expr:class='data:blog.languageDirection' expr:data-id='data:blog.blogId'>

رواية ندبات الفؤاد الفصل الثالث عشروالرابع عشر والخامس عشر كامله علي مدونة النجم المتوهج للروايات



رواية ندبات الفؤاد

 الفصل الثالث عشروالرابع عشر والخامس عشر


أنهت نهى حديثها مع والدتها وأخبرتها بأدق التفاصيل التي سمعتها من خلال حديث شمس ومنال، انتظرت ثوان قليلة رد والدتها، ولكن يبدوا أنها غرقت في عالم آخر من التفكير، لم تجيد تفسير حالتها الشاردة تلك وكأنها تحيك لشيء ما، كانت تنتظر ردود تريح بها الجزء النابض بصدرها...فؤادها المتعلق بزيدان الغائب دومًا، فقالت بنبرة هادئة يتخللها القلق:


- يعني  تفتكري ده سبب غيابه يا ماما!.


مرت ثوان ولم تجيب ميرڤت، بل تجاهلت حديث ابنتها عن قصد، فالوضع الحالي أعمق وأخطر من أحلام ابنتها التافهه.


رمشت نهى بأهدابها، تنتظر رد من والدتها، فقالت بضيق واضح:


- ماما أنا جايه احكيلك علشان تريحني وتقوليلي زيدان مبيردش عليا علشان كده.

 

صمت آخر اغتاظت بسببه، فعادت تكرر سؤالها مجددًا بهدوء، ولكن الهدوء تحول للفزع، حينما صرخت والدتها بوجهها:


- ارحميني يا نهى شوية، متبقيش هبلة زيدان إيه ونيلة إيه!، خلينا في سليم.


توسعت أعين نهى، ونهضت واقفه تنظر بذهول لها:


- سليم ..أنا مالي به، أنا ليا دعوة بزيدان، يا ماما متخلنيش اندم ان حكتلك، أنا ماليش صحاب إلا أنتي.


- وزيدان مطنشك يا روحي، علشان  أخوه هو اللي انفصل عن مراته..مش هو..يعني عدم رده مطنشك، عايزة تسمعي كده.


قالت ميرڤت حديثها بنبرة ساخرة جرحت نهى التي طالعتها بحزن، فقالت بإصرار وعند:


- لا أنا متأكده انه زعلان علشان خاطر سليم، أصلهم بيحبوا بعض اوي مش زينا.


أنهت حديثها واتجهت صوب غرفتها، تحت نظرات غاضبه من ميرڤت:


- قصدها إيه البت دي، يعني أنا معرفتش اربيكوا!.


وقفت نهى على باب غرفتها، ثم قالت بأنف مرفوع وصوت يحمل لمحة من الكبرياء بعدما جرحت كرامتها:


- معرفش بقا، وعلى فكرة زيدان كان بيكلمني الفترة اللي فاتت حلو جدًا بس هو قطع معايا بقاله مده بسيطة فأكيد علشان الظروف دي.


أنهت حديثها وأغلقت الباب، فعادت ميرڨت واتخذت من كرسيها مقعدًا لها، تزامنًا مع تحريك فمها يمينًا ويسارًا:


- هبلة، أنا مخلفه هبلة، سايبة الراس الكبيرة ومركزة على حته عيل ظابط ولا راح ولا جه، الفرصة جتلك تاني يا ميرڤت.


غرقت مجددًا في عمق تفكيرها المنصب حول كيفية استغلال ذلك الموقف لصالحها، طالما حلمت بزواج سليم ونهى، رغم كرهها له، ولكن مكانته وامتلاكه للعديد من محلات الذهب جعلتها تعيد تفكيرها من ناحيتهم، بعد فترة انقطاع كبيرة عقب سحب أموالها من إدارة اخيها، وايضًا فترة مرضه التي رقدها بالمشفى..ناهيك عن لقاء بينها وبين سليم قطع العلاقة بينهما تمامًا..وكشف حقيقة مشاعرها أمامه.


ضغطت فوق شفتاها غيظًا وقهرًا على لقاء كلما تذكرته، شعرت بحاجتها لضرب نفسها على ما فلعته!.

                              ***

جلست ميرڤت في المحل المملوك لزوجها بعد التوسعات التي قامت بها في المحل بعدما سحبت ميراثها من أخيها، نظرت للمحل ومساحته الجديدة بفخر انتفخ صدرها لأجله، وعيون منتصرة في معركة خاضتها مع نفسها لايقاع اسم أخيها في السوق طالما كانت حاقدة عليه وعلى نجاحه المبهر وسمعته المشرفة.


لمحت دخول سليم ابن اخيها من الباب، وجسده الضعيف ينم عن فقدان وزنه بسبب جلوسه الدائم مع والده في المشفى، لم ترأف بحالته، حتى إنها لم تهتم بمجيئه إليها، وقابلته بفتور جعل سليم في أوج مراحل التوتر والقلق من رد فعل عمته.


- ازيك يا عمتي.


قالها سليم بنبرة متوترة من عينيها الحادة، فردت ببرود:


- أهلاً..خير يا حبيبي جاي ليه؟!


ابتلع سليم لعابه وهو يراقب ملامحها الجامدة، وأخبرها بنبرة خافتة:


- أنا جاي علشان...


قاطعته بنبرة حادة بعض الشيء وأشارت له:


- علي صوتك يا حبيبي، هي القطة كلت لسانك ولا إيه!.


حمحم سليم بخفوت، ثم أردف بتهذيب:


- حضرتك أنا جاي علشان اتكلم معاكي في موضوع يخص بابا.


ارتدت قناع القلق قائلة :


- مالو أبوك..هو لسه تعبان في المستشفى!.


راقب سليم تصرفاتها الزائفة بتعجب، حتى أنه تفوه بعفوية:


- مانتي عارفه انه مخرجكش من المستشفى!.


- اممم عايز إيه يعني.


عادت نبرتها الفاترة تسيطر عليها، مشيرة لها بالسرعة في الحديث، تشجع سليم وأخبرها بقرار والدته بحقه، وكتفكير شاب في بداية المراهقة عقله دفعه بالتوجه لعمته كي يطلب منها استرجاع حقوقها لوالده حتي يستطيع استعادة جزء من محلاته، وتعويض الخسارة الفادحة التي طالته، على وعد بتسديدها في أقرب وقتها.


- بابا لما يفوق ويرجع لصحته ان شاء الله يقدر يرجع كل حاجة زي ما كانت بس لو فيه رأس مال كبير، فلوس ماما على فلوس حضرتك ونقدر نعدي الخسارة وبعدين يرجع ليكي فلوسك كلها..بس نساعده في الاول.


كانت ملامحها خالية من التعابير، وكأن وجهها منطقة خاوية مخيفة مما أقلق سليم، وجعله ينتظر ردها على أحر من الجمر.


- وأنا اعمل ليه كده؟!.


رد بحماس وأمله يزداد تدريجيًا:


- علشان بابا يرجع لمكانته تاني، وأنا اقدر ادخل كلية الشرطة اللي نفسي فيها..وبعدين أنا عارف انتي سحبتي فلوسك علشان أكيد..


- علشان أنا زهقت وعايزة أكون لوحدي، ابوك يا حبيبي بقاله سنين واخد السوق في جيبه وساكتين، إيه هياخد زمنه وزمن غيره، وبعدين هو كبر وبقا يخرف فأكيد هيخسر.


كور سليم يده بضيق حاول دفنه، فقال:


- بابا مكبرش ولا خرف، الخسارة أي حد ممكن يتعرضلها.


قالت بتهكم:


- وأنا اجازف ليه!...


توقفت لبرهة ثم عادت تردف بسخرية:


- آه علشان انت تدخل كلية الشرطة،  طب متدخلش وأنا مالي..علشان أبوك يرجع تاني لشغله، ياريته ما يرجع..أصل أنا لو عايزة يرجع كنت عملت كده من الاول.


الآن صدقت والدته في كل كلمة كانت تخبره بها عن جشع وحقد عمته اتجاههم، حرباء متلونه كانت تنعم في نعيم والده، تأخذ ما تريده في أي وقت كان، لا يحاسبها والده عن أي شيء، وبالأخير ظهر معدنها الحقيقي.


بدأت بذرة الكره تتأخذ حيذًا في قلب سليم، وانشغل عقله بالتفكير في كيفية رد ما فعلته الصاع صاعين، سيجعلها تندم عن كل حرف تفوهت به، ولن يعطى لها فرصة في التشفى بهم.


تجرأ لأول مرة بحياته، ورمقها باشمئزاز واضح، ثم التفت كي يغادر ولكنها استوقفته بصوت متعاطف يكمن خلفه الخبث:


- معلش يا حبيبي مش مكتوبالك تدخل الشرطة، إن شاء الله سمير يدخل ويشرفنا كلنا.


انكسر جزء بداخله جعله يندم عن قراره باللجوء لعمته، لم يكن يدرك حجم الكره والحقد التي تكنه نحوهم، يبدو أن صغر 

سنه جعله غير مدركًا لنفوس كان يظن بها الخير.


استدار بجسده مغادرًا المحل بسرعة، قبل أن يختنق بداخله، ولأول مرة ذاق مرارة الندم، أوقفه أحد العاملين بالمحل واضعًا بيده رزمة من المال:


- عمتك بتقولك خد دول ينفعوكوا الفترة دي.


أي إهانة تريد أن يتذوقها، لِمَ تصر على إظهار أسوء ما لديها، لم تشعر بالخجل وهي تقدم على فعل مهين كهذا، ولكن اللوم يقع فوقه هو..هو من سمح لها بذلك، ولكنها كانت مجرد فكرة ينقذ بها حلمه الذي دُهس بقرار والدته..وكلام عمته الجارح.


