جنبه بخطوات بطيئة،
وقالت قبل ما تمسك مقبض الباب:
– الجهل يا معتز مش إنك ما تعرفش،
الجهل إنك تفتكر إنك تعرف كل حاجة.
وسابت الكلمة دي في وشه،
وخرجت،
علشان تسيب وراها صمت تقيل…
وصوت نفسه العالي،
اللي أخيرًا ما عرفش يرد عليه.
وسابته بين الغيظ والدهشة والكبرياء اللي بيتكسر حتة حتة.
----------------
بعد ما خرج معتز من الأوضة رازع الباب وراه،
فضلت فرح قاعدة مكانها، ساكتة،
النَفَس بيطلع منها تقيل،
مش عشان الزعل… لأ، عشان الوجع اللي جوهها كان أعمق من أي كلمة.
دقّت الباب بهدوء ومرات عمها، دخلت وهي شايلة كوباية عصير.
قالت بنبرة حنونة:
– معلش يا بنتي، ما تاخديش على كلام معتز،
هو ساعات بيقول كلام من غير قصد.
فرح رفعت عينيها وقالت بهدوء:
– لا يا طنط، ما زعلتش.
كل واحد بيشوف الناس بعين نفسه.
مرات عمها اتنهدت وقالت:
– والله ما قصده، هو بس اتصدم.
يعني ما حدش كان متخيل إنك دكتورة، وده مش عيب ولا حاجة،
بس يمكن اتربى على أفكار قديمة شوية.
فرح قالت بنبرة فيها وجع هادي:
– الأفكار القديمة مش بتوجع…
اللي بيوجع إن الناس تفضل متمسكة بيها كأنها حقيقة.
سكتوا لحظة، والجو بقى هادي أوي.
فرح قالت بعد ثواني، كأنها بتحاول تغيّر الموضوع:
– هو يا طنط… في واحد في الشارع اسمه ياسين؟
مرات عمها بصتلها باستغراب خفيف وقالت:
– آه، في ياسين. ليه؟ تعرفيه؟
– لا، بس سمعت الاسم كده.
– أيوه، هو ساكن آخر الشارع.
الناس بتقول عليه كلام كتير…
فيه اللي شايفه بلطجي، وفيه اللي يقول عليه راجل محترم،
بس اللي أنا أعرفه إنه ما بيأذيش حد،
هو صوته بس العالي هو اللي بيخوف الناس منه.
هو كده من ساعة ما نقل هنا، مندفع شوية، بس قلبه أبيض.
فرح قالت بهدوء:
– شكله حد مش سهل.
مرات عمها ابتسمت وقالت:
– فعلاً، مش سهل.
بس في نفس الوقت… ما يتقسيش عليه.
هو ابن حتته، بس لو شاف ظلم قدامه ما يسكتش.
فرح هزّت راسها وقالت:
– فهمت…
مرات عمها بصتلها كأنها بتحاول تقرأها وقالت:
– سألتي عليه ليه يا بنتي؟
فرح ردت بسرعة وهي بتحاول تخفي ارتباكها:
– لا خالص، الاسم بس عدّى في كلام كده.
– تمام يا حبيبتي، طب ريّحي شوية، وانزلي على الغدا بعدين.
ولما خرجت مرات عمها وسابت الأوضة،
فرح فضلت تبص ناحية الشباك،
تفكيرها مشي بعيد…
مش عارفة ليه الاسم ده ما خرجش من دماغها من ساعة الصبح.
ابتدت الايام تعدّي ببطء غريب،
كل يوم يشبه اللي قبله،
لكن في تفاصيل صغيرة كانت بتتغير من غير ما حد ياخد باله.
من أول ما جيت القاهرة،
كل خروجة، كل طريق، كل وشّ جديد كنت بشوفه،
بقى ليه معنى.
وفي النص كده،
بقى في وش معين بقيت بشوفه دايمًا.
ياسين.
مش قصدي أستناه،
بس كنت ألاقي نفسي كل يوم بشوفه،
حتى لو من بعيد.
كأنه جزء من الصورة اليومية،
زي الطريق، زي الناس اللي رايحة وجاية.
وجوده بقى عادة غريبة،
عيني تتعلق بيه ثواني، وبعدين أكمل طريقي كأني ما شفتش حاجة.
بس جوايا دايمًا في حاجة بتتحرك.
ارتياح؟ فضول؟ مش عارفة.
كنت بسمع كلام كتير عنه،
اللي يقول عليه بلطجي،
واللي يقول عليه راجل جدع،
بس اللي شُفته بعيني كان غير كده خالص.
كل مرة أشوفه، ألاقيه واقف يساعد حد، أو شايل حاجة عن حد كبير،
من غير ما يتكلم كتير،
ولا حتى يبان عليه إنه بيعمل معروف.
كأنه بيعمل الصح وخلاص.
وفي نفس الوقت،
معتز…
اللي كنت متأكدة إن مفيش بيني وبينه غير الخناق،
ابتدى يتغيّر.
بقى بيتكلم بهدوء أكتر،
يتعامل بطريقة ألطف شوية،
بس رغم كده،
لسه النظرات هي هي.
فيها استغراب، وفيها حاجة مش مفهومة،
كأنه مش قادر يصدق إني بقيت هنا،
ولا إني بقيت زيه بالظبط… دكتورة.
أوقات كنت بحس إنه بيحاول يفهمني،
وأوقات تانية بحس إنه لسه شايفني أقل.
بس أنا كنت خلاص بطّلت أبرر،
ولا حتى أضايق.
بقيت بتعامل معاه بعادي،
وأكبر دماغي من كل حاجة.
يمكن عشان اتغيرت،
يمكن عشان بقت عندي حياة تانية بشوف فيها الناس بطريقة مختلفة.
كنت بين عالمين،
واحد مليان هدوء وكلام محسوب،
والتاني بسيط وصادق حتى في سكوته.
ومع إن مفيش حاجة واضحة،
بس كل يوم بيعدّي كنت بحس إن في حاجة جديدة بتتكتب في حياتي،
من غير ما أعرف نهايتها هتكون إيه.
ومن ناحية تانية،
اتعرفت على بنت جديدة في الجامعة،
اسمها نور،
خفيفة الدم، طيبة، ودخولها حياتي جه في وقته.
الكلام معاها كان سهل،
الضحك بيروح وييجي بينهم من غير مجهود،
ومن أول كام يوم بقت نور مش مجرد زميلة،
بقت صاحبتها القريبة،
اللي بتحكي لها عن كل حاجة بتحصل في حياتي.
----------------
وفي يوم عادي جدًا،
وهي راجعة متأخرة شوية،
حصل موقف بسيط… بس غيّر نظرتها ليه.
ما كانتش عارفة توصف اللي شافته
يا عم سيبه يِعدّي!
– لا والله ما يِعدّي، دا خبطني بالعجلة وبيعمل فيها براءة!
اتلمّ الناس، والعيال الصغيرين واقفين على الرصيف بيتفرجوا،
وفرح كانت جاية في السكة، شنطتها على كتفها،
وقلبها دق لما سمعت الصوت الخشن اللي كانت سامعاه قبل كده…
ياسين.
كان داخل من آخر الشارع، صوته عالي وهو بيزعق:
– إيه اللي حاصل هنا يا ولاد الـ…؟
واحد من الشابين لفّ وقال له:
– مالك يا معلم ياسين؟ احنا كنا بنهزر مع الراجل بس.
ياسين بص له من فوق لتحت وقال ببرود:
– هزار؟
قرب منه خطوتين وقال له وهو بيزقه بزراعه:
– لما تهزر مع حد في سن أبوك يبقى اسمها قلة أدب مش هزار، فاهم؟
الشاب التاني ردّ عليه وهو متعصب:
– ما تعلّيش صوتك علينا يا ياسين، إحنا مش شغالين عندك!
ضحك ياسين ضحكة خفيفة بس فيها تهديد:
– لأ ما انتوش شغالين عندي… بس لو حبيت أخليكوا تشتغلوا عندي يوم واحد، هتشتغلوا وأنتوا ساكتين.
الناس اتسكتت، والراجل الكبير وقف بيقول:
–خلاص يا ابني سيبهم، أنا تمام.
بس ياسين لسه متعصب، قال وهو بيقرّب من الشاب اللي بدأ الخناقة:
– قول للراجل حقّك عليّا دلوقتي، ولا أخلّيك تاكل الرصيف بأسنانك.
الواد اتوتر وقال وهو بيبص حواليه:
– حقك عليا يا عمّي، أنا كنت غلطان.
ياسين رفع حاجبه وقال:
– بس كده،شوفت سهلة اهي، مش ناقصين بهدلة كل يوم.
الموقف خلص، والناس بدأت تمشي،
بس ياسين وهو ماشي، الراجل الكبير مسكه من دراعه وقال له:
– ربنا يباركلك يا ابني.
ضحك ياسين وقال:
– علي اية يا حاج، انت في مقام ابويا.
فرح كانت واقفة بعيد، شايفة كل ده،
مش قادرة تبصله عادي،
اللي شايفاه مش بلطجي زي ما الناس بتقول،
شايفاه راجل عنده شهامة وجدية غريبة عليها.
مشيت وهي في بالها كلمة واحدة:
فيه حاجات شكلها غلط… بس جواها الصح كله.
--------------------
تاني يوم، وهي راجعة من الكلية،
لاحظت الشارع مش طبيعي…
الناس مجتمعة، وستات بتتكلم من البلكونات،
وصوت الهمس مالي المكان.
قلبها اتقبض، حست إن في مصيبة.
وقفت عند راجل كبير واقف على ناصية الشارع وقالت له:
– هو في إيه يا عمِّي؟ إيه اللي حصل؟ ليه الناس مقلوبة كده؟
الراجل نفخ وقال وهو بيهز راسه:
– آه يا بنتي، البوليس كان هنا من شوية، و الدنيا كانت مولعة.
اتسعت عينيها وقالت بسرعة:
– بوليس؟! ليه؟ حصل إيه؟
قرب منها وقال بصوت واطي كأنه بيحكي سر:
– واخدين الواد ياسين.
اتجمدت، الاسم وقع عليها تقيل.
– ياسين؟ ليه؟!
– والله يا بنتي ما حد فاهم،
الناس تقول تحريات في قضية، وناس تقول سرقة، وناس تانية تقول نصب،
بس كله كلام، محدش عارف الصح من الغلط.
بيقولوا كان فيه خناقة كبيرة من كام يوم،
وياسين اتدخل وضرب واحد من الكبار اللي طلع ليه سكة مش مظبوطة،
ومن ساعتها الدنيا مقلوبة.
فرح حسّت إن الكلام مش داخل عقلها.
إزاي ياسين اللي كانت كل يوم تشوفه بيهزر مع العيال ويضحك،
يتقال عليه الكلام ده؟
هو اللي كانت دايمًا تلاحظ فيه الشهامة،
اللي بيقف في ضهر الناس من غير ما يستنى شكر.
الراجل كمل وهو بيحك دقنه:
– بس الشهادة لله يا بنتي،
الواد ده ما شفتش منه حاجة وحشة.
آه ممكن صوته يعلو، ممكن يخش في خناقة،
بس عمره ما ظَلَم ولا أذى حد.
ده حتى من كام يوم لما شوية صيع كانوا بيضربوا راجل كبير،
هو اللي نزل جري ودافع عنه كأنه أبوه،
والله لولا هو كان الراجل ده راح فيها.
الناس بقى تقول عليه بلطجي، بس أنا أقول عليه راجل جدع وابن حلال.
فضلت واقفة ساكتة، كل كلمة بتدخل جواها زي سهم.
الشارع بقى هادي بعد ما العربيات مشيت،
بس جواها كان فيه دوشة،
حيرة، خوف، وقلق مالوش تفسير.
مشيت ببطء، قلبها واجعها،
مش عارفة تصدق الكلام ولا تصدق اللي شافته فيه قبل كده…
بس جواها إحساس غريب،
كأنها أول مرة تحس بالخوف على حد مش المفروض يهمها بالشكل ده.
كل ما تفتكر الضحكة اللي كان بيضحكها وهي معدّية،
تحس إن الدنيا بتغلط في حقه.
بس السؤال اللي فضّل يعذّبها:
هو فعلاً عمل حاجة؟
ولا الناس ظلمته زي ما بتحب دايمًا تعمل مع الجدعان؟
دخلت فرح البيت وهي تايهة ومش في دماغها أي حاجة.
الشارع، صوت الناس، الكلام عن ياسين… كله كان بيلف في دماغها.
ولا قادرة تفهم هو مظلوم ولا فعلاً عامل مصيبة.
دخلت أوضتها وسندت ضهرها على الباب،
نفسها تهدى دقيقة،
بس لسه ما لحقتش تاخد نفسها،
سمعت خبط خفيف.
– مين؟
جالها صوته من برّه، ووشها اتبدّل في لحظة:
– أنا معتز.
سكتت لحظة،
وبعدين قالت بثبات وهي بتحاول تسيطر على صوتها:
– اتفضل.
فتح الباب ودخل،
وشه كان مشدود، صوته هادي بس فيه غضب متكتوم.
قال وهو واقف في نص الأوضة:
– فرح،أنا عايز أتكلم معاك كلمتين.
رفعت عينيها له وقالت بهدوء:
– تمام، اسبقني على الصالون،ونادي مرات عمي تيجي تقعد معانا.
وأنا خمس دقايق وجاية.
بصلها بنظرة طويلة ما فهمتش معناها،
وبعدين هزّ راسه وساب الأوضة من غير ولا كلمة.
قفل الباب وراه بهدوء،
وساب بعدها فرح واقفة مكانها…
تحاول تفهم هو جاي يقول إيه المرة دي.
------------------
فرح،أنا عايز أتكلم معاك كلمتين.
رفعت عينيها له وقالت بهدوء:
– تمام، اسبقني على الصالون،ونادي مرات عمي تيجي تقعد معانا.
وأنا خمس دقايق وجاية.
بصلها بنظرة طويلة ما فهمتش معناها،
وبعدين هزّ راسه وساب الأوضة من غير ولا كلمة.
قفل الباب وراه بهدوء،
وساب بعدها فرح واقفة مكانها…
تحاول تفهم هو جاي يقول إيه المرة دي.
وهي فضلت واقفة مكانها كام ثانية،
بتسمع صدى خطواته لحد ما اختفى.
حست إن قلبها اتقبض،
مش عارفة ليه الإحساس ده جواها بيقول إن الكلام اللي جاي مش بسيط.
قعدت فرح ساندِة ضهرها على الحيطة،
بتبص للنقطة اللي كان واقف فيها.
تنهدت وقالت في نفسها وهي ماسكة قلبها:
استر يا رب… يا ترى عايز إيه المرة دي؟
ولا هيجي يعايرني بكلمة تانية؟
هو معتز مش بيزهق من الكبرياء ده؟
بس خلاص… أنا مش ناوية أزعل ولا أضعف.
وياريت المرة دي تكون جاي يتكلم بالعقل مش بالغرور بتاعه.
وقفت قدام المراية تعدّل الطرحة،
نفَسها طالع داخل كأنها داخلة امتحان،
وبعدين خرجت على الصالون بهدوء..
دخلت الصالون،
كان معتز قاعد مستنيها،
إيده متشابكة، باين عليه القلق،
أول ما شافها وقف بسرعة كأنه مش عارف يبدأ منين.
قال بصوت واطي، بس واضح فيه اضطراب خفيف:
– فرح… أنا عايز أقولك كلمتين، بس اسمعيني للآخر.
بصّت له بنظرة متحفزة وقالت بهدوء:
– تفضل، أنا سامعاك.
ابتلع ريقه وقال وهو بيحاول يظبط نبرة صوته:
– بصراحة، أنا عارف إن كلامي اللي فات كان قاسي،
وكان مفروض ما أقولش اللي قلته،
ولا أحكم على حد من غير ما أفهمه.
أنا غلطت،
بس والله ما كنت أقصد أجرّحك…
أنا كنت متعصب، وشايف الدنيا من زاوية ضيقة.
–و عارف إنّي حكمت عليك من غير ما أفهمك.
أنا بس… كنت فاكر حاجات غلط.
الواحد ساعات بيغلط في حكمه، وبيتكلم قبل ما يفكر.
قعد قدامها وقال بنبرة أقرب للصدق المره دي:
– أنا كنت فاكر إنك مجرد بنت مدلعة كده،
جاية من بلد صغيرة، ما تعرفيش حاجة…
لكن الأيام اللي فاتت أثبتتلي إني كنت غلطان في كل حاجة.
اللي زيك ما يستحقش غير الاحترام،
وأنا فعلاً آسف.
فضل ساكت لحظة،
وبعدين رفع عينه فيها وقال بابتسامة خفيفة فيها شوية خجل:
– بصراحة، أنا مش عايز نفضل كده…
تعالي نبدأ صفحة جديدة،
ننسى اللي فات، ونعتبر نفسنا من النهارده أصحاب.
مش أكتر ولا أقل.
فضلت تبص له بهدوء،
مبتسمة ابتسامة صغيرة فيها برود متعمد،
وقالت وهي بترفع حاجبها:
– أصحاب؟
هي فضلت ساكتة،
بصّت له نظرة فيها حذر ودهشة،
مش عارفة تصدق ولا تعتبرها بداية لعبة جديدة منه وبعدين قالت:
مش غريبة الكلمة دي منك يا معتز،
إنت آخر حد كنت أتخيله يقولها.
قال بنبرة شبه دفاعية:
– يعني إيه؟ ما أنا مش وحش للدرجة دي.
قالت له بهدوء وهي بتقرب الكرسي شوية:
– لا، مش وحش… بس متعالي.
فاكر دايمًا إنك فوق الكل.
بس المرة دي… أنا هسامحك مش علشانك،
علشان نفسي،
علشان ما يبقاش في قلبي حاجة لحد.
هو سكت،
باصص لها بنظرة طويلة كأنها أول مرة يشوفها بجد،
مش "الجاهلة" اللي رسمها في خياله.
لأ… دي بنت تانية خالص.
قامت وقالت وهي بتعدل طرحها:
– خلاص يا دكتور معتز، صفحة جديدة زي ما بتقول…
بس خلينا نكتبها بالحبر الصح المرة دي.
وسابته وخرجت،
وسابته قاعد مكانه،
مش عارف يبتسم ولا يندم،
بس كل اللي في باله جملة واحدة:
هي فعلاً مش زي أي بنت… واللي ضيّعته زمان، شكله مش هيتعوض بسهولة.
--------------------
تاني يوم الصبح، الجو كان هادي على غير العادة.
فرح دخلت الكلية وهي ماسكة الورق في إيدها،
بس عقلها كان في حتة تانية خالص.
كل خطوة كانت بتحاول تبين فيها إنها مركّزة في شغلها،
بس الحقيقة إنها كانت بتعيد كلام معتز في دماغها كلمة بكلمة.
أنا آسف… نبدأ صفحة جديدة
الجملة دي كانت بتتكرر جواها كأنها لسه مسمعاها حالًا،
مش قادرة تحدد إذا كانت فعلاً مصدّقة اعتذاره،
ولا شايفاه مجرد محاولة لتلميع صورته قدام نفسه.
كانت سرحانة بين كلام معتز واعتذاره،
وبين وش ياسين اللي مش عارفة تخرجه من دماغها.
اللي الناس قالت عليه كلام خلّاها مش قادرة تستوعب.
"ده البوليس كان واخده، ولسه طالع من قضية!"
"تحريات وسرقة ونصب!"
الكلام ده كان بيجري في دماغها كأنه شريط شغال ومش عايز يوقف.
حطت إيدها على راسها وقالت في سرّها:
استر يا رب… معقول؟ ياسين يطلع كده؟
طب اللي شفته منه ماكانش يدل خالص على كده… كان بيكلم الراجل الكبير بأدب وبيحوش عنه العيال اللي كانوا هيضربوه!
هو ممكن يكون مظلوم؟ ولا الناس بتزوّد؟
دمعة نزلت منها من غير ما تحس،
مسحتها بسرعة وقالت بصوت واطي فيه غيظ على نفسها:
– بطلّي غباء يا فرح… بطلّي غباء.
ده حتى لو طلع مظلوم، هو إيه بالنسبالك؟ ولا حاجة.
ولا حتى ليكِ حق تفكّري فيه بالشكل ده.
كانت غرقانة في دوامة التفكير دي،
وقعدت على مكتبها،
وبصت في الورق اللي قدامها كأنها بتقراه،
بس الحروف كانت بتتشكل في عينيها من غير معنى.
شوية وسمعت صوت خفيف بيقولها بنبرة فيها هزار:
– يا دكتورة فرح!
مالك قاعدة كده؟ وشك شاحب ونايم على بعضه كأنك كنتي في خناقة امبارح.
رفعت راسها، لقت نور واقفة بابتسامة واسعة كالعادة،
صاحبتها اللي اتعرفت عليها قريب، بس راحت لقلبها بسرعة.
قالت لها فرح بابتسامة باهتة:
– لا مافيش، بس تعبانة شوية.
نور قعدت جنبها، مالت ناحيتها وقالت بخفة دمها المعتادة:
– يا شيخة بلاش الكلام ده،
أنا عارفة النظرة دي، دي نظرة "في حاجة بس مش عايزة أقول".
اتكلمي يا بت، أنا نور يعني مش غريبة.
ضحكت فرح غصب عنها وقالت:
– والله الموضوع مش كبير… بس يمكن متلخبط شوية.
نور ضربتها على دراعها بخفة:
– متلخبط؟ في شغل ولا في قلبك؟
أهو أنا بقولك من دلوقتي، لو في قلبك يبقى احكيلي من الأول، أنا متخصصة.
ضحكت فرح وقالت وهي تهز راسها:
– لا يا شيخة، لا حب ولا حاجة.
بس تعرفي، ساعات الواحد لما يسمع كلام جارح من حد،
يفضل الكلام ده عايش جواه حتى بعد ما الشخص يعتذر.
نور قربت منها أكتر وقالت بجدية:
– حد زعلك؟
سكتت فرح لحظة،
وبصت بعيد كأنها بتفتكر المشهد كله،
ثم قالت بنبرة هادية فيها وجع خفيف:
– معتز.
– معتز؟!
نور فتحت عينيها بدهشة:
– هو مش ابن عمك اللي هنا في الكلية؟
– أيوه،
قالت فرح بهدوء وهي بتعبث بأطراف الورق اللي قدامها:
– كان دايمًا بيكلّمني بطريقة مستفزة…
شايف نفسه فوق الكل، وأنا دايمًا كنت بتجاهل.
بس امبارح… اتكلم، واعتذر، وقال نبدأ صفحة جديدة.
نور رفعت حواجبها وقالت وهي متبسمة بمكر:
– الله، الراجل اعتذر! مش المفروض ده إنجاز؟
ولا إنتِ من النوع اللي لما الدنيا تلين، يعند أكتر؟
فرح ضحكت بخفة وقالت:
– مش عناد، بس… مش قادرة أثق بسهولة.
الكلمة لما بتتقال، بتسيب أثر.
هو يمكن كان صادق، بس الوقت بس هو اللي هيبيّن.
نور سندت خدها على إيدها وقالت وهي بتبصلها بتركيز:
– طيب، بس واضح إن كلامه مأثر فيكي أكتر مما كنتي متخيلة.
يعني لا بتكرهيه ولا بتحبيه… بس بتفكّري فيه.
ودي بداية الخطر يا دكتورة.
اهو جبنه في سيره القط جاي ينط. قالت كده لما
دخل معتز القاعة.
بملابسه الكلاسيك العادية ونظرته الهادية اللي فيها ثقة وغرور متعودة عليها.
بس النهارده في حاجة مختلفة…
ابتسامته وهي بيبصلها كان فيها دفء مش معتاد.
قال بنبرة هادية وهو بيقرب منها:
– صباح الخير يا فرح.
– صباح النور.
ردّت وهي بتحاول تثبّت ملامحها، كأنها مش متفاجئة.
– كنت جاي أسألك عن ملف الطلبة اللي قدموا متأخر.
قال كده وهو بياخد الورق،
لكن عينه كانت بتقول كلام تاني خالص.
–بعدما هد الورق قال:
شكراً، قالها وهو لسه واقف مكانه.
– في حاجة تانية؟
– آه، في حاجة صغيرة.
– خير؟
– ممكن… ننسى بجد كل اللي فات؟
قالها بصوت منخفض، كأنه مش عايز حد يسمعه غيرها.
هي بصت له لحظة،
شافت في عينيه مزيج من ندم وصدق،
بس قلبها كان مشغول بحاجة تانية تمامًا.
مش معتز، ولا حتى الكلام اللي بيقوله…
كانت شايفة في خيالها صورة ياسين،
إيده وهي بتحوش عن الراجل الكبير،
وصوته لما كان بيقول: “خلاص يا عم الحاج، سيبهم عليّ.”
رجعت للواقع بسرعة وقالت ببرود مقصود:
– خلينا نركز في الشغل دلوقتي يا معتز،
والقديم… الزمن كفيل بيه.
اتسعت ابتسامته شوية وقال:
– ماشي يا فرح، بس الزمن ساعات بيحتاج حد يساعده.
خرج من القاعة وهو لسه مبتسم،
وسابها غرقانة أكتر في حيرتها.
بين اعتذار معتز اللي بدأ يلمس قلبها،
وحكاية ياسين اللي مش قادرة تهضمها…
مين فيهم الصح؟
ومين فيهم بيلعب على وشين؟
قلبها كان بيقول ياسين مش ممكن يبقى مجرم،
لكن عقلها كان بيرد بسرعة:
كل الناس قالت كده، هتكوني إنتي الوحيدة اللي غلطانة؟. سكتت، وابتسمت ابتسامة حزينة وهي تهمس:
– يا رب بيّن لي الحق… قبل ما أندم.
-------------
وهي مروحة كانت راجعة في نفس الشارع كالعادة،
الجو هادي والناس قليلة،
بس وهي معديّة من عند بقالة في أول الحارة،
سمعت صوت ستّين بيتكلموا وهم واقفين عند الباب.
سمعت اللي صدمها عن ياسين عمرها ما كانت تتخيل ان هو كده خالص:
واحدة بتقول للتانية:
– والله يا أختي أنا اتفاجئت لما عرفت! وعمري ما كنت اتوقع منه كده، ده طلع........
-----------------
والله يا أختي أنا اتفاجئت لما عرفت! وعمري ما كنت اتوقع منه كده، ده طلع ظابط يا بنتي!
التانية شهقت وقالت:
– إيه؟ ظابط؟ ده مش كان مسجون؟
– لأ يا شيخة، ده كله كان تمويه، تحقيقات وحاجات من اللي بيعملوها دول… أصل القضية كانت كبيرة أوي!
فرح وقفت مكانها،
الكلمة ضربت ودنها كأنها طلقة.
ظابط؟!
ياسين؟!
الخطوات ثبتت على الأرض،
ونبض قلبها بدأ يعلى بشكل يخوف.
هي سمعت صح؟!
رجعت بخطوة، كأنها عايزة تتأكد من الكلام.
الست التانية كملت وهي بتوشوش:
– ده طلع بيشتغل في مباحث القاهرة،
وكل اللي حصل كان تمثيلية عشان يدخل وسط العصابة اللي كانوا بيحققوا فيها.
فرح بلعت ريقها بالعافية،
والكلمات علقت في دماغها…
“تمثيلية… ظابط…”
حسّت إن الدنيا لفت بيها.
يعني اللي كانت شايفاه بلطجي،
اللي الناس كلها كانت بتتكلم عليه إنه مجرم،
ده طلع ظابط؟!
اللي دافع عن الراجل في الشارع،
واللي كل يوم كانت بتشوف فيه ملامح الجدعنة والرجولة،
ده ما كانش صدفة؟
وقفت لحظة…
وبصت للسماء وهي تهمس لنفسها:
– سبحانك يا رب… الدنيا بتقلب في لحظة.
ما لحقتش تكمّل التفكير، ولقت صوته جاي من وراها.
إزيك يا دكتورة؟
لفت بسرعة، قلبها دق من غير سبب، وهو واقف قدامها بنفس الهدوء اللي دايمًا بيحيرها.
قال بابتسامة بسيطة:
عامله إيه؟ إن شاء الله بخير.
ردت بتوتر:
الحمد لله، بخير... كفارة يعني.
ضحك بخفة وقال:
السجن للجدعان يا دكتورة... وبعدين ده أنا اللي عايش فيه، ما تقلقيش عليّ.
نظرت له باستغراب ممزوج بدهشة وسألت بسرعة:
هو... هو أنت ظابط؟ بجد؟!
ضحك من غير ما يرد، رفع حاجبه وقال:
هو أنا شكلي بلطجي للدرجة دي؟
اتنرفزت وقالت بحدة وهي تمسك شنطتها:
أنا مش فاضية للحركات دي، عن إذنك.
واتجهت تمشي بخطوات سريعة.
هو وقف يراقبها بعينين فيها لمعة خفية وقال بصوت واطي بس مسموع:
يا بنت الناس… اللي يمشي وراك، والله ما يضيع طريق.
وقفت لحظة، بس ما بصّتش وراها،
هو ابتسم وهو بيكمل بصوت واطي لنفسه:
دي لو قلبي حجر… كانت هتكسّره بنظرة.
وبعدين نفخ بخفة كده وقال وهو بيبص ناحيتها:
يا ساتر… دي شكلها هتبقى وجع دماغ وجع حلو.
----------------------------
كانت ماشية بسرعة، وشايلة ملفاتها في إيدها كأنها داخلة امتحان مصيري،
وفجأة سمعت صوته جاي من وراها، النغمة اللي حفظتها غصب عنها:
استني يا دكتورة… بتجري ليه كده؟ حد قالك إن في طابور تسليم واجب؟
لفّت وهي متضايقة، قالت بحدة:
حضرتك مش ملاحظ إن أنا مش فاضية للرغي ده؟
ضحك وقال بهدوء مستفز كده وهو بيحط إيده في جيبه:
رغي؟! ده أنا كنت بسأل عن حال التعليم العالي… واضح إنه في خطر.
قالتها وهي بتتنهد:
يا ريت يا حضرة الظابط تسيبنا في حالنا.
قرب منها خطوة، وهو لسه مبتسم ابتسامة نصها هزار ونصها جد:
حضرة الظابط دي كتير أوي عليّ، قوليلها كده بلدي شوية… ياسين بيه مثلاً، أو باشا.
رفعت حاجبها وقالت بسخرية:
تمام يا ياسين، دلوقتي خليني أكمّل طريقي بقى.
ماشي، بس لو حد ضايقك في السكة ناديني… ده تخصصي الجديد.
قالتها بنفاد صبر:
مفيش حد ضايقني غيرك أنت!
ضحك وقال وهو بيبعد خطوة ويميل راسه كده بثقة:
يبقى أنا ناجح في الشغل… قدرت أستفز المجرم يعترف.
بصت له بنظرة قاتلة ومشيت بسرعة،
بس وهو واقف كان باصص وراها مبتسم، بيهز راسه كده بإعجاب.
أما هي، أول ما وصلت الكلية ودخلت المكتب وقفلت الباب،
فضلت ساكتة ثانيتين وبعدين الضحكة اللي كان كتماها طلعت منها غصب عنها.
حطت إيديها على وشها وقالت لنفسها:
غبي… بس… دمّه خفيف. ليه بضحك أصلاً؟!
وبعدين قالت وهي بتحاول تبان صارمة لنفسها:
أنا مش هضحك تاني على هزاره، المره الجاية هرد عليه رد يوقفه عند حدّه.
بس ضحكت تاني وهي بتفتكر نبرته وهو بيقول:
يبقى أنا ناجح في الشغل…
-----------------------
الوقت ابتدى يعدي بسرعة غريبة، الأيام بقت شبه بعض،
الشغل في الكلية ملوش آخر، وضغط المحاضرات والتحضيرات زاد مع اقتراب امتحانات نص السنة.
فرح كانت في دوامة بين التحضير للدروس، وورق الدكتوراه اللي بقى جزء من يومها،
كانت بتركز بعناد غريب، كأنها بتحاول تثبت حاجة مش بس لنفسها… لأ، للعالم كله.
أما معتز، فبقى وجوده ملحوظ أكتر.
بقى دايمًا حوالين فرح، بس مش بنفس الطريقة اللي قبل كده.
فيه حاجة مختلفة،
نظراته بقت غريبة،
كأنه كل ما يشوفها بيحس بحاجة مش قادر يسميها…
مزيج من غيظ، وفضول، وإعجاب بيحاول يكتمه بأي طريقة.
في يوم، شافها بتتكلم مع أحد الدكاترة عن بحثها الجديد،
وقف مستغرب، عينيه مركزة عليها،
ولما خلصت، قرب منها وقال بنبرة فيها تهكم خفيف، يخبي بيها ارتباكه:
– هو إنتِ بتعملي بحث؟ دكتوراه كمان؟
بصت له بثقة وقالت:
– أيوه، بحضر فيها من بدري.
ابتسم ابتسامة مصطنعة وقال بسرعة:
– آه، تمام يعني… حلو… مبروك يا دكتورة، والله فرحت لك.
بس في صوته ما كانش في فرحة،
كان فيه نغزة غريبة،
زي واحد بيحاول يقنع نفسه إنه مش متضايق،
بس الحقيقة إنه بيغلي من جواه.
هو ما كانش قادر يستوعب الفكرة.
إزاي هي اللي كان شايفها أقل
تبقى واقفة جنبه دلوقتي، بنفس المستوى؟
بل بالعكس، يمكن متقدمة عليه خطوة؟
وكل مرة يشوفها شغالة أو بيتكلموا عنها في الكلية بإعجاب،
يحس نار صغيرة بتتحرك جواه.
بس المضحك إنه في وسط دا كله…
كان بيقرب منها أكتر.
كل شوية يلاقي نفسه بيساعدها في حاجة،
يقولها سيبي دي عليا،
أنا هخلص الورق ده،
لو عايزة حاجة قولي لي.
كأنه بيحاول يعوض غيرته بمساعدة،
وبيخبي مشاعره بكلمة زمالة.
لكن كل مرة يتكلم معاها،
صوته يلين أكتر، ونظراته تطول أكتر.
وفرح كانت ملاحظة…
ملاحظة إنه بيتغير،
بس مش عارفة هو ليه بيتغير.
أوقات تحس إنه بيكرهها، وأوقات تحس إنه مش قادر يبعد.
وساعات لما ترفع عينيها وتلاقيه بصّص لها،
تحس بنظرة مش مفهومة…
نظرة كلها كلام متكتم.
لكنها كانت بتتصرف كأنها مش واخدة بالها،
ترسم ابتسامة بسيطة وتكمّل شغلها.
بس جواها كانت حاسة إن في حاجة مش مظبوطة،
كأن معتز بيحارب نفسه،
نص منه عايز يبعد عنها،
ونص تاني… عايز يقرب أكتر.
ومع مرور الوقت، الكلية كلها دخلت في ضغط نهاية السنة.
اللجان، التصحيح، الاجتماعات،
وفرح ومعتز الاتنين غرقانين في الشغل،
بس وسط الزحمة دي، كانت اللحظات الصغيرة بينهم بتتكرر…
نظرات، جمل عابرة، سكون طويل بين كلامهم.
وفي مرة، وهو بيكلمها عن التحضير للحفلة اللي في آخر السنة،
قالها وهو بيضحك نص ضحكة:
– أكيد هتطلعي تتكرّمي، يا دكتورة فرح… ما شاء الله، مجتهدة أوي.
ردت بابتسامة بسيطة وقالت:
– كلنا بنتعب يا دكتور، مش أنا لوحدي.
ضحك وقال بنبرة فيها حاجة مش واضحة:
– آه… بس إنتي تعبك بيبان.
وسكت بعدها، كأنه ندم إنه قالها،
لكن هي سمعتها كويس جدًا…
وساعتها بس، عرفت إن اللي بينه وبينها مش مجرد غيرة…
ده حاجة تانية خالص،
حاجة بيحاول يخبيها، وهي بتحاول تتجاهلها.
ومع قرب نهاية السنة، الكلية كلها كانت بتحضر للحفلة الكبيرة،
حفلة النجاح، والختام، والتكريم.
لكن جوّا كل واحد فيهم…
كانت فيه حفلة تانية شغالة
حفلة مشاعر، وأسئلة، ونظرات…
لسه محدش فيهم قادر يعترف بيها.
---------------
تاني يوم كانت الشمس بدأت تغيب، والكلية خلاص بتفضى من الطلبة،
وفرح لسه قاعدة في المعمل بتراجع آخر التقارير،
صوت الكيبورد خفيف، وهي غرقانة في تركيزها،
لحد ما سمعت صوته من وراها:
– انتي مش بتتعبي؟!
قالها معتز وهو داخل بخطوات هادية،
واقف عند الباب، سايب ضهره على الحيطة وابتسامة خفيفة على وشه.
من غير ما ترفع عينيها، قالت ببرود:
– بتعب، بس الشغل مش هيخلص لوحده.
قرب منها وقال وهو بيحاول يخفف الجو:
– طيب ارتاحي شوية، الدنيا مش هتطير.
بصت له بسرعة وقالت:
– لو كل مرة جيت قلتلي الكلمة دي، محدش فينا هيشتغل.
ضحك وقال:
– والله انتي بقيتي بتردي كأنك ظابط مش دكتورة.
وبعدين وقف جمبها وقال بنبرة فيها جدية خفيفة:
– على فكرة يا فرح، أنا ابن عمك…
يعني مش غريب ولا حد مالوش لازمة عشان تتكلمي معايا بالطريقة دي.
رفعت حاجبها وبصلته نظرة كلها هدوء وسخرية في نفس الوقت وقالت:
– ابن عمي في البيت، مش في الشغل يا دكتور معتز.
– هنا إحنا زملاء، وكل واحد له حدوده.
سكت لحظة، كأنه بيحاول يستوعب ردها،أو بيحاول يقرأ اللي في وشها،
بس اللي شافه زوده حيرة أكتر…
نظراتها كانت فيها حاجة مش مفهومة،
فيها غموض يخليه مش عارف هي بتكرهه؟
ولا بتتحداه؟
ولا في حاجة تانية مستخبية ورا عينيها الهادية دي.
وبعدين قال بابتسامة فيها غيظ خفيف:
– تمام… بس ما تنسيش إن حتى في الشغل، أنا برضه مش حد غريب.
ردت وهي بتجمع الورق:
– ممكن تكون قريب بالدم، بس القُرب مش باللقب… القُرب احترام.
هو اتنفس بعمق وقال بنبرة فيها مزيج من دهشة وابتسامة باهتة:
– دايمًا عندك رد جاهز.
قالت وهي بتعدي جنبه:
– مش رد، بس الحقيقة ساعات بتحتاج حد يفكرنا بيها.
وقبل ما تمشي، سمعها بتقول لنفسها بصوت واطي:
– استر يا رب، كل يوم لازم مشادة جديدة.
بص وراها وهي خارجة،
ولما شافها ماشية بخطوات واثقة كده،
ابتسم ابتسامة صغيرة وقال لنفسه:
– والله يا فرح، إنتي اللي مش هتعرفي تخليني أهدى.
وجِه اليوم المنتظر.
الكلية كلها متزينة، المسرح مليان أنوار،
الطلبة لابسين أشيك ما عندهم،
وفرح واقفة بين زملائها، شايلة ورق التكريم،
تحاول تبين هدوءها المعتاد، لكن جواها توتر غريب.
بدأت الحفلة.
الكلمات، التصفيق، الأغاني الخفيفة…
كل حاجة ماشية بسلاسة.
لحد ما جِه اسمها.
الدكتورة فرح… واحدة من أنشط الباحثين في الكلية.
صوت التصفيق دوّى في القاعة.
طلعت على المسرح بخطوات واثقة،
ابتسامتها خفيفة لكنها صافية،
استلمت الشهادة من عميد الكلية،
وقالت كلمتين شكر بسيطات.
كانت خلاص نازلة من على المسرح،
بس فجأة النور خفّ، والموسيقى وقفت.
الناس بدأت تبص حواليها مستغربة.
وبعد ثواني، النور ركّز على شخص طالع على المسرح…
معتز.
واقف قدام الميكروفون، لابس بدلة شيك،
نظراته موجهة ناحيتها بس.
القاعة كلها سكتت.
كل العيون راحت عليهم.
مشى خطوتين لقدام،
مسك المايك وقال بصوت ثابت،
بس باين فيه رعشة خفيفة من التوتر:
– يمكن النهارده يوم تكريمك كدكتورة،
بس أنا عايز أخليه يوم مميز في حياتي أنا كمان.
الناس بدأت تتهامس،
وفرح واقفة مصدومة، مش فاهمة هو بيعمل إيه.
كمل كلامه، وصوته بقى أهدى بس مليان إحساس:
– أنا كنت غلطان لما حكمت عليك قبل ما أعرفك،
وغلطان أكتر لما فضلت شايفك بعين غير الحقيقة.
بس النهارده… قدام الكل…
عايز أقولك إنك علمتيني يعني إيه الاحترام،
وإن الجهل الحقيقي مش في التعليم…
في إن الواحد ما يعرفش قيمة اللي قدامه.