استسلم سليم للواقع المفروض عليه، وقبل أن يذهب توقف أمام العامل بكبرياء قائلاً بنبرة تحمل الاصرار والكبر:


- قولها..اوعي تكوني فاكرة انك وقعتي اسم الشعراوي من تجارة الذهب، وخليها تحفظ اسمي كويس علشان هيكون الاسم اللي هيخلها تخاف تقف قصاده.


استدار بجسده..متوجهًا صوب المحل الكبير، مقررًا تنفيذ رغبة والدته..والرضوخ لحاضر مظلم ومستقبل مجهول!.

                               ***

عادت ميرڤت من شرودها وهي تهمس بندم:


- يعني لو كنت عاملت  الواد حلو كان زمانه تحت ايدي دلوقتي.


أخرجت تنهيدة وهي تحاول التفكير بشكل جيد تستفيد منه...لا تنسى أمر عرضها القديم والذي عرضته على محمد أخيها بالتصالح وزواج سليم ونهى..حتى أنها شعرت بترحيب طفيف منه، ولكن العقربة منال كما تطلق عليها وسليم عارضوا بشدة.


كانت محاولة قديمة لكسب سليم لصفها، فشخصية مثله بذكائه وقوة شخصيته ونجاحه في إعادة هيكلة المحلات ونجاحه المثمر في تجارة الذهب، يجعلها تعيد التفكير به..لعب الطمع مجددًا بها وركضت خلفه تلهث تقسم على تحقيق أمانيها رغم كرهها لهم.


وقفت قائلة بحماس:


- طيب وإيه يعني ما الفرصة لسه قدامي، وإن معرفتش احققها..اقهره واشمت فيه.


                              ***

بعد مرور عدة ساعات.


- إزاي ياعني سيبتها تمشي!.


خرج يزن عن هدوئه الدائم، وفقد أعصابه موجها حديثه لوالدته التي كانت تبكي بزاوية في أحد اركان غرفتها:


- اعمل إيه أصرت والله!.


تحرك يزن يمينًا ويسارًا..وخلخل أصابعه بشعره الكثيف مشددًا عليه يحاول التفكير:


- ياعني إحنا هنجيبها من القطر ازاي دلوقتي، يا ماما كنتي رجعيني من شغلي وقوليلي كنت قعدتها.


-  اتصلت بيك كتير تليفونك غير متاح وزيدان مبيردش، و بعديز مرضيتش يابني،  وقالتلي لو أصريت عليها هتاخد أنس.


- مين اللي ياخد أنس.


اندفع زيدان للغرفة بقلق، حينما استمع لصوت بكاء والدته:


- شمس مشيت من البيت وسافرت اسكندرية علشان تقعد في شقة أبوها اللي أمك  وأبوك مش فاكرين أصلا عنوانها إيه.


زفرت منال بعصبية بعدما تفاقم لديها الحزن وشعرت بألم حاد برأسها:


- نسيت اسالها يا يزن..نسيت.


نفخ زيدان بضيق حيث تراكمات الخيوط أمامه وشعر بصعوبة فكها:


-أخوك لو عرف هيخرب الدنيا فوق دماغنا.


انشغل يزن بالاتصال بشمس، ولكن هاتفها في كل مرة مغلقًا..بدأ في إرسال الرسائل لها على أمل أن تراها في أي وقت، بينما توجه زيدان لمنال يستفهم منها على التفاصيل، وما إن أنهت حديثها، حتى صاح زيدان:


- طيب خلاص هي سابت أنس، وشمس اكيد هترجعله تاني، لما ترجع مش هنخليها تمشي.


التفت يزن لوالدته يسألها باهتمام بعدما غاب عن ذهنه نقطة مهمة:


- هي سابت أنس ليه؟!

                              ***

اغلقت شمس باب الشقة المملوكة لوالدها الحبيب رحمة الله عليه، حيث في اواخر مرضه اضطر لبيع جزء كبير من أملاكه بما فيهم منزله بالقاهرة وقرر شراء شقة بالمدينة المحببه له والباقي يقضي مصاريف علاجه الشهرية المكلفة، ونتيجة الظروف الصعبة التي مر بها لم يترك لشمس سوى تلك الشقة فقط.


طالعت الاثاث بعيون باكية، تتمنى عودة والدها لها، فقدانه سبب في شرخ كبير لديها، وجع غيابه مازال مؤثرًا بها يشعرها بمدى اشتياقها لمشاعر من الصعب الحصول عليها إلا منه هو...هو السند..والحماية..الاحتواء..الحنان..الأمان.. الحب دون مقابل..هو النبض الدائم، حتى وإن فرقهما الموت سيظل يحيى بقلبها..هو ببساطة تتلخص به كل المعاني السامية.


انفجرت شمس تجهش ببكاء أخرجت به كل الأوجاع التي مرت بها، تبكي..وتبكي فقط، تحاوط نفسها بيدها وكأنها تستمد الدفء التي افتقدته فجأة..تشعر بخواء يقتل روحها، وخوف يداهم عقلها بشراسة، لم تعرف ما الخطوة القادمة..ولم تحاول التنبؤ بمستقبلها المجهول..تركت نفسها للأيام..حتى وإن كانت مليئة بعواصف تسحق هيكل تماسكها..ولكن لن يهم، الأهم انها استطاعت الحفاظ على جزء من كرامتها المهدورة بسبب افعال سليم بحقها.. استطاعت استرداد روحها الغائبة وفقًا لقواعدها الجديدة.


استندت على الاريكة التي جلست عليها أثناء بكائها، وقامت تتفقد الشقة وتتذكر ذكرياتها البسيطة مع والدها هنا..شكرت الله أن جارتها في البناية صديقة والدها مازالت تحتفظ برقم هاتفها..والاخيرة لم تتأخر بل نفذت اوامر شمس بصدر رحب وأرسلت العاملات لتنظيف الشقة لاستقبال صاحبتها.


انتبهت لطرق الباب..مسحت دموعها ووقفت أمام المرآه تحكم حجابها وتمسح بواقي الدموع المتعلقة بجفنيها، ثم ذهبت تفتح الباب بابتسامتها الصافية:


- أهلاً يا طنط...اتفضلي.


دخلت " ام رجاء" إلى الشقة تتابع نظافتها عن كثب، اطمئن قلبها وهي تتحدث لشمس:


- الحمد لله البنات ظبطوها في وقت قياسي، دي كانت متبهدلة!.


هزت شمس رأسها متفهمة نظرًا لتركها الشقة منذ وفاة والدها ولم تدخلها أبدًا، حتى حاجتها في تذكر تفاصيليها المحببه مع والدها منعها سليم منها، بسبب خوفه عليها من البكاء، حتى البكاء تدخل فيه ومنعها منه وهو أبسط حقوقها..استبدادي من الدرجة الاولى، و في ظل شرودها من اختيار افضل الالفاظ تليق به تعبر عن مدى قسوته..انطلقت ام رجاء تسألها بفضول:


- هو فين جوزك ..مجاش!.


ارتبكت للحظات من سؤالها، وامتلئت عيناها بالدموع..فتحولت ملامح الأخرى للحزن قائلة :


- البقاء لله يا حبيبتي.


قاطعتها شمس سريعًا وقررت الايجاب بصدق:


-  بعد الشر..احم..كل الحكاية انا اطلقت.


شهقت بصدمة وهي تضرب فوق صدرها بخفة:


- لا حول ولا قوة إلا بالله...ده ابوكي كان بيقول أنه أمير وبيحبه اووووي، مكنش بيبطل كلام عنه. 


تظاهرت شمس بادخال حقيبتها كي تحاول التحكم بنفسها، فلن تلعب دور الضعيفة الباكية بعد الآن.


- ربنا يوفقه في حياته، المهم يا ام رجاء عايزكي في موضوع مهم جدًا وياريت تسمعي الكلام فيه!.


استمعت السيدة باهتمام بالغ لشمس، تحرك رأسها بالايجاب مع كل كلمة تنطقها شمس في خطة وضعتها سابقًا كي تهرب من براثن سليم الشعراوي وتبدأ حياة جديدة...لقد هُيء لها عقلها هذا الوضع، ولم تدرك بمدى إصرار ذلك العنيد على جلوسها تحت مظلته، لن تصبح لغيره، ولن تخرج من كنفه أبدًا.

                             ***

اغلقت ليال التلفاز بنفاذ صبر بعد محاولات عديدة في الانشغال عن ألم معدتها الزائد عن حده اليوم..فركت بطنها بيدها عدة مرات وآهات خافته تخرج منها.


نظرت للساعة فوجدتها قاربت على التاسعة، قررت الذهاب لصيدلية أفضل من التأخير أكثر.


ارتدت ثيابها بسرعة، وأغلقت باب شقتها ثم هبطت الدرج، توقفت على أعتاب المنزل تحارب تفكيرها الذي تحول فجأة نحو سيف..حتماً ستقابله بعد غياب دام لاسابيع،  وتفشل محاولاتها في الابتعاد، لقد اختفت عن نظراته عمدًا، وهو بالتأكيد لم يكلف خاطره بالسؤال عنها.


زفرت بحنق من نفسها التى تتمنى أمورًا صعبة الحدوث..شعرت بحاجتها الشديدة للمسكنات كي تزول الالام معدتها..ولكن كيف  يزول ضجيج عقلها والذي يبدوا أنه مرهقًا في الفترة الأخيرة.


رفعت رأسها تستنشق الهواء ثم قررت الذهاب دون أن ترفع وجهها وتقابل نظراته التي اشتاقت لها بكل مافيها من مشاعر قد تجرحها كأنثى.


ذهبت في طريقها بخطوات سريعة وركزت أكثر على الالام معدتها كي لا تنجرف خلف فضولها، شعرت بجلوسه أمام ورشته، دق قلبها لهيبته، واتنفض عقلها يدفعها للنظر إليه..نظرة واحدة لن تضر أبدًا، تعجبت لاتفاق قلبها وعقلها لأول مرة..وفي ظل صخب تفكيرها وحيرتها..استمعت لصوته ينادى على صبيه.