وببطء…
طلع من جيبه علبة صغيرة،
فتحها، وظهر فيها خاتم بسيط جدًا بس أنيق،
وبعدين نزل على ركبة واحدة قدامها وقال:
– دكتورة فرح…
تقبلي تتجوزيني؟
------------------------
_كتورة فرح…
تقبلي تتجوزيني؟
القاعة كلها كانت ساكتة،
ولا صوت غير دق قلب فرح اللي بقى عالي أوي في ودانها.
إيد معتز ممدودة، والخاتم فيها بيبرق تحت نور المسرح.
الناس بدأت تسقف وتضحك،
وفيه اللي بيهتف قوليله أيوه يا دكتورة!
وفيه اللي بيصور بالموبايل.
هي خدت نفس طويل،
ولفت عينيها على الناس حواليها،
كلهم منتظرين كلمة منها.
رجعت تبصله…
وشه فيه مزيج غريب بين الثقة والرجاء،
زي اللي بيحاول يخبي خوفه بابتسامة.
خطت خطوة لقدام،
مسكت المايك بإيدها،
وصوتها كان هادي بس فيه ارتباك باين جدًا:
– يا دكتور معتز…
الناس سكتت أكتر،
فيه اللي قرب الكرسي لقدام عشان يسمع.
كملت كلامها وهي بتحاول تثبت نفسها:
– أنا… مش عارفة أقولك إيه بصراحة.
يعني… الموقف ده محرج جدًا،
خصوصًا قدام كل الناس دي.
وبعدين كملت بقوة وهي بتبصله بثبات:
– هو كمان أنا مش فاهمة بصراحة…
إيه اللي يخليك تطلع على المسرح وتطلب حاجة زي دي قدام الناس كلها؟
من يجي شهرين تلاتة كنت بتقول إني جاهلة،
مش كده؟
كنت بتضحك على إني بنت بلد بسيطة،
وإن التعليم مش ليا، صح؟
وشه اتبدل، والدنيا سكتت تمامًا.
هي كملت، بصوت واضح وواثق أكتر:
– بس الظاهر إنك لما عرفت إني دكتورة، رأيك اتغير.
يعني التعليم بقى هو المقياس عندك،
مش الأخلاق… مش الأصل…
مش الإنسانية.
رفعت راسها، وقالت وهي عينيها فيه:
– بس عارف؟
الجهل اللي بتتكلم عنه ده مش في الكتب يا دكتور معتز،
الجهل الحقيقي إنك تفتكر إن مكانة الإنسان تتقاس بالشهادة مش بالعقل،
ولا بالقلب،
ولا بالطريقة اللي بيعامل بيها الناس.
الناس كلها كانت في صدمة.
فيه اللي فتح بقه،
وفيه اللي بص لمعتز، مش مصدق اللي بيحصل.
هي كملت وهي بتدي المايك للي جنبها:
– وأنا آسفة…
بس مش ممكن أوافق على حد شاف فيّ الجهل قبل ما يشوف إنسانيتي.
نزلت من المسرح بخطوات ثابتة،
ولا بصت وراها ولا لحظة.
والتصفيق اللي كان لمعتز في الأول…
اتحول ليها.
كل الناس سقفوا، مش إعجابًا بالمشهد…
لكن احترامًا للبنت اللي وقفت وقالت لأ بصوت البنت اللي اتظلمت زمان.
أما معتز؟
فضل واقف، الخاتم في إيده،
وشه اتجمد،
وهو سامع الهتاف بيملى القاعة:
– برافو يا دكتورة فرح!
-------------------
خرجت فرح من الحفلة، قلبها بيخبط في صدرها، والناس لسه بتسقف وبتضحك وبتصوّر.
بس هي كانت حاسّة إنها خرجت من حلم مش بتاعها.
رفعت راسها للسما وقالت بهدوء وهي بتحاول تسيطر على دموعها:
الحمد لله يا رب… الحمد لله إني ما وقعتش في الغلط… الحمد لله إني ما وافقتش.
مشيت في الشارع اللي كله أنوار، بس جواها ظلام ملوش آخر.
كانت بتحمد ربنا من قلبها إنها وقفت وقالت لأ، حتى لو اتوجعت شواية.
رجعت البيت، خدت نفسها بالعافية، ودخلت أوضتها، قعدت على السرير افتكرت…
الليلة دي اللي كانت فيها قاعدة في أوضتها من كام يوم،
ولسه بتحاول تفهم موضوع ياسين:
فلاش باك»»»»»».
كانت قاعدة بتفكر في ياسين…
و بتقول لازم أبعد، لازم أبطل أفكر فيه، مش معقول أفضل متعلقة بحد مستحيل.
كنت بحاول أهرب من تفكيري فيه… كنت عايزة أعيش بهدوء.
قامت تشرب ميّه، والدنيا ساكتة، مفيش غير صوت عقارب الساعة.
فجأة، وهي معدّية من قدام الشباك، سمعت صوت بيقول اسمها:
فرح… فرح… كل اللي في الكلية فرح!
وقفت، قلبها دق بسرعة.
الصوت طالع من أوضة معتز، كان بيتكلم في التليفون،
فخطت بخطوات بطيئة ناحية الباب،
وقفت قريب من الشباك المفتوح شويّة وسمعته بوضوح.
صوته كان مليان غلّ مكتوم وهو بيقول:
يا عم أنا زهقت من فرح…
بقيت سامع اسمها في كل حتة، كل الناس بتتكلم عنها،
فرح قالت، فرح عملت، فرح خلّت…
كلهم بيشكروا فيها!
بقت نمبر وان بعد ما أنا كنت نمبر وان،
اتخنقت، مش عارف أعمل إيه!
سكت لحظة، وكأن فكرة خبيثة خطرت على باله،
وبعدين قال بصوت واطي بس مليان مكر:
بس لقيتها…
لقيت الحل يا صاحبي.
اتنفس ببطء وقال بعدها:
أنا قررت أتجوزها.
أيوه، أتجوزها وآخد الدكتوراه اللي بتحضر فيها دي وأقدمها باسمي…
والله فكرة جهنمية!
وآهو بالمرّة أتقدملها يوم الحفلة،
قدام الناس كلها، قدام الدكاترة والطلبة،
وهي أول مرّة تشوف الجو ده،
أكيد هتوافق!
دي مش بعيد تبوس إيدي ووشي وظهر كمان!
ضحك ضحكة سامة وقال:
فلاحة أول مرّة تشوف الحاجات دي…
وأنا كده أكون ضربت عصفورين بحجر واحد،
أقعدها في البيت، وأخد الدكتوراه، وأستريح من زنها في الكلية والمقارنة بيها.
والله عليك يا معتز… وعلى تفكيرك!
الدم جمد في عروقها،
حست بكهربا في جسمها كله،
رجعت خطوة لورا وهي ماسكة قلبها بإيدها.
وشها كان شاحب، بس عينيها ولعت غضب.
مش مصدّقة اللي سمعته،
الإنسان اللي كانت بتحاول تتعامل معاه بأدب واحترام،
بيخطّط يدمرها ويمسح تعبها بكلمة!
وقفت قدام المراية وقالت بصوت واطي مبحوح:
انت غلطت في مين يا معتز؟
غلطت في البنت اللي عمرك ما كنت تستاهل حتى تبص لها.
عودة من الفلاش باك»»»»»»».
قامت فرح من مكانها وكانت حاسّة إن نفسها اتقطع.
دموعها نزلت من غير ما تحس، ومسحتها بسرعة وهي بتهمس:
كفاية بقى، كفاية وجع.
بصّت حوالين الأوضة، كل حاجة فيها كانت بتفكرها بالإهانة،
بكلمة، بنظرة، بضحكة كدابة.
قامت تفتح الدولاب، بدأت تلم هدومها في شنطة صغيرة،
كل قطعة كانت بتحطها كأنها بتحط جزء من عمرها اتظلم.
وهي بترتب حاجتها، افتكرت تاني يوم في الكلية…
كانت رايحة المحاضرة ووشها باين عليه التعب،
خطواتها بطيئة، عقلها مش معاها،
وهي قاعدة، جت نور، صاحبتها اللي كانت تعرفها قريب،
قعدت جنبها وقالت بابتسامة دافيه:
هو في إيه يا فرح؟ شكلك مهمومه كده ليه؟
فرح حاولت تبتسم وقالت:
مفيش يا نور… شويه ضغط شغل.
نور ضحكت وقالت:
سيبي الكدب للممثلين يا شيخة، أنا صاحبتك، احكي لي.
سكتت فرح ثواني، وبعدين قالت بصوت واطي:
أنا… أنا مخنوقة يا نور،
حاسه إني مش قادرة أتنفس في بيت عمي،
كل ما أشوف معتز بحس بضيق،
مش مرتاحة… نفسي أمشي، أسيب البيت ده كله.
نور بصت لها بتعاطف وقالت:
طب ما تمشي فعلاً؟
فرح هزت راسها وقالت:
هاروح فين يا نور؟ أنا بنت،
ما ينفعش أقعد لوحدي في شقة… والناس مش هترحمني.
ابتسمت نور وقالت وهي بتحط إيدها على كتفها:
تعالي عندي يا بنتي،
أنا وخالتي قاعدين لوحدنا،
وما تقلقيش، عارفه إنك مش بتحبي تبقي تقيلة على حد،
اعتبريها أوضتك، وادفعي في الأكل والشرب زي ما تحبي.
إحنا مش أغراب عن بعض.
بصت لها فرح بعينها المليانة دموع وقالت:
إنتِ عارفه يا نور؟
ربنا فعلاً بيعوضنا بناس زيك…
ناس بتظهر في الوقت الصح.
نور ابتسمت وقالت بخفة دمها المعتادة:
خلاص، اتفقنا، أنا هستناكي بكره تجيبي شنطتك،
والله البيت هيزيد نور لما تيجي.
فرح بهدوء:
لا خليها بعد الحفلة.
افتكرت فرح كلامها، وهي بتقفل الشنطة دلوقتي،
ابتسمت ابتسامة خفيفة وقالت في نفسها:
الحمد لله يا رب إنك بعت لي نور،
يمكن تكون هي البداية الصح بعد كل الغلط اللي فات.
قامت، خدت نفسها، بصت لآخر مرة على الأوضة اللي شافت فيها كل وجعها،
وقالت بهدوء وهي خارجة:
كفاية… خلاص، أنا مش هرجع هنا تاني.
-------------------------
وهي بتهمّ علشان تخرج من الأوضة،
اتفتحت الباب فجأة، ومعتز داخل بعصبيّة باينة في كل ملامحه.
ما لحقش حتى يتنفس، مسكها من دراعها بعنف وقال بصوت عالي:
– إنتِ مجنونة؟! إيه اللي عملتيه ده يا فرح؟!
أحرجتيني قدام الناس كلها! قدام زمايلي! قدام الدكاترة!
مين إنتِ عشان ترفضيني بالطريقة دي؟!
شدّت دراعها منه بعنف،
بس هو رجع مسكها تاني بقوة، صوته بيعلو أكتر:
– أنا معتز يا فرح!
اللي الكل بيحترمه، اللي الكل بيحسب له ألف حساب،
وأنا أتقدملك و أقدملك الخاتم قدام الناس تقومى ترفضينى كده؟
قبل ما ترد، كانت أمه طالعة على الصوت من الصالة،
وقفت قدامهم وقالت بقلق:
– في إيه يا أولاد؟ صوتكم مالي البيت! استهدوا بالله!
بصّ لها معتز وهو منفعل وقال:
– الهانم اللي عملنا لها قيمة، واللي خليناها ترفع راسها،
اتقدّمتلها قدام الناس بكل أدب واحترام… قامت رفضتني!
رفضتني يا أمي كأني ولا حاجة!
فرح شدّت دراعها منه مرة تانية، المرة دي بنظرة كلها نار،
وقالت بهدوء قاتل:
– سيبني يا معتز.
هو ضحك بسخرية وقال:
– أسيبك؟ بعد اللي عملتيه؟ بعد الفضيحة دي؟
إنتِ نسيتِ نفسك على فكرة… أنا اللي عملت منك حاجة!
وفجأة، من غير ما حد يلحق يفكر،
إيدها طلعت على وشه بالقلم الأول.
صوته دوّى في الأوضة.
قالت وهي بتتنفس بسرعة من الغضب:
ده عشان انا طول عمري ليا قيمة، مش زيك
– يا اللي كنت ناوي تسرق بحث الدكتوراه وتحطه باسمك!
ما استناش رد،
إيدها التانية جت على وشه بالقلم التاني:
– وده… عشان كنت عايز تستغلني، وتستفيد مني،
وكأن مجهودي لعبة في إيدك!
وقف مذهول، مش قادر يتكلم،
بس قبل ما يفيق، جاله القلم التالت، أقوى من اللي قبله:
– وده… عشان صلة القرابة اللي أنا بستعر منها دلوقتي،
عشان الدم اللي بينا اللي بقيت أكره إنو في جسمي..
صوت نفسها كان عالي، والدموع في عينيها،
بس مش دموع ضعف… دموع قهر، وكرامة.
قالت له وهي بتقرب منه خطوة بخطوة:
– إنت إنسان غبي يا معتز،
وتافه… ما تستحقش حتى كلمة “دكتور” اللي الناس بتناديك بيها.
فاكر نفسك كبير؟ لا والله،
ده إنت صغير… صغير أوي قدام كل حاجة حقيقية في الدنيا.
لفّت وشها ناحية الباب،
وهي بتتكلم بنبرة مليانة وجع وكبرياء:
– شكلك بس اللي متعلم، لكن جواك فاضي.
تعلم تحترم غيرك قبل ما تفكر تبقى راجل.
وبكل هدوء، قامت تفت في وشه…
وقفت عند الباب،
مرات عمها كانت لسه واقفة مذهولة بتسأل بخوف:
– في إيه يا فرح؟ حصل إيه لكل ده؟
فرح بصّت لها بسرعة،
وقبل ما تقفل الباب قالت بجملة قصيرة بس مولعة نار:
– اسألي الحيلة.
وسابتهم وخرجت،
صوت كعب جزمتها على الأرض كان بيكسر سكون البيت،
كأنه بيعلن النهاية…
نهاية وجع، ونهاية صبر.
------------------------
كانت شنطتها في إيدها، تقيلة مش من الوزن… من اللي جواها.
بس المرة دي، ما كانش فيها خوف، كانت فيها نهاية.
نهاية بيت ما بقتش ترتاح فيه،
ونهاية وجع كانت عايشة فيه كل يوم.
وقفت قدام باب نور،
خبطت بهدوء كأنها بتخبط على باب حياة جديدة.
ثواني وسمعت صوت خطوات سريعة…
ونور فتحت الباب.
بصت لها ثانية، وبعدين عينيها دمعت وهي بتضحك:
– عشان كده كنتِ عايزة تسيبي البيت يا بنت الـ…!
قبل حتى ما تكمل الجملة، كانت حضناها جامد جدًا،
حضن اللي فاهم من غير ولا كلمة.
فرح اتنهدت وهي بترد الحضن:
– كنت عايزة أمشي من زمان يا نور،
بس كنت مستنية اللحظة اللي أتأكد فيها إن ماليش رجعة.
وابتسمت بخجل وقالت وهي بتزقها بهدوء:
– بس أنا محروجه من خالتك جدًا يا نور.
لسه الكلمة خارجة من بُقها،
طلعت خالتها من جوه وهي تمسح إيديها في المريلة وتقول بضحكة طيبة:
– محروجه من إيه يا حبيبتي؟ ده أنا زي أمك يا بنتي!
تعالي في حضني، ده نور ما بتتكلمش غير عنك.
كل يوم: فرح قالت، فرح عملت، فرح ضحكت.
خلتني أحبك قبل ما أشوفك أصلًا.
فرح ضحكت بخجل وقالت:
– ربنا يخليكي يا خالتي، ده كرم منك والله.
خالتها بمرح وهي تشاور ناحية السفرة:
– يلا بينا عشان نتغدى قبل الأكل ما يبرد.
فرح بسرعة قالت:
– لا والله مش قادرة خالص، تعبانه شوية.
– لا لا لا، انتي مكسوفة مننا بقى!
خالتها قالتها وهي بتحاول تمسك بإيدها تجرها ناحيتهم.
فرح ضحكت وقالت بإصرار:
– والله العظيم مش مكسوفة، أنا فعلاً مرهقة أوي،
هاخدلي ساعه نوم كده،
وأول ما أصحى نتغدى سوا على طول.
خالتها ربتت على كتفها بحنية وقالت:
– ماشي يا بنتي، ريّحي، والبيت بيتك.
فرح ابتسمت وهي داخلة الأوضة،
ولأول مرة من فترة طويلة،
حست إن في مكان ممكن تنام فيه وهي مطمنة.
وقررت تنام ساعة بس، علشان تخبى الهم تحت المخدة شوية.
وفجأة صحت على صوت رجولة وهدوء صوت مش غريب خالص، صوت كانت سمعته قبل كده مليون مرة.
هي ما طلعتش من الأوضة، فضلت تسمع من ورا الباب كأنها خايفة تبان، قلبها يدق بسرعة مش من الوجع دلوقتى بس لا و من الفضول كمان.
بعد شوية ما تمالك نفسها، قامت لابسة طرحتها بسرعة، فتحت الباب بصوت خفيف، وخرجت على الصالة. قدام باب الشقة.
نَفَسها اتقطع نص ثانية من المفاجأة، وبعدين ثارت في قلبها حاجة عصبية، جمعت دماغها وقالت بصوت مش واطي:
– هو إنت إيه اللي جابك هنا؟ هو أنا مش هخلص منك.
---------------
– هو إنت؟! إيه اللي جابك هنا؟! أنا مش هخلص منك ولا إيه؟
بصّ لها ياسين بدهشة واستغراب حقيقي الأول، وقال وهو بيقوم:
– المفروض أنا اللي أسأل السؤال ده… هو إيه اللي جابك إنت؟
قرب منها خطوتين وهو رافع حاجبه، وقال بنظرة فيها لمعة وضحكة صغيرة في آخرها:
– وبعدين أنا قاعد هنا مع أمي… بيتنا يا دكتورة.
– وأنا اللي كنت فاكر نفسي بهرب منك!
اتجمدت مكانها، وبان الإحراج على وشها:
– أنا… أنا ماكنتش أعرف إن ده بيتك.
اتكعبل صوتها وهي بتقولها، وبصت ناحية الباب وقالت بسرعة:
– خلاص أنا هحضّر حاجتي و…
قطع كلامها وهو بيضحك نص ضحكة، فيها شقاوة واضحة:
– تروحي فين يا بنت الناس؟ هو إنتِ اتجننتي؟
قبل ما تكمّل كلامها، أم ياسين قالت وهي بتبتسم:
– فرح يا حبيبتي تعالي! دي بيتك يا بنتي، هو في إيه؟
وبصّت لابنها وقالت له بنظرة تحذير:
– ما تفزّعهاش كده يا ياسين.
ضحك هو وقال وهو بيرجع يقعد تاني باسترخاء واضح:
– أنا؟ ده أنا كنت بهوّن عليها بس.
وفجأة طلع صوت من جوّه المطبخ:
– فرح! يا حبيبتي تعالي، انتي وصلتِ؟
لفت فرح على الصوت بسرعة وقالت بتوتر:
– أيوه يا نور، أنا آسفة أنا… أنا ماكنتش أعرف إن ياسين هنا.
أمه بصت له وقالت وهي بتشاور على فرح:
– هي دي بقى الملفوفة اللي كنت بتقول عليها؟
بصّ لها ياسين بنظرة خبث خفيف، وقال وهو بيرشف العصير بهدوء:
– أيوة، … دي بقا جامدة وملفوفة أكتر.
فرح اتجمدت مكانها، قلبها دق بسرعة، وقالت بحدة وهي بتبصله:
– إنت قليل الأدب قوي.
نور وهي بتضحك، وقالت وهي تبص على ياسين بنظرة لوم ظريفة:
– بس يا ياسين،انت مخلّي البنت متوترة؟!
ضحك بخفة، وقال وهو مش شايف أي مشكلة:
– ما قلتش حاجة غلط يا دكتورة، ده توصيف علمي بس.
اتسعت عيني فرح، وبصت له بحدة وقالت بسرعة وهي متضايقة:
– إيه الأسلوب ده؟!
وبصوت متوتر قالت:
– أنا داخلة أوضتي، تصبحوا على خير.
بس قبل ما تدخل الأوضة، سمعته بيقول بنبرة ضاحكة خفيفة:
– لا حول الله، دي لو اتكلمت كمان هتولع في الشقة كلها.
ودخلت أوضتها بسرعة، قفلت الباب وراها وهي بتنهج،
صوت ضحكته لسه بيلف في ودانها،
ونظرة أمه اللي كانت نصها استغراب ونصها إعجاب بيها،
خلّوها تقعد على السرير وتدفن وشها في كفوفها وهي تقول بصوت واطي:
– هو إيه اللزقة دي اللي ربنا رزقني بيها؟
وكمان جوّاها نار تانية خالص… نار غيظ، وإحراج، و… حاجة غريبة مش عارفة تسميها.
هو ليه دايمًا كلامه يوجع ويضحكها في نفس الوقت؟
-----------------------------
عدت الأيام بعد ما فرح نقلت بيت خالت نور، والجو هناك كان أهدى بكتير من بيت عمها. كانت حاسة براحة غريبة، يمكن عشان أول مرة تبقى في مكان ما فيهش توتر ولا نظرات ضيق، يمكن كمان عشان وجود نور كان بيهون عليها كل حاجة.
وياسين؟ هو كمان كان واخد إجازة،وإجازة نص السنة من الكلية بتاعت فرح، فبقى موجود أغلب الوقت في البيت، وده خلّى الاحتكاك بينهم يزيد يوم عن يوم.
في الأول كانت بتحاول تتجنبه، يعني لو شافته في الصالة تدخل المطبخ، ولو سمعته بيتكلم تروح أوضتها. بس الغريب إنه ما بقاش زي زمان. لا بيستفزها، ولا بيرخم عليها. بالعكس، بقى بيحاول يتكلم معاها بهدوء، يضحك، يساعدها من غير ما تطلب.
مرّة مثلاً كانت بتعلّق ستارة، وهو عدى وشافها بتتعب، فقال لها بابتسامة هادية:
– سيبي دي عليا، مش هتتعلّق كده علشان انتي قصيرة، وهتفضلي قصيرة طول عمرك.
ردت بحذر:
– لأ خلاص، قربت أخلص.
قال لها:
– أهو ده اللي بيخلي الستات تتعب… حب العند.
وبكل بساطة رفع الستارة وثبّتها، وهي واقفة تبصله من غير ما تنطق.
نظراتها كانت فيها حاجة غريبة، مزيج بين الامتنان والتفكير… كأنها بتحاول تفهمه.
ومع الوقت، المواقف الصغيرة دي بقت كتير.
يفطروا مع بعض بالصدفة، يتكلموا في مواضيع بسيطة زي الأخبار أو الطبخ أو حتى الكلية، وكل مرة الحوار يبقى أطول من اللي قبله.
هي بقت تلاحظ فيه حاجات ما كانتش واخدة بالها منها قبل كده طريقته لما بيتكلم وهو مركز، ضحكته اللي بتظهر غصب عنه، اهتمامه بأمه وبنت خالته نور، حتى نظرته ليها لما تتكلم بتركيز كانت بتحسها بتسحبها جواه.
هو كمان، من ناحيته، بقى بيشوفها بعين تانية.
مش البنت الهادية اللي كانت ساكتة دايمًا، لأ، دي بقت أقوى، أنضج، وفيها لمعة كده تخليه عايز يسمعها وهي بتحكي.
أوقات كان بيقعد في الصالة يقرأ أو يكتب، وهي تبقى في البلكونة، وبعدين تضحك فجأة على حاجة بتقراها، فيبص لها كأنه متفاجئ من بساطتها.
وفي مرة قالت له:
– هو أنت بتبص لي كده ليه؟
قال وهو مبتسم نص ابتسامة فيها خبث خفيف:
– بتأمل في الطبيعة.
ردت بجدية:
– يبقى ابص في المراية أحسن، عشان الطبيعة دي بتتنرفز بسرعة.
ضحك وقال:
– بالعكس… الطبيعة دي بتأثر في الواحد بطريقة مش طبيعية.
هي وقتها سكتت، بس قلبها اتخضّ.
الكلام عادي، بس طريقته فيه حاجة مختلفة، حاجة مش زي أي هزار تافه.
ويوم بعد يوم، بقيت العلاقة بينهم أغرب من إنها صداقة وأهدى من إنها حب معلن.
فيه راحة… بس فيها قلق.
وفيه اهتمام… بس من غير تصريح.
كأن كل واحد فيهم بيختبر التاني بصبر، من بعيد، وبيخاف يقرّب زيادة فيخسر الهدوء اللي بينه وبين نفسه.
لكن الغريب إن حتى لما كانت بتحاول تلهي نفسها، تفكر في الدكتوراه بتاعتها أو في حياتها، كان بيطلع في دماغها من غير استئذان… ضحكته، كلمته، طريقته في نطق اسمها، كل حاجة فيه بقت بتسيب أثر.
وبالرغم من إنها كانت بتقول لنفسها ده مجرد إعجاب عادي، كانت حاسة إن الموضوع أكبر من كده.
وهو كمان، ما بقاش بيستنى الصدفة عشان يشوفها… بقى بيخلقها.
زي مثلاً لما يطلب من أمه حاجة وهو عارف إن فرح اللي هترد، أو لما يتوه حاجه قصداً عشان يسألها عن مكان حاجة في المطبخ.
الاتنين بقوا عالقين في دايرة مش مفهومة… بين الاعتياد والاهتمام، بين الحذر والرغبة.
لكن اللي اتأكدوا منه، من غير ما يقولوا، إن وجودهم في نفس المكان ما بقاش عادي زي الأول، وإن كل لحظة بتعدي بينهم، بتسيب علامة صغيرة… علامة بتقرّبهم من اللي جاي.
-----------------------
من يوم ما فرح سابت بيت عمها… والدنيا اتقلبت عند معتز.
هو ما كانش مستوعب إنها فعلاً مشيت، ولا إنها قدرت تعمل كده من غير ما تبص وراها.
في الأول كان بيقول لنفسه "هترجع"، بس الأيام عدّت… وعدّت وهي ما رجعتش، لا كلمته، ولا حتى سألَت عليه، كأنها مسحت وجوده من حياتها تمامًا.
وهو؟
ما قدرش يعمل كده.
كل يوم كان بيزيد جواه الغِلّ، مش عشان حب… لأ، عشان كرامته، وغروره اللي اتكسر قدام الناس.
بقى بيقعد بالساعات يفكر إزاي ينتقم منها، إزاي يخليها تندم إنها رفضته.
الناس في الكلية بقوا بيتكلموا عن اللي حصل في الحفلة، عن رفضها قدام الكل،
كل مرة يسمع الاسم فرح، بيغلي دمه.
وفي وسط الغليان ده، ابتدى يدوّر.
يسأل عنها من غير ما يبان إنه بيسأل.
عارف إنها سابت بيت عمّه، بس محدش عارف راحت فين، ولا ساكنة مع مين.
وفي دماغه حاجة واحدة بس: لازم أعرف هي فين… ولازم أدفعها تمن اللي عملته.
في المقابل، فرح كانت بتحاول تعيش بسلام، تبعد عن أي دوشة.
ما كانتش تعرف إن معتز لسه بيطاردها من بعيد.
كانت بتحس أوقات إن في حد بيراقبها، خصوصًا وهي رايحة المكتبة أو راجعة من السوق، بس تقول لنفسها مجرد وهم.
لحد ما في يوم، نور دخلت عليها وهي قاعدة في البلكونة وبتذاكر، وقالت:
– هو إيه يا بنتي اللي خلاك سرحانة كده؟
فرح رفعت راسها وقالت بابتسامة باهتة:
– يمكن تعبت من التفكير.
– تفكير في إيه؟
– في اللي فات.
سكتت نور شوية وقالت:
– يا فرح، اللي فات مات، وصدقيني اللي جاي أحسن، طول ما فيكي الخير ده كله ربنا مش هيسيبيك.
ضحكت فرح بخفة وقالت:
– يا رب.
في نفس الوقت، معتز كان فعلاً بيراقبها، وهو بيبص من بعيد وبيقول لنفسه:
– فاكرة إنك هتهربي مني؟ لأ يا فرح، اللعبة لسه ما بدأتش
ياسين لاحظ.
شاف القلق في وشها، وشاف التوتر اللي ما كانتش قادرة تخفيه.
وفي مرة، قال لها وهو بيحاول يخلي صوته عادي:
– في إيه يا دكتورة؟ شكلك مش مرتاحة.
قالت وهي بتحاول تبتسم:
– لا، مفيش، تعب شوية بس.
رد بنظرة فيها جدية غريبة:
– لا، في حاجة. عيني ما بتغلطش.
سكتت، ما قدرتش تقول له.
كانت خايفة… مش عايزة تدخل حد في دايرة مشاكلها، خصوصًا ياسين.
لكن اللي ما كانتش تعرفه إن ياسين لاحظ العربية كذا مرة، ولاحظ إنها بتتوتر لما تشوفه.
وبقى متأكد إن في حد متابعها، فبدأ يراقب هو كمان… بس بطريقته.
الأيام عدّت، وكل حاجة شكلها هادي، لكن تحت السطح، في حاجات كتير بتغلي:
فرح بتحاول تبين إنها قوية ومش خايفة.
ياسين شايف وساكت، مستني اللحظة اللي يفهم فيها كل حاجة.
ومعتز… كل يوم بيقرب خطوة من اللي ناوي يعمله.
الهدوء اللي عايشة فيه فرح… كان مجرد هدوء ما قبل العاصفة.
-----------------------
رجعت فرح الكلية بعد الإجازة، كانت بتحاول تركّز في شغلها وتنسى كل اللي حصل، تحس إنها بدأت صفحة جديدة خلاص.
بس اللي ما كانتش تعرفه… إن معتز لسه متربّص.
اليوم ده كان الجو مغيّم، والكلية شبه فاضية، نور كانت تعبانة وقاعدة في البيت، ففرح قالت خلاص تروح لوحدها، عندها شوية أوراق تسلّمها وتمشي.
خلصت محاضرتها، وشالت شنطتها ونزلت على السلالم وهي سرحانة، بتحاول تلحق الأتوبيس قبل ما يزحم.
ما خدتش بالها إن في عربية ماشية وراها على بُعد، ولا إن فيه حد بينزل من العربية كل شوية ويمشي وراها بخطوات بطيئة.
وصلت لمدخل العمارة، دخلت من بير السلم، تلاقي فجأة صوت حد بيقول:
– هوووه يا دكتورة!
اتخذت، ولفّت بسرعة، تلاقي ياسين واقف وراها، لابس كاجوال خفيف وضاحك ضحكته الجدعة اللي دايمًا بتدوّخها.
قال لها وهو بيضحك:
– إيه يا سِت الكل، وشك عامل كده ليه؟ فاكرة حد هيخطفك؟
قالت بتوتر:
– لا… خوّفتني بس.
قال:
– طب كويس، عرفت إني لسه بعرف أخوّف.
ضحكت غصب عنها، وقالت:
– إنت مش بتزهق من الهزار؟
– أهو ده شغلي الشاغل، أضحك الناس اللي مكشرين زيك.
وقبل ما تكمل، رفع حاجبه وقال بخفة دم:
– لا بُصّي، الضحكة دي مبتتكررش، دي لازم تتسجّل رسمي!
ضحكت أكتر وقالت له:
– بطل هزار يا ياسين، أنا داخلة.
– استني يا دكتورة، عندي حاجة ليكي.
مدّ إيده وقدّم لها حاجة صغيرة ملفوفة بورق أسود.
هي اتفاجئت وقالت له باستغراب:
– ده إيه؟
قال وهو بيغلس عليها:
– هدية بسيطة، بس أوعي تفتحيها قبل ما تدخلي البيت، دي فيها مفاجأة.
– طب وإيه المفاجأة دي بقى؟
– لو قلتلك، هتبوّظ المفاجأة.
ضحكت بخجل وقالت له:
– تمام، هفتحها بعدين.
وهم بيهزروا كده… كانت في عينين بتترقب من بعيد.
معتز واقف في العربية، شايف كل حاجة.
شايفها وهي بتضحك، وبتاخد الهدية، وياسين اللي بيتكلم معاها بكل راحة،
والنار اللي جواه كانت بتزيد لحظة عن لحظة.
دخلت فرح البيت، وياسين قال وهو بيضحك:
– خلاص، اعتبريني ضيف النهارده، مش هتحلي عني بالقهوة اللي إنتي بتعمليها دي.
– يا سلام، هو أنا عندي كافيه وأنا مش واخدة بالي؟
– لا، بس عندك وش حلو، وده كفاية.
ضحكت ودخلت المطبخ.
رجعت له بالقهوة وقالت:
– اتفضل يا باشا.
– يا باشا مرّة واحدة! أنا كده ممكن أعمل نفسي ظابط.
– ما هو أنت ظابط فعلاً.
– بس مش في البيت، هنا أنا ياسين اللي بيحب يضحكك بس.
ضحكت وقالت له:
– والله ساعات بحس إنك طفل صغير.
– وأنتِ بتحبي الأطفال؟
بصتلُه بنظرة فيها كسوف وقالت له:
– على فكرة، الأسئلة دي مش بتتسأل كده.
ضحك وقال:
– لا والله، بس كنت عايز أعرف أنا داخل المنافسة دي منين.
ما كانتش عارفة ترد، سكتت وهي بتقلب في الكوباية،
بس قبل ما الجو يهدى،
فجأة…
خبط جامد على الباب دوّى في الشقة.
اتنين تلات خبطات متتالية، كأن حد بيخبط بغضب مش بطلب إذن.
ياسين بص بسرعة على الباب، نظرته اتبدلت في ثانية،
اتحول من الجدع اللي بيهزر، للظابط اللي جاهز لأي حاجة.
قال بهدوء، صوته نازل واطي بس حازم:
– استني هنا يا فرح.
وقام رايح ناحية الباب بخطوات سريعة،
وفرح واقفة مكانها، قلبها بيدق بسرعة،
مش عارفة ليه، بس جواها إحساس إن الخبط ده… مش خير.
كل ده و الخبطات كانت بتزيد،
وصوت الباب بيترج مع كل خبطة،
وفرح واقفة مكانها، قلبها بيدق بسرعة، مش عارفة تعمل إيه.
في اللحظة دي، خرجت نور من أوضتها وهي بتعدل الطرحة وقالت بخضة:
–في إيه يا ياسين؟ الصوت ده إيه؟
وطلعت وراها خالتها أم ياسين وهي ماسكة طرف الإيشارب وقالت بقلق:
– مالك يا ابني؟ مين بيخبط كده؟
ياسين قال بهدوء بس نبرته فيها تحفّز:
– ما تقلقيش يا أمي، أنا هفتح.
قرب من الباب، مسك المقبض،
وفتح ببطء وهو عارف من جوّاه إن اللي ورا الباب مش جاي بخير.
أول ما الباب اتفتح،
الجو كله سكت، لما شاف معتز قدامة؛
--------------------------
الجو كله سكت، لما شاف معتز قدامه.
عيونه حمرا، وشه متشنّج، وصوته أول ما خرج كان مليان حقد:
– أهو إنت هنا يا باشا! تمام… كنت متأكد إنّي هلاقيك عندها.
ياسين ضيّق عينه وقال بهدوء مريب:
– هو في إيه يا استاذ؟ مالك جاي تخبط كده؟
هو في حد بيخبط كده على باب الناس؟ ما حدش علمك الأدب قبل كده ولا إيه؟
معتز بص له بقرف وقال له:
– اسكت إنت، أنا مش جاي أكلمك.
وضحك ضحكة سخيفة، وقال بنبرة كلها قرف:
– جاي أشوف الست المحترمة اللي رفضتني زمان… واللي طلعت محترمة بزيادة، قاعدة في بيت راجل لوحدها، وبتضحك وتتهزر كأنها في كافيه مش في بيت ناس!
فرح اتجمدت مكانها، ما كانتش مصدقة إن اللي قدامها بيقول الكلام ده بجد.
وشهها احمرّ، ونور وأم ياسين تنحوا، مش قادرين يتكلموا.
ياسين قالله بحدة:
– خليك مؤدب يا معتز، دي بنت ناس، وكلامك ده مش هسمح بيه هنا.
معتز بص له بابتسامة سمّة وقال:
– آه بنت ناس؟ بنت ناس قاعدة في بيت رجالة وبتاخد هدايا وبتضحك…
وبصّ لفرح بنظرة كلها قرف وقال:
– دي شكلها مش ناقصة غير خطوة واحدة وتكمّل جميلها.
الكلمة دي كانت القشة اللي كسرت ضهر فرح.
خطت نحوه بخطوة سريعة، وإيدها طلعت تلقائي.
القلم نزل على وشه بصوت فرقع في الهوا.
اللحظة دي، الكل اتصدم.
حتى معتز نفسه اتشلّ ثانيتين من المفاجأة.
وقالت له وهي بتنهج، بصوت مليان وجع وقهر وغضب في نفس الوقت:
– دي آخر مرّة تتكلم عني بالطريقة دي!
أنا سكتّ زمان لأنّي كنت محترماك، بس الظاهر إنك ما تستاهلش غير إن الواحد يدوس عليك.
إنت المفروض مدرس، تعلم الناس الصح من الغلط، مش تمشي في الشوارع تشوّه في سمعة البنات!
إنت ما تعرفش يعني إيه كرامة، ولا رجولة، ولا إنك تكون بني آدم أصلاً.
إنت متعرفش غير الغرور، والكلام الوسخ اللي بيطلع من بؤك… بس خلاص، النهارده هتتعلم الأدب.
معتز مسك وشه بإيده، عينيه ولّعت غضب وقال بنبرة كلها غلّ:
– والله لأوريكي! إنتِ فاكرة نفسك مين؟ فاكرة لما رفضتيني يعني كده أنا خلصت؟
لأ، دلوقتي فهمت…
رفضتيني عشان كنتي شايفة الأوضاع أحسن معاه، مع المغفل اللي واقف ده!
ياسين أول ما سمع الجملة الأخيرة، وشه تغيّر، الدم ولّع فيه،
ما استناش كلمة كمان،
مد إيده، ومسّك معتز من قميصه وشده بعنف ناحية الحيطة،
وصوته خرج جامد وواضح:
– مغفل؟! دي كلمة كبيرة على لسانك الوسخ ده!
معتز حاول يفلت، بس ياسين كان سبقه ببوكس في وشه خلى راسه تخبط في الحيطة.
صوت الصدمة دوّى في الشقة.
نور صرخت:
– ياسين! كفاية!
بس هو ما كانش سامع،
كان كل غضبه نازل في الضرب، كل مرة يفكر في الكلمة اللي قالها عن فرح، يضرب أقوى.
معتز وقع على الأرض، دم سال من شفايفه، وصوته وهو بيتوجع كان بيحاول يخرج بكلمات متقطعة:
– هتندم… والله هتندم يا ياسين…
ياسين مسكه من هدومه وقال بصوت منخفض ومخيف:
– لو قربت منها تاني، أو حتى فكرت تقول اسمها، ساعتها مش هتخرج منها سليم، فاهم؟
أمه جريت عليه وهي بتقول بخضة:
– خلاص يا ابني كفاية، كفاية بقى!
سابه ياسين بإيده غصب عنه، ووقف وهو بيحاول يهدّى نفسه.
معتز وقف بالعافية، بصّ لفرح بنظرة كلها غلّ وقال بصوت مكسور:
– أنا مش هسيبك، والله ما هسيبك.
وردت فرح بثبات وهي واقفة قدامه، ودموعها على خدها بس صوتها ثابت:
– سيبني أو ماتسيبنيش، بس خليك فاكر إن في رب فوقك، واللي اتظلم لازم ربنا ينصره.
خرج معتز وهو بيترنّح، والباب اتقفل وراه بعنف.
الشقة سكتت لحظة، ولا صوت غير صوت أنفاسهم.
ياسين بص لفرح، عينيه كانت فيها نار وغضب، بس كمان فيها خوف عليها،
وقال بنبرة هادية المرة دي:
– خلاص، ما تخافيش، طول ما أنا هنا محدش هيقرب منك تاني.
بصت له، ولسانها مش قادر يقول حاجة،
بس نظرتها قالت كل اللي جوّاها… شكر، ارتياح، ووجع قديم بينتهي.
وأم ياسين وقفت تبص عليهم هما الاتنين،
وقالت وهي بتتنهد:
– ربنا يبعد عنكم الشر يا ولاد.
لكن محدش فيهم كان يعرف إن الشر… لسه ما خلصش.
-----------------------
بعد ما مشي معتز، الجو في الشقة بقى تقيل، كأن الهوى نفسه اتشلّ.
فرح ما قدرتش تتحمل أكتر، قالت وهي بتحاول تثبّت صوتها:
– بعد إذنكم… أنا هنزل أتمشى شوية.
نور قالت بسرعة:
– يا بنتي مينفعش تخرجي دلوقتي، خدي بالك من نفسك على الأقل!
ردت فرح بهدوء:
– ما تخافيش، بس محتاجة أخرج أغير الجو شوية.
نزلت وهي حاسة إن صدرها مكتوم.