وحقيقةً كانت حركة خبيثه منه، كي تنظر إليه، متأكدًا أن مجرد رد فعل بسيط منه يجعل كامل تركيزها عليه..وقد كان نظرت إليه ليال نظرة خاطفة تقابلت عيونها مع خاصته في لحظة دق قلبيهما معًا..ولأول مرة تتذوق حلاوة مشاعر من نوع خاص...يسمى بالحب..فبدت كالمراهقة حينما يصبغ وجهها باللون الأحمر القاني وتزوغ نظراتها من فرط اشتياقها لحبيب القلب.


لن تنكر أنها رأت لمحة من الاشتياق لها في نظراته المنصبة حولها، وكأن الزمن توقف فجأة..وتسمر الاناس من حولهما..وهما غارقين في لحظة تتوق كلاً منهما لها.


ولكن الواقع كان له رأي آخر حينما فصل تلك اللحظة الفريدة حيث اصطدمت ليال بحجر صغير فكادت أن تتعثر وتقع كالبلهاء لولا أنها تماسكت في اللحظة الأخيرة، حمدت الله على تماسكها ورفعت وجهها بحرج، فوجدته يبتسم بشدة وكأنه يشاهد فيلم كوميديًا، عبوس وجهها هو كان الرد المناسب له، وأيضًا فرارها السريع من أمامه مما جعله يضحك بشدة عليها.


أما بالأعلى فكان هناك شخص مجهول يحاول فتح باب ليال، بعد مراقبتها أيام عديدة..حتى أنه كان منتظرًا على السلم العلوي ينتظر خروجها ...متعجبًا من عدم مغادرتها في المساء كعادتها.

                             ***

دخلت ميرڤت إلى المحل تطالع سليم الجالس خلف كرسيه ينظر إلى الملفات بتركيز شديد، وبجانبه العم سعيد.. يشير إلى أمورًا متحدثًا باهتمام بالغ.


التوى فمها بتهكم حاقد:


- حتى وهو في عز أزمته بيشوف شغله، داهيه تاخدك يا سمير أنت وأبوك.


تقدمت منه بخطوات واثقة، وما إن رآها سعيد تجهم وجهه واستئذن مغادرًا، فقالت بتبرم:


- شوف الرجل كأني قاتله له قتيل.


رفع سليم وجهه عن الملفات أخيرًا متنهدًا بخفوت وبنبرة فاترة أخبرها:


- هو في حد بيطقيك لامؤاخذة!.


رفعت حاجبيها معًا بصدمة ثم نهرته بقولها الحاد:


- لا الزم حدودك أنا مهما كان عمتك..احترمني!.


رد  بتسلية وابتسامة مستفزة:


- الاحترام ده بين الناس اللي بتحب بعضها، أما انا وانتي بنكره بعض.


ردت باستنكار زائف..وبدأت في تتفيذ خطتها الثانية بعدما قُبلت بتلك المعاملة منه:


- وأنا هكرهك ليه يا حبيبي، ده حتى أنا جاية ومتعاطفه معاك اوي، أصل  زيدان حبيبي قال لنهى على اللي حصل.


تحفز عقل سليم وتشنج جسده، ملتزمًا الصمت منتظرًا استكمال حديثها، وما هي إلا ثواني حتى قالت بنبرة يندثر منها الخبث:


- قولت لابوك زمان سليم وشمس مش لايقين على بعض ومسيرهم هيطلقوا مصدقنيش..واهو اللي قولته حصل.


ضغط سليم فوق لحم شفتاه السفلي بغيظ شديد، مكورًا يده بغضب من زيدان الذي يصر على استفزازه...حتى أمر طلاقه جعله متاح للجميع وكأنه ينتقم منه.


- بس ولا يهمك تغور شمس وتيجي الف واحدة مكانها أحسن منها.


- مفيش حد هيكون زي شمس..حتى بنتك اللي انتي جايه تعرضيها عليا!.


- اعرضها عليك!.


رددت خلفه بتعجب، فهز رأسه بالايجاب وابتسامة غامضة تزين ثغره، فاستكملت حديثها:


- ابوك زمان عرض عليا وأنا اللي رفضت!.


ارتفع ضحكات سليم ثم رد بتهكم:


- ابويا بردوا...ده أنا سامعك بوداني وانتي هتموتي ويوافق على عرضك.


ضغطت فوق حقيبتها بإستشاطة، ولكنها أخفت ذلك ببراعة وردت بنبرة يندثر منها الشفقة:


- المهم...أنا جاية اقولك قلبي عندك يا حبيبي، حقيقي زعلت اوي علشانك.


- كنتي وفري جيتك، وخليكي في نفسك.


نهضت ميرڤت بعجرفة ترمقه بانتصار حتى لو كان ضعيفًا فالأهم أنها شفت غليلها منه، بينما انتظر سليم مغادرتها وهب واقفًا متوجهًا نحو منزله كي يواجه زيدان أمامهم جميعًا..لقد سأم من تصرفاته وتدخله بحياته دون وجه حق.


____________

قراءة ممتعة ♥️😊

الفصل الرابع عشر..


- إيه اللي أنت بتقوله ده!


انفجر زيدان غاضبًا بوجه سليم، كز الآخر فوق أسنانه بعنف مشيرًا بيده بعصبية بالغة:


- اللي بقولوا واضح...أنت مالك بيا..مُصر تتدخل في حياتي ليه!.


خرج زيدان عن طور تعقله، قائلاً:


- وأنا لما احكي لنهى ابقى كده بدخل في حياتك!...ده ان كنت حكيت أصلا؟!


- هي جاية بنفسها تشمت فيا في المحل، وقالتلي انك حكيت بالتفصيل لنهى؟.


واجهه سليم بعنفوان..وعاصفة عاتية من الغضب تتأجج بعينيه، فتدخل يزن بصوت هادئ مرتبك:


- أنت قولت لنهى فعلاً؟!


وجه سؤاله لزيدان، فتفاجئ الأخر برد فعله، وهتف باستنكار:


- ها وأنتي كمان يا ماما محتاجة تسأليني؟!


رفعت منال وجهها المغطى بالدموع التي كانت تحمل القهر والانكسار لِمَ يحدث بين أولادها..وكأن حجر الثقة خلع من مكانه..وأصبح الوضع بينهما خاويًا.


حينما سكتت منال شعر زيدان باختناق حاد بصدره، فهز رأسه عدة مرات يستوعب شكوكهم به، وكأنه أبله حتى يفعل ذلك.


فرك أنفه بقوة مفكرًا كيف ينفي تلك التهمة عنه، وحينما وجدها..اندفع بكل قوته نحو هاتفه، وقرر الاتصال بنهى واضعاً الاتصال على خاصية مكبر الصوت..تحت أنظارهم المستفهمه لِمَ يفعله.


- الو.. ازيك.....أخيرًا رديت عليا!.


قالتها نهى بصوت مرتجف من شدة اشتياقها له، توقعت ردًا يسعد به قلبها الملتاع في حبه، ولكنها فوجئت بسؤال حاد  أربكها:


- هسألك سؤال واحد..أنا كلمتك وحكتلك حاجة تخص سليم وشمس!.


صمت من ناحيتها لعب فوق أوتار أعصابه، بينما هي غرقت بالتفكير في سؤاله، يبدو أن والدتها حيكت لشيئ ما أوقعها بالخطأ..ضغطت فوق شفتاها بندم حينما أخبرتها..ولكن صوت زيدان الغاضب جعلها تستفيق من غفوتها..فقالت بصوت متلعثم:


- لا..لا، محكتش حاجة.


ولم تستطيع قول أي شيء آخر، دفعها عقلها باخباره أنها من استمعت بقصد لحديث شمس ومنال..ولكن ربط لسانها ولم تستطيع التفوه بكلمة أخرى..أغلق زيدان الاتصال بوجهها..وحالة من الصمت سادت المكان، لم ينظر لوجوههم وخاصةً سليم لأنه كان يدرك ماالذي يقابله بنظراته بعد تعلثم نهى بالرد، لقد تأكدت شكوكه ووقع اللوم فوق عاتقه وهو لم يفعل شيء..منذ البداية لم يقصد أذيته كما يعتقد، ولكن لن يقتنع سليم وسيظل مشاعره غير السوية تقودهما نحو هاوية من الظلام الدامس.


لم يتحدث بل تحرك ببطء نحو غرفته مقررًا الذهاب من المنزل لعدة أيام، ولكن اوقفه سليم حينما اعترض طريقه، قائلاً بنبرة خشنة وحادة:


- هعتبر كأنك مقولتش حاجة، وهي جاية توقع مابينا...بس اللي هقوله آخر انذار ليك..ابعد عن حياتي يا زيدان.


رفع زيدان يده لأعلى وبنبرة حزينة حاول إخفائها بقدر الامكان:


- أنا بعيد أساسًا.


تشابكت عيونهما في حرب من الاسئلة التي تختفى إجابتها عن مرمى بصرهما..ولن تنهدم تلك الأسوار العالية إلا بمواجهة صريحة بينهما...ولكن مازال الصمت يلعب دورً أساسيًا بشخصيتهما، فكلاً منهما يحتفظ بأوجاعه..بأسبابه..بمشاعره، وكأنها سر يصعب البوح به.


انفرط العقد من يد منال..وتساقط حجر السبحة أرضًا، صدر عنه رنين عالي أخرجها من  حالة الخمول التي تصيبها دومًا، فنهضت  بجسد بدأ يفقد اتزانه من فرط اجهادها في الآونة الأخيرة وبصوت كاد يسمع:


- أنا تعبت..تعبت من كل حاجة.


واتجهت صوب غرفتها تنزوي بها، فإن فارقت روحها تفارقها وحدها بعيدًا عن عراك يصيب قلبها بسهام الندم.


راقب سليم حالتها فاتجه صوب يزن مشيرًا نحوها برأسه:


- أمك باين عليها تعبانة روح شوفها.