الشارع كان هادي، بس جواها دوشة… صور كتير بتلف في دماغها: معتز، كلماته القاسية، نظرة ياسين، خوفه عليها، ضحكة أمه اللي اتحولت لصمت…
كل حاجة كانت بتخبط في بعض.
فرح كانت ماشية من غير ما تحس برجليها رايحة على فين.
الهوى برد، بس دماغها مولّعة من اللي حصل فوق.
صوت معتز وكلامه الحقير لسه بيرن في ودنها، وضرب ياسين، وصوت نور وهي بتحاول توقفهم...
كل ده كان عامل دوشة في قلبها.
لحد ما خبطت بالغلط في واحدة ست كبيرة شايلة كيس خضار.
– ياااااه أنا آسفة جدًا يا حاجة، والله ما كنت شايفة!
الست مسكت الكيس قبل ما يقع وقالت بهدوء وابتسامة طيبة:
– ولا يهمك يا بنتي، ربنا يسامح الجميع.
فرح قالت بخجل:
– حقك عليا والله، كنت سرحانة.
الست بصّت لها كده بتمعّن وقالت وهي بتحاول تفتكر:
– استني… مش انتي بنت آمال؟
فرح اتفاجئت وقالت:
– تعرفي ماما؟
ضحكت الست وقالت:
– أمال دي بنت عمّي يا حبيبتي، بس من زمان ما شفناش بعض.
سبحان الله شبهها قوي.
فرح ابتسمت بخفة:
– والله الدنيا صغيرة.
الست مدّت إيدها بلُطف وقالت:
– طب تعالي نقعد شوية هنا على الكرسي، نفسي أسمع أخباركم.
قعدوا شوية يتكلموا، تحكّي عن أمها، عن حالهم، والست كانت بتسمعها بطيبة.
لكن بعد دقايق، الست بصّت في وش فرح وقالت بهدوء:
– مالك يا بنتي؟ عينيكي فيها وجع.
فرح سكتت ثواني وقالت بصوت واطي:
– يمكن عشان اللي حواليا بقوا غُرب… أو يمكن عشان أنا اللي اتلغبطت.
الست سألتها بحنية:
– احكيلي يا بنتي، يمكن أقدر أساعدك.
فرح بدأت تحكي، من أول ما راحت بيت مرات عمها، لحد اللي حصل النهارده بينها وبين معتز، وضرب ياسين ليه.
كانت بتحكي بصوت مهزوز، كأنها بتفرّغ وجعها أخيرًا.
الست فضلت ساكتة، ولما خلصت، قالت نبرة حازمة بس فيها دفء:
– بصي يا بنتي…
أنتي غلطانة.
فرح بصت لها بصدمة وقالت:
– أنا؟! ليه؟
ردت الست وهي ماسكة عصاها:
– آه، غلطانة إنك قعدتي في مكان فيه راجل بيقعد معاكي، وإنتِ عارفة كده وساكتة.
قعدت الست تبصّ لفرح بنظرة فيها مزيج من الحنية والجدية وقالت:
– بصي يا بنتي، أنا مش قصدي أضايقك، بس اللي انتي بتحكيه ده فيه حاجات غلط، غلط شرعًا قبل ما يكون غلط عُرفًا.
فرح بسرعة قالت وهي بتبرر:
– بس هو ما كانش قاعد معانا في نفس الشقة والله، ده كان ساكن في الشقة اللي قبلنا، بس كان بييجي يسهر معانا، يقعد معانا شوية…
الست هزّت راسها ببطء وقالت بنبرة حازمة:
– يا بنتي، ما هو ده الغلط بعينه.
السهر والضحك والاختلاط حتى لو في وجود ناس، كله بيجرّ القلب من غير ما نحس.
الشيطان ما بييجيش يقول اعصي ربك،
بييجي يقول: "ما هو ابن الناس، وبيضحكك بس، ومفيش حاجة".
بس هو كده بيبدأ، خطوة بخطوة، لحد ما القلب يتعلّق، وبعدها تلاقي نفسكِ تايهة.
اللي حصل النهارده ما جاش فجأة، ده نتيجة سكوتك من بدري.
الشيطان يا بنتي ما بيظهرش مرة واحدة، ده بيخش على أطراف الكلام، على الضحكة، على الموقف اللي تقوليه "عادي"،
لحد ما العادي ده يبقى ذنب وإنتِ مش واخدة بالك.
سكتت شوية وقالت:
– هو الولد ده اسمه إيه؟
– ياسين.
– أهو… ما دام بتعرفي اسمه، وبتقعدي معاه، وتضحكي، وتزعلي، يبقى حصل قرب.
والقرب بين ولد وبنت، حتى لو بريء، خطر.
ربنا قال:
> "ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا."
يعني حتى القرب، مش الفعل، القرب بس منه ربنا نهى عنه.
خلي قلبكِ نظيف، وحياتكِ فيها بركة،
اللي عايزك بالحلال هييجي لحد بابك،
لكن الهزار والضحك والاختلاط، ده مش طريق حبّ، ده طريق وجع.
اتأثرت فرح بكلامها،
كانت حاسة إن كل كلمة نازلة على قلبها زي المية الباردة على نار.
الست كملت وقالت وهي تمسك بإيدها:
– اسمعي كلامي يا بنتي، الدنيا مش أمان،
الناس شكلها طيب، بس القلوب فيها اللي فيها.
خليكي دايمًا قريبة من ربنا، وهو هيبعتلك الخير لحد عندك
يعني حتى الطريق اللي يوصلك، تبعدي عنه،
لأن النار بتبدأ بشرارة.
فرح بصت لها ودموعها بدأت تنزل،
قالت الست وهي بتحط إيدها على إيدها بلطف:
– أنا مش بلومك يا بنتي، بس بذكّرك.
الاختلاط الكتير بين الولد والبنت بيولّد ألف شيطان بينهم،
واللي قلبه أبيض ممكن يتلطخ بلحظة ضعف.
النبي ﷺ قال:
"ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما."
تنفست الست وقالت بهدوء مؤلم:
– وربنا كرمك، وحماك، وبعتلك إنذار بدري.
خلي بالك يا فرح، الدنيا فتنة، والقلوب ضعيفة.
لو ربنا نجاكي النهارده من كلمة أو نظرة أو موقف، احمديه…
لأن المرة الجاية ممكن ما تلحقيش تتوبي.
سكتت لحظة، وبصتلها بعين مليانة حنان وقالت:
– ارجعي لربنا، وارجعي لأمك، وارجعي لصلاتك.
خلي الحجاب حجاب للقلب قبل ما يكون على الراس،
وخلي مساحتك بينك وبين الولاد فيها حدود،
عشان اللي بيصون نفسه… ربنا بيصونه.
فرح كانت ساكتة، بس دموعها نازلة بهدوء،
الكلام كان بيدخل جواها كأنه دواء…
يوجع، بس يطهر.
قالت بصوت مكسور:
– يمكن كنت بحاول أهرب من التعب، بس يمكن فعلاً كنت ماشية غلط.
الست ابتسمت وقالت:
– مش مهم كنتي فين، المهم تمشي صح بعد كده.
الرجوع لربنا عمره ما بيحتاج مبررات، بس بيحتاج صدق.
قامت وهي بتربت على كتفها وقالت:
– روحي يا بنتي، توضّي وارفعي إيدك، وقولي له يارب طهّر قلبي.
هو هيهديكي، زي ما هداني وهدى كل تايه.
فرح سكتت، عينيها دمعت،
الست كملت بصوتها الهادئ اللي بيدخل القلب:
– بصي يا بنتي، أنا ما بقولكيش ما تكلميش الناس، بس اختاري مكانك وحدودك.
اللي بيحافظ على نفسه، ربنا بيحافظ عليه.
وانتِ شكلك بنت طيبة، بس طيبتك دي ممكن توقعك لو ما كنتيش صاحية.
قامت الست وهي بتحط إيدها على كتف فرح وقالت بابتسامة:
– شوفي، أنا ساكنة قريب من هنا، بنتي متجوزة وسافرت مع جوزها بره، وأنا عايشة لوحدي.
تعالي اقعدي معايا يوم لما تحبي، بدل الوحدة اللي بتخنقك دي.
أنا قريبتك، وما تخافيش مني،
وفكّري كويس يا بنتي، وخدي رقمي…
لو احتجتيني في أي وقت، كلّمني.
طلعت ورقة صغيرة من شنطتها وكتبت رقمها، ومدّته لفرح.
فرح خدت الورقة بإيدها المرتعشة وقالت بخجل:
– شكراً يا خالتي، والله يمكن كنت محتاجة الكلام ده.
الست ابتسمت وقالت وهي بتقوم:
– الحمد لله إن ربنا بعتهولي النهارده، يمكن هو اللي رتب المقابلة دي.
خدي بالك من نفسك يا فرح،
واعرفي إن اللي يصون نفسه… ربنا ما بيضيعوش أبداً.
فرح فضلت قاعدة مكانها بعد ما الست مشيت، ماسكة الورقة في إيدها،
وعنيها بتلمع بشيء جديد… خوف، ووعي، وراحة غريبة.
فرح قامت، ودموعها لسه على خدها،
بس قلبها كان أنضف، أخفّ…
حست إن ربنا بعتها الست دي مخصوص،
كأنها رسالة من السما جات في وقتها.
رفعت عينيها فوق وقالت في سرها:
– يا رب سامحني، وثبّتني.
ومشيت بخطوات أهدى من اللي نزلت بيها…
يمكن دي كانت أول مرة تحس إن ربنا بيكلمها من خلال حد.
---------------------
رجعت فرح ماشية على مهلها، كل كلمة الست قالتها كانت بتلف في دماغها كأنها شريط مش راضي يوقف.
كل ما تاخد نفس، تفتكر صوتها وهي بتقول:
هو الولد ده اسمه إيه؟
الشيطان بيبدأ من الضحكة.
اللي بيحافظ على نفسه، ربنا بيحافظ عليه.
الكلام كان تقيل على قلبها، مش عشان غلط،
لكن عشان وجعها،
وجعها لأنها حسّت فعلاً إنها كانت ماشية في طريق غلط ومش واخدة بالها.
هي ما كانتش وحشة،
بس كانت بتدوّر على حتة دفء، على حد يسمعها بعد كل اللي عاشته.
وياسين كان موجود،
كان بيسمعها، بيضحك معاها، بيريّحها.
بس الست صح… القرب حتى لو بريء، خطر.
وقفت في نص الشارع،
الهوى خبط في وشها،
والكلمات بتتلخبط جواها بين صوت الست وصوت معتز.
صوت الست الهادئ اللي بيفكرها بالصح،
وصوت معتز الحقير اللي كان بيحاول يكسّرها بالكلام.
افتكرت شكله وهو واقف قدامها بيشتمها وبيقول بصوت عالي:
انتي بنت قليلة الأدب، بتستني أي فرصة عشان تلفتي نظر راجل!
افتكرت القلم اللي ادّتهوله وهي بتترجف من القهر،
افتكرت ازاي ياسين وقف يدافع عنها،
وازاي الدنيا كلها اتشقلبت في لحظة.
الدموع نزلت على خُدها وهي بتقول لنفسها:
– أنا غلطت فعلاً؟
أنا كنت سبب في اللي حصل ده كله؟
فضلت ماشية وهي بتكلم نفسها،
كل خطوة كأنها بتغوص في بحر من التفكير والندم.
وصلت لحد البيت من غير ما تحس،
دخلت أوضتها، قفلت الباب،
وقعدت على السرير.
قعدت فرح في سكون، كل حاجة حواليها كانت ساكتة، بس جواها الدنيا مقلوبة.
الكلام اللي سمعته من الست كان بيزنّ في ودنها،
كل جملة قالتها كأنها سهم داخل في قلبها:
اللي بيقرب من الحرام عمره ما هيشوف راحة.
و اللي بيحافظ على نفسه ربنا بيكرمه.
قعدت تبص في الأرض بعين تايهة،
مش عارفة تزعل من نفسها ولا من الدنيا ولا من اللي حواليها.
هي ما كانتش عايزة غير الطُمن،
بس واضح إن الطُمن مش بيتجاب بالطريقة دي.
نفسها تقيلة، ومخنوقة،
حطت راسها على المخدة ودموعها مش راضية تقف.
الكلام بيرن في ودنها تاني:
النار بتبدأ بشرارة.
اللي يصون نفسه ربنا ما بيضيعوش.
غمضت عينيها،
بس عقلها مش ساكت.
كل حاجة حصلت بتتعاد قدامها كأنها بتتفرج على فيلم هي بطلتُه…
اللي ضيّعت طريقها وهي مش واخدة بالها.
خدت نفس عميق،
قامت واقفة على مهلها،
وقالت في سرّها وهي بتحاول تشد نفسها:
– خلاص… أنا خدت قراري.
المرّة دي أنا هبدأ من جديد، بطريقتي،
وهعرف أرجع فرح اللي كانت زمان.
ولسه بتقوم من على السرير عشان تنفّذ القرار اللي خَدَته…
في اللحظة دي بالذات،
تليفونها رن.
بصّت للشاشة، رقم غريب.
حست بحاجة غريبة في قلبها، زي رعشة خفيفة،
ردّت وهي بتقول بصوت واطي:
– ألو؟
وبعد ثانيتين، وشها اتبدّل كله…
الدم انسحب من ملامحها،
إيديها بتترجف وهي بتسمع الكلام.
الكلمات كانت قليلة،
بس كفاية إنها تهزّها من جواها.
الصدمة خلتها ما تعرفش تتنفس،
الموبايل وقع من إيدها على الأرض،
وعينيها معلقة في الفراغ.
--------------------------------
بصّت للشاشة، رقم غريب.
حست بحاجة غريبة في قلبها، زي رعشة خفيفة.
ردّت وهي بتقول بصوت واطي:
– ألو؟
وبعد ثانيتين، وشها اتبدّل كله…
الدم انسحب من ملامحها،
إيديها بتترجف وهي بتسمع الكلام.
الكلمات كانت قليلة،
بس كفاية إنها تهزّها من جواها.
صوت ست بيعيّط من الناحية التانية بيقول:
– يا بنتي أنا أم معتز… معتز عمل حادثة يا فرح، حالته صعبة قوي، بين الحياة والموت.
هو نطق اسمك، قال هاتوا فرح.
أنا مش عارفة ليه، بس بيطلبك يا بنتي.
سكتت لحظة، وبعدين صوتها اتكسر وهي بتقول برجاء حقيقي:
– لو ليا غلاوة عندك،
لو بتعتبريني زي أمك بجد،
تعالي عشان خاطري يا فرح… هو طالبك.
الكلمة دي بالذات طالبك.
كانت زي ضربة على صدرها،
حسّت بدقات قلبها بتعلى،
صوت نفسها اتقطع وهي بتهمس لنفسها:
– بين الحياة والموت… وبيطلبني أنا؟!
الموبايل وقع من إيدها،
قعدت على أول كرسي قابلها وهي مش حاسّة بحاجة،
نظرتها ثابتة في الفراغ،
دموعها نزلت فجأة من غير صوت،
وبعدين قامت مرة واحدة،
لبست طرحتها بسرعة وهي بتترعش،
خدت شنطتها وفتحت الباب تجري.
ولا عارفة هي ماشية فين،
ولا بتفكر في حاجة غير صوت الست اللي بيرن في ودانها:
تعالي عشان خاطري يا فرح… هو طالبك.
قلبها كان بيخبط في صدرها،
ورجليها بتجروها بالعافية،
كل خطوة كانت وجع.
دخلت فرح المستشفى،
القلب كان بيخبط جوه صدرها كأنه عايز يهرب،
عينيها بتدور في كل اتجاه لحد ما شافت أم معتز قاعدة على كرسي برّه أوضة العمليات،
وشها كان باين عليه التعب والقلق.
قربت منها فرح بخطوات مترددة،
قالت بصوت هادي:
– طمّنيني يا طنط… في إيه؟
رفعت الست وشها، عينيها محمرة من كتر البكا،
وقالت وهي بتحاول تثبت نفسها:
– الدكتور لسه طالع، ادعي يا بنتي،
قال إن العملية خلصت والحمد لله عدّى مرحلة الخطر،
بس الـ 24 ساعة الجايين دول أهم حاجة…
هم اللي هيحددوا إذا كانت المضاعفات هتظهر ولا لا.
فرح وقفت،
ماتعرفش ترتاح ولا تقعد،
إيدها على صدرها بتنهج،
قالت:
– الحمد لله… الحمد لله يا رب.
فضلت قاعدة معاها شوية،
تهديها، تمسح دموعها،
لحد ما الست بصت لها وقالت:
– أنا بشكرك يا بنتي إنك جيتي،
وجودك فرق معايا أوي والله.
فرح ابتسمت ابتسامة خفيفة باهتة، وقالت:
– والله يا طنط أنا جيت عشان خاطرك إنتي بس،
ابنك… جرحني أوي،
وقال كلام صعب ومش سهل يتنسي،
بس المهم دلوقتي إن ربنا نجّاه وعدّى على خير.
هو في الآخر ابن عمي،
وفي مقام أخويا…
أنا هفضل هنا لحد ما الـ 24 ساعة دول يعدّوا على خير.
الست مسكت إيدها وقالت:
– ربنا يخليكي يا فرح،
هو هيبقى بخير إن شاء الله.
عدّى يوم كامل كأنه سنة.
فرح ما نزلتش من المستشفى لحظة،
قاعدة على الكرسي جنب أوضة معتز،
كل دقيقة تبص على الساعة،
وتستنى إن الدكتورة تطلع تطمّنهم.
كل ما تسمع حد بيقفل باب،
قلبها يقف ثواني… وبعدين يرجع يدق تاني.
أم معتز كانت نايمة على الكرسي المقابل،
مرهقة من السهر والتعب،
وفرح ساكتة، بتدعي في سرّها،
رغم كل اللي عمله معتز فيها،
بس الدعوة طالعة من القلب.
قالت لنفسها:
يا رب، مش علشانه هو… علشان أمه بس،
الست دي ما تستاهلش وجع تاني.
مع أول ضوء شمس تاني يوم،
طلعت الدكتورة من الأوضة.
وشها كان هادي بس فيه حاجة غريبة،
الهدوء اللي يخوف.
فرح قامت بسرعة،
– طمّنيني يا دكتورة، في إيه؟
الدكتورة بصتلها بهدوء وقالت:
– الحمد لله، هو فاق…
بس للأسف، في مضاعفات ظهرت بعد العملية.
فرح حست إن الأرض بتتهز تحت رجليها،
قالت بخوف:
– يعني إيه مضاعفات؟
– يعني حصل تأثر بسيط في الأعصاب،
وحاليًا… معتز عنده شلل نصفي مؤقت،
لسه مش عارفين هيستمر ولا لأ،
بس أول ما فاق، كان بيسأل على واحدة اسمها فرح.
الكلمة دي وقفتها مكانها.
اتشل… وبيسأل عليّا؟
جملتين، بس كأنهم سكاكين دخلوا قلبها.
و مش عارفة تفرّق بين الشفقة، والوجع، والصدمة.
أم معتز قامت بصعوبة،
دموعها نازلة،
بصت لفرح وقالت بصوت متقطع:
– لو ليا غلاوة عندك،
لو بتعتبريني زي أمك بجد،
تعالي شوفيه يا بنتي…
هو طالبك بنفسه،
وقال اسمك أول ما فتح عينه.
فرح فضلت ساكتة،
إيديها متشابكة،
العيون بتلمع بدموع مش نازلة،
وصوتها خرج بهمس:
– حاضر يا طنط… هدخل أشوفه.
-------------------------
دخلت فرح الأوضة بخطوات بطيئة،
الإضاءة كانت خافتة، ريحة المطهر ماليه الجو،
وصوت الأجهزة بيقطع الصمت كل ثانية.
عينها وقعت عليه،
معتز… بس مش نفس معتز اللي كانت تعرفه.
الوش اللي كان دايمًا متعالي ومليان غرور،
بقى شاحب،و ملامحه منكسرة،
وصوته لما طلع كان بالكاد مسموع.
بصّ لها بعينين فيها دموع، وقال:
– إنتي جيتي؟
نطقتها كأنها آخر كلمة يقدر يطلعها.
ما ردتش، بس وقفت عند آخر السرير،
مش قادرة تقرب أكتر، ولا قادرة تمشي.
كمل هو، صوته متكسر، مبحوح من الوجع ومن البكاء اللي حاول يخبيه:
– سمعت الدكتورة وهي بتتكلم برا…
قالت إن عندي شلل نصفي.
عرفت خلاص إن دي النهاية.
عرفت إن الحق بيرجع حتى لو بعد وقت.
حقك رجع يا بنت عمي…
رجع وأنا على سرير مش قادر أتحرك.
تنهد، صوته بقى أضعف،
بس كل كلمة كانت طالعة من قلب موجوع فعلاً:
– أنا كنت فاكر الرجولة في الصوت العالي،
وفي الكلمة اللي توجع.
فاكر إن لما أتحكم وأهين الناس أبقى قوي…
بس طلع كل ده كذب.
كنت ضعيف، ضعيف جدًا.
كنت بفتري عليكِ، وكنت عارف إني بظلمك،
بس غروري ما خلانيش أعتذر ولا حتى أراجع نفسي.
طعنتك في شرفك، وكسرتك،
ضحكت لما شوفتك بتعيطي،
واتكلمت عليكِ بكلام يجرّح أي بنت.
ليه؟
عشان إنتِ يتيمة؟
عشان ما وراكيش حد يدافع عنك؟
ولا عشان أنا كنت فاكر إن الرجولة قسوة؟
نزلت دمعة من عينه وهو بيكمل بصوت مهزوز:
– يمكن ربنا جابني هنا،
مشلول، مكسور،
علشان يوريني إن اللي بيظلم، مهما كان متجبر،
لازم ييجي اليوم اللي يتكسر فيه.
مش طالب منك غير كلمة واحدة…
سامحيني.
مش علشاني، علشان ربنا يقبلني.
أنا عارف إن دعوة المظلوم ما بين السما والأرض ما بينهاش حجاب،
ويمكن كل اللي أنا فيه ده بسبب دعوة منك كنتي دعيتيها وإنتي مكسورة.
بس لو قلبك فيه ذرة رحمة…
ادعيلي.
ادعي ربنا يسامحني زي ما اتمني انك تسامحيني دلوقتي.
فرح وقفت وقتها، دموعها نازلة بهدوء،
بس في عنيها ملامح إيمان وهدوء عجيب،
كأنها سامحته من غير ما تقول.
قربت خطوتين،
وقالت بصوتها الهادي اللي كله رقة:
– “قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله،
إن الله يغفر الذنوب جميعًا.”
سكتت لحظة، ثم كملت:
– أنا مسامحاك يا معتز،
مش علشانك… علشان نفسي.
علشان أكون قدام ربنا بضمير رايق.
ربنا قال: "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين."
وحديث النبي ﷺ: "من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور ما شاء."
وقربت أكتر، بصوتها مليان وجع بس راحة في نفس الوقت:
– أنا مش هكدب عليك، اللي عملته فيّ وجعني جدًا،
كسرتني من جوه، خلتني أخاف من الناس،
بس الوجع ده علّمني إن اللي بيظلم الناس، عمره ما يتهنّى.
وأنا اخترت أسيب الحكم للي أعدل مني ومنك…
لربنا.
يمكن المرض ده يكون تكفير،
يمكن يكون باب للتوبة،
بس الأكيد إن كل حاجة بتحصل لسبب،
ويمكن السبب ده إن ربنا بيحبك ولسه بيدّيك فرصة.
معتز دموعه كانت نازلة،
وشه كله ندم،
قال بصوت باكي:
– أنا مش مستاهل حتى سماحك،
بس الكلمة دي خففت عني كتير…
حسّيت كأنك فتحتِ باب كنت مقفول عليا.
ادعيلي يا فرح، يمكن دعوة منك ربنا يقبلها.
فرح مسحت دموعها وقالت وهي بتبص له بنظرة كلها رحمة:
– هادعيلك يا معتز،
هادعيلك ربنا يشفيك ويخفف عنك،
بس الأهم من الشفا إن قلبك يطهر.
افتكر إن ربنا لو كتب لك تقوم من السرير ده،
يبقى لازم تقوم بنيّة جديدة،
ما تظلمش، ما تتعالىش،
وخلي الوجع ده درس، مش نهاية.
ابتسمت وهي بتكمل:
– المرض مش دايم، ولا القوة دايمة.
بس اللي بيثبت فعلاً هو الأثر اللي بنسيبه في قلوب الناس.
حاول تسيب أثر طيب بعد كده…
يمكن ربنا يبدّل كل سيئاتك حسنات.
خرجت من الأوضة بهدوء،
صوت الأجهزة لسه شغال،
لكن في الجو كان في حاجة مختلفة…
كأن السلام اللي نزل في قلبها
انتقل له هو كمان.
وفي اللحظة اللي الباب اتقفل وراها،
معتز رفع عينه للسقف،
وقال بصوت باكي:
– يا رب… سامحني زي ما هي سامحتني.
-----------------------
رجعت فرح البيت وهي حاسة إن رجليها مش شايلة جسمها.
كل صوت حواليها كان باهت، كأن الدنيا كلها بقت صامتة فجأة.
المشهد اللي شافته في المستشفى لسه في عينيها،
وصوت معتز وهو بيقول حقك رجع يا بنت عمي
كان بيرنّ في ودانها مع كل خطوة بتاخدها.
دخلت البيت بهدوء،
قعدت على طرف السرير،
وحطت وشها في كفوفها
بصراحه ما كانتش عارفه هي حاسه بإيه بالظبط،
حزن؟ شفقة؟ ولا ارتياح إنه رجعله حقه بنفسه؟
بس اللي كانت متأكده منه إنها خلاص… تعبت.
تنهيدة طويلة خرجت من صدرها،
وبصت في المراية اللي قدامها.
كان شكلها مختلف…
مش نفس البنت اللي كانت بتتوه بين الناس،
ولا اللي كانت بتسيب الأيام تمشيها زي ما هي عايزة.
النهارده… كانت خلاص، قررت تمشي هي في طريقها بنفسها.
مدّت إيدها على التليفون،
قلبها بيدق بسرعة،
دورت على الرقم اللي كانت كاتباه بورقة صغيرة من امبارح،
رقم الحاجة منيرة.
الست اللي قابلتها في الشارع، واللي كلامها كان عامل زي المفتاح اللي فتح عقلها وقلبها في وقت واحد.
مسكت الموبايل وبصّت فيه،
كانت متردده الأول،
بس بعد دقيقه ضغطت على الرقم اللي حفظته في الورقه.
سمعت صوت الست وهي بترد بهدوء:
– ألو؟
وبصوت هادي لكنه ثابت قالت:
– إزيّك يا حاجة منيرة؟ أنا فرح… اللي قابلتيها امبارح.
ردت الست بفرحة باينة في صوتها:
– يا حبيبتي، طمنيني! قلبي كان حاسس إنك هتكلمني والله.
ابتسمت فرح بخفة وقالت:
– أنا فكرت كويس في كل اللي حضرتك قولتيه…
وحسيت إن يمكن ربنا بعتك في طريقي لحكمة.
أنا قررت أجي… أبدأ من جديد.
– البيت بيتك يا بنتي، والله مستنياكي، ردّت منيرة وهي فرحانة.
قفلت التليفون،
وقعدت دقيقه ساكته، بعدين قامت وبدأت تلم حاجتها بهدوء.
تحط الهدوم، الصور، حاجاتها الصغيرة…
كل حاجة بتحطها كأنها بتحط جزء من نفسها اللي قررت تسيبه وراها.
وهي بتقفل الشنطه سمعت صوت باب الشقة بيتفتح،
في اللحظة دي، الباب اوضتها اتفتح،
ودخلت أم ياسين ومعاها نور،
ملامحهم كلها قلق ودهشة.
قالت الأم بسرعة وهي شايفة الشنطة:
– انتي رايحة فين يا فرح؟
بصت لها فرح بابتسامة باهتة:
– هروح أقعد عند خالتي شوية يا طنط.
نور قربت وقالت بسرعة:
– ليه بس؟احنا زعلناكي في حاجه؟
والله أبدًا، ردّت فرح وهي بتحاول تثبّت صوتها.
– إنتو فوق راسي، والله العظيم ما شفت منكم غير كل خير.
بس أنا محتاجة أغير جو شوية،
وأقعد مع خالتي… يمكن أراجع نفسي،
وأكتر حاجة تريحني إن ياسين ياخد راحته في بيته.
ما ينفعش أكون سبب توتر بينكم.
أم ياسين قربت منها،
مسكت إيدها وقالت بحنان:
– يا بنتي انتي مننا، وبيتنا بيتك.
قالت فرح وهي بتسحب إيدها بهدوء:
– عارفة يا طنط، والله عارفة،
وعشان كده جاية أقولكم شكراً على كل حاجة.
وآسفة لو وجودي سبب لكم مشاكل أو زعل.
أنا هاجي كل فترة أزوركم، وعد.
بس أنا محتاجه أهدى وأراجع نفسي شوية.
وبعدين ياسين لازم ياخد راحته في بيته،
أنا مش حابه أحس إني عبء على حد.
أم ياسين بصّت لها بحنية وقالت:
– انتي زي بنتي بالظبط.
– وانتي زي امي بالضبط
بس ده قرار لازم آخده،
وآسفه على أي مشكله حصلت بسببي.
شالت شنطتها، وبصّت حوالين الشقه نظرة طويله كأنها بتودع المكان،
وبعدين قالت وهي بتفتح الباب:
– بلغوا سلامي لياسين لما يرجع،
وقولوله… ربنا يكرمك في حياتك.
سكتت لحظة،
بصت حوالين الشقة كأنها بتطبع المشهد في ذاكرتها،
وبعدين شالت شنطتها على كتفها،
وخرجت.
والباب اتقفل وراها بهدوء.
أم ياسين ونور فضلوا واقفين مكانهم،
مش مصدقين إن البنت الطيبة دي خلاص مشيت.
صوت الباب وهي بتقفله كان هادي،
بس جواه وجع كبير،
زي نهاية فصل،
مش بس من حياتها…
من كل اللي وجعها قبل كده.
-------------------------
رجع ياسين آخر النهار،
كان شكله تعبان من الشغل والتفكير،
فتح باب الشقة وهو بيكلم أمه من بعيد:
– ماما، أنا جيت… ريحة الأكل طالعة، باين عليكي عاملة غدا محترم النهارده.
ما سمعش صوت.
دخل الصالة، لقى أمه قاعدة على الكنبة ومعاها نور.
وشوشهم كان فيهم حاجة غريبة،
سكت شوية وقال باستغراب:
– في إيه؟ في حاجة حصلت؟
نور بصت لأمه، وأمه قالت بنبرة فيها حزن:
– فرح مشيت يا ياسين.
وقف مكانه كأنه ما فهمش، وقال بسرعة:
– يعني إيه مشيت؟ راحت فين؟
ردّت نور وهي بتحاول تهوّن عليه:
– حاولنا نمنعها، والله حاولنا، بس هي كانت مصممة.
قالت إنها رايحة تقعد عند خالتها شوية… وقالت كمان إنها محتاجة ترتاح من كل اللي حصل.
فضل ساكت،
عينه اتحركت ناحية الباب كأنه لسه مستني يسمع صوتها منه،
بس مافيش.
كتم نفسه وقال بهدوء غريب:
– خلاص، طالما دي راحتها.
ودخل شقته اللي في وشهم من غير ما يقول كلمة تانية.
فضل ساكت ثواني،
بعدها مشي من غير ما يقول ولا كلمة.
دخل أوضته،
قاعد على السرير،
إيده على وشه،
وصورتها وهي بتضحك مش سايبه دماغه لحظة.
حاجة جواه كانت بتوجعه بس مش قادر يحددها…
وجواه صوت صغير بيقول:
هي خلاص راحت.
الأيام عدّت ببطء،
كل يوم كان شكله زي اللي قبله،
بس مع الوقت ابتدت الحياة تمشي.
فرح دلوقتي بقت ساكنة في شقة صغيرة في نفس العمارة بتاعة الحاجة منيرة.
قالت لنفسها إنها مش عايزه تبقى تقيلة على الست الطيبة دي،
فاستأجرت الشقة اللي في وشها بالضبط.
تفضل طول النهار عندها تساعدها، تحكيلها،
وبالليل ترجع شقتها تنام ساعة وتقوم على شغلها.
الدنيا بدأت تهدى،
رجعت تشتغل تاني،
بقت بتحاول تملأ يومها بأي حاجة عشان ما تفكرش كتير.
عدّت أيام كتير،
وفرح كانت خلاص اتعودت على قعده الحاجة منيرة،
الحياة هناك بسيطة وهادية،
الحاجة طيبة وبتحبها،
كانت بتحاول تنشغل،
رجعت شغلها، وبقت بتقابل نور كل يوم في الكلية.
نور أول ما شافتها، جريت عليها:
– فرح! أخيرًا! فين يا بت؟ كنتي فين من زمان؟
ضحكت فرح وقالت:
– كنت بحاول أظبط حياتي شوية، وبعدين انا اخت اجازة اسبوع بس.
قعدوا سوا على الدكة، ونور كالعادة ما سكتتش:
– ماما بتسأل عليكي على طول،
بتقول لي: البنت دي محترمة ومؤدبة، حرام تبعد عننا.
فرح ابتسمت وقالت بهدوء:
– ربنا يخليها، ست طيبة جدًا.
نور ضحكت وقالت بغمزة خفيفة:
– وياسين كمان على فكرة، ما بيقولش حاجة،
بس باين عليه متضايق إنك مش موجودة.
ردّت فرح بسرعة وهي بتحاول تغيّر الموضوع:
– يا بنتي بلاش الكلام ده، أنا خلاص ارتحت كده.
نور قالت بابتسامة خفيفة:
– زي ما تحبي، بس باين إن في كلام مش متقال.
فرح سكتت.
ولا ردّت ولا أنكرت.
بس لما رجعت بيتها آخر اليوم،
فضلت كلمات نور ووش ياسين اللي شافته في خيالها يلف في دماغها،
تحاول تهرب منه… بس ما قدرتش.
كل ده و الضحكة بتدأت ترجع على وشها شوية شوية.
أما معتز، فبعد ما خرج من المستشفى،
بقى إنسان تاني تمامًا.
الغرور اللي كان في عينه اختفى،
صوته بقى واطي، وكلامه قليل.
فرح كانت بتزوره من وقت للتاني،
مش عشان أي حاجة،
بس لأنها حست إن الواجب والرحمة فوق كل حاجة.
كانت بتقف عند باب الأوضة تبص عليه وهو بيحاول يحرك إيده أو رجله،
تدعي له في سرّها وتقول:
يا رب، يمكن يكون ده طريق توبته.
الحياة كانت بتمشي،
بس جواها لسه حاجة ناقصة،
حاجة مش عارفه تسميها،
يمكن راحة الضمير،
ويمكن حنين لإنسان ما كانتش متخيلة إنه هيسيبلها علامة بالشكل ده.
---------------------
وييجي اليوم اللي يغيّر كل حياتها.
كانت راجعة من الكلية تعبانة بس مبسوطة، الجو كان حر شوية بس هوا المغرب كان بيهدي الدنيا.
طلعت السلم وهي ماسكة الكتب في إيدها وبتتنفس بصوت عالي:
– ياااه يوم طويل أوي النهارده… جعانة جعانة.
فتحت الباب بالمفتاح وهي بتضحك وقالت بصوت عالي:
– يا حاجّة منيرة، الأكل فين يا ستّي؟ جعانة والله العظيم جعانة، حرام عليكي لو ما فيش غدا!
ضحكت الحاجة منيرة من جوّه وقالت:
– إيه الصوت ده؟ هو في حرب؟ الغدا ع النار يا بتّ، استني شويه!
فرح رمت الشنطة على الكرسي وقالت وهي داخلة الصالون:
– ماشي بس بسرعة، أصل لو اتأخرتي عليا، هتلاقيني بأكل الترابيزة دي!
كانت بتضحك وهي بتقولها،
بس أول ما دخلت الصالون… وقفت مكانها.
الضحكة اختفت.
عينيها اتجمدت على المنظر اللي قدامها.
ياسين قاعد على الكرسي،
وأمه قاعدة جنبه،
اللي اتنين بيتكلموا وبيضحكوا مع الحاجة منيرة كأنهم في زيارة عادية خالص.
فرح حسّت قلبها وقع منها.
إيديها بقت تقيلة، ووشها سخن فجأة.
نفسها اتقطع، كأن الوقت وقف.
الحاجة منيرة أول ما شافتها قالت وهي مبسوطة:
– أهو يا بنتي شوفي مين اللي منورنا النهارده!
فرح بصّت ناحيتهم وهي مش قادرة تنطق.
أم ياسين ابتسمت وقالت بهدوء:
– إزيك يا فرح؟
بس هي ما ردّتش…
وقفت متسمّرة مكانها،
ولا عارفة تعمل إيه، ولا تقول إيه،
كل اللي في وشها كان صدمة وسؤال كبير ما نطقتوش.
--------------------
فرح وقفت مكانها، مبهوتة من المشهد اللي قدامها،
ياسين قاعد في الصالون، وأمه جنبه، والضحك مالي المكان.
ولما عينهم وقعت عليها، سكتوا لحظة.
قالت وهي بتحاول تدارى ارتباكها:
– هو إيه المفاجأة دي؟
رد ياسين بنبرة هادية فيها لمعة خبيثة:
– مفاجأة لطيفة، ولا شكلها أزعجك؟
– على حسب بقى، الواحد يخاف من المفاجآت اللي فيها حضرتك.
– لا لا، المرة دي أنا جاى بأدب ونيّة كويسة.
قعدت على طرف الكرسي، تحاول تبان عادية، بس عينيها رايحة جاية عليه.
الحاجة منيرة قالت وهي مبسوطة:
– شوفي يا بنتي مين اللي منورنا، قولت له يدخل يشرب شاي معانا.
ردت فرح وهي بتحاول تضحك:
– منوّر دايمًا يا حاجة.
– طبعًا، بس باين إن النور ده مضايقك شوية، صح؟
قالها ياسين وهو بيبص لها بابتسامة جانبية.
– لأ خالص، أنا بس مش متعودة ألاقيك في كل حتة بروحها.
– يمكن ربنا بيبعتني لك كل مرة عشان تفهمي الرسالة.
– رسالة إيه دي؟
– إنك مش هتعرفي تهربي مني كده بالساهل.
– أنا ما بهربش يا أستاذ، أنا بس بعدت عشان كل واحد ياخد راحته.
– وأنا قررت آخد راحتي وأنا جنبك.
بصت له بحدة:
– ياسين، مش ناقصة هزار لو سمحت.
سكت لحظة، وبعدين قال بهدوء:
– ما بهزرش.
الكلمة وقعت تقيلة في الجو.
أم ياسين بصت له باستغراب، والحاجة منيرة اتسعت عينيها شوية.
أما فرح، فوشها اتغير،
قالت بصوت متوتر:
– تقصد إيه بالظبط؟
– أقصد اللي سمعتيه.
أنا جاي أطلبك رسمي من الحاجة منيرة، قدام أمي.
سكت ثواني، وبعدها كمل:
– زهقت من اللف والدوران، ومن المسافات اللي بينا.
أنا شوفتك في كل حالاتك، وعمري ما كنت مرتاح زي ما بكون وإنتي موجودة.
يمكن اتخانقنا كتير، ويمكن كنت غبي أوقات،
بس في الآخر، ما لقيتش نفسي غير معاكي.
الكلام وقع عليها زي الصاعقة،
ولا عارفة ترد، ولا تبص له.
كل اللي قدرِت تعمله إنها تشد نفس وتقول:
– الموضوع كبير يا ياسين، مش كده بيتقال.
ابتسم وقال بهدوء:
– عشان كده بعد إذنكم… ممكن أقعد معاها دقيقة لوحدنا؟
بصت له الحاجة منيرة وقالت بخفّة دمها المعهودة:
– يعني جايب العِدّة كاملة النهارده، ماشي يا بني، تفضلوا.
وقامت هي وأم ياسين، سابوهم سوا في الصالة.
هو لف وشه ناحيتها وقال بابتسامة صغيرة:
– أهو كده نقدر نتكلم براحه.
فضل الصمت ثواني،
وياسين بصّ لها بهدوء وقال:
– كنت مستني اللحظة دي بقالها كتير…
مش عشان أقول كلام كبير ولا أبرر حاجة،
بس عشان أتكلم بصدق، بعيد عن الهزار اللي دايمًا كان بينا.
فرح كانت واقفة، ملامحها هادية بس جواها قلق واضح،
قالت وهي بتحاول تلهي نفسها بنظرتها ناحية الأرض:
– طب اتكلم يا ياسين، أنا سامعة.
تنهد وقال بصوت هادي وثابت:
– أنا يمكن أول مرة أتكلم معاكي من غير هزار…
ومن غير قناع.
أنا… معجب بيكي.
بس مش الإعجاب اللي بيخلص لما الجمال يروح،
أنا معجب بفرح اللي وقفت قدام الدنيا كلها وما انهزّتش،
البنت اللي رفضت تتجوز ابن عمها قدام الناس كلها عشان ما ترضاش بالظلم،
اللي اتظلمت وسكتت بس عمرها ما قلّت أدبها،
اللي وقعت واتكسرت، بس وقفت تاني، أقوى من الأول.