- أمك وأبوك وأنا وزيدان...كلنا يا سليم تعبنا، حتى أنس مبهدل نفسه عياط من وقت ما شمس مشيت.


كان قاصدًا كل حرف ينطقه!.


توقف عقل سليم وردد خلفه بصدمة:


- شمس مشيت.


هز يزن رأسه بصمت، فارتفع صوت سليم قائلاً بنبرة غاضبة:


- مشيت فين؟!، ومين سمحلها تمشي!.


رد يزن ببرود زُين به نبرته:


- واحنا هنقعدها هنا غصب بصفة إيه، على العموم حاولنا معاها بس هي رفضت..حتى رفضت تقولنا رايحة فين.


اضطربت مشاعر سليم، وانتفض قلبه بخوف عليها..لم يتخيل أن صغيرته ستتمرد عليه وتغادر ظله..حتى وإن انفصلا..ستظل هي بمكانتها تنعم بحمايته.


- أنس فين؟!


- جوه نايم، قولنا أنكوا مسافرين لفترة علشان ميفهمش حاجة، حاول توصلها!.


شعر سليم بغموض يسيطر على نبرته، ولكن لن يهتم..الأهم هو العثور على تلك المتمردة فأمر عودتها معه شيئًا مفروغ منه.


راقب يزن اندفاع سليم للخارج فأخرج تنهيدة قوية من صدره، لقد فكر مليًا بأمر إخبار سليم بمكان شمس..فتوصل لأمرًا هام أن اخيه مازال العند يسيطر علي عقله، فـ لو عادت له بهذه السهولة لن يشعر بقيمتها. ولابد من تذوق سليم مرارة غيابها..كي يدرك أن فقدان جوهرة مثلها لا يُقدر.


زفر بحنق حينما طالع أبواب الغرف المغلقة وأدرك أنه على مشارف مجادلات قوية مع أخيه..ومواساته للآلام والدته..أما ما يقلقه حقًا هو صمت والده ولجوء عقله للهروب من الواقع بالنوم المستمر.

                               ***

استقل سليم سيارته وانتباته حالة من التوتر والقلق عليها..عجز عقله عن التفكير للحظات، شدد بيده على المقود محاولاً تهدئة اضطراب قلبه حيث انتفض بعنفوان حينما علم بغيابها، قطب ما بين حاجبيه مفكرًا عن سبب مغادرتها بدون أنس!،  وبدأ يتساءل هل تنوي فعل شيء؟!


هبطت الاسئلة فوق رأسه، والإجابة بالطبع تكمن لديها فقط، لن ينشغل بأمورًا تعرقل مهمته.. الأهم هو العثور عليها أولاً وسيؤجل التفكير بأي أمورًا أخرى.


التفت بجسده وأخرج نصف رأسه من نافذة سيارته ناظرًا للمنزل الذي باعه والد شمس قبل وفاته بشهور، أغلق عيناه جاذبًا بعض الأنفاس ليفكر بالخطوة التالية، التقط هاتفه وقرر الاتصال... وبعد رنين طويل، جاءه الرد


- ألو.


- إزيك يا حجه؟.


ردت السيدة بصوت يغلب عليه أثار النوم:


- ايوا مين معايا؟!


- أنا سليم الشعراوي مش فاكرني..أنا اللي...


قاطعته السيدة بعد فترة قائلة بترحيب:


- أهلاً وسهلاً، ازيك يابنى؟


رد سريعًا منهيًا حديثها بسؤال كاد أن يحرقه:


- بخير...كنت عايز أسالك هي شمس جت الشقة عندكوا!..


صمتت " أم رجاء " لثوان ثم بعدها ردت بعدم فهم:


- لا وهي هتيجي ليه؟...وبعدين هتيجي من غيرك!.


قبض سليم فوق شفتاه السفلية بغيظ، بعدما أغلقت جميع الابواب أمامه، الآن يبدو وكأنه يبحث عن إبرة في أكوام قش.. فمن المفترض أن تكون تلك الشقة هي ملجأها الوحيد، وعدم لجوء شمس لديها اقلقه بشدة!.


أغلق الاتصال بحديثه الهادئ المنافي لاشتعال صدره:


- لو جت اتصلي عليا وعرفيني.


- حاضر يابنى. 


القى الهاتف بجواره بأهمال..واستند برأسه فوق المقود، لقد انهمك عقله في الفترة الاخيرة من التفكير المستمر، لم يعد لدية ذرة من الطاقة لاستكمال رحلة البحث عنها، ولأول مرة شعر باجتياح رهيب من العجز يتوغل داخله..فبدى كعجوز تركه أحبابه في طريق مهجور يتخبط بعواصف القلق والخوف.


                               ***


وضعت ام رجاء الهاتف، والقت نظرة تحمل اللوم والعتاب لشمس الجالسة أمامها.


التفتت شمس برأسها لناحية الأخرى ترفض النظر إليها، حتى لا تتراجع في خطتها، لن تترك تلك الفرصة التي سنحت لها بالابتعاد عن ظله...حيث شعرت مؤخرًا وكأنه سجن ينطبق جدرانه عليها، لا يسمح لها بالتنفس والحرية والتعبير، وبالأخير هي انسانة لها طموحات وآمال..لها متطلبات من حقها الحصول عليها..كان من الخطأ حجم التنازلات التي اقدمت عليها ظنً منها أن الحب هو المأوى..ولكنها أدركت أن المأوى به ثقوب سمحت لعواصف الحياة القاسية بضربها، فاستيقظت من الغفلة التي استحوذت عليها، لن تقبل بنصف حب، لن ترضى بمشاعر صامتة، ولن تقدم على تنازل آخر يهين حقوقها.


لم تستطيع ام رجاء الصمت أكثر من ذلك.. فمن الواضح انها تحارب مشاعر بداخلها، وكأنثى مثلها تعلم دواخلها:


- شكله زعلان علشانك اوي، نبرة صوته وهو بيسألني عليكي...


أشارت إليها شمس بالصمت، قائلة بحزم:


- لو سمحتى يا طنط متكمليش..أنا مبقتش عايزة أعرف، لأنه مبقاش يهمني.


كاذبة.. نعتت نفسها بذلك، حيث كانت تتوق لسماع صوته والاطمئنان عليه بعد غياب طال لأسابيع، مازال القلب اللعين ينتفض لمجرد ذكر اسمه، حتى أن عقلها حشر في زاوية اسمها سليم الشعراوي، كل أسلحتها أحيانًا تقف ضدها..وكعادتها حاولت كرهه فتمرد القلب ورفض.


نهضت ام رجاء بعدما فقدت الأمل:


- اللي انتي عايزه يابنتي، لازم انفذلك اللي انتي بتطلبيه، دي وصية أبوكي.


شكرتها شمس بتهذيب ثم أغلقت الباب خلفها بأحكام..واتجهت بخطواتها صوب الفراش ترتمي فوقه، تحاول إغلاق عيناها للغرق في النوم بدلاً من التفكير بأمورًا ترهق خلايا عقلها، ولكن الوحدة التي حاوطتها الآن جعلت ذهنها ينتفض بقلق على أنس، الذي تركته بعد تفكير طويل دام لأسابيع، لم تكن تملك المال الكافي كي يعيش طفلها الوحيد في نفس المستوى الذي وفره له أبيه.


ولم تكن تملك سوى تلك الشقة فقط، فالمال معها قليل يكفيها لعدة أيام..بعدما قررت ترك مجوهراتها لسليم، حتى تهدم  أي رابط يجمعها...حتى أنس لن يكون الدافع له في إرجاعها...ستبحث عن عمل بكامل طاقتها وستوفر المال كي تعود وتأخذ طفلها بكل قوة، ولن تترك ثغره واحدة يدخل منها..حتى وإن كان المال هو الدافع له.


شعرت بحاجتها للنوم، فاستسلمت لأن يومها غدًا سيكون مليء برحلة طويلة بالبحث عن عملاً تستطيع منه الانفاق عليها وعلى طفلها التي تركته باتفاق مع منال على وعدًا منها بأن تعود وتأخذه ثانيةً حينما ترتب له حياة كريمة هادئة.

                              ***

في اليوم التالي..


صباحًا قرر سليم بأن يتجه للإسكندرية بعدما قضى الليل بأكمله في البحث والتفكير عن مكان تواجدها، فلم يعد لديه أملاً واحدًا سوى أنها بتلك المدينة، ورجح ذلك بأنها دخلت للشقة دون علم السيدة " ام رجاء".


قاد بسرعة كبيرة متمنيًا بأن يصل لهناك بأقل وقت ممكن، لم يفكر بأي شيء سوى الاطمئنان عليها، حتى أنه جهل مثلاً بداية حديثه معها، هل سيكون اعتذرًا عما بدر منه، ام أن يصب غضبه عليها كعادته حينما تصيبه بالجنون، أم يترك كل الافعال جانبًا ويركز على احتضانها فقط، فحاجته للشعور بدفيء عناقها يغلب على أي غضب لديه.

                            ***

صعدت شمس درجات السلم بتعب، لم تترك مكانًا وإلا بحثت به، يبدو أن وجود وظيفة بهذه السهولة ليس أمر هينًا كما تعتقد، هكذا ستطيل مدة ابتعاد أنس عنها، وهي لن تستطيع أن تتكيف مع حياتها الجديدة بدونه، تزاحمت الافكار بها، وشعرت بفشل بإنهيار ثباتها بعد فشل أول خطوة كانت تقدم عليها بكل عزم.


مدت يدها تجلب مفتاحها من حقيبتها، فخرجت ام رجاء من شقتها، قائلة بنبرة يسودها القلق:


- كنتي فين يا شمس.


التفت شمس نحوها تقول بصوت مجهد يفتقد الامل:


- كنت بدور على شغل.


- ولقيتي؟!