سكت شوية، وبعدين قال بصوت أخف:
– يمكن الناس تشوفك عادية،
بس أنا شايف فيكي حاجة مش عند حد…
شايف إنك الشجاعة اللي كنت نفسي أكونها يوم.
اللي واجهتِ خوفها من غير ما تستخبي ورا حد.
وانا… عايز أبقى الشخص اللي يكون معاها في كل مراحلها.
مش علشان أكملها…
علشان أشاركها.
تنهد وقال:
– انتي علّمتيني يعني إيه الصبر،
علّمتيني يعني إيه الإيمان،
علّمتيني إن الكلمة الطيبة ممكن تغيّر حياة بني آدم.
أنا شوفت فيكي كل حاجة كنت مفتقدها…
مش علشان كنتي صلبة،
بس علشان كنتي بتتهزّي وبتقومي،
بتتكسري وبتقفّي تاني من غير ما تشتكي.
أنا شُفتك بتتحمّلي كلام الناس،
وشُفتك بتختاري الكرامة رغم الوجع،
وشُفتك بتدّعيلي وأنا آخر حد يستاهل دعوة منك.
سكت لحظة، وبصّ لها بعينين فيها صدق موجع:
– أنا مش جاي أطلبك عشان أكمّل نقص في حياتي،
ولا عشان أكفّر عن غلطة.
أنا جاي أطلبك لأنك ميزاني.
اللي خلى الدنيا تبقى أوضح.
أنا مش بدوّر على واحدة تكون ظلّي،
أنا عايز واحدة تبقى نوري.
أنا عايزك لأنك خلتيني أتعلم معنى كلمة سَكِينَة اللي ربنا قالها في القرآن:
> “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً.”
السكينة دي أنا ملقتهاش في الدنيا كلها… غير لما كنت معاكي.
مدّ إيده قدامه وقال:
– أنا مش طالب بطلة، ولا بنت مثالية،
أنا طالب الست اللي تخاف عليا وتدعيني وأنا مش شايفها.
اللي لما تغلط، أحتويها،
ولما أضعف، ترفعني.
أنا عايز أبقى ضهرك وسندك مش كلام، فعل.
أنا عايز كل اللي جاي يبقى مع بعض…
بكل ضعفنا وقوتنا.
سكت لحظة طويلة.
هي رفعت عينيها عليه وقالت بهدوء، بس كل كلمة كانت طالعة من قلبها:
– بس ياسين، أنا مش دايمًا قوية زي ما انت فاكر.
مش دايمًا عندي طاقة أواجه.
الناس بتشوف الصورة اللي بره بس،
ما بيشوفوش اللي جوا…
بيجي عليا وقت ببقى ضعيفة، بخاف، ببكي، بتهزّ،
لو انت معجب بيّا عشان قوتي، فالانبهار ده هيخلص أول ما تشوفني في لحظة انكسار.
تحبّني وقتها زي ما بتحبني دلوقتي وإلا…
الإعجاب ده مش حب.
اتنهدت وقالت وهي بتبص له في عينيه مباشرة:
– ربنا خلقنا مختلفين،
قال في القرآن: «الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض»،
مش علشان الراجل أعلى، لأ…
علشان يشيل عنها وقت ضعفها،
يبقى سندها لما تقع،
مش يقف يتفرج ويقول "فين قوتك اللي كنتي بتتكلمي عنها؟"
سكتت ثواني وكملت بصوتها الهادي:
– البنت مهما كانت قوية،
في الآخر هي محتاجة ضهر، محتاجة أمان، محتاجة راحة،
مش بس كلمة حلوة ولا إعجاب مؤقت.
لو انت فعلاً ناوي تبقى الشخص ده…
يبقى لازم تكون عارف إن في يوم،
هتشوف فرح الضعيفة، مش فرح القوية.
ساعتها… تحبها زي ما هي؟ ولا هتدور على النسخة اللي كنت منبهر بيها؟
كلامها خلّى وش ياسين يتغير،
ابتسم بخفة، بس المرة دي كانت ابتسامة كلها وجع وصدق:
– أنا مش عايز فرح القوية بس،
أنا عايز فرح كلها…
اللي بتضحك، اللي بتعيط، اللي بتسكت،
اللي ساعات بتتعب وساعات بتخاف.
أنا مش عايز أكون شاهد على قوتك،
أنا عايز أكون سندك لما تتكسري.
عايز أكون الأمان اللي تلجأي له مش اللي تخافي تضعفي قدامه.
قرب منها خطوة وقال بهدوء جدًا، كأن كل كلمة وزنها تقيل:
– أنا ما جيتش النهارده أعتذر، ولا أبرر،
أنا جيت أطلبك من الحاجة منيرة رسمي.
جيت أقولك إن اللي بينا مش هزار ولا لحظة إعجاب…
دي نيّة.
نيّة إن حياتي تبدأ بيكي، وتكمل بيكي.
سكت لحظة، وعينه ثابتة فيها وقال بصدق يخترق القلب:
– فلو هتقبلي،
ما تبقيش بس مراتي اللي العالم شايفها قوية،
ابقي نفسي الحقيقية،
ابقي الإنسانة اللي حتى في ضعفها… أنا فخور بيها.
الدنيا سكتت،
كأن كل الأصوات وقفت تسمع الكلمتين دول.
وفرح فضلت واقفة مكانها،
مش عارفة ترد،
كل اللي في وشها دموع نازلة بهدوء.
فرح فضلت ساكتة ثواني طويلة.
عينها على الأرض، ونَفَسها متلخبط،
مش عارفة تتكلم ولا تعبر عن اللي جواها.
كل اللي حاساه إن قلبها بيرتعش جوه صدرها،
كأن كل كلمة قالها ياسين كسرت فيها حاجز كانت بنته بإيدها.
رفعت عينيها له بهدوء،
ونظرتها كانت مزيج بين خوف وصدق وحنان مكبوت،
وقالت بصوت ناعم جدًا،
لكن كل حرف فيه كان واثق وواضح:
– ياسين…
الكلام اللي قولته مش قليل،
ومش من النوع اللي يترد عليه بكلمة وخلاص.
أنا مش عايزة أقولك كلام يفرّحك النهارده وبعد كده أرجع أتراجع.
أنا محتاجة وقت، ومحتاجة استخارة.
سكتت ثواني وكملت بهدوء:
– ربنا بس اللي يعرف الخير فين،
ويمكن قلبي ميكونش شايف الصورة كلها دلوقتي.
فخليني أستخير،
ولو في خير…
هتلاقيني بردّ عليكم بنفسي.
بصت له بنظرة طويلة،
كانت كأنها بتقوله “أنا مش رفضة، بس مش عايزة أتهور”.
ابتسم هو بخفة، ابتسامة كلها تقدير، وقال:
– تمام يا فرح،
استخيري…
بس اعرفي إن قلبي استخار خلاص.
هي نزلت عينيها بسرعة، وابتسمت من غير ما تقصد،
وكل حاجة حوالين الاتنين اتحولت لهدوء غريب…
هدوء مليان وعد.
-------------------------
عدّى خمس شهور،
خمس شهور اتغيّر فيهم كلّ حاجة…
مش بسرعة، بس واحدة واحدة كده، من غير ما حد ياخد باله.
أولهم كانت فرح.
البنت اللي كانت بتخاف حتى تعيش لنفسها،
بقت دلوقتي شبه النسخة اللي دايمًا كانت بتحلم تبقى عليها.
مبتسمة أكتر، ملامحها فيها راحة،
والحزن اللي كان ساكن عينيها بقى خفيف، زي أثر قديم صعب يتنسى بس مش بيؤلم زي الأول.
وافقت على ياسين.
الموضوع ما كانش سهل، بس لما قلبها اطمّن، استخارت،
وحست إن ربنا بيطمنها كل يوم خطوة بخطوة.
اتقالت الفاتحة في بيت الحاجة منيرة،
والكل كان فرحان بيهم،
بس لسه ما اتخطبتش رسمي…
كانوا مستنيين حاجة واحدة
معتز.
معتز اللي الحياة قلبته حرفيًا من النقيض للنقيض.
من الشاب المغرور اللي بيكسر بالكلمة،
للإنسان الهادي اللي كل الناس بقت بتحبه.
اتعلم معنى الوجع، واتعلم إن القوة مش في الصوت العالي ولا السيطرة،
القوة الحقيقية لما تقدر تصلح اللي بوّظته، وتقول “أنا آسف” من قلبك.
بقى بيشوف فرح كـ أخته الصغيرة،
وهي كمان بقت بتتعامل معاه كأنه أخوها اللي رجع من جديد.
مبيفوتش يوم إلا لما يسأل عنها أو يعدي عليها قبل ما يروح المستشفى.
الجلسات العلاجية كانت ماشية كويس،
والدكاترة قالوا إن رجله بدأت تستجيب بشكل ممتاز،
وبقى عنده أمل حقيقي إنه يرجع يمشي طبيعي قريب جدًا.
وفي النص…
كانت نور.
نور اللي كانت بتضحك دايمًا وتهزر،
بقت فجأة تراقب معتز من بعيد من غير ما تقول.
هو كمان كان معجب بيها،
بس مكنش بيقرّب،
يمكن خوف، يمكن إحساس بالذنب،
يمكن لأنه فاكر إنها لسه شايفة فيه الإنسان اللي وجّع فرح.
وهي… كانت مفكراه لسه بيحب فرح.
كل تصرف بيعمله معاها كانت بتفسّره كده،
فتبعد، وتحاول تخفي مشاعرها،
بس في كل مرة تشوفه وهو بيضحك، قلبها يتهز،
وتمثل إنها عادي…
كأن مفيش حاجة جواها بتوجع.
الأيام كانت بتجري بهدوء غريب،
كأن الدنيا أخيرًا قررت تديهم فرصة يتنفسوا.
بيت الحاجة منيرة بقى كله دفء وضحك،
وفرح بقت بتشوف أمل في كل تفصيلة صغيرة.
حتى ياسين،
كان بيحاول بكل الطرق يثبت لها إن وجوده معاها مش ضعف،
وإنه دايمًا هيكون السند اللي وراها.
الأيام كانت ماشية بسلاسة،
وفرح حست إنها بدأت تتعوّد على وجود ياسين في حياتها.
بقى كل يوم له طقوسه…
هو بيعدي عليها بعد الشغل،
يقعدوا عند الحاجة منيرة،
يتكلموا في حاجات بسيطة جدًا،
بس بالنسبالهم كانت أهم من أي كلام كبير.
في يوم من الأيام،
كانت قاعدة في الصالون بتذاكر شوية حاجات للشغل،
وسمعت خبط خفيف على الباب،
ولما فتحت…
لقيته واقف قدامها بابتسامته اللي بقت بتلخبطها كل مرة تشوفها.
– عاملة إيه يا فرح؟
قالها وهو داخل، فابتسمت وقالت وهي بتهزر:
– هو كل مرة لازم السؤال ده؟
ضحك وقال:
– ما هو مش معقول أشوفك وأسكت!
ردّت بخفة دمها المعتادة:
– أيوه بس كده بتحسسني إني في تحقيق مش زيارة.
قال بابتسامة مائلة:
– تحقيق إيه؟ ده أنا مجرد مواطن بيحب يعرف أخبار واحدة بتشغله باله طول اليوم.
ضحكت بخجل، وقالت:
– أنا بس بحاول أفهمك.
ردّ بهدوء وهو بيقعد قدامها:
– طب فهمتِ إيه لحد دلوقتي؟
– إنك ساعات غامض وساعات طفولي… وساعات بحس إنك بتفهمني أكتر من نفسي.
– والله العظيم ده أحلى تحليل سمعته في حياتي.
ضحكوا سوا،
وكانت لحظة من اللحظات اللي فيها الدنيا شكلها بسيط وجميل…
مفيش مشاكل، مفيش خوف.
لكن السؤال اللي كان بيعدّي في عقلها أوقات كتير وهي لوحدها:
هل الهدوء ده هيفضل كده على طول؟
ولا القدر مخبّي حاجة تانية؟
اللي محدش كان يعرفه،
إن الأيام الجاية شايلة مفاجآت،
هتختبر كل اللي بنوه،
وهتخلي كل واحد فيهم يعرف هو بيحب قد إيه…
وبيستحمل قد إيه.
-------------------
وجه اليوم اللي هيغيّر كل حاجة...
اليوم اللي محدش كان متخيله، ولا حتى فرح نفسها.
اليوم ده بدأ عادي جدًا…
فرح كانت قاعدة في أوضتها، بتراجع شغل بسيط وهي مبسوطة إن حياتها بقت مستقرة أخيرًا.
كل حاجة كانت ماشية طبيعي…بس قلبها كان وجعها من غير سبب.
لحد ما التليفون بدأ ينور في وشها.
رسائل كتير جدًا، كأن في حد مستني اللحظة دي من بدري.
كانت رسائل كتير من رقم غريب،
في الأول ما اهتمتش… بس الفضول خلاها تمسك الموبايل وتشوف.
وأول ما فتحت،
اتسمرت مكانها.
صور…
صور لياسين، قاعد في كافيه،
بيضحك، ومقابل بنت،
ولابِس نفس الهدوم اللي كان عندها بيها من كام ساعة بس.
إيديه على الترابيزة، والبنت قاعدة قدامه، شكلهم قريبين…
وقلبها وقع من مكانه لما شافت الكلام اللي مكتوب تحت الصور:
خطيبك بيخونك من قبل الخطوبة 😂
لو مش مصدقاني… ده عنوان الكافيه.
الدماغ سخنت، قلبها بيدق بسرعة،
كل حاجة جواها اتلخبطت.
قامت بسرعة، خدت شنطتها،
ونزلت من غير ما تحس برجليها.
ركبت أول وسيلة مواصلات لقتها قدامها…
عينها في الموبايل، وكل ما تبص على الصورة، وجعها يزيد.
الطريق كله كان ضباب في عينيها.
ركبت أول تاكسي لقتُه،
وكل ثانية وهي في الطريق كانت بتحس إن نفسها بيتسحب منها.
ولما وصلت الكافيه، وقفت برا لحظة،
قلبها بيخبط في صدرها.
مش قادرة تدخل ولا تمشي.
بس رجليها جريتها جوا.
وشافته.
ياسين، قاعد، ضهره ليها، بنفس التيشيرت، بنفس الضحكة اللي كانت بتحبها.
بس المرة دي، الضحكة مش ليها.
الضحكة لبنت تانية.
قربت بالراحة…
وقبل ما تنطق، سمعت البنت بتسأله وهي مميلة عليه شوية:
– طب وخطيبتك؟
ضحك وقال بصوت واطي، بس كفاية إنها تسمعه:
– خطيبتي؟ دي خطوبة غصب عني،
أمي اللي حبتها…
وأنا خطبتها شفقة، عشان كانت مسكينة، يتيمة ومفيش حد حواليها.
هي بنت كويسة ومتعلّمة، بس مش… مش ستايل،
مش اللي أنا عايزه. أنا عايز واحدة من المدينة،
تفهمني وتبقى واجهة.
الكلمات نزلت على قلبها زي السكاكين.
فرح وقفت،
صوت الكرسي اللي وراها اتحرك خفيف،
فلف بسرعة، وشه اتبدل،
اتخض لما شافها واقفة،
وشها باين عليه القهر والوجع.
قال بخضة:
– فرح!
بس هي ما سكتتش،
عيونها كلها دموع وهي بتقول بصوت بيترعش من الوجع:
– بدل ما أنا مش من مستواك... خطبتني ليه؟
بص ليها ياسين،
و سكت لحظة، وبعدين قالها بنفس البرد والقسوة اللي خلت عينيها تدمع:
– قلتلك… شفقة. صعبت على أمي، خلتني أوافق.
في اللحظة دي،
فرح حست إن كل حاجة جواها اتكسرت.
الهوى نفسه بقى تقيل على صدرها.
الكلمة دي كانت النهاية.
سكتت ثانيتين،
نطقت بصوت مبحوح، وهي بتعيّط من غير ما تحس:
– أنا مش محتاجة الشفقة بتاعتك يا ياسين.
ولفت بسرعة،
جريت،
وهي مش شايفة الطريق،
كل اللي شايفاه هو دموعها وهي نازلة،
وكل صوت في ودانها بيقول:
خطيبك بيخونك من قبل الخطوبة.
--------------------
خطيبك بيخونك من قبل الخطوبة
كلمة فضلت ترن في ودنها طول الطريق.
رجت فرح من الكافيه وهي مش شايفة قدامها،
الشارع كله دوّار، الأصوات حواليها كأنها جاية من تحت الميّة،
والناس ماشية عادي، ولا حد حاسس إن في قلب بيتكسر في نص الرصيف.
الهوا كان تقيل، بيخنقها،
دموعها بتنزل وهي مش قادرة توقفها،
كل خطوة كانت كأنها بتسحب روحها من مكانها.
مسكت الموبايل بإيدها، تبص تاني على الصور،
كأن عقلها مش مصدق، كأنها محتاجة تتأكد إن الوجع حقيقي.
وصلت البيت، دخلت أوضتها،
قفلت الباب، وسندت ضهرها عليه،
ونزلت على الأرض زي طفلة تايهة.
الدموع نازلة بهدوء، بس بعد دقيقة،
انهارت.
انهارت بكل اللي جواها.
صوت بكاها كان مكتوم،
إيدها على بُقّها علشان محدش يسمعها،
وكل كلمة قالها ياسين في الكافيه كانت بتتردد في دماغها زي صدى:
خطبتها شفقة.
هي بنت كويسة بس مش ستايلي.
وجع…
وجع ما يتوصفش.
مش بس عشان الكلام،
لكن عشان الثقة اللي كانت بنيّاها بإيديها، اتكسرت.
الطمأنينة اللي كانت حاساها، راحت.
فضلت كده وقت طويل،
لحد ما خلصت دموعها تقريبًا،
بس الوجع لسه زي ما هو.
قامت على صوت خبطة على الباب.
مسحت دموعها بسرعة،
بس وشها كان باين عليه كل حاجة.
فتحت الباب،
ولقت الحاجة منيرة،
بصّت لها وقالت بخوف:
– مالك يا بنتي؟ وشك متغير كده ليه؟
قالت فرح بصوت مبحوح:
– مفيش يا حاجة… بس تعبت شوية.
– تعبانة؟ طب أقوم أعملك كوباية نعناع.
– لا، بلاش، أنا هنام شوية بس.
دخلت وقفلت الباب تاني،
بس المرة دي قامت، غسلت وشها،
وحاولت تمسك أعصابها.
هي كانت دايمًا بتواجه،
بس النهارده… مفيش مواجهة، في كسر.
الليلة دي كانت تقيلة على قلبها بشكل ما يتوصفش.
دموعها بتنزل بسكوت، من غير صوت،
كأنها خايفة حتى وجعها يسمعه حد.
قعدت على الأرض وضمت رجليها،
كل كلمة قالها كانت بتلف في دماغها زي سكين بتتغرز ببطء.
شَفَقة.
الكلمة دي كانت بتلسعها أكتر من أي إهانة.
عدّى اليوم التاني كأنه سنة،
والتالت كان أهدى بس وجعها زي ما هو.
ولما أخيرًا سمعت خبط على الباب،
قامت تفتح وهي مش متوقعة تشوف حد…
بس أول ما الباب اتفتح،
وقف قلبها.
ياسين.
واقف قدامها، باين عليه إنه ما نامش من كتر التفكير،
عينه فيها وجع وندم،
بس هي ما قدرتش تنسى المنظر ولا الكلمة اللي كسرتها.
قالتله بصوت هادي بس فيه وجع مكشوف:
– إيه اللي جابك هنا يا ياسين؟
مش كنت بتقول إنك خطبتني شَفَقة؟
ولا جاي تكمل جميلك وتواسيني؟
هو خد نفس عميق وقال بهدوء:
– جيت أشرح، مش أواسي.
بس برضه… ما ينفعش نقعد لوحدنا هنا،
تعالي نروح شقة الحاجة منيرة، نتكلم هناك.
بصلته لحظة طويلة، فيها تعب ووجع ومشاعر متلخبطة،
وبعدين ردّت وهي بتحاول تبين ثباتها:
– ماشي.
كانت ماشية وهي مش باصّة له خالص،
بس قلبها بيخبط بعنف،
مش عارفة خايفة من الكلام اللي جاي…
ولا من اللي ممكن تسمعه منه.
دخلوا شقة الحاجة منيرة،
هي أول ما دخلت قالت وهي متوترة:
– انجز بقى يا ياسين، عايز إيه؟
قال بهدوء وهو بيحاول يسيطر على أعصابه:
– فرح، قبل ما أقول أي حاجة… خدي نفس، واسمعيني للآخر.