هزت رأسها بنفي، وملامحها تعبر عن مدى استياءها، ربتت ام رجاء فوق كتفها قائلة بحنو: 


- مسيرك بكرة هتلاقي، اسكندرية كبيرة وفي أماكن كتير اوي تدوري فيها.


- ان شاء الله...عن اذنك ادخل انام واريح شوية.


أومأت لها تعطيها مساحتها في الدخول للشقتها، والتفتت صوب شقتها هي الأخرى، حتى لمعت برأسها فكرة لم تخطر ببالها، فصاحت مرة أخرى تجذب انتباه شمس:


- ياشمس افتحي بسرعة.


فتحت الباب على الفور بوجه تنعقد ملامحه باستفهام، لم تستطيع ام رجاء كتم سعادتها قائلة:


- افتكرت حاجة بمليون جنية، في واحد من حبايب جوزي الله يرحمه عمري ما قصدته في حاجة الا وعملها، عنده افرع كتير اوي للمكتبة بتاعته في مناطق كتير في اسكندرية، نروحله بكرة واطلب منه يشغلك، وهو مش هيتأخر.


عاد الحماس يتلألأ بعيون شمس، فقالت برجاء:


- لا دلوقتي علشان خاطري، ياريت من النهاردة.


تعجبت الأخرى من ردها السريع:


- ياااه مستعجلة اوي كده على الشغل، لو محتاجة فلوس يا بنتي...


قاطعتها شمس قائلة بحزن:


- الموضوع أكبر من كده يا طنط، لازم الاقي شغل في اقرب وقت.


 حركت ام رجاء رأسها بتفهم، وانطلقت صوب شقتها ترتدي ثياب أخرى وبقيت شمس في انتظارها. 


                          ****

دخلت توته لمنزلها تحمل حقيبة بلاستيكية ممتلئة على آخرها بالحلويات، تحتضنها بسعادة بالغة، توقفت أمام فاطمة التي ظهرت فجأة من العدم:


- كنتي فين يا توتة.


رمشت بأهدابها الكثيفة تجيب بخفوت:


- كنت عند ورشة خالو تحت.


- ونزلتي من غير اذني ليه، وخالك اصلا مسافر ومش موجود؟!


قالتها فاطمة بعبوس وضيق، فردت توته بحزن طفولي:


- هو قالي يا توته لو عايزة حاجة حلوة قولي لحد من الورشة يجبلك.


عقدت فاطمة يدها وهي تحرك رأسها بتفهم وتشمل بنظراتها ابنتها التي تحتضن الحقيبة وكأنها تخشى الابتعاد عنها:


- وارتحتي لما جابولك ده كله!.


- مش هما اللي جابوها، دي تيتة منيرة قابلتني تحت واشترت ده كله.


لعب الفضول بعقل فاطمة فسألت صغيرتها بهدوء:


- ومشيت بعدها ولا راحت فين.


أشارت توته للاعلى تخبر والدتها بحديث جدتها التي بنته عن قصد مع حفيدتها حتى ترسل لفاطمة رسائل تقهرها بها وتشعرها بالغيرة.


- طلعت عند مس ليال فوق هي وواحدة كمان.


هبطت فاطمة لنفس مستواها تسألها بترقب:


- متعرفيش طلعت ليه!.


وقبل أن تتفوه توته وتجيب 

ارتفعت الزغاريد تملئ البناية باكملها، اغلقت فاطمة عيناها بغضب جامح وتمنت أن  تقتل تلك الافعى التي تصر على هدم حياتها، فالحياة أساسًا معها مستحيلة.


فتحت عيناها وهمست بشر يجتاح داخلها نظرًا لسنوات ذاقت بهم المرار والقسوة على

 يد والده زوجها المتحكمة في كل شيء، وعندما ارادت تهذيبه وطلبت الطلاق منه حتى يستعد وعيه ويدرك بهدم حياتهما، استغلت تلك العقر'بة ذلك لصالحها جيدًا وترك ولدها كافة الأمور بيدها.


- ده أنا هاخلى ليلة أبوكي سودا.


                              ***

وصل سليم أمام البناية التي بها شقة والد شمس، شملها بنظرة سريعة قبل أن يخطو بخطواته الواسعة نحو الدرج يصعد السلم بسرعة كبيرة..وصل أخيرًا امام مبتغاه ومد يده يطرق الباب بهدوء اولاً ثم بعد ذلك بقوة بعدما تسرب الأمل لديه.


استمع لساكن بالطابق العلوى طرقات قوية بالطابق الاسفل، فهبط بقلق حتى وجد رجلاً لا يعرفه.


- أنت عايز مين؟.


توقف سليم فجأة عن طرقه لباب السيدة ام رجاء وأشار على شقتها:


- ام رجاء.


- اه بدام مفتحتش تلاقيها خرجت راحت عند بنتها ولا ابنها.


هز سليم رأسه وشكره بعدها متوجهًا صوب الاسفل ولكنه عاد وسأله:


- في حد جه الشقة دي وسكن فيها.


نظر الرجل للشقة وحرك رأسه بنفي:


- لا دي مقفولة من زمان، وصاحبها مات بس بنته عايشة في مصر مع جوزها.


أومأ سليم بصمت مشتعل، واتجه صوب الاسفل شاعرًا بوهن بعدما خابت آماله.


أما الرجل صعد شقته مرة أخرى وتساءلت زوجته بفضول عن سبب الطرق المزعج، وأخبرها بما حدث بلامبالاة، فصاحت باستنكار:


- يوووه أنت متعرفش، ماهي بنته جت امبارح.


ضرب الرجل كفيه ببعضهم قائلاً باستياء:


- لاحول ولا قوة إلا بالله، هجيب الراجل منين دلوقتي اقوله.


- يا اخويا مسيرة يرجع تاني لام رجاء، ريح دماغك وهاتلنا الشاي نشربه.


ردت عليه زوجته بلامبالاة فالأمر حقيقةً لا يعنيها بالمرة هي زوجها.


                               ***

فركت نهى يدها ببعضهما، والخوف يسود صدرها من نظرات زيدان المصوبة نحوها رغم انشغاله بهاتفه، ولأول مرة لم تفرح لأمر مقابلته؛ لعلمها بأن المواجهة بينهما ستسفر عن خطأ اقترفته والدتها كالعادة.


انهى زيدان ما يفعله بهاتفه، ثم رفع وجهه وسألها بنبرة محذرة اقلقتها:


- جاوبيني بصراحة، ليه أمك راحت قالت لسليم أن أنا قولتلك على كل حاجة تخص طلاق شمس وسليم.


توسعت عيناها ووضعت يدها على فمها، فلم تدرك حجم كذب والدتها:


- ماما قالت كده؟!


أجاب بنبرة خشنة قوية:


- ايوا..انا ماليش علاقة بيها محبتش اروح واتخانق معها..قبل ما اسالك لأن أنا بتكلم معاكي أنتي، واشوف كذبتي ليه وحورتي..


قاطعته حينما لمح لها بعدم حديثه معها مرة ثانية، وانهارت متحدثة بصدق لعله ينقذ موقفها أمامه:


- لا والله مكذبتش أنا هحكيلك كل حاجة حصلت وحقيقي معرفش ماما عملت كده ليه..


عدل من وضعية هاتفه على الطاولة بطريقة لم تلفت نظرها وأشار لها متحدثًا:


- سامعك، قولي.


بدأت نهى بسرد تفاصيل اليوم التي قررت فيه اللجوء لمنزله حتى تقابله وتتحدث معه بعدما لم يجيب على اتصالاتها وفسرت له ذو ذلك قلقها عليه ولم تتطرق لأمر حبها الصامت له، وسردت  أيضًا أمر محادثة شمس ومنال بالتفصيل  وتوقفت عند الحد الذي استمعت له، ولم تترك بالطبع سبب اخبار والدتها.


أنهت نهى حديثها وأخرجت تنهيدة ثقيلة من صدرها ليوم عاشته بالتفكير الخائف من تدهور علاقتها بزيدان بعدما بدأت تتأخذ منحنى يريح قلبها بعد عذاب عاشته بسبب جفاءه.


لم يعيطها أي رد بل مسك هاتفه وأرسل تسجيل صوتيًا لكلاً من سليم ويزن وهكذا تم تبرئته من تهمة التصقت به من العدم..مقررًا الابتعاد بقدر الامكان عنهما.


وبعد دقائق جاءه رد من يزن في رسالة: 

" اوعى تكون بعت التسجيل ده لسليم".


رد عليه سريعًا وملامحه انعقدت:

" آه بعته وسمعه ومردش عليا".


انتظر رد يزن برسالة ولكن فوجيء باتصاله فاستئذن منها مبتعدًا مجيبًا:


- في إيه!.


رد عليه يزن بطريقة غاضبة مستنكرة:


- يابني التسجيل فيه، ان شمس راحت اسكندرية في شقة ابوها، ربنا يحميك يا زيدان بجد.


- طيب وماله ما يعرف!.


- مانا قولتله اننا منعرفش مكانها، علشان يتعلم الادب في طلاقه ليها، ويحس بغيابها زي ماهي حست بغيابه.


- انت محكتليش حاجة زي دي!.


قالها زيدان بغضب مكتوم، فرد يزن بتهكم:


- هو أنا هعرفك ازاي وانت طردتني من الاوضة امبارح، روح ما اشوف ايه اللي هعمله.

                               ***

قاد سليم سيارته في طرق اسكندرية، يستمع لنصف التسجيل الاول المرسل من زيدان، وحقًا شعر بالراحة له رغم أنه شعر من حرقة أخيه أثناء مواجهته وتأكد من كذب عمته.


قطع استماعه للتسجيل اتصال من سيف فأجاب على الفور:


-سليم الحقني أنا في مصيبة. 

______________

قراءة ممتعة 😍♥️

الفصل الخامس عشر.


- الحق يا سليم أنا في مصيبة.

توقف سليم على جانب الطريق واستمع لسيف صديقه بتركيز شديد، فتحولت ملامحه إلى العبوس، زافرًا بحنق مرددًا خلفه:


- لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا في اسكندرية، اكيد هاخد وقت لغاية ما اسافر تاني القاهرة.


- وانا كمان مسافر والعربية عطلت بيا في المكان اللي أنا فيه.


هتف بها سيف بنبرة حائرة، لا يجيد التصرف في هذا المأزق، فرد سليم بنبرة هادئة بعدما توصلت إليه فكرة جيدة بالنسبة لسيف ولكن ستجعله يضغط على كرامته وهو يقوم بها:


- أنا هتصل بزيدان يحل الموقف كله لغاية ما ارجع، خليك انت وانا هاخلص كل حاجة.


أغلق معه الاتصال زافرًا بضيق شديد وهو يبحث عن اسم أخيه، أرسل له رسالة نصية يخبره بكل التفاصيل لعدم قدرته على الطلب منه بصورة واضحة أكثر كاتصال هاتفي مثلاً فمازال يعاني من بعض الامور يصعب التخلي عنها بهذه السهولة، جاءه الرد بعدها بثوان من خلال كلمة واحدة " حاضر".


زفر بقوة ثم القى الهاتف بجواره وحول مساره عائدًا مرة أخرى للقاهرة.

                                   ***

أما زيدان فانطلق سريعًا خارج الكافية يضع متعلقاته بجيبه، وقفت نهى أمامه بعيون باكية:


- لا أنت زعلان مني!.


- خلاص يانهى، قولتلك خلاص مش زعلان، امك أنا ليا تصرف تاني معاه.


- اتصرف معاها زي مانت عايز، بس أنا متزعلش مني.


قالتها بلامبالاة وهي تمسح دموعها، فتعجب زيدان لتكونيهم الفريد، فالعائلة جميعها تمتاز بالنذالة المفرطة، هز رأسه موافقًا ورسم ابتسامة صغيرة قبل أن يودعها ويغادر متجهًا إلى قسم الشرطة كي ينقذ أخت سيف من ورطة وقعت بها.

                                  ***

في أحد اقسام الشرطة التابعة للمنطقة التي تقطن بها فاطمة..جلست فاطمة على  أحد الكراسي تبكي بانهيار، لقد سحبت الدماء منها وخاصةً حينما وضع الحديد بيدها كمتهمه، حاولت تعديل حجابها الممزق ليغطي شعرها الاشعث..لمست كدمة بوجهها بغير قصد، كتمت آلامها بصعوبة، فنصف وجهها متورمًا من شدة الصفعات الموجه لها من قبل والدة زوجها وصديقاتها الوقحة.


همست من وسط بكائها الحار:


- يارب تيجي بسرعة يا سيف.


أغلقت عيناها برعب حينما جال أمامها ناهيتها كمتهمه في أحد السجون النسائية، دائمًا يحذرها سيف من فرط انفعالها، وتهورها غير المحبذ في بعض المواقف، وهي لا تستمع له بل كانت تجادله بكبرياء..وها هي تتذوق مرارة اندفاعها، تذكرت ما حدث فشعرت كأنها فأر زج في مصيدة بعدما نصبت له كــ فخ.

                                    ***

هبطت منيرة وصديقتها درجات السلم ببطء مدروس، وعندما وصلوا للطابق التي تسكن به فاطمة غمزت منيرة لصديقتها وبدأت الاخرى بالزغاريد عندًا بفاطمة، وعندما أنهت الاخرى وصلتها بدأت في التفوه ببعض الجمل المتفق عليها من قبل:


- يا الف نهار مبروك يا ست منيرة، شكلها عروسة حلوة.


- طبعًا امال دي نقاوة ايديا..مش أحسن من المبقعة اللي كان مختارها.


قالتها منيرة بسخرية وأنهت حديثها بضحكة مرتفعه، فقالت الاخرى:


- والله احسن حاجة انكوا خلصتوا منها، دي  كانت جايبه الهم والنكد.


وعند هذا الحد خرجت فاطمة من الشقة، وبصوت مرتفع قالت باستنكار:


- أنا مبقعة...وجايبة الهم والنكد، ياولية يا قراشنة.


شهقت منيرة بصدمة وهي تحدج بها:


- أنا قراشنة، طب تعالي بقا..


وفي لمح البصر كانت تجر فاطمة لمنتصف السلم، تتشاجر معها بالايدي، تجمهر السكان وحاول فض هذا العراك ولكن لم يقدر أحد على التدخل بينهما..في نفس الوقت هبطت ليال درجات السلم بسرعة تنفي تهمة التصقت بها بسبب أفعال تلك المرأة غير المفهومة، فوجدت شجار حاد بين فاطمة ومنيرة التي كانت تدفع فاطمة نحو السلم كي تسقط، حاولت تخطي السكان وخرج صوتها ينهرهم لموقفهم السلبي، حولت بصرها مرة أخرى نحو الباب فوجدت توته تقف تبكي بانهيار تردد اسم والدتها بلا توقف.


وفي لحظة لم يعلم بها أحد ما حدث وجدوا منيرة تتوسط الارض تسيل الدماء من رأسها، والسيدة المصاحبة لها تصرخ وتشير نحو فاطمة:


- زقتيها يا مفترية حرام عليكي، عايزة تموتيها ليه، يالهوي الحقونا.


هتفت فاطمة بذعر:


- مزقتهاش والله مازقتها.


وضعت منيرة يدها على رأسها تتحس الدماء وما إن رآتها حتى صرخت:


- دم...دم، يالهوووي.


ومن بعدها سقطت فاقدة للوعي.


تجمهر السكان حولها وقبضت صديقتها فوق يد فاطمة بعنف:


- مش هسيبك الا في القسم.


                              ***

عادت فاطمة لشرودها على صوت دخول منيرة للباب المؤدي لغرفة التحقيق، وهي تستند على يد صديقتها، فرمقتها بحقد قبل أن تدخل وتفوهت بصوت مرتفع:


- ان شاء الله هاخد حقي منك.


أغلقت فاطمة عيناها بنفاذ صبر، بعدما لعب الخوف بها، وصور لها أشياءًا مريبة قد تصدر بحقها، فهي حقاً لم تدفعها، ولا تعلم ما حدث بالضبط.


حولت بصرها نحو ليال الواقفه بعيدًا، رمقتها بغضب وكره، توسعت أعين ليال ولم تفهم لِمَ هذه النظرات القاسية، تقدمت منها بشجاعة ثم جلست بجانبها وبصوت خافت:


- بتبصيلي ليه كده؟!


- جاية تقعدي جنبي ليه، ادخلي اشهدي مع حماتك ضدي.


فتحت ليال فاها بصدمة، وهي تشير نحو الغرفة باشمئزاز:


- حماتي!، دي تبقى حماتي أنا، مين قالك؟!


سخرت فاطمة منها:


- امال الزغاريد دي تبقى إيه!.


- ولا حاجة دول اتنين مجانين فجأة ليقتهم بيخبطوا على باب بيتي واول ما فتحت زغرطوا.


رمقتها فاطمة بشك، ثم أردفت بترقب:


- وبعدين!.


- مفيش دخلوا وجاية تقولي ابنها لسه مسافر السعودية من فترة، ومعرفش إيه..وبيقبض كام وشوية كلام أهبل بس أنا وقفتها ورفضت كلامها، مش عاجبها كلامي ومُصرة بردوا وقالتلي هسيبك تفكري رغم أن انا قولتلها ان رافضة ونزلت بردوا تزغط.


نظرت فاطمة أمامها تفكر بشرود:


- قصدها إيه باللي عملته ده!.


- قصدها تغيظك بس أنا كنت فاكرة انك فاهمة اللي هي بتعمله.


أجابتها ليال بوضوح، فارتعشت أيدي فاطمة بقلق:


- طب هيحصلي جوا، وسيف كان لازم يسافر النهاردة.


سألت ليال بفضول كاد أن يقتلها:


- هو مسافر فين؟!


- معرفش..معرفش.


ثم انهارت بالبكاء مجددًا، فحاولت ليال تهدئتها:


- متخافيش أنا معاكي، وعلى فكرة الست صاحبتها هي اللي زقتها أنا شوفتها بعيني وهشهد معاكي جوا.


تمسكت فاطمة بيدها قائلة بعدم تصديق:


- بجد هي اللي زقتها، أنا متأكدة والله ان مزقتهاش دي هي اللي كانت عايزة توقعني على السلم.


صوت أنفاسها الخائفة كان يشبه أنفاس غريق يحاول التمسك بأي شيء ينقذه من هلاكه.


وبعد مرور ثوان أخرى اندفع زيدان للردهة يبحث عنها حتى رآها مكبلة الايدي، فزعق بالعسكري وأمره بفك اصفاد الحديد.


ثم حول بصره نحوها:


- أنا زيدان اخو سليم صاحب سيف ومتقلقيش من أي حاجة.


هزت رأسها تابعًا تخبره بمعرفتها له:


- أيوا أنا شوفتك قبل كده، اهلاً بحضرتك.


أشار إليها نحو الغرفة قائلاً بجدية:


- اتفضلي ادخلي..


تشبثت بالارض تهتف بعيون باكية وصوت مختنق:


_ انا والله ما زقتها..حتى ليال جارتنا شاهدة على كده.


اندفعت ليال خلفها تؤكد:


- ايوا انا شوفتها بعيني، وام محمود شافتها كمان واقفه هناك مستنيه ينادوا عليها..


أشار للعسكري قائلاً:


- دخلهم كلهم..يلا، ومتخافيش مفيش حاجة هتحصل.


تنفست الصعداء وتحركت خلفه بقلب بدأ خفقه المضطرب يختفي تدريجيًا..