– أنا مش ناقصة تمثيل تاني.
– ولا أنا ناقص وجع تاني… بس المرة دي، أنا جاي أخلّص الكلام اللي ما كملش.
قعد قصادها وقال بثبات غريب:
– انتي فاكرة يا فرح يوم قراية الفاتحة؟
فاكرة لما قلتلك تحفظي الرقم اللي هكلمِك منه؟
قالت وهي مكشرة:
– آه فاكرة… بس كنت فاكرة إنك بتعمل فيها ظابط سري كده وخلاص.
ابتسم بس بنظرة فيها وجع:
– لأ، كنت قصدي فعلاً تحفظيه،
علشان أي حاجة تجي عليه تعرفي إنها مني،
بس مش كل حاجة كنت أقدر أشرحها.
فلاش باك»»»»»»».
يوم الفاتحة، بعد ما الناس مشيت،
كان واقف معاها على السلم وقال بنبرة جد:
– بصي يا فرح، الرقم ده احفظيه مش تسجليه.
وأي حاجة توصلك منه، ما ترديش عليها،
بس خدي بالك كويس… لو حاجة وجعتك أو دايقتك منه،
اعرفي إن وراها سبب.
واني الموت عندي اهون من انك تتوجعي.
ساعتها هي ضحكت وقالت له:
– هو أنا داخلة حرب ولا خطوبة؟
ضحك وقال:
– ما تعرفيش الأيام مخبّية إيه.
فرح اوعدني أي حاجة توصلك من الرقم ده، ما تصدقيهاش،
لأني مش دايمًا أقدر أشرح،
بس أوعدك لما الوقت يسمح هتفهمي كل حاجة.
عودة من الفلاش باك»»»»»»»»».
قال لها:
– كنت فاكر إنك هتفهمي يا فرح،
كنت فاكر لما يحصل أي حاجة غريبة، هتفتكري كلامي،
بس ما كنتش متخيل إنهم هيوصلوا للدرجة دي!
قعد يتنفس بسرعة كأنه بيحاول يلم أفكاره،
وبصّ فيها وقال:
– الكلام اللي سمعتيه في الكافيه،
كل كلمة فيه كان لازم تتقال بالشكل ده،
أنا كنت تحت رقابة ٢٤ ساعة،
العصابة اللي كنت شغال عليها ما كانتش بسيطة،
كانوا مراقبيني في كل خطوة وكل مكالمة وكل ابتسامة.
فكان لازم يبان إنك مجرد بنت اتخطبتلي بالعافية،
وإن أنا مش متمسك بيكي.
اتسعت عينيها وقالت بصوت مخنوق:
– يعني كلمة شَفَقة دي كمان تمثيل؟
قال بصدق:
– أيوه… وكنت متأكد إنك هتفتكري كلامي وقتها.
فاكرة لما قلتلك لو سمعتِ مني كلمة اي وجع،
اعرفي إن وراها سبب،واني عمري ما اوجعك أبداً؟
دي كانت الكلمة اللي قصدتها… شَفَقة.
دموعها نزلت غصب عنها،
وقالت وهي بتحاول تسيطر على صوتها:
– طب ليه ما قلتليش من الأول؟ ليه خلتني أتكسف قدام الناس كلها؟!
قرب منها وقال بصوت هادي لكن مؤلم:
– لأنك لو كنتي عرفتي إنك جزء من خطة،
كان هيبان على وشك إنك فاهمة،
وهم كانوا شُطار في قراءة الوشوش أكتر مننا بكتير.
كانوا هيعرفوا إني بكدب عليهم… وساعتها كانوا هيجوا عليك.
أنا ما كنتش مستعد أشوفك في خطر، ولا حتى بنسبة واحد في المية.
وقفت وهي ماسكة دموعها وقالت بحدة:
– بس أنا كنت هموت من وجعك!
رد وهو واقف قدامها وبصوته هادي جدًا بس مليان وجع:
– وأنا كنت بموت وأنا شايفك بتتوجعي،
بس الفرق إنك كنتي بتتوجعي منّي،
وأنا كنت بتوجع منك ومن نفسي ومن كل كلمة اضطرّيت أقولها عشان أحميك.
سكت لحظة وقال:
– وعلى فكرة، أنا ما جيتلكيش غير لما القضية خلصت خلاص.
أنا ما دُخلتش بيتك غير وأنا متأكد إن كل حاجة انتهت،
علشان أبقى راجل قد كلمتي لما قلتلك إنك هتفهمي كل حاجة في وقتها.
بصت له، دموعها سابت عينيها من غير ما تتكلم،
فكمل هو بصوت متكسر:
– ما كنتش عايز منك تصدقي الصور،
كنت عايزك تصدقي إحساسي،
بس يمكن الغلط إن أنا كنت فاكر إن الحب لوحده كفاية من غير كلام.
سكتت لحظة،
وبعدين ابتدت تهز راسها ببطء…
الدموع كانت بتنزل من غير ما تحس،
لكن المرة دي مش دموع وجع بس…
دي دموع قهر،
قهر إنها كانت بتدافع عنه قدام نفسها،
قدام كل اللي حواليها،
وفي الآخر تطلع كانت بتحارب لوحدها.
قعدت على الكرسي اللي وراها كأن رجليها ما بقتش شايلها،
ورفعت إيديها على وشها وقالت بصوت مخنوق:
– أنا كنت كل يوم بدعي ربنا يحميك،
كنت بفرح لما أسمع اسمك حتى وأنا متضايقة منك،
كنت بصدّق أي حاجة فيها ياسين…
كنت بدافع عنك حتى وأنا بتكسر من جوايا.
صوتها بدأ يعلو شوية، والدموع بتزيد:
– وانت كنت بتقول إنك بتحميني؟
بتحميني بإيه؟
بكلمة وجعتني قد السيف؟
بصورة كسرت ضهري وأنا شايفاها؟
ولا بالناس اللي فضلت تبصلي كإني مغفّلة؟
قامت واقفة وهي بتمسح دموعها بسرعة،
قربت منه وقالت بعصبية مكسورة:
– كنت بتحميني من إيه؟
من الناس؟
طب ومن نفسي؟
من قلبي اللي كان بيصدقك في كل مرة حتى وانت بتوجعني؟
حاول يمد إيده ناحيتها،
بس هي رجعت خطوة لورا وقالت بصوت عالي:
– بلاش تلمسني يا ياسين، أنا مش قادرة أتنفس!
اتجمد مكانه، صوته اتكسر وهو بيقول:
– فرح… لو تعرفي أنا كنت بتعذّب قد إيه وأنا بعيد عنك…
قاطعته وهي بتصرخ:
– كنت بتتعذّب؟ طب شُفت اللي أنا كنت فيه؟
كنت ببات كل ليلة وأنا ببكي وبسأل نفسي أنا عملت إيه يستاهل كل ده؟
كنت ببص في المراية ومش شايفة نفسي،
كل اللي كنت شايفاه إنسانة اتكسرت بسبب كلمة منك!
انهارت قاعده على الأرض، دموعها نازلة بغزارة،
وصوتها واطي وهي بتقول:
– أنا كنت فاكرة إنك أماني يا ياسين…
بس طلعت خوفي الكبير.
هو وقف قدامها، مش عارف يعمل إيه،
عينه فيها دموع، بس صوته اتكتم وهو بيقول:
– يا ريت كنت تعرفي إني كنت بموت وأنا شايفك بتبعدي،
يا ريت كنتي حسيتي قد إيه كنت كل يوم بلوم نفسي إني خنت ثقتك بيّ.
بصت له بعينين مليانين وجع، وقالت بهدوء قاتل:
– كفاية يا ياسين، أنا مش قادرة أسمع أكتر من كده.
كل كلمة منك دلوقتي بتفتح جرح تاني.
قرب منها خطوة، بس هي قالت بصوت عالي واضح:
– امشي يا ياسين.
سكت، بيحاول يصدق إنها قالتها فعلاً.
قرب شوية كأنه هيقول حاجة،
لكن شاف دموعها اللي مبتقفش،
وسمع صوتها وهي بتكررها وهي بتترجّف:
– امشي يا ياسين… امشي.
انت وجعتني قوي… أكتر من أي حد في الدنيا.
فضل واقف لحظة،
يبص فيها كأنه عايز يطبع صورتها في عينه قبل ما يبعد.
وبعدين أخد نفس طويل،
قال بصوت مبحوح:
– حقك عليا يا فرح… والله حقك عليا.
لف وخرج من الشقة،
وساب الباب يتقفل وراه بهدوء،
وصوت قفل الباب كان بالنسبالها نهاية كل حاجة جميلة كانت بينهم.
وقعدت مكانها،
بتبكي زي طفلة صغيرة،
مش قادرة توقف دموعها،
ولا قادرة تصدق إن الوجع اللي كانت خايفة منه… بقى حقيقة.
-------------------------
عدّى يوم… واتنين…
وبقوا أسبوع.
فرح حبست نفسها جوا أوضتها كأن الدنيا برا الأوضة دي خلاص ما تخصهاش.
كل ما حد يخبط… تسكت.
كل ما الموبايل يرن… تبص عليه لحظة وتسيبه.
رقم ياسين كان بينوّر شاشتها كل شوية،
رسايل، مكالمات، محاولات…
لكن الرد؟ صمت.
الحاجة منيرة كانت بتدخللها الأكل،
وتحطّه وتخرج من غير كلام.
كانت شايفاها بتضعف يوم عن يوم،
بس ما كانتش عارفة تعمل إيه غير الدعاء.
أما ياسين، فكان شكله كفاية يحكي القصة كلها.
وشه باهت، الهالات سودا، صوته رايح.
بيروح بيت الحاجة منيرة كل يوم، يقعد في الصالة شوية،
يسألها طلعت؟
ولما تسمع الإجابة اللي بقت محفوظة:
لأ، ما خرجتش.
يقوم ويمشي وهو حاسس إن قلبه بيتقطع حتة حتة.
سبعة أيام بالتمام.
سبعة أيام من الصمت اللي وجعه أكتر من أي كلمة.
وفي اليوم الثامن،
قررت فرح تخرج… تزور معتز في المستشفى زي كل مرة.
كانت محتاجة تهرب من نفسها،
من الحيطان اللي حافظة صوت بكاها،
من كل حاجة فيها ريحة ياسين.
دخلت أوضته بابتسامة مجاملة،
قالها وهو بيحاول يقوم:
– نورتينا يا فرح.
– ازيك يا معتز؟
– بخير والله… بس شكلِك انتي اللي مش بخير.
قالها بنظرة فاحصة وهو بيحاول يخفف الجو بهزار بسيط:
– مالك يا فرح؟ فيكِ إيه؟
– مفيش يا معتز.
– لا، في.
ابتسم بخفة وقال
– مش هتعرفي تضحكي على انا مخبوط في رجلي مش في العيون.
وجعك باين، والقهر واضح.
سكتت.
عينها نزلت لتحت، كأنها مش قادرة تبصله.
قالها بصوت هادي مليان طيبة:
– فرح… اعتبريني أخوكي، زي ما بتقولي.
احكي لي… إيه اللي وجعك؟
سكت لحظة وقال بهدوء:
– هو حصل بينك وبين ياسين حاجة؟
فضلت ساكتة لحظة، وبعدين قالت بصوت مخنوق:
– هو اللي بيني وبين ياسين خلص خلاص.
وحكت له كل اللي حصل…
من أول الصور، للكلام اللي سمعته، لحد اللحظة اللي قالت له فيها امشي.
معتز فضل يسمعها للآخر، ما قاطعهاش ولا مرة،
ولما خلصت، بصّ لها بنظرة كلها هدوء ونضج وقال:
– فرح، أنا مش هقولك إن ياسين ما غلطش،
غلط… ووجعك… وكسرك كمان.
معتز فضل ساكت شواية كمان، وبعدين قال بنبرة هادية جدًا:
– طيب اسمعيني كده يا فرح،
أنتِ لسة قايله انه الرقم اللي إداهولِك؟ اللي قالك ما تسجليهش واحفظيه؟
– أيوه فاكرة.
– طيب، ما فكرتيش ليه قالك كده من الأساس؟
– ما فكرتش…
– عارفة ليه؟
لأنك كنتِ مصدومة، مش قادرة تركّزي ولا تحللي.
بس بصي بقى، أنا هقولك حاجة يمكن تصدمك شوية:
ولانك اكيد ما اخذتيش بالك منها الصور دي… هو اللي بعتها لك.
اتجمدت مكانها:
– إيه؟! إزّاي يعني؟!
– أيوه، هو اللي بعتها.
بس مش عشان يوجّعك،
عشان يحميك.
فضلت ساكته، صوتها اتكسر:
– يحميّني بإيه؟ دا وجّعني وجع عمري كله يا معتز.
– عارف، والله عارف.
بس هو ما كانش قدامه غير كده.
القضية اللي كان شغال عليها كانت كبيرة جدًا، والناس اللي بيتعامل معاهم خطرين.
وكان لازم يبان قدامهم إن علاقتكوا خلصت فعلاً.
ففكر بطريقة تقطع الشك من ناحيتك ومن ناحيتهم.
فبعتلك الصور بنفسه.
هو كان متأكد إنك هتتصدمي وتبعدي،
بس كان شايف إن ده أأمن ليكي من إن حد يقرّب منك.
دموعها بدأت تنزل وهي بتقول:
– يعني هو اللي وجّعني بإيده؟
– آه، بس عشان يحميكي بإيده برضه.
هو غلط طبعًا، ما حدش يقول غير كده،
بس هو اختار القسوة على نفسه بدل ما يعرضك للخطر.
قعدت تبكي، وقالت بصوت مبحوح:
– اللي ما قصّر فيّ يا معتز…انو وجّعني قوي.
– وأنا مش بلومك إنك موجوعة،
بس صدقيني، هو كمان موجوع أكتر منك.
كل اللي كان بيعمله فيك كان بيكسره.
بس انتي ما كنتيش شايفة غير الصورة اللي قدامك.
سكت لحظة وبعدين قال:
– طب فكّري بالعقل يا فرح،
هو في واحد عاقل، بيحب واحدة،
يبعتلها صور ليه مع بنت ويقولها خطيبك بيخونك؟
مش ده لو كان عايز يخون فعلاً كان خبّى؟
هو كان عايزك تصدقي إنك خلاص بالنسباله خلصت،
عشان محدش يقربلك ولا يهددوا بيكِ.
فضلت تبص في الفراغ، ملامحها كلها وجع وحيرة.
قال معتز بلُطف:
– ياسين يمكن ما اختارش الطريقة الصح،
بس نيتُه كانت صافية.
الوجع اللي فيكي ده، هو كمان حاسّه يمكن أكتر منك.
قامت من مكانها بهدوء وقالت بصوت مكسور:
– أنا محتاجة أمشي شوية يا معتز.
– خدي وقتك، بس أوعي تظلمي قلب بيحبك بالشكل ده.
اتنهد وقال وهو بيحاول يختار كلماته:
قبل ما تمشي عاوز اقولك حاجه:
لما إدالك الرقم وقالك أي حاجة توصلك عليه تبقى مني؟
هو كان بيحذّرك يا فرح،
كان عايز يقولك بطريقته إن ممكن تيجي لحظة يبان فيها إنك وجعاه أو إنك اتظلمتي،
بس ما تصدقيش بعينيك… استني تسمعي منه.
الواد ده ما كانش عايزك تتورطي في اللي بيحصل في شغله،
القضية اللي كان شغال عليها خطر.
ده ظابط، يعني بيعيش بين الكذب والتمثيل لحد ما الحق يظهر.
بس التمثيل المرة دي وجع قلبه فعلاً.
سكت لحظة، وبعدين كمل بصوت فيه حنية غريبة:
– أنا عارف إنك موجوعة،
بصت له وهي بتعيط وقالت:
– بس أنا اتكسرت يا معتز.
قال لها وهو بيطبطب على إيدها:
– ما فيش وجع بيدوم، يا فرح.
بس أوقات ربنا بيمتحن قلوبنا،
يشوف هل نصدق اللي بنحبه ولا أول شكّ نهرب.
ياسين مظلوم، وأنا متأكد،
وشكلك كده ظلمتيه من غير ما تقصدي.
بس خلي بالك يا فرح… القهر ده قاتل.
قهر الراجل بالذات.
النبي ﷺ قال:
“اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تُرفع فوق الغمام، يقول الله لها: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.”
والقهر ده، مش بس للضعيف،
الراجل كمان لما يتقهر… بيتكسر بصمت،
بيتخنق وما يعرفش يعيّط،
وكل اللي جواه بيتحول لحزن ساكت.
بصّ لها وقال بصدق يخترق القلب:
– ياسين دلوقتي بيتقهر.
مش عشان اتكشف،
عشان خسر البنت الوحيدة اللي كان شايف فيها راحته.
أنا عارف كويس،
الواد ده لما بيحب بيحب لله، مش تسلية.
هو غلط، أيوه، بس صدقيني… ما خانكيش.
خايف عليكي، ويمكن بالغ في خوفه لدرجة وجعك،
بس القلب اللي بيخاف كده، عمره ما يكون خبيث.
سكت شوية، وبصّ لها نظرة كلها حنية:
– الراجل لما يتظلم من اللي بيحبها… بيتكسر من جوه.
وصدقيني، قهر الراجل وجعه مش زي أي وجع.
بيكتمه، بس بيعيش فيه سنين.
وأنا متأكد إنك أول ما تشوفيه وتسمعي منه،
هتعرفي إن ياسين كان بيحارب عشانك، مش ضدك.
فرح كانت ساكتة،
دموعها نزلت وهي بتحاول تمسحها بخفة.
قالها معتز وهو بيبتسم بهدوء:
– ما تظلمهوش يا فرح.
الناس اللي زي ياسين، لما يحبوا حد بصدق… بيتعذبوا ضعف العذاب.
وبيفضلوا شايلين الذنب طول عمرهم.
مدّ إيده وقال لها بنبرة أبوية:
– روّحي صلّي ركعتين استخارة من تاني.
مش علشان ترجعي له فورًا،
لكن علشان قلبك يعرف الطريق من غير ما الشيطان يدخل بينكم.
ابتسمت ابتسامة حزينة وقالت:
– ادعِيلِي يا معتز.
– ربنا يختار لك الخير،
ولو الخير في ياسين، هيرجعلك بطريقته اللي محدش هيقدر يمنعها.
وإن ما كانش… ربنا هيعوّضك بحاجة أجمل،
لأن اللي بيدّعي من قلبه عمره ما بيتساب.
كل كلمة كانت بتدخل جواها زي سكينة وبلسم في نفس الوقت،
بتوجعها، وبتريحها في آن واحد.
ولما قالها في الآخر بصوت بسيط:
– ياسين عمره ما شافك شفقة،
هو شافك نصّه اللي كان مستنيه.
ساعتها ما قدرتش تمنع دموعها،
ولا قدرت تنكر إنها كانت لسه بتحبه،
حتى وهي بتقول لنفسها إنها خلصت منه.
سكتوا لحظة،
وبعدين قالت بصوت واطي وهي تبص بعيد:
– يمكن أنت عندك حق…
بس الوجع صعب يا معتز.
رد وقال بهدوء:
– عارف يا فرح،
بس الوجع ده ساعات بيكون بداية الشفاء.
خرجت وهي مش عارفة تحس بإيه…
بين الغضب، والحنين، والتصديق اللي بدأ يزحف على قلبها رغم عنها.
وصلت البيت وقعدت على السرير،
وفضلت تبص في الفراغ،
وكلمة معتز بترن في ودنها:
"اللي بيخاف عليك، ممكن يوجعك بس مش هيأذيك."
لحد ما سمعت صوت الموبايل بيرن.
بصت…
ياسين بيتصل.
نفسها اتقطع،
إيديها بتترعش وهي شايفة اسمه.
لحظة صمت طويلة…
وبعدين ردت.
صوته جه هادي، متوتر:
– فرح، ممكن أكلمك دقيقة بس؟
– في إيه تاني يا ياسين؟
– ممكن أشوفك، ضروري.
سكتت شوية، وبعدين قالت:
– أنا مش فاضية.
– فرح، أرجوكي، دقيقة واحدة بس،
وبعدها لو عايزة تمشي… امشي.
كانت هتقول لأ،
بس في صوت جواها قالها اسمعيه.
وافقت، وقالت بصوت متعب:
– تمام، خمس دقايق بس.
----------------------
يتبع.
يترا فرح هتسامح ياسين علي اللي حصل؟
ويترا ياسين فعلا مكنش يقصد؟
كل ده هنعرفه في البارت الجاي باذن الله ♥


تعليقات
إرسال تعليق