                                   ***

اتسعت ابتسامة شمس بعدما جلست فوق الكرسي خلف مكتب صغير بإحدى المكتبات التابعة للحاج" محمد " حيث وافق وابدى ترحيبه الشديد من أجل السيدة ام رجاء، واعطاها وظيفة مؤقتة بائعة في مكتبة لبيع الادوات المدرسية...لم تهتم شمس كثيرًا لمكانة الوظيفة، فاشتعال قلبها بالخوف على طفلها جعلها توافق على أملاً بايجاد وظيفة تليق بها كما وعد الحاج محمد السيدة ام رجاء في تهذيب..حيث اعترضت الاخرى بشهقة تنم عن صدمتها وهي تخبره بمكانة شمس، متحججة بأن الظروف هي من دفعتها لذلك.


راقبت أجواء المكتبة بهدوء، وشعرت بسكينة تسيطر عليها بعد توتر عاشته لمدة يومين، نظرت لهاتفها المغلق وترددت في فتحه، تريد الاطمئنان على أنس وفي نفس الوقت تخشى من اتصالات سليم، فبالتأكيد علم بأنها غادرت المنزل، وثارت ثائرته لذلك، فهمست بشرود:


- أنا لسه مش جاهزة ارد عليه لو اتصل.


بعد تفكير دام لدقائق حسمت أمرها 

 بألا تفتحه مؤقتًا، وقررت تنظيم وقتها وتعيد ترتيب اولوياتها ومن بعدها تسافر لأخذ طفلها.


تنهدت بعمق وحاولت تنظيم أفكارها المتدفقة التي قد تدفعها للجنون هي ومشاعرها المتناقضة، لمحت هاتف بالمحل فلمعت برأسها فكرة وقررت الاتصال هاتفيًا بمنال حتى تطمئن على أنس، رفعت الهاتف المثبت بجهاز اخر وضربت الارقام التي حفظتها من قبل، وانتظرت الرنين بفارغ الصبر حتى آتاها صوت منال:


- الو ايوا يا ماما..اخبارك إيه واخبار انس.


وصلها صوت صياح منال الفرح:


- شمس، الحمد لله انك اتصلتي، قافله تليفونك ليه!.


ردت شمس بخوف:


- في حاجة حصلت لانس.


- لا لا..هو كويس، بس..بس سليم عرف انك مشيتي.


قالتها منال في تردد خوفًا من ردة فعلها، ولكن فاجئتها شمس حينما قالت بلامبالاة:


- اممم...المهم انا متصلة علشان اطمنك عليا، واطمن على أنس واقولك قريب هاجي واخده.


تقطع صوت منال بحزن شديد:


- لسه مُصره تبعدي أنس عننا يا شمس، طيب وسليم يابنتي مش هيقدر يبعد عنكوا.


اغلقت شمس عيناها وهي تصر على مبادئها فلن ترضخ من أجل أحد مرة أخرى:


- ايوا، عن اذنك علشان هقفل دلوقتي، وهرجع اتصل بيكي تاني.


اغلقت شمس الهاتف بقلق وخوف، وبدأ تفكيرها يدفعها نحو ردة فعل سليم..هل سيكون مسالمًا ويعيطها طفلهما دون مقاومة منه؟..او سيستخدم  أساليبه في الضغط عليها!، هل سيحترم قرارها من الاساس؟، ام أن هجومه البدائي سينفجر بوجهها وبالنهاية تتعرقل بأفعاله العدائية لها، ولوهلة شعرت بالندم لترك طفلها، ولكن ما بيدها وهي لا تملك المال الوفير لتنظيم حياتها مع طفلها المعتاد على حياة كريمة ورفاهية دائمة.


انتبهت لاحد الزبائن فنفضت افكارها القلقة وقررت أن تنهض بحماس لم تشعر به من قبل حتى عندما اقدمت على الرسم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فالأمر هنا يختلف كليًا، تشعر كأنها حرة طليقة، فلم يدفن قلبها في واد الخوف، ولا يمر عقلها بمرارة الكذب.


سرعان ما اندمجت شمس مع الرجل وزوجته وساعدتهما بحماس في اختيار الادوات المدرسية الخاصة بطفليهما، فأمور البيع والشراء كانت أسهل بكثير مما هي تظن.


                                  ***


قاد يزن سيارته متجهاً صوب اسكندرية، بعدما استخدم أساليبه الخاصة في الضغط على والدته كي يعلم مكان شقة شمس بالتحديد، ورغم أن والدته رفضت رفض  قاطع في اخباره بناءًا على طلب شمس منها، حيث كانت لا تريد مواجهة أي أحداً منهما قبل الاستقرار وإعادة هيكلة تماسكها مجددًا، إلا أنه اخبرها بعلم سليم بمكان شمس ويجب عليه الاسراع في الوصول إليها قبله كي لا يفتعل شجار معها ويدمر كل حبال الوصل بينهما..فرضخت والدته بعد عناء بذله من ناحيته، وقررت اخراج ورقة صغيرة مدون بها العنوان قد احتفظت بها من قبل.


                                   ***

بعد مرور عدة ساعات..


خرجت فاطمة من قسم الشرطة مع ليال وزيدان، بعد انتهاء أمر البلاغ المقدم ضدها من قبل والدة طليقها، لقد سوا زيدان الأمر ودياً بينهما، بعد تهديد طفيف لمحه لصديقتها، والاخرى حينما شعرت بذلك دفعت منيرة للتنازل وتسوية الأمر، ومما ساعد ايضًا في اغلاق البلاغ، هو مكالمة طليق فاطمة لوالدته لمدة نصف ساعة كاملة، يحثها على التنازل من أجل طفلته..وبالأخير رضخت منيرة للأمر على غير مضض.


ضغطت فاطمة فوق رأسها بألم بسبب صداعها المستمر، فيبدو أن احدى الضربات التي سددت لها بقوة في رأسها هي السبب في ذلك، وبالطبع لن تخرج إلا من تلك الظالمة ذات الغل الشديد منيرة.


هبط سليم من سيارته وتقدم منهم هاتفًا بترحيب يتخلله القلق بسبب اتصالات سيف التي لم تنتهي أبدًا:


- أخبارك يا مدام فاطمة، انتي كويسة، حد اتعرضلك.


هزت رأسها بخجل واخفضت بصرها ارضًا:


- لا لا تمام.


حول سليم بصره لزيدان الواقف بجانبهم بصمت يرمقه بتفكير حيث ولاول مرة يدخل في حيرة أصابت عقله، فالأمر دومًا محسوم بقرارته اتجاه سليم بالاخص..ولكن هذه المرة لم يعلم لِمَ يصاب بعجز فكري..


- خلصت كل حاجة يا زيدان..


أومأ زيدان مردفًا بثقة:


- طبعًا...وقولتلها لو عايزه نسجنها مفيش مشكلة!.


أنهى حديثه بابتسامة بسيطة، فسارعت ليال بالتحدث..وخرجت نبرتها حاقدة بعض الشيء:


- ياريت والله...اسجنوها لو ينفع.


رمقها بسليم بتفكير للحظات، ثم سألها بنبرة خبيثة، بعدما تأكد من تهورها الواضح له، فحكايات سيف عنها كونت لديه صورة مستقبلية قبل رؤيتها، وها هي تترسخ بذهنه عندما رآها، معطيًا العذر لصديقه عما يمر به معها:


- أنسة ليال مش كده!.


ضيقت ليال عيناها وهي ترمقه بقلق لمعرفته باسمها، فحدثت نفسها بتعجب:


- عارف اسمي منين ده!.


ارتفع رنين هاتف سليم، فأجاب وهو يخبر سيف بالتفاصيل، قطبت ليال ما بين حاجبيها والفضول كاد أن يقتلها، فهمست لفاطمة تسألها:


- هو سيف اخوكي فين؟!.


رفعت فاطمة احد حاجبيها، تجيب في تهكم:


- أنتي مش ملاحظة انك سألتي كتير عنه.


- أنا!.


أشارت نحو نفسها باستنكار زائف، فهزت الاخرى رأسها بصمت، وردت ليال بنبرة متلعثمة من فرط احراجها:


- لا يعني، أنا بس مستغربة، ينفع يسيبك كده.


حولت فاطمة رأسها أمامها تهتف بشرود ممزوج بالخوف من لقاء سيف لها:


- كده احسن، سيف لو شافني هيبهدلني..


سارعت ليال بتقديم مساعدتها، وبررت ذلك من واجب صداقتها مع فاطمة، وليس للاطمئنان على سيف أبدًا:


- تحبي افضل معاكي، وادافع عنك، أنا بردوا يعني شوفت اللي حصل.


تمسكت فاطمة بيدها قائلة:


- ياريت يا ليال..أصله ممكن من كتر عصبيته مش هيصدقني.


قاطع سليم حديثهما الخافت، مشيرًا نحو سيارته:


- اتفضلوا ..هوصلكوا للبيت علشان سيف لسه في الطريق.


تقدمتا معًا وتركا زيدان مع سليم وحدهما، حك سليم مؤخرة رأسه بتوتر جلي، ثم تشجع قائلاً:


- سيف بيشكرك!.


ابتسم زيدان بتهكم:


- قوله على إيه احنا اخوات..


ورغم ان ذاته اعترفت بفضل أخيه في انهاء تلك المعضلة، التي لولا وجوده ما كانت ستنتهي لصالح اخت صديقه، إلا أنه مازال في حالة من الانكار وظهر ذلك بوضوح حينما استطرد:


- أنا لو كنت هنا في القاهرة كنت حلتها، بس مشوار اسكندرية عطلني شوية.


عقد زيدان حاجبيه متسائلاً بتعجب زائف، بعدما قرر تجاهل باقي حديثه الذي نم عن تصغير دوره:


- اسكندرية!.


- اممم بدور على شمس، بس ملقتهاش.


حرك زيدان رأسه بإيجاب وسبح ضميره في حيرته، انتبه على صوت سليم يخبره بعجرفة كعادته:


- مكنش له لزوم تبعت التسجيل ده.


سأله زيدان بترقب:


- انت سمعته كله!.

 

أجاب بلامبالاة ظاهرية:


- لا، مالوش لزمة، أنا نهيت الموضوع معاك.


سخر زيدان بداخله، حانقًا على قلبه الذي كان ينتظر اعتذارًا من أخيه عما بدر منه، ولوهلة شعر بالشفقة لِمَ يعانيه من تناقض واضح بشخصيته، حتى أنه لو نظر فقط لفعل واحد يصدر منه لوقف متعجبًا من نفسه، وكعادته كتم أمنيته الضائعة بسبب كبرياء أخيه الذي لن ينتهي بل سيظل عائقًا بينهما.


راقب مغادرة سليم له دون أن يودعه، وكأنه عامل لديه..فأقسم قائلاً لنفسه لو كان عاملاً لعامله سليم بلطف أكثر من ذلك، ولكن ما جعله يقف مشدوهًا هو سؤال سليم له غير المتوقع من شخص مثله:


- هو انت لو عرفت مكان شمس هتقولي صح!.


مازالت حيرته تعرقل عقله في حسم قراره، وتصيبه بحالة من الجمود الفكري، ولكنه فكر لِمَ لا يعامله بنفس طريقته، حتى إن شعر بالخذلان منه مرة ثانية لن يصيبه بالحزن، فأجاب بنبرة غامضة:


- أكيد.


التفت سليم مغادرًا ولكنه توقف حينما صدح صوت زيدان طالبًا منه بنبرة هادئة لم يهتم لها سليم كثيرًا:


- ياريت تسمع التسجيل كله يا سليم، أنا كده هرتاح أكثر.


لم يجيب سليم بل استمر بالسير اتجاه سيارته، مؤجلاً طلبه لوقت آخر يشعر فيه بالهدوء حتى يستطيع تحمل قدرة عمته على الكذب، وطريقتها الحقيرة في زعزعة العلاقة بينهما، ناقمًا على نفسه بسبب تسرعه الذي دفعه لاول مرة لأمرًا لم يحبذه فيما بعد..ولكنه رجح اندفاعه بسبب حالته غير المستقرة هذه الفترة.

                                  ***

ليلاً...


صعدت شمس درجات السلم بعيون كادت أن تغلق وتغرق في سبات بسبب شدة تعبها اليوم، فكان يومًا عصبيًا بدأته منذ الصباح الباكر مرورًا ببحثها عن العمل في مناطق مختلفة بإسكندرية حتى أخيرًا استقرت بعملاً مناسبًا لها ولكنه مرهقًا قليلاً عليها فوقع مسؤولية المكتبة  كاملة على عاتقها .. كانت تشرد بوضعها الحالي أثناء صعودها السلم، فشعرت بالفزع حينما وجدت يزن يتوسط السلم المؤدي لشقتها جالسًا عليه بأريحية تامة..فقالت بنبرة خافتة مذعورة بعض الشيء:


- يزن..أنت هنا بتعمل إيه! 


رفع يزن وجهه بعدما كان يعبث بهاتفه بملل  فقرر الانتظار أمام شقتها بعدما لم يجدها حيث دار حوار بسيط مع ام رجاء جارتها وأخبرته  فيه بعملها الجديد:


- مستني حضرتك.


صعدت بحرج مشيرة إليه نحو شقتها:


-كان نفسي اقولك اتفضل جوا بس...


قطعت حديثها بخجل واضح، فرد بحزم.


- فاهم طبعا.


 أشارت برأسها بالايجاب، وجلست على السلم مبتعدة عنه بقدر الامكان، ثم بدأت بسؤاله حيث شعرت بالدهشة  بسبب تواجده السريع:


- انت هنا ليه بقا؟!


- علشانك...علشان اقولك تعالي ارجعي البيت تاني.


ضحكت ساخرة مشيرة نحو نفسها:


- أنا، ارجع تاني، لا طبعا استحاله.


- ليه يا شمس؟!


- علشان مفيش حاجة ارجعلها تاني هناك، أنا حياتي الجديدة هتبتدي هنا.


رد بمكر يلعب فوق اوتار عاطفتها:


- لا فيه طبعا علشان أنس وسليم كمان.


خرجت نبرتها شرسة كقطه تجاهد من أجل الحفاظ على صغيرها:


- أنس هرجع واخده تاني يا يزن غصب عن عين أي حد.


احتدت نبرتها بعض الشيء ولكنه أعطها عذرًا، وتجاهل حدتها منتقلاً لأمر اخيه الضائع من غيرها والذي كرث حياته للبحث عنها:


- طب وسليم؟!


خرجت نبرتها مجروحة تحمل حجم الانكسار الذي ذاقته بسبب ما فعله:


- انتوا بتضحكوا على نفسكوا يا جماعة، سليم مين اللي ارجعله..ده واحد طلقني بكل بجاحة ازاي اقعد في بيته!.


رد بنبرة هادئة:


- لاحظي انه كان متعصب!.


قاطعته شمس بحدة مفرطة:


- مش سليم اللي لما يتعصب يهد حياته فقول معلش ده متعصب رغم ان ده كمان مش مبرر، هو كان قاصد كده وبراحته بقا، اصلا ميفرقش معايا، أنا مبقتش محتاجه له في حياتي اساسًا..


اطلق يزن صفيرًا صغيرًا وهو يشاكسها: 


- استرونج اندبندنت وومن اوي في نفسك.


فلتت منها ضحكة صغيرة قائلة:


- متضحكنيش لو سمحت وانا مضايقة!.


هز يزن كتفيه بلامبالاة مؤقته، ليقول برزانة:


- على عموم خدي وقت، محدش فينا هيغصبك على حاجة، وبالمناسبة مبروك على شغلك الجديد.


ردت بابتسامة صغيرة:


- الله يبارك فيك يا يزن، المهم ايه رأيك في اسكندرية!.


- معرفش ليه مكنتش باجي هنا كتير، اسكندرية دي طلعت حلوة اوي اوي اوي.


أنهى حديثه بغمزة طفيفة من عيناه، فردت بنصف عين تشاكسه:


- اسكندرية بردوا...ولا بنات اسكندرية..


رفع يده لاعلى قائلاً بطريقة تمثيلية:


- توبت يابنتي، ده انتوا كرهتوا الواحد في كل حاجة، وبعدين مبقتش فاضي بعد ما جوزك...


صححت له برأس شامخ ونبرة صارمة:


-طليقي لو سمحت!.


- امممم..بعد ما طليقك ساب كل حاجة فوق دماغنا.


ابتسمت له وردت دون أن تعي:


- اعترفوا انكوا من غيره متسووش حاجة.


نهض وهو يرتب ثيابه اثر جلوسه، قائلاً:


- اممم، عمري ما شفت واحدة بتدافع عن طليقها، انتي وسليم بشوف منكوا العجب.


نهضت أيضًا وهي تتابع حديثها مبررة له بعد زلة لسانها:


-  آآ...أنا بدافع عن الحق.


- المهم أنا قاعد يومين هنا..لو عايزة حاجة كلميني.


عقدت حاجبيها بتعجب، وسألته:


- ليه؟، سافر شوف شغلك.


اخفى سبب إقامته القصيرة بالقرب منها والذي كان يندرج تحت خوفه من تصرف أخيه المتهور حينما يعثر عليها، فأجاب بنبرة غامضة تتحلى بالمشاكسة:


- واسيب حلاوة اسكندرية لمين؟!


ضحكت عقب حديثه، ولكنها لم ترتاح له قط، يبدو أن يزن يحاول فرض حصونه حولها من سليم الذي شارف على الوصول إليها..ولكنها لم تعد تهتم أو تشعر بالخوف لذلك..بل كانت تتوق لرؤيته لها وهي ترسم حياتها الجديدة بدونه، وتتلذذ بنظرة الغيرة حينما يعلم بأمر عملها، فقد يصاب بجلطة لقد كان مغلقًا عليها في عشه كطير يخشى تحليق صغيره متمردًا عليه..


                                  *** 

حرك سيف نفسه خلف المقود بتعب، فلم يشعر بانهاك هكذا مثل اليوم، بداية من قراره المفاجيء بزيارة شخص مهم، لتحديد مستقبله الذي شارف على الوقوع في حافة الهاوية، بسبب عدم قدرته على حسم الجدال القائم بين قلبه وعقله، ورغم أنه مر بحالة صراع قوية بالاعتراف بما يريده قلبه، إلا أنه 

خضع لشرارة الحب وركض خلفها كالمجنون يحقق ما آلت إليه نفسه الضائعة بدونها، تاركًا مخاوفه التي تتجسد أمامه لتوقعه شكل العلاقة بينهما تحت رابط رسمي!.


قبض فوق المقود حينما قرب على الوصول إلى القاهرة، عازمًا على تهذيب فاطمة لِمَ فعلته اليوم.


- أنا هوريكي يا فاطمة!.

                                 ***

أما سليم فجلس في سيارته في احدى طرق القاهرة، لا يجيد التفكير السليم بعدما فقد هدوئه وسيطر عليه نيران غضبه، وبدأ قلبه بالاتقاد من شدة قلقه عليها، رغم طلاقه لها إلا أنه لم يتصور بُعدها عنه واختفائها عن مرمى بصره، لم يتوقع تمردها.. لدرجة أنه لم يستطيع فك شفرات تفكيرها، وكالعادة لم يساعده أحد..حتى عائلته مازالت تقف ضده، تأججت مشاعره التي يصعب البوح بها حتى لنفسه، وشعر بخيوط الماضي تنسج شباكها حول عنقه، تخنقه بضراوة...خارت قواه في محاربتها..وأصاب بالخمول الفكري لاول مرة بسبب مرهقته، فأحس كأنه داخل دوامة تطيح به هنا وهناك، استسلم لاجهاد جسده وارجع رأسه للخلف مغلقًا عيناه بتعب.

_________ 

قراءة ممتعة ❤️

اتمنى التفاعل يزيد الفصل ده وتقدروا تعبي 😍🥺

تعليقات



CLOSE ADS
CLOSE ADS
